أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الدولة البوليسية المعاصرة















المزيد.....


الدولة البوليسية المعاصرة


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 02:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تعتبر الدّولة البوليسية أحد أشكال الاستبداد السّياسي الذي يسعى إلى إحكام السّيطرة الكاملة على المجتمع من خلال استخدام أدوات القمع الممنهج، وهو ما يجعل النّظام الحاكم يتحوّل إلى آلة لا تعرف حدودا في قمع الحريات وتصفية كلّ محاولة للمقاومة. يتّسم النّظام البوليسي بتغوّل الأجهزة الأمنية والرقابية في كلّ جوانب الحياة، ممّا يؤدّي إلى تجريد المواطنين من أيّ شكل من أشكال الحريّة الشخصيّة والسّياسية و المدنيّة. وبالرّغم من أنّ كثير من هذه الأنظمة تدّعي بأنّها تسعى إلى تحقيق الاستقرار والأمن و تنقية البلاد من الفساد و المفسدين، فإنّ الحقيقة هي أنّها تقوم في الواقع بتدمير النّسيج الاجتماعي وتصفية كل مصادر القوّة المستقلّة، سواء كانت عسكريّة أو قضائيّة أو سياسيّة.
تعمل الأنظمة البوليسية الحديثة على تركيز السّلطة في يد أقليّة حاكمة، في الوقت الذي تُضعف فيه أي آلية تشاركيّة أو ديمقراطيّة يمكن أن تحدّ من سلطتها. يتمّ استغلال آليات متعدّدة مثل الإعلام، جهاز الأمن، القضاء، وحتى الجيش، لتدجين المجتمع وإخضاعه، وتهيئة البيئة المثالية للسّلطة الاستبداديّة. تتضمّن هذه الأنظمة آليات قمع متطوّرة تبدأ بإضعاف القوى التقليديّة في المجتمع، مثل الجيش والقضاء، وتستمرّ من خلال خلق بيئة من الخوف والرقابة المستمرّة على المواطن في كلّ مكان وزمان.
إلى جانب ذلك، تصبح الدّولة البوليسية متكاملة الأركان حين تتحكّم الأجهزة الأمنية في المفاصل الأساسيّة للمجتمع وتفرض واقعا سياسيا واجتماعيا خاليا من التعدّدية أو أيّ شكل من أشكال المعارضة. يجسد هذا الواقع في هيمنة سلطة لا تعرف التوقّف عن تطوير أدواتها وأجهزتها القمعيّة، بل إنّها تزرع الخوف في المجتمع ليصبح المواطن رهينة في يد السّلطة، لا يجرؤ على التفكير في التمرّد أو الاعتراض. هذا هو السّياق الذي نشهد فيه تحوّل النّظام السّياسي إلى ما يمكن تسميته بـ "الدّولة البوليسية المعاصرة"، حيث لا مكان للحريّة، ولا مجال للكرامة الفردية.

1. الرّئيس الضّعيف: الحلقة الأضعف في معادلة الحكم .

