علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 02:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجزء الخامس: تأثير العصبيات الطائفية والعنصرية على نضالات الطبقة العاملة في العراق وإيران
مقدمة: الطبقة العاملة في مواجهة الانقسامات الطائفية
تُعد الطبقة العاملة في كل من العراق وإيران، وكافة دول المنطقة، هي القوة الأساسية القادرة على تحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي. ومع ذلك، تواجه هذه الطبقة العديد من التحديات في سعيها نحو العدالة الاجتماعية والمساواة. بين تلك التحديات، تتصدر العصبيات الطائفية والعنصرية التي تحاول تجزئة الطبقة العاملة إلى أقسام متناحرة، مما يُضعف قدرتها على النضال من أجل أهداف طبقية مشتركة.
لقد تسببت العداوات الطائفية في العراق، وخصوصًا بعد الاحتلال الأمريكي في 2003، في تقسيم الطبقة العاملة إلى مجموعات متنازعة تمثل مواقف دينية وعرقية مختلفة، مما حال دون توحيد جهودها في مواجهة الطبقات الحاكمة في البلدين. وفي إيران، وعلى الرغم من أن النظام الثوري قد نشأ من إرادة شعبية واسعة، إلا أن التوجهات الطائفية والصراعات الداخلية بين الشيعة والسنة تساهم أيضًا في تفكيك الجبهة العمالية.
⸻
أولاً: الطبقة العاملة في العراق – بين الطائفية والإمبريالية
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003، وجدت الطبقة العاملة في العراق نفسها في مواجهة التهديدات المزدوجة: الاحتلال الأمريكي من جهة، والتفكك الطائفي من جهة أخرى. بينما كان النظام البعثي يُحَارِب الطائفيات، تم فتح الباب أمام أحزاب دينية وقوى طائفية لتسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع.
التحديات الطائفية في النضال العمالي العراقي
لقد واجه العمال في العراق تحديات هائلة في توحيد صفوفهم بسبب هيمنة القوى الطائفية. الأحزاب الشيعية والسنية كانت تسعى إلى تحشيد قواعدها العمالية على أساس المذهب بدلاً من الطبقة. على سبيل المثال، العمال الشيعة في العراق كانوا يعانون من تحشيد أيديولوجي يُركِّز على الولاء السياسي للأحزاب الشيعية، مما دفعهم بعيدًا عن العمل المشترك مع العمال السنة في محاولة لتحقيق مطالب طبقية مشتركة.
أما في المناطق التي يهيمن عليها السنة، فكان هناك تحدٍ إضافي يتمثل في تحالفات عصبية ضد النفوذ الإيراني، مما عرقل أي محاولة لتنظيم حركة عمالية موحدة ضد الرأسمالية والإمبريالية. وفي السياقات المعقدة التي خلفتها الحرب الأهلية والعنف الطائفي، لم تتمكن الطبقة العاملة من الاستفادة من الفرص الثورية التي كانت تلوح في الأفق.
⸻
ثانياً: الطبقة العاملة الإيرانية – النضال الثوري في ظل الانقسامات الداخلية
تختلف الطبقة العاملة الإيرانية عن نظيرتها العراقية إلى حد ما، بالنظر إلى التجربة الثورية التي خاضها الشعب الإيراني عام 1979. ومع ذلك، فإن النظام الثوري في إيران قد تحوّل مع مرور الوقت إلى نظام هجين يجمع بين قوى إسلامية وبورجوازية تسعى للهيمنة على الاقتصاد.
التحديات الداخلية في الطبقة العاملة الإيرانية
رغم أن الثورة الإيرانية قد وعدت الطبقات العاملة بحقوق اجتماعية واقتصادية، إلا أن الحكومة الإسلامية في إيران أصبحت تعمل بشكل متزايد على إفقار الطبقة العاملة وتقليص حقوقها. كان لهذا التوجه أثر كبير في تنامي التوترات الطبقية داخل الطبقة العاملة الإيرانية، التي حاولت في أكثر من مرة تنظيم إضرابات وحركات احتجاجية ضد النظام، لكنها واجهت القمع الشديد من قبل الدولة التي كانت تستخدم الطائفية كوسيلة للسيطرة على القوى المعارضة.
