حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8318 - 2025 / 4 / 20 - 11:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تمثل فلسفة فريدريش نيتشه أحد الجذور الفكرية العميقة التي تغذت منها تيارات ما بعد الحداثة، وإن لم يكن نيتشه نفسه "ما بعد حداثي" بالمعنى التاريخي للكلمة، فإن أفكاره أسهمت في تفكيك الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية، خاصة في ما يتعلق باليقين المعرفي، والحقيقة المطلقة، ومركزية العقل، والذات المتعالية. لقد أعلن نيتشه "موت الإله"، لا كمجرد إعلان لاهوتي أو نقد ديني، بل كحدث فلسفي يزلزل البنية المعرفية والأخلاقية للحضارة الغربية. هذا الإعلان كان بمثابة قطيعة مع النظام الرمزي الذي كانت الحقيقة فيه تستمد شرعيتها من مرجعية ميتافيزيقية عليا. في هذا السياق، وفرت أطروحات نيتشه مجالًا رحبًا للما بعد حداثيين لتفكيك خطاب الحقيقة الكلية والسرديات الكبرى.
يرى ما بعد الحداثيون في نيتشه مفكرًا راديكاليًا فكك البنى المعرفية التي افترضت ثبات المعنى واستقرار الدلالة. فقد كان نيتشه من أوائل من انتبهوا إلى البعد التأويلي في اللغة والمعرفة، حيث أكد أن "لا حقائق، بل تأويلات فقط"، وهو ما أصبح شعارًا مركزيًا في ما بعد الحداثة. هذا التصور التأويلي للعالم، والذي يتخلى عن مركزية "المعنى الواحد" ويفسح المجال لتعدد المعاني وتداخل الخطابات، شكّل أساسًا نظريًا لتيارات مثل التفكيكية عند دريدا، ونقد الخطاب عند فوكو، والنسبية الثقافية عند ليوتار. لقد رأى هؤلاء في نيتشه تمردًا على الفلسفة النسقية التي حاولت تقديم العالم في صورة بنية متماسكة مغلقة، وسعوا إلى تمديد مشروعه نحو عوالم متشظية وغير نهائية المعنى.
كما أن نيتشه كان من أوائل من نقدوا العقل التنويري بوصفه أداة للهيمنة والسيطرة، لا للتحرر والإنارة كما ادعى الحداثيون. لقد فضح نيتشه العلاقة الخفية بين المعرفة والقوة، وهو ما التقطه فوكو لاحقًا في تحليله لعلاقات السلطة والمعرفة. كذلك، فإن مفهوم "إرادة القوة" النيشتوي تحول في ما بعد الحداثة إلى نقد جذراني لكل شكل من أشكال السرديات الكلية التي تسعى إلى فرض نظام شمولي للمعنى أو القيم أو التاريخ. إرادة القوة لا تبحث عن الحقيقة بل عن الهيمنة، وهي بذلك تسائل كل إنتاج معرفي باعتباره جزءًا من صراع القوى.
ثمّة بعد جمالي أيضًا في علاقة نيتشه بما بعد الحداثة، حيث كانت فلسفته دعوة لإعادة التفكير في الإنسان من منظور "فني" وليس "علمي" أو "أخلاقي". لقد دعا إلى إعادة تقييم كل القيم، وتحرير الإنسان من أوهام المطلق والغايات النهائية، وهي رؤى التقطها جيل دولوز بشكل خاص، واعتبر نيتشه الفيلسوف الذي استطاع أن يقدم للعالم إمكانات فلسفية جديدة تتجاوز الثنائيات التقليدية (مثل العقل/اللاعقل، الخير/الشر، الذات/الآخر)، وتؤسس لفضاء مفتوح تتقاطع فيه الرغبة مع الخلق مع القوة مع اللعب.
إن العلاقة بين نيتشه وما بعد الحداثة ليست علاقة تبعية أو استلهام مباشر، بل علاقة تأصيل وتفجير. نيتشه لم يكن ينتمي إلى ما بعد الحداثة تاريخيًا، لكنه ساهم في خلخلتها منذ جذورها الفلسفية. لقد هدم نيتشه المعبد دون أن يقيم معبدًا جديدًا، وترك الأطلال الفلسفية لتكون مسرحًا لرحلة تفكيك كبرى خاضها فلاسفة ما بعد الحداثة في مشروع لا يبحث عن معنى واحد بل عن تعددية بلا مركز، وعن خطاب لا يتعالى على الواقع بل يتماهى معه في لانهائيته وتشظّيه.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