في الأنظمة البوليسية المعاصرة، الرّئيس غالبا ما ينظر إليه على أنّه رأس النّظام، لكنّه في الواقع يكون الحلقة الأضعف في معادلة الحكم. هذه الأنظمة تعتمد بشكل كبير على تنامي الولاءات الشخصيّة والأجهزة الأمنيّة من أجل الحفاظ على استقرار النّظام، بدلا من الالتزام بالآليات الدّيمقراطية ، التى هي التى أتت بالرّئيس و جعلته يخيط النّظام على مقاسه ابتداء بتغيير صبغة النّظام و انتهاء بالغائه للدستور القديم و بكتابته شخصيا لدستور على هواه و جعل الكل في السلطة، سواه ، موظفين لديه و تجميع كل السلط عنده و لا احد غيره دون رقابة و لا حدود . و بهكذا تمشّ يصبح القبض على الدولة سهل جدّا ، فإن قبضت على الرئيس ، قبضت عليها ، و بعدها يصبح مجرّد شخصيّة رمزيّة تحت إمرة شبكات قويّة تتغلغل في كلّ مؤسّسات الدّولة.
في هذا السياق، يصبح ضعف الرّئيس مرادفا لضعف الدّولة نفسها. نرى عادة أن الرّئيس ذو الشّخصية الضّعيفة أو الغير قادرة على اتّخاذ القرارات الحاسمة يتمّ تحجيمه تدريجيا لصالح قوى خفيّة، قد تكون مراكز قوى عائلية أو نخب عسكرية أو أجهزة أمنية . في مثل هذه الحالة، لا يمتلك الرّئيس القدرة على الدّفاع عن مصالح الشّعب أو حتّى تحديد وجهة سياساته الخاصّة. يصبح في حالة دائمة من الاستجابة لما يطرحه المحيطون به، ممّا يجعله أداة طيّعة لخدمة مصالح هذه القوى المسيطرة.
يمكننا أن نعود إلى مفهوم "السلطة الرّمزية" التي تحدث عنها ماكس فيبر، حيث يُنظر إلى الرّئيس باعتباره رمزا لاستمرارية النّظام، بينما تكون القرارات الفعلية قد اتّخذت في مكان آخر. هذا التّوازن الهشّ بين الشّكل والمضمون يخلق فجوة كبيرة بين الأفعال والوعود التي يتبنّاها الرّئيس من جهة، وبين السّياسات الحقيقية التي تنفّذ من جهة أخرى. وهذا النّموذج يشبه إلى حد كبير الحالة التي وصفها فوكو حول السّلطة: "السّلطة لا تتجسّد في الأشخاص، بل في المؤسّسات التي تُشيّد حولها". هذا التّباين بين السّلطة الرّمزية والسّلطة الفعليّة يؤدّي إلى استقطاب رئيس ضعيف وقاصر عن التأّثير، لكن بشكل مواز، تجسّد هذه السّلطة في السّياسات التي تُنفّذ عبر شبكات تحكُمه من خلف الكواليس.
على صعيد آخر، فإنّ هذه الهشاشة السّياسية تجعل الرّئيس عرضة للابتزاز من خلال استخدام أدوات أخرى، مثل الملفّات السرّية التي قد تكون مستورة في جوانب حياته الخاصّة أو العامّة، وهو ما سنناقشه في النقطة التالية.

2. ملفات الابتزاز: التحكّم بالرأس عبر الفضائح .

تعد الملفّات الشخصيّة أحد أكثر أدوات التحكّم شيوعا في الدّولة البوليسية، حيث يتمكن النّظام من ضمان ولاء الرّئيس وحمايته من أيّ تحدّيات خارجيّة أو داخليّة من خلال استخدام هذه الملفّات كورقة ضغط. يمكن أن تكون هذه الملفّات عبارة عن معلومات عن فساد مالي، فضائح أخلاقية، أسرار سياسيّة، أو حتّى تهديدات من خارج البلاد تهدف إلى تسوية الحسابات أو فرض مصالح خارجيّة على النّظام. وبذلك، يصبح الرّئيس فريسة سهلة للابتزاز، حيث يُستعمل كلّ جانب من جوانب حياته للسّيطرة عليه.
على المستوى التّاريخي، نلاحظ أن كثيرا من الأنظمة الاستبداديّة قد اعتمدت على هذه الآلية لتوطيد سلطتها. عندما يكون الرّئيس أو الزّعيم في وضع ضعيف أو يعاني من أزمات شخصيّة أو سياسيّة، يمكن لهذه الملفّات أن تكون سيفا مسلطا على رقبته. كلّما زادت الضّغوط، ازدادت مرونة الرّئيس في التّعامل مع القوى المسيطرة عليه، لأنّه يعلم أن أيّ خطوة قد تعني تسريبا لتلك الأسرار التي قد تطيح به من منصبه.
إضافة إلى ذلك، يتمّ استغلال هذه الملفّات ليس فقط للضغط المباشر على الرّئيس، بل أيضا لخلق توازن هشّ في علاقات القوّة داخل النّظام. على سبيل المثال، قد يتمّ التهديد بالكشف عن فضيحة ما، ممّا يدفع الرّئيس إلى اتخاذ قرارات قد تكون غير شعبية أو حتى ضارّة بمصلحة الشّعب، لكنّه يخضع لهذا الابتزاز خوفا من العواقب التي قد تنشأ عن كشف هذه الأسرار. وهذا يشير إلى ما وصفه ميكيافيللي في كتابه "الأمير": "من يسيطر على العيوب والضّعف في الشّخصية، سيملك قوّة أكبر في السّيطرة على الشّخصيات ذات النّفوذ".
لا تقتصر هذه العمليّات على الرّؤساء فحسب، بل تشمل أيضا كبار المسؤولين الحكوميين الذين قد يكون لهم ملفّات مماثلة يتمّ الاحتفاظ بها وتوظيفها بذكاء من قبل الجهات المتحكّمة. هذا الوضع يخلق ثقافة الخوف داخل الحكومة، حيث يسعى الجميع لعدم الانصياع للتغيير السّياسي أو الاجتماعي خوفا من أن تكشف عيوبهم.