تُظهر الاحتجاجات العمالية في إيران - سواء في قطاع النفط أو الزراعة أو المصانع - كيف أن النظام الثوري فشل في تحقيق العدالة الطبقية بعد أكثر من أربعة عقود على الثورة، بل وأصبح الطبقيون داخل المجتمع الإيراني يعانون من الانقسام الطائفي الذي عمل عليه النظام لاحتواء الطبقات المهمشة.
⸻
ثالثاً: الطائفية كأداة لتفتيت الحركة العمالية في المنطقة
إن تفشي الطائفية في المنطقة يمكن أن يكون له تأثير مدمّر على الحركات العمالية التي تعتمد على وحدة الطبقة العاملة من أجل التحرك ضد الرأسمالية والإمبريالية. في العراق وإيران، وبقية الدول العربية، يتم تجنيد العصبية الطائفية لتشويه العدالة الاجتماعية والطبقية، وإحباط محاولات الوحدة العمالية التي تَعد بمستقبل أفضل للجميع.
النضال الطبقي في ظل العصبية
بسبب التفريق الطائفي، يجد العمال أنفسهم في مواجهة السلطة الحاكمة أكثر من أي وقت مضى، حيث أن الأنظمة السياسية تسعى إلى قمع أي حركة عمالية قد تخرج عن المألوف. في العراق، كان هناك تجربة في منتصف العقد الأول من الألفية عندما اجتمع العمال الشيعة مع العمال السنة في احتجاجات مشتركة، ولكن كان هذا نادرًا جدًا نتيجة للضغط السياسي والتهديدات الطائفية.
في إيران، حيث تحكم الطبقة الحاكمة بحجة الإسلام السياسي، فإن النضال الطبقي يتعرض للتحجيم في الوقت الذي تُغذَّى فيه التناقضات الطائفية، لتشتيت صفوف الطبقة العاملة ومنعها من التوحد ضد النظام.
⸻
رابعاً: الأفق المستقبلي – من الطائفية إلى الوحدة الطبقية
إن التحدي الكبير أمام الطبقة العاملة في العراق وإيران يكمن في تجاوز الانقسامات الطائفية والتركيز على القضايا الطبقية الأساسية. وهذا يتطلب وعيًا طبقيًا يَعِي أن الطبقة الحاكمة، سواء كانت شيعية أو سنية، هي عدو واحد للطبقات العاملة في المنطقة، وأن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الوحدة الطبقية ضد قوى الرأسمالية والإمبريالية.
إن التنظيم العمالي المشترك بين العمال الشيعة والعمال السنة في العراق، والعمال الفرس والعمال العرب في إيران، يمكن أن يشكل نواة جديدة لحركة ثورية تعمل على تجاوز الطائفية وتحقيق العدالة الاقتصادية. وهذا ما يتطلب بالأساس تثقيفاً طبقياً يعمل على تفعيل مواقف مناهضة للطائفية ويُظهر كيف يمكن وحدة العمال أن تكون حلاً للأزمات الطائفية.
⸻
خاتمة: ضرورة توحيد الطبقات العاملة
إن التحديات التي تفرضها العصبية الطائفية والعنصرية على النضال الطبقي في كل من العراق وإيران لا يمكن تجاهلها. لكنها أيضًا توفر فرصة كبيرة لتوحيد الطبقة العاملة في مواجهة الأنظمة القمعية والاحتلالات الأجنبية. من خلال النضال المشترك، يمكن للعاملين في كلا البلدين بناء حركة موحدة تركز على العدالة الاجتماعية والحرية، بعيدًا عن التأثيرات الطائفية التي تعمل على إضعافها.
⸻
المراجع:
• Hiro, Dilip. The Iranian Revolution: The Shadow of the Mullahs. London: Routledge, 1989.
• Cohen, David. The Labor Movement in the Middle East: A Historical Perspective. London: Pluto Press, 1993.
