حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8318 - 2025 / 4 / 20 - 13:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد مثّل رينيه ديكارت (1596–1650) نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الغربي، ليس فقط من حيث تأسيسه للفلسفة الحديثة على أنقاض الفكر المدرسي، بل من حيث إسهامه الجوهري في زعزعة سلطان الميتافيزيقا التقليدية التي كانت تشكّل العمود الفقري للرؤية الكونية في العصور الوسطى. لقد كانت الميتافيزيقا، قبل ديكارت، قائمة على التسليم بسلطة المطلقات الدينية واللاهوتية، التي تستمد قوتها من التراث الأرسطي والتوماوي، وكان يُنظر إليها بوصفها العلم الأعلى، الضامن لفهم الوجود والحقيقة، والموجِّه للعقل الإنساني. غير أن ديكارت، عبر مشروعه الفلسفي الثوري، عمل على قلب هذا الهرم رأسًا على عقب، وجعل العقل البشري لا الميتافيزيقا، هو نقطة الانطلاق في كل بحث عن الحقيقة.
لقد جاء ديكارت في لحظة تاريخية كانت الفلسفة فيها رهينة اللاهوت، والعقل مقيدًا بقيود السلطات الكنسية. وعليه، لم يكن مجرد فيلسوف يحاول تطوير نظرية في المعرفة، بل كان متمرِّدًا على تراث فكري متصلب، يقف عائقًا أمام التقدم العلمي والإنساني. ففي كتابه الشهير "تأملات في الفلسفة الأولى"، لم يضع ديكارت الميتافيزيقا موضع النقد السطحي، بل هاجم جذورها المعرفية والأنطولوجية من خلال ما عُرف بـ"الشك المنهجي"، الذي كان، في جوهره، سلاحًا فلسفيًا لتفكيك المسلمات الموروثة، وإعادة بناء المعرفة على أسس جديدة تضع الذات العارفة في المركز.
بهذا الشك، لم يكن ديكارت يسعى إلى نفي الميتافيزيقا بقدر ما كان يعمل على تحريرها من عبء التقليد الموروث، وإعادة تأسيسها على يقين لا يُزعزع، وهو يقين "الأنا أفكر إذًا أنا موجود". ولئن كانت الميتافيزيقا التقليدية تنطلق من الإيمان بوجود كائن مفارق كمبدأ لكل شيء، فإن ديكارت قلب المعادلة وجعل من الوعي بالذات المفكِّرة أساسًا لكل يقين لاحق. لقد حلّ الكوجيتو محل المطلق الميتافيزيقي، وصارت الحقيقة تُبنى من الداخل، من تجربة الذات وعقلانيتها، لا من خارجيات السلطة الدينية أو الكونية.
ومع أن ديكارت لم يتخلَّ تمامًا عن الميتافيزيقا، بل سعى إلى إعادة تأسيسها من خلال إثبات وجود الله وضمانة صدق المعرفة، إلا أن طريقته في البرهنة لم تكن مستمدة من الوحي أو السلطة اللاهوتية، بل من حجج عقلية خالصة. وهذا ما شكّل القطيعة الكبرى: إذ جعل ديكارت من العقل وحده مصدرًا للحقيقة، وألغى بذلك الدور المركزي للميتافيزيقا الكلاسيكية كمرجعية كونية مطلقة. لقد انفصلت الفلسفة عن اللاهوت، ولم تعد الميتافيزيقا أداة لتمجيد السلطة الدينية، بل أصبحت، بفعل المشروع الديكارتي، خاضعة لمنطق العقل، قابلة للنقد، ولإعادة البناء المستمر.
من هنا، يمكن القول إن ديكارت لم يضعف سلطة الميتافيزيقا فحسب، بل أخرج الفكر الفلسفي من طور الاتباع إلى طور الإبداع، ومن عبودية المسلمات إلى حرية الشك. لقد كانت فلسفته إيذانًا ببداية عصر الحداثة، حيث لم يعد الإنسان يُعتمد عليه كمجرد مخلوق خاضع، بل كفاعل عاقل قادر على تأسيس المعرفة والوجود انطلاقًا من ذاته. وفي هذا السياق، لم تكن مساهمته إضعافًا للميتافيزيقا بوصفها معرفة، بل تحريرًا لها من سلطان الماورائيات غير العقلانية، ودفعًا بها نحو أفق أكثر اتساقًا مع مشروع العقل الحديث.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