3. جنون العظمة: من العزلة إلى الهوس بالتآمر.

عندما يخضع الرّئيس لتأثير قوى خفيّة لفترة طويلة، يمكن أن يظهر جنون العظمة على شخصيته. هذا الجنون لا يتطوّر فقط نتيجة لعدم الثّقة في الآخرين، بل أيضا بسبب الضّغط المستمرّ من قبل أولئك الذين يتحكّمون به أو يحاولون استغلاله. يبدأ الرّئيس في رؤية نفسه كقائد تاريخي، أو حتّى كمنقذ للأمّة، فيبدأ بالاعتقاد بأنّ أي نقد أو معارضة تأتي ، هي مؤامرات تحاك ضده، سواء من داخل النّظام أو من الخارج.
يتمتّع جنون العظمة في هذا السّياق بأبعاد مختلفة؛ فهو قد يتجسّد في العزلة السّياسية التّامة، حيث يحيط الرّئيس نفسه بمستشارين ومؤيّدين لا يتجاوزون دوائر السّلطة القريبة، ممّا يعزل أيّ صوت معارض أو حتّى نصيحة بنّاءة. كما يرى الرّئيس في خصومه تهديدا وجوديّا، فتزداد كلّ محاولة من جانب المعارضة أو الصّحافة الحرّة لتوجيه النّقد له وكأنّها مؤامرة تستهدف سلطته الشّخصية.
من أبرز مظاهر جنون العظمة هو التّضخم الهائل في صورة الذّات. يصبح الرّئيس في هذه الحالة أقلّ قدرة على اتٍخاذ القرارات العقلانية أو حتّى التّفكير بشكل مستنير، حيث يتجاوز كلّ حدّ للمحاسبة الذّاتية أو التقييم النّقدي. هو ينظر إلى العالم من خلال عدسة مشوّهة، ويعتقد أنّ أيّ تصرّف لا يوافق مصالحه هو تهديد يهدف لإسقاطه. هذه العقلية تساهم في خلق بيئة من الخوف والتهديد داخل الدّولة، حيث يظلّ الجميع في حالة من الترقٍب، منتظرين ردّ فعل الرٍئيس على أيّ تصرف قد يتمّ تأويله كتهديد.
وتُظهر هذه الظّاهرة التأثير العميق لمّا يمكن أن تسمّيه نظريّة القوّة الأيديولوجية، حيث يصبح الرّئيس نفسه أداة في يد القوى التي ساعدت في رفعه إلى السّلطة، لكن في الوقت نفسه، لا يملك إلا فكرة مُعزّزة عن نفسه كزعيم أسمى لا يُقهر.

4. تزوير الواقع: حين تُصنع الأكاذيب داخل القصر.