• Hinnebusch, Raymond. The Arab Uprisings: A Political Economy of Revolution. London: Palgrave Macmillan, 2017.
————————————————————————————————————————————————
الجزء السادس: التاريخ الحضاري لبلاد فارس في المنظار الماركسي – جدل الهوية والعداء المصطنع
مقدمة: فارس ما بين المجد الحضاري والتشويه الطائفي
تاريخ بلاد فارس يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام، وهو تاريخ غني بالإسهامات الفكرية والعلمية والثقافية. من الإمبراطورية الأخمينية إلى العصر الصفوي، ومن الشعراء الصوفيين إلى العلماء المسلمين، شكّلت الحضارة الفارسية واحدة من أكثر التجارب عمقًا وتأثيرًا في تاريخ البشرية.
ومع ذلك، فإن هذا التاريخ كثيرًا ما يُستخدم – خاصة في الخطاب القومي والطائفي العربي – كأداة للتشويه والعداء، من خلال نعتها بالمجوسية، الصفوية، أو اعتبارها حضارة معادية للإسلام والعروبة. وتُستَخدم هذه السرديات في دعم التحريض الطائفي، خصوصاً من قبل القوى الرجعية التي تخشى من أي تحالف طبقي أو ثوري بين شعوب المنطقة.
من خلال هذا الجزء، سنُقدّم رؤية ماركسية للتاريخ الفارسي، ونحاكم المواقف القومية والطائفية التي تستخدم هذا التاريخ للتأجيج بدلًا من الفهم، ونطرح كيف يمكن تحويل الوعي بالتاريخ إلى عنصر في بناء تضامن الطبقة العاملة لا في تفتيتها.
⸻
أولاً: لمحة عن الحضارة الفارسية – من الزرادشتية إلى الإسلام
الإمبراطورية الأخمينية (550 – 330 ق.م)
في عهد كورش الكبير وورثته، وُلدت أول إمبراطورية متعددة القوميات، حيث ساد التسامح الديني والإدارة المركزية المنظمة. وكان النظام الطبقي واضحًا، لكن الدولة لم تكن قائمة على الطائفية، بل على تنظيم إداري - عسكري دقيق.
“لم تكن الإمبراطورية الأخمينية دولة استبداد محض، بل شكلت في لحظات كثيرة نموذجاً مبكراً للتعايش بين الشعوب”
— Ghirshman, Iran: From the Earliest Times to the Islamic Conquest, 1954.
الزرادشتية – الدين والتقدم الأخلاقي
الزرادشتية، كديانة توحيدية أخلاقية، كانت تُشجع على العمل، الصدق، والنزاهة. وقد حملت بذورًا فكرية تُشابه بعض مفاهيم العدالة الاجتماعية. ولم تكن الزرادشتية دينًا توسعيًا أو طائفيًا، بل ساهمت في بناء أخلاق مدنية في المجتمع الفارسي.
ما بعد الفتح الإسلامي – ازدهار جديد تحت الإسلام
عندما دخل الإسلام بلاد فارس في القرن السابع، لم تختفِ الحضارة الفارسية، بل اندمجت مع الحضارة الإسلامية، وساهم الفرس في بناء الدولة الإسلامية، من خلال العلوم، الفقه، الفلسفة، والأدب. علماء مثل الفارابي، ابن سينا، الرازي، نظام الملك الطوسي، وغيرهم كانوا من أصول فارسية وأسهموا في نهضة الإسلام.
⸻
ثانيًا: كيف ترى الماركسية هذا التاريخ؟
أ- الدولة الفارسية كمرحلة من تطور أنماط الإنتاج
من المنظار الماركسي، تشكلت الإمبراطورية الفارسية كمرحلة من تطور نمط الإنتاج الآسيوي، الذي يتميز بالسيطرة المركزية على الأرض والماء (الري)، ووجود سلطة مطلقة لإدارة الموارد، مع اعتماد واسع على الفائض الاقتصادي من الفلاحين والعمال.
“الإمبراطوريات الآسيوية لم تُنتج البرجوازية كما في الغرب، لكنها خلقت نخبة إدارية قوية ومستقرة تمثل قاعدة السيطرة الطبقية”
— Marx, Grundrisse, 1857.
كانت الدولة الفارسية، إذًا، شكلاً من أشكال الهيمنة الطبقية التي أُعيد إنتاجها بوسائل إدارية ودينية، إلى أن تم إدماجها لاحقًا في مشروع الإسلام، لتأخذ أبعادًا جديدة من التفاعل الحضاري.
ب- الحضارة مقابل الأسطرة القومية والطائفية
العداء لفارس، ووصمها بـ”المجوسية” أو “الصفوية”، لا يقوم على أسس علمية أو تاريخية، بل ينبع من العصبيات القومية والطائفية التي تخشى من التاريخ الفارسي لأنه يُمثّل بعدًا حضاريًا لا يُمكن احتواؤه في سردية دينية ضيقة.
من منظور ماركسي، الأسطرة الطائفية التي تنتج عن هذا العداء تُخدم فقط مصالح الطبقات الحاكمة في بلدان الخليج والدول العربية الرجعية، التي تسعى لإبقاء شعوبها في حالة من الخوف والتعبئة الطائفية.
⸻
ثالثاً: التشويه المتعمد للحضارة الفارسية – من البعث إلى السلفية
البعثيون والفرس المجوس
نظام صدام حسين البعثي اعتمد على خطاب قوموي - طائفي يحاول تشويه كل ما هو فارسي، وكان يُروّج لعداء مفتعل بين العرب والفرس، مستندًا إلى قتل عمر بن الخطاب واعتباره دافعًا للعداء التاريخي.
لكن من منظور التحليل التاريخي الماركسي، فإن هذا الخطاب يخفي الصراع الطبقي الحقيقي بين الأنظمة القمعية وشعوبها، ويحول العداء من كونه صراعًا ضد الرأسمالية والتبعية إلى صراع “عرقي – ديني”.
التيارات السلفية والوهابية
الخطاب السلفي – الوهابي يتبنى عداءً منهجيًا للحضارة الفارسية من خلال وصفها بـ”الرافضة المجوس”، متجاهلًا أن الإسلام نفسه قد ازدهر من خلال التفاعل مع التراث الفارسي. هذا العداء يتغذى من منظومة طائفية طبقية رجعية تهدف إلى ضرب أي مشروع تحرري في المنطقة.
⸻
رابعاً: نحو وعي طبقي مشترك يعيد قراءة التاريخ
إن إعادة قراءة تاريخ بلاد فارس من منظور الوعي الطبقي لا من منظور التحريض الطائفي هو الخطوة الأولى في بناء جبهة ثورية في المنطقة. إن الفرس والعرب، السنة والشيعة، يشتركون في تاريخ طويل من التفاعل الحضاري، ومن العبث أن نسمح للعصبيات الدينية أن تمزقهم.
على الماركسيين في العراق، إيران، وعموم المنطقة، أن يعيدوا الاعتبار إلى التحليل الطبقي للتاريخ، لا أن ينجرّوا خلف شعارات ملوثة بالعصبيات.
⸻
خاتمة: من فارس القديمة إلى إيران الحديثة – جدلية التاريخ والطبقة
فارس ليست عدواً للعرب، كما أن العرب ليسوا أعداءً للفرس. العدو المشترك هو كل نظام يُعيد إنتاج الهيمنة الطبقية والطائفية لتفتيت الشعوب ومنعها من تحقيق العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية. إن التاريخ يجب أن يكون ساحة لتوحيد الشعوب عبر فهم التراث الإنساني المشترك، لا سلاحًا في يد الرجعية لزرع الكراهية.
⸻
المراجع:
• Ghirshman, Roman. Iran: From the Earliest Times to the Islamic Conquest. London: Penguin Books, 1954.
• Marx, Karl. Grundrisse: Foundations of the Critique of Political Economy. Translated by Martin Nicolaus. London: Penguin Books, 1973.
• Homa Katouzian, The Persians: Ancient, Mediaeval and Modern Iran. New Haven: Yale University Press, 2009.