في الدّول البوليسية، يصبح تزوير الواقع أداة أساسيّة لإدامة السّيطرة على المواطنين ولتوجيه سياسات الدّولة بما يخدم النّخبة الحاكمة. في هذه الأنظمة، لا تُعتبر الحقيقة مجرّد حقيقة موضوعيّة، بل هي "سلعة" تُصنع وتُزيّف حسب الحاجة السّياسية. عادة ما تُنشئ أجهزة النّظام العميق داخل القصر الرّئاسي تقاريرا وأخبارا مفبركة، تتضمّن أحداثا مختلقة أو تحريفا للأحداث الحقيقيّة بهدف تقوية موقف النّظام وجعل المواطنين يعيشون في حالة من الإنكار المتواصل لما يحدث في الواقع.
هذه الأكاذيب لا تُستخدم فقط للسّيطرة على الجمهور، بل أيضا تستخدم كأداة لإضعاف المعارضة السّياسية وإسكات الأصوات المنتقدة. على سبيل المثال، قد تُروّج وسائل الإعلام الموالية للنّظام الأكاذيب حول حجم الدّعم الشّعبي للرّئيس، أو تُخترع مؤامرات مزعومة تهدّد الأمن القومي، مما يُبرّر فرض مزيدا من القيود على الحرّيات العامّة والتّضييق على الحركات المعارضة. هذا النموذج من التّلاعب بالحقائق هو الذي يجعل من المستحيل تحديد ما إذا كان المواطنون يعيشون في "حقيقة" أو في بناء مصطنع من الأكاذيب.
ويتمّ إنتاج هذه الأكاذيب عبر عمليّات معقدة تشمل جهاز الإعلام، الذي يُعتمد عليه لإعادة إنتاج الرّسائل الموجّهة. في هذا السّياق، تتبدّل مهمّة الصحفيين من نقل الوقائع إلى كونهم جزء من الدّعاية الرّسمية، حيث يساهمون بشكل غير مباشر في نشر الأكاذيب والتّضليل. من خلال استخدام تقنيات متعدّدة مثل التضخيم الإعلامي، والحوارات المزيّفة، والتحليلات المغرضة، يتمّ تشكيل رأي عام مشوّه يساعد على إبقاء النّظام قائما.
ما يثير القلق أكثر هو أنّ هذه الأكاذيب قد تصبح جزء من العقل الجمعي للمجتمع، حيث تبدأ فئات كبيرة من الشّعب في تصديق الأكاذيب التي يتمّ ترويجها لهم، ويقتنعون بأنّ ما يُقال لهم هو الحقيقة الوحيدة. هذه الظّاهرة يمكن أن تُظهر ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار: "في عالم ما بعد الحقيقة، تتحوّل الأكاذيب إلى واقع"، فالدّولة البوليسية ليست بحاجة لفرض الواقع بالقوّة فحسب، بل أيضا لإقناع الشٍعب بأنّ الأكاذيب هي الحقيقة الوحيدة.

5. اللّسان المستعار: الرّئيس الذي يتكلّم بغير صوته .

في السّياق البوليسي المعاصر، قد يصبح الرّئيس أو الحاكم بوقا للسّلطة المهيمنة من حوله. حين يخضع رئيس الدّولة للأوامر المتواصلة من قبل القوى الخفيّة، يصبح لسانه "مستعارا" أو مُسيّرا من قبل هذه القوى. لا يعبّر عن آرائه الشّخصية، بل يردّد الكلمات والعبارات التي يملونها عليه، وهو ما يعكس ابتعاده التّام عن حقيقة المواقف السّياسية والمصالح الوطنيّة. يصبح رئيس الدّولة مجرّد واجهة بلا مضمون، تُستخدم لإضفاء شرعيّة على سياسات تمثّل قوى خفيّة لا تُظهر نفسها.
تتجلّى هذا الظّاهرة بشكل واضح عندما يبدأ الرّئيس في اتّخاذ مواقف لم تكن له فيها مواقف سابقة، أو يبدأ في دعم قرارات أو سياسات لا تتماشى مع قناعاته الشّخصية. ففي أنظمة الاستبداد، يتحوّل الرّئيس من مجرّد شخص مسؤول إلى "أداة صوتية" تمثّل مصالح جماعات معيّنة، سواء كانت عسكرية أو امنية أو عائلية او اقتصادية. يصبح لسانه هو لسان الأجهزة الأمنية، أو المصالح الدّولية المتدخلة، أو حتّى نخبة اقتصادية تتلاعب بمقدّرات البلاد.
هذه الحيلة تجعل من الحاكم أداة للتّنفيذ فقط، وهو ما يذكّرنا بنظرية الفيلسوف الألماني هيربرت ماركوز حول "الإنسان الواحد"، حيث تتحوّل شخصيّته إلى انعكاس لعوامل الضّغط المحيطة به، ويفقد قدرته على التّفكير المستقلّ. في هذا السّياق، يتحدّث الرّئيس عن مواقف لا يفهمها، ويتبنّى سياسات يفرضها عليه النّظام العميق، ليصبح شخصه مجرّد صورة خاوية تتلاشى في خضمّ المصالح المتصارعة.
وهكذا يصبح النّظام السّياسي في مثل هذه الحالات مسرحا حيث تُسيطر الأجهزة القوية على "النصّ" السّياسي، ويكتفي الرّئيس بإلقائه دون أن يكون له أيّ دور حقيقي في صياغته. وهذا يجعل الجمهور في حالة دائمة من التشويش، حيث يتمّ التّعامل مع الحاكم كأداة تنفيذيّة لا تمتلك القدرة على التّأثير في مسار الدّولة.

6. القضاء: الأداة الصّامتة للإدانة .

في الأنظمة البوليسية المعاصرة، يُعدّ القضاء أحد أخطر الأدوات التي تُستخدم في تصفية المعارضين وترسيخ حكم السّلطة المطلقة. يُحوّل القضاء من مؤسّسة مستقلّة تدافع عن الحقوق والحرّيات إلى جهاز سياسي خاضع لسلطة الدّولة. يتمّ استخدام المحاكم في هذه الأنظمة كأداة لاستهداف الأفراد الذين يمثّلون تهديدا للنّظام، سواء كانوا سياسيين، نشطاء، صحفيين، أو حتّى مواطنين عاديين يتجرّؤون على انتقاد السّلطة.
يُعرف هذا النّوع من القضاء بـ"القضاء الموجّه"، حيث يتمّ تشكيل القرارات القضائية حسب توجيهات السّلطة العليا، بما يتماشى مع مصالحها. يصبح القاضي مجرد "أداة" في يد النّظام، ويفقد القدرة على إصدار أحكام مستقلّة. وفي كثير من الأحيان، يتمّ الضّغط على القضاة لفرض أحكام قاسية ضدّ المعارضين السّياسيين، بينما تُغلق الملفّات أو تُخفّف العقوبات عن المجرمين المقرّبين من النّظام. في الواقع، أصبح القضاء في بعض الأنظمة البوليسية مجرد واجهة قانونيّة تتيح للنّظام أن يبدو قانونيا، رغم أنّ السّلطة الحقيقيّة تنبع من أجهزة الأمن بمختلف تشكيلاتها.
هذه الوضعيٍة لا تقتصر على القضاة فقط، بل تمتدّ لتشمل أجهزة النّيابة العمومية، والمحاميين، وأيضا النشطاء الحقوقيين الذين قد يُضطهدون إذا حاولوا فضح الانتهاكات القانونيّة. وممّا يزيد من تأزّم الوضع هو ضعف التشريعات التي تُحسّن من استقلال القضاء، ممّا يجعل من الصّعب على أيّ فرد أو جماعة محاربة هذا التوجّه.
كما أشار الفيلسوف جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي" إلى أنّ "العدالة تقتضي أن يكون الجميع أمام القانون متساوون"، بينما في الأنظمة البوليسية، تكون العدالة محكومة بالولاءات، وهي أداة تُستخدم لتحقيق مصلحة النّظام وليس خدمة الشّعب. هذه النّقطة توضح كيف يتمّ تقويض استقلاليّة القضاء وتحويله إلى جهاز يخدم غايات السّلطة الحاكمة.

7. تحييد الجيش: كسر العمود الفقري لأي انقلاب محتمل .