• Mernissi, Fatima. Islam and Democracy: Fear of the Modern World. New York: Perseus Books, 2002.
—————————————————————————————————————————————————-
الجزء السابع: آفاق التحالف الطبقي في مواجهة الطائفية والقومية – نحو أممية ثورية جديدة في المنطقة
مقدمة: من التفكك إلى الوعي – الحاجة إلى مشروع طبقي مشترك
شهدت العقود الأخيرة تفاقمًا غير مسبوق في الخطابات الطائفية والقومية والإثنية التي مزّقت البنية الاجتماعية لشعوب المنطقة، وخاصة العراق وإيران. وعلى وقع الحروب والتدخلات الإمبريالية، تم استغلال هذه العصبيات لتقسيم المجتمعات وتفريغ أي نضال اجتماعي من مضمونه الطبقي.
لكن من قلب هذا الدمار، تتصاعد أيضًا مؤشرات جديدة على إمكانية نهوض وعي طبقي ثوري يتجاوز حدود الطائفة والدين والعرق. تُطرح أمام الطبقة العاملة اليوم مهمة تاريخية: إعادة صياغة الصراع على أسس طبقية، وتجاوز الخطوط التي رسمتها الأنظمة والإمبريالية والرجعية الدينية.
⸻
أولاً: التحديات البنيوية أمام التحالف الطبقي
1. الطائفية كسلاح سياسي ضد الوعي الطبقي
إن الطائفية في العراق وإيران لا تقتصر على كونها حالة ثقافية أو دينية، بل هي أداة في يد السلطة تُستخدم لتفتيت المجتمع ومنع نشوء أي وعي موحد بين العمال والفقراء. حين يُستدرج العامل الشيعي لمعاداة العامل السني، والعكس، يصبح من المستحيل بناء أي جبهة طبقية.
2. القومية كحاجز أمام التضامن الأممي
القوميات المغلقة، سواء الفارسية أو العربية أو الكردية أو التركية، يتم تسخيرها لخدمة أنظمة استبدادية تُحكم قبضتها على شعوبها باسم “الهوية” أو “المصير القومي”، مما يمنع قيام أي حركة طبقية مشتركة عبر الحدود.
“القومية هي غلاف معدني يُغطّي التناقضات الطبقية، وتُستخدم من قبل البرجوازيات للهيمنة على وعي الطبقات الفقيرة.”
— لينين، حول حق الأمم في تقرير المصير، 1914.
⸻
ثانيًا: تجارب تاريخية تشير إلى إمكانات نهوض طبقي مشترك
1. التحالفات النقابية العابرة للطوائف في العراق
في فترات معينة، وخصوصًا بعد 2003، شهدت بعض القطاعات العمالية في العراق (مثل الموانئ، النفط، النقل) محاولات لبناء تنظيمات نقابية عابرة للطوائف، رغم القمع والملاحقة. لم تدم هذه التجارب طويلًا، لكنها دلّت على إمكانية كسر الطائفية من القاعدة.
2. الحركة العمالية في إيران – بين القومية والدين
رغم القمع القاسي، استمرت الطبقة العاملة الإيرانية – من فرس، وبلوش، وأكراد، وترك – في تنظيم إضرابات موحدة ضد سياسات الخصخصة والقمع الاقتصادي، ما يدل على أن الوعي الطبقي ما زال حيًا رغم الصعوبات.
⸻
ثالثًا: شروط بناء التحالف الطبقي الجديد
1. إعادة بناء الوعي الطبقي على أسس ماركسية علمية
يجب فضح الخطابات الدينية والطائفية والقومية على أنها أدوات للهيمنة الطبقية، وغرس مفاهيم مثل الاستغلال، الفائض الاقتصادي، والملكية العامة في وعي الناس. لا تحرر بدون تحليل مادي جدلي للواقع.
2. تجاوز حدود الدولة القومية نحو مشروع أممي
لا يمكن حل مشاكل العمال في العراق دون ربط نضالهم بنضال عمال إيران، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والخليج. المشروع الماركسي في جوهره أممي، ويقوم على وحدة الطبقة العاملة وليس على الحدود الجغرافية.