في الأنظمة البوليسية الحديثة، يُعدّ تحييد الجيش أحد الأساليب الأساسيّة لتفادي أيّ تهديدات محتملة من داخل المؤسّسة العسكريّة. الجيش، الذي يُعتبر عادة حاميا للوطن ومؤسّسة ذات ثقل سياسي كبير، يتحوّل في هذا السّياق إلى جهاز منزوع القوّة، لا يُسمح له بالتدخّل في الأمور السّياسية. تُجرى عمليات مستمرة لإضعافه وتفكيك قدراته ، وهو ما يعكس نيّة النّظام الحاكم في احتكار السّلطة دون أي منافس داخلي.
يبدأ هذا التحييد غالبا عبر تصفية القيادة العسكريّة أو إبعاد الشخصيات البارزة التي تتمتّع بشعبية أو قوّة داخل الجيش. تُخلق انقسامات داخل المؤسّسة العسكرية، حيث يتمّ تهميش أو عزل القادة الذين قد يُحتمل أن يكونوا معارضين للنّظام أو يمتلكون ولاء للوطن على حساب السّلطة السّياسية الحاكمة. يتزايد تدخّل الأجهزة الأمنية في شؤون الجيش، وتُفرض رقابة على القادة العسكريين، ممّا يحوّلهم إلى مجرّد موظّفين في خدمة الأوامر العليا من المخابرات أو النّظام الأمني.
من جهة أخرى، قد يتمّ تجنّب تشكيل جيش قوي داخليا عبر تخصيص ميزانيات محدودة للمؤسّسة العسكريّة، ممّا يجعلها غير قادرة على مواجهة أي تهديد خارجي، وفي بعض الأحيان، حتّى حماية الدّولة من الدّاخل. هذا التّوازن الهشّ لا يؤدّي فقط إلى تحجيم دور الجيش، بل يجعله خاضعا بالكامل لنظام الدّولة البوليسيّة، ممّا يضمن عدم قدرة الجيش على القيام بأدوار وطنيّة حقيقيّة مثل التدخّل لحماية الشّعب حتّى في حالة الطّوارئ الوطنيّة.
كما يذكر الفيلسوف والنّاقد السّياسي ميشيل فوكو في تحليلاته حول السّلطة، أنّ التحكّم في الجيش يُعدّ من أهمّ أبعاد السّيطرة الشّاملة، حيث لا يسمح للجيش بأن يصبح قوّة موازية للنّظام. ببساطة، يكون الجيش قد تحوّل إلى "آلة محايدة" لا تقوم بدور حماية الدّولة أو الشّعب، بل تراقب الأحداث من بعيد، ممّا يعزّز الهيمنة السّياسية للنّظام الحاكم.

8. الأمن الدّاخلي: الذّراع الحديدي للسّلطة .

في الأنظمة البوليسية، يُعتبر جهاز الأمن الدّاخلي العمود الفقري للنّظام، حيث يضطلع بدور أساسي في ضمان استقرار السّلطة الحاكمة من خلال إخماد أيّ محاولة للتمرّد أو الاحتجاج. تُخصّص موارد ضخمة لجهاز الأمن، من تمويلات هائلة ووسائل تجسّس متطوّرة، إلى تدريب مكثّف للعناصر الأمنية لضمان وفائهم للنّظام. هذا الجهاز يصبح القوّة الضّاربة التي تواجه أيّ معارضة سياسيّة أو اجتماعيّة.
يُمنح جهاز الأمن الدّاخلي صلاحيات غير محدودة، تتجاوز في كثير من الأحيان القوانين الدّاخلية التي تُحدّد حدود عمله. يتدخّل الأمن في كلّ شيء، من تحديد من يمكنه التّظاهر في الشّوارع إلى فرض الرّقابة على وسائل الإعلام والإنترنت. كما يُستغلّ هذا الجهاز للتّرهيب والتّعذيب، حيث تُستخدم الأساليب القاسية لتخويف المعارضين وإجبارهم على التزام الصّمت.
تُطوّر أجهزة الأمن بوليسية أو استخباراتية تعمل في الظلّ، لضمان أن تكون هناك دائما عينا تراقب المواطنين. تتواجد هذه الأجهزة بشكل دائم في كلّ مفصل من مفاصل الحياة اليوميّة، سواء في الشّوارع أو على الإنترنت أو في أماكن العمل، في ما يُسمى بـ "دولة المراقبة". هكذا يصبح المواطن في حالة من الرّصد المستمرّ، ممّا يعزّز شعورًا عاما بالخوف والترقّب.
تعاد هيكلة جهاز الأمن الداخلي باستمرار ليظلّ القوّة الأولى داخل البلاد، ويُترَك الجيش فقط للمهام الرّمزية أو الحصرية في الدّفاع عن الحدود. يتمّ ترويج هذه الأجهزة على أنّها الحامية للدّولة والوطن، ولكنّها في واقع الحال لا تخدم سوى الحفاظ على الوضع القائم واحتكار السّلطة. كما أشار الفيلسوف الفرنسي ألكسيس دي توكفيل في تحليلاته حول الاستبداد، "الاستبداد لا يحتاج إلى مبرّرات حين يتحكّم في جهاز الأمن".

9. التجسّس على المجتمع: الأمن في كلّ مكان .

إنّ في قلب الدّولة البوليسية الحديثة، تبرز ظاهرة "المجتمع المراقب" الذي يحكم فيه الخوف سيطرته على حياة الأفراد. تتشكّل شبكة واسعة من أجهزة المخابرات والأمن التي تراقب كلّ تحركات المواطنين، وتتابع تفاصيل حياتهم اليوميّة، حتّى في الأماكن العامّة. يمتدّ هذا الرّصد ليشمل مراقبة الهواتف الشخصيّة، والبريد الإلكتروني، والمحادثات الخاصّة على وسائل التّواصل الاجتماعي.
وفي حين أنّ مثل هذه الأنظمة غالبا ما تتذرّع بمبرّرات تتعلّق بالأمن القومي أو محاربة الإرهاب، إلاّ أنّ الواقع يُظهر أنّ هذه الأجهزة تستغلّ منصّاتها للتجسّس على أيّ معارضة سياسيّة أو نشطاء حقوق الإنسان أو حتّى الأفراد العاديين الذين يعبّرون عن آرائهم بشكل غير مقبول للنّظام. تتبّع هذه الأجهزة المواطنين على مدار السّاعة، ممّا يجعل الجميع يعيشون في حالة من القلق المستمرّ من أنّ هناك دائما من يراقبهم.
تُشجّع هذه الممارسات على تآكل الثّقة بين أفراد المجتمع، حيث يصبح النّاس في حالة من الشكّ المتبادل. يبدأ المواطنون في مراقبة بعضهم البعض، وتُخلق بيئة يكون فيها "الجميع" معرضا للمراقبة. لا أحد يشعر بالحرّية في التّعبير عن آرائه بحرّية، لأنّ الخوف من العواقب الوخيمة يظلّ يطاردهم. كما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: "السّلطة الحديثة لا تعاقب الجسد، بل تُخضع السّلوك"، وهذا هو الجوهر الحقيقي لدولة المراقبة.

10. تكوين الدّولة البوليسية: من الطّاعة إلى الرّعب .

تتكلّل هذه الممارسات بخلق دولة بوليسيّة متكاملة الأركان، حيث تصبح السّلطة مطلقة، ويتمّ استبعاد كلّ شكل من أشكال المعارضة. يتنقّل المواطنون من حالة الطّاعة العمياء إلى حالة من الرّعب المستمرّ. لا تُعتبر هذه الدّولة مجرد دولة قمعية، بل هي آلة تعمل بشكل متناغم لتحقيق هدف واحد: الحفاظ على هيمنة النّظام على كلّ جوانب الحياة.
حين تصبح الدّولة البوليسية في أوج قوّتها، يتمّ القضاء على أيّ فرصة لإصلاح النّظام أو تغيير السّياسات. يتمّ تدمير قدرة المجتمع على التنظّم والمقاومة. تتجسّد "الدّولة البوليسية" في صورة سلطويّة حيث يُغلق المجال العام أمام أيّ نقاش، وتُفرض الرّقابة الشّاملة على المعلومات. يُصبح من المستحيل على المواطن التّمييز بين الحقيقة والخيال، إذ تكون الدّولة هي الوحيدة التي تفرض ما يُعتبر "الحقّ" في هذا السّياق.
كما أشار بريمو ليفي: "الأسوأ من السّجن أن لا تعرف أنّك مسجون"، حيث أن هذه الأنظمة البوليسية تُنشئ بيئة يشعر فيها المواطن بأنّه مُراقب طوال الوقت، لكنّه لا يدرك تماما أنّه محاصر في شبكة من القوانين والأنظمة التي لا تترك له أيّ مساحة للتحرّك أو التّعبير عن نفسه بحرّية.