3. بناء أدوات نضالية جديدة مستقلة عن الأحزاب الطائفية والدينية
الأحزاب القائمة اليوم، سواء القومية أو الدينية، لا تمثل مصالح الطبقة العاملة، بل تعمل على احتوائها. المطلوب هو بناء تنظيمات عمالية مستقلة: نقابات، مجالس شعبية، تحالفات شاملة، قادرة على العمل خارج الأطر التقليدية.
⸻
رابعًا: لماذا هذا التحالف ممكن الآن أكثر من أي وقت مضى؟
رغم كل الانهيارات، هناك مقدمات موضوعية تجعل من بناء تحالف طبقي ثوري ممكنًا:
• تفاقم الأزمات الاقتصادية في المنطقة وفشل الأنظمة في تلبية الحد الأدنى من الحقوق.
• توسّع التعليم وتفشي أدوات التواصل التي تسمح بخلق وعي نقدي بين الأجيال الجديدة.
• تراجع مشروعية الخطابات الطائفية بعد أن تسببت في دمار المجتمعات.
• نضج بعض التيارات اليسارية وتزايد نشاطها، حتى داخل مناطق محافظة أو دينية.
⸻
خاتمة: المهمة التاريخية للماركسيين في المنطقة
إن التاريخ لا يُصنع فقط بالصراعات الطائفية والدمار، بل بصعود الوعي الطبقي وإعادة تنظيم المجتمعات على أسس العدالة والتحرر. الماركسيون في العراق، إيران، وسائر المنطقة، مُطالبون اليوم بتجاوز الصيغ القديمة والعمل على:
• فضح التحالف الموضوعي بين البرجوازيات المحلية والإمبريالية.
• كشف الخطاب الديني بوصفه أداة إلهاء وتفتيت طبقي.
• تأسيس برنامج أممي ثوري ينطلق من واقع المنطقة ولكنه لا يتقوقع فيه.
فالعامل العربي والفارسي والكردي والتركماني ليسوا خصومًا، بل شركاء في المعاناة، وشركاء – بالإمكان – في الثورة.
⸻
المراجع:
• Lenin, Vladimir. The Right of Nations to Self-Determination. Peking: Foreign Languages Press, 1970.
• Bayat, Asef. Workers and Revolution in Iran. London: Zed Books, 1987.
• Tripp, Charles. A History of Iraq. Cambridge: Cambridge University Press, 2007.
• Al-Jubouri, Abdulrazzaq. Iraq’s Working Class: Between Imperialism and Sectarianism. Baghdad: Al-Taliaa Publishing, 2018.
————————————————————————————————————————————————————
الجزء الثامن: أدوات التغيير والتحرر الطبقي – من التشخيص إلى التنظيم
مقدمة: من الوعي إلى التنظيم
“ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم” – مقولة ماركس الشهيرة. لكن التحول من وعي مشوه (طائفي، قومي، ديني) إلى وعي طبقي ثوري، يحتاج إلى أدوات قادرة على تجسيد هذا الوعي في الواقع. بدون تنظيم، يبقى الوعي في حدود النظرية. وبدون مشروع جماعي، تبقى المقاومة فردية وعفوية.
نطرح في هذا الجزء خريطة طريق مبدئية للتحرر، انطلاقًا من الأرضية التي رسمتها الأجزاء السابقة.
⸻
أولاً: نقد الأدوات التقليدية – الأحزاب والمرجعيات والنقابات الرسمية
1. الأحزاب القومية والدينية – أدوات إعادة إنتاج القهر
هذه الأحزاب، سواء بعثية أو إسلاموية (سنّية أو شيعية)، أو قومية (عربية، كردية، تركمانية)، أثبتت أنها أدوات للهيمنة الطبقية لا للتحرر. هي تُعيد إنتاج الانقسام الطائفي والعرقي، وتُطبّق السياسات النيوليبرالية ذاتها تحت شعارات مختلفة.
“البرجوازيات القومية في البلدان التابعة لا تختلف في جوهرها عن مستعمريها السابقين.”