ختاما، لا يمكننا النّظر إلى الدولة البوليسيّة كظاهرة عابرة أو مجرّد مرحلة سياسيّة مؤقّتة، بل هي سمة مميّزة لنظام يسعى إلى تعميق هيمنته على جميع جوانب الحياة السّياسية والاجتماعية. إنّ الأنظمة التي تروّج لنفسها على أنّها "دفاعيّة" أو "مؤقّتة" غالبا ما تكون في الحقيقة أنظمة تسعى إلى تمكين حكم دكتاتوري مستمرّ، تكون فيه كلّ المؤسّسات مستباحة لخدمة السّلطة الحاكمة. من خلال استهداف الجيش، القضاء، أجهزة الإعلام، وحتى المؤسّسات الاجتماعيّة، تتحوّل الدّولة البوليسية إلى حالة من الاستبداد الشّامل الذي لا يسعى فقط إلى إضعاف المؤسّسات التقليديّة، بل يهدف إلى قمع المجتمع بشكل دائم.
لكن رغم الطّابع القمعي الذي يتّسم به هذا النّموذج، فإنّنا لا نغفل عن أنّ المجتمعات التي تعيش تحت وطأته تبقى قادرة على المقاومة بشكل من الأشكال. فحتّى في ظلّ غياب المظاهرات العلنيّة، قد تتحقّق أشكال من المقاومة في الفكر والثّقافة والإبداع. مقاومة الأنظمة البوليسية ليست مقتصرة على مواجهات مباشرة مع السّلطة، بل قد تأخذ شكلا غير مرئي عبر استراتيجيات مختلفة تُبقي على روح المقاومة حيّة في نفوس الأفراد والجماعات.
إنّ الحلول الفعّالة ضدّ الدّولة البوليسية تتطلّب بناء مجتمع مدنيّ قويّ، وقضاء مستقلّ، بالإضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي تجاه حقوق الإنسان والحرّية الفردية. ما من شك في أنّ الأنظمة البوليسية، رغم قسوتها وطغيانها، هي أنظمة قابلة للزّوال مع تطوّر الوعي المجتمعي ووجود التضافر بين القوى السّياسية والمدنيّة لتحقيق التغيير الجذري.
في النّهاية، يظلّ الوعي العام بما يحيط بهذه الأنظمة هو المفتاح، لأنّ المواطن المستنير، القادر على الفهم العميق لأدوات السّلطة والاحتلال السّياسي، هو الأكثر قدرة على تفكيك هذا النّظام وفتح الأفق نحو بناء مجتمع حرّ وعادل.

ريا



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إرهابيّ أنا
- حاسي الفريد / ما يشبه القصّة
- المركزية الديمقراطية
- عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
- الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
- ملمّ بي
- اسم الهزيمة


المزيد.....




- كأس اسبانيا- برشلونة يسعى للرباعية وتكريس تفوقه على الريال
- الجيش اللبناني يتخذ تدابير أمنية استثنائية على أثر الاشتباكا ...
- عناصر من -الدعم السريع- يسلمون أنفسهم للجيش السوداني (فيديو) ...
- ترامب: نتنياهو لن يجرني إلى حرب مع إيران ومستعد للقاء المرشد ...
- تلميذ يقتل زميلته طعنا بسكين ويجرح آخرين في مدرسة فرنسية بمد ...
- تجارة الأسلحة النارية في الولايات المتحدة: الأطفال هدف المصن ...
- رئيس بلدية كييف يلمح لاحتمال تخلي أوكرانيا عن أجزاء من أراضي ...
- حديث سفينة الأسلحة المتجهة لإسرائيل يشغل المغاربة
- مقتل جنرال روسي في انفجار سيارة قرب موسكو
- سفارة أميركا بجنوب أفريقيا تبدأ استقبال طلبات لجوء الأفريكان ...


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الدولة البوليسية المعاصرة