— فرانتز فانون، معذبو الأرض، 1961.
2. النقابات الرسمية – امتداد للسلطة لا صوت للطبقة
النقابات التي تُدار بإشراف الدولة أو الأحزاب الطائفية ليست سوى هياكل مُفرغة من أي مضمون نضالي. إنها أداة لضبط العمال، لا لتمثيلهم. وظيفتها أن تُفرّغ الغضب لا أن تُنظّمه.
⸻
ثانيًا: المهام العاجلة للماركسيين – الوعي، الوحدة، التنظيم
1. بناء وعي طبقي نقدي من القاعدة
• تسييس النقاشات اليومية داخل أماكن العمل والسكن حول الأسعار، الأجور، البطالة، الفقر، والتمييز.
• فضح العلاقة بين الطائفية والاستغلال بلغة بسيطة، قابلة للفهم الشعبي.
• استخدام وسائل التواصل، المجموعات المحلية، المقاهي، المدارس… كنقاط انطلاق لـ”تثوير الوعي”.
2. خلق وحدات تنظيمية أفقية ومستقلة
• تأسيس لجان شعبية ومجالس عمالية خارج سيطرة الأحزاب.
• الاعتماد على التنظيم الأفقي لا الهرمي، لتجنب اختراق الدولة والتيارات الرجعية.
• تنظيم حملات مطلبية موحدة عابرة للطوائف، كالحق في السكن، الكهرباء، العمل، المساواة.
3. التأسيس لمشروع أممي شعبي
• الربط بين نضالات عمال العراق وإيران وفلسطين ولبنان وسوريا، من خلال شبكات تضامن إلكترونية ومحلية.
• خلق لغة نضالية تُوحّد المقهورين: لا دينية ولا قومية، بل طبقية ثورية.
⸻
ثالثًا: شروط الانتصار – من المقاومة إلى بناء البديل
التحول الجذري لا يحدث بين يوم وليلة. لكن هناك شروط أساسية يجب بناؤها:
1. التنظيم السياسي الثوري – لا يسار نخبوي بل يسار شعبي
• تجاوز النخبوية التي تعزل اليسار عن الناس.
• بناء حزب ماركسي حقيقي ينطلق من حاجات الطبقة، لا من كتب الأيديولوجيا فقط.
• حزب يُجيد العمل تحت الأرض والعلن، في الساحات كما في الأحياء.
2. تحالف القوى المضطهدة – تقاطع النضالات
• ربط نضالات العمال بالفلاحين، النساء، الطلبة، الأقليات، العاطلين عن العمل.
• الاعتراف بتقاطعات القهر: الطبقي، الجندري، الطائفي، العرقي… دون الوقوع في سياسات الهوية.
3. الرؤية المستقبلية – الاشتراكية الديمقراطية كأفق
• ليس المطلوب “جمهورية إسلامية شيعية” أو “خلافة سنية” أو “أمة عربية واحدة”، بل نظام اشتراكي ديمقراطي يضع الإنسان مركزًا.
• الماركسية هنا ليست عقيدة جامدة، بل أداة لتحرير البشر من كل استغلال.
⸻
خاتمة: الثورة ممكنة… إذا آمنا أننا نستحقها
قد يبدو المشروع الذي طُرح في هذه السلسلة طوباوياً أمام عنف الواقع. لكن الواقع نفسه يشهد يومياً على تفكك النظام القائم. لا الأنظمة الطائفية قادرة على ضمان الاستقرار، ولا الإمبريالية قادرة على خلق البدائل. ويبقى صوت الشعوب، إذا انتظم في مشروع ثوري طبقي، هو القوة الوحيدة القادرة على صناعة التاريخ.
⸻
المراجع :
• Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. Translated by Richard Philcox. New York: Grove Press, 2004.
• Marx, Karl. The Communist Manifesto. London: Penguin Classics, 2002.
• Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Notebooks. New York: International Publishers, 1971.
• Haddad, Fanar. Sectarianism in Iraq: Antagonistic Visions of Unity. Oxford: Oxford University Press, 2011.
انتهى
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