أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسن خليل - نصف قرن من تطور التبعية في مصر















المزيد.....

نصف قرن من تطور التبعية في مصر


محمد حسن خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 16:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من متابعتنا للفترة التي انتقل فيها النظام المصري من الاستقلال إلى التبعية للاستعمار الغربي بزعامة أمريكا حول عام 1974، رأينا أن نفس النظام الذي كان قائما، وقع تحت تأثير أزمته الاقتصادية، وتحت تأثير الهزيمة القاسية التي تعرض لها في 5 يونيو 1967. تفاعلت الضغوط مع ميوله العميقة للعودة للارتباط بمعسكره الرأسمالي العالمي. ونظرا لقسوة الشروط التي فرضوها عليه، وتركهم له لتتفاعل مشاكله من رفض شعبي للهزيمة مع الأزمة الاقتصادية واحتلال إسرائيل لأراضيه، لكي تُسقِطه. وفي مواجهة هذا قرر القيام بحرب محدودة، لكي يتمكن في ظلها، من تمرير صفقة استسلامه لشروط الغرب الذي هزمه. لقد استغل وطنية هذا الشعب واستعداده للتضحية بكل ثمين، وبأرواحه نفسها، لاستعادة أرضه وكرامته، ولمحو عار هزيمته. لهذا قدم الجندي والضابط المصري، بما فيهم أغلب القادة العسكريين، قدموا آيات البطولة والبسالة واقتحموا المستحيل وحققوا أهدافا هامة.
لكن القيادة السياسية التي لم تضع تطوير الحرب أو التحرير بأي وسيلة في حسابها، قررت الاستسلام لخطة العدو، فصرحت للعدو سرا بمحدودية حربها وأهدافها منذ السابع من أكتوبر عام 1973؛ واستسلمت أمام التدخل الأمريكي المباشر في الحرب، فعرضت السلام وإعلان أن أكتوبر آخر الحروب وهي لم تحرر إلا أقل من 5% من الأرض المحتلة، معتمدة على استكمال استعادة أرضها عن طريق تحقيقها لمطالب السلام الأمريكي، أي إعادة رسم خريطة الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية للمنطقة، ومحققة أسوأ توقعات هتاف الطلاب في أوائل عام 1973: "يا خوفي يوم النصر، نكسب سينا ونخسر مصر"!
دخل رجال أمريكا إلى مراكز صنع القرار في الوزارات المختلفة. ولكي يحسنوا سمعتهم قاموا بتقديم بعض الفتات من الخدمات المجانية أو المدفوعة بالديون، وأخذوا يدرسون بنشاط واقع الإنتاج والخدمات في التعليم والصحة والزراعة والصناعة... الخ. الهدف هو عمل برامج من أجل إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي والخدمي لكي يتلاءم مع اندماجه مع السوق الرأسمالي العالمي من موقع التابع، ويتوجه لإشباع احتياجات السوق العالمي على حساب تلبية احتياجات الشعب المصري.
وهكذا استجاب إلى مطالب الاستعمار بتقليص تدخل الدولة في الاقتصاد، ومواصلة الإنتاج في صناعات مثل الصناعات الملوثة للبيئة (الأسمنت، السيراميك، الأسمدة، تكرير البترول.... الخ)، والمشاركة مع الاحتكارات الأجنبية في صناعات مثل المنسوجات (مثلما رأينا في دخول الاتحاد الأوروبي شريكا في الشركة القابضة للغزل والنسيج)، والصناعات الغذائية والصناعات كثيفة العمالة. ويقوم رأس المال الإمبريالي أو الخاص المعاون بشراء شركات رابحة، أحيانا كليا أو جزئيا، أو أحيانا يكون الشراء بغرض إعدامها ووقف إنتاجها كليا مثلما حدث مع شركة المراجل البخارية. كما عمل على تحقيق حرية القطاع الخاص المحلي والأجنبي، وتركيز دور الدولة على بناء البنية التحتية. إنها ليست عملية تحطيم الهيكل القائم، وليست استعادة القاعدة الاستعمارية الداخلية القديمة المتمثلة في كبار الملاك الزراعيين، فالتاريخ لا يعود للوراء. إنها بالفعل عملية "إعادة هيكلة" أو reform كما سموها بحق، لتتواءم مع السوق الرأسمالي العالمي.
هي عملية بالضرورة طويلة، متعددة المراحل، تختلف درجة عمق التبعية في كل مرحلة أكثر من سابقتها؛ وهي لم تكن حتمية في كل تفاصيلها، فهي تتنوع بين البلدان المختلفة، حسب وضع كل بلد ومدى إدراكها للخطة الاستعمارية، والعمل على تجنب بعض أسوأ ما فيها على الأقل. لهذا لجأت هيئات صنع التبعية في مختلف المجالات مثل هيئة المعونة الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدوليين إلى عمل برامج محددة الفترات، عادة خمس سنوات، تمثل كل منها نقلة في مجال التبعية، ومعظمها يبدأ بأزمة مالية ونقدية تستلزم قرضا يأتي ومعه شروط قاسية لدفع التبعية لأبعاد أكثر عمقا. لهذا قسمنا دراسة تطور التبعية في مصر إلى عدة مراحل وفق تعميق عمليات التبعية المتتالية، وسماتها المختلفة.
استغرقت المرحلة الأولى الفترة من 1974 وحتى 1991، وتميزت بالتحرير التدريجي للتجارة الخارجية، وتحرير الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال بين الداخل والخارج تدريجيا أيضا، والتحرير التدريجي لحيازة وتبادل والدفع بالعملات الأجنبية في السوقين الداخلي والخارجي، وأخيرا "تحرير" استغلال قوة عمل العاملين بتقليل الضمانات الاجتماعية والأمان الوظيفي، والاعتماد أكثر على الوظائف التعاقدية لمدة محددة حتى لو تجددت، والحد من التعيينات الدائمة، وتوسيع حرية صاحب العمل في توقيع العقاب والفصل. هذا هو ما سُمِّيَ "بالحريات" الأربع للانفتاح الاقتصادي. ألا يذكرنا هذا بقوة ب "سياسة الباب المفتوح" الذي تم فرضه على محمد علي بعد هزيمته؟!
المرحلة الثانية استمرت من 1991 وحتى عام 2002. هذه هي مرحلة بداية الخصخصة، تقنينا وممارسة. بعد مشاركة الجيش المصري مع الولايات المتحدة في التحالف الدولي لما سُمِّيَ معركة تحرير الكويت، كانت مكافأته المزعومة هي إسقاط نصف ديون مصر، (29 مليار دولار) التي دفعها الخليج، وإدارة العملية بوصاية صندوق النقد الدولي. تم تقسيم إسقاط الديون، رغم دفعها المسبق، إلى ثلاث مراحل، آخرها يسقط 85% من الدين، بشروط تمثلت في اتفاق التثبيت والتكيف الهيكلي المعقودة مع الصندوق والبنك على التوالي. كانت الشروط تخفيض الجنيه ورفع الدولار من 1.5 إلى 3 جنيهات، وإصدار قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991 وتشريع الخصخصة، وقانون البورصة المصرية رقم 95 لسنة 1992، واتخاذ البورصة كأحد قنوات الخصخصة. كانت تلك هي أدوات خصخصة هيكل الإنتاج الصناعي.
أما الزراعة المصرية، فتمت إعادة هيكلتها من خلال توصيات المؤتمر الخاص بتحرير الزراعة المصرية، الذي عقدته هيئة المعونة الأمريكية بالاشتراك مع وزارة الزراعة المصرية، عام 1992. شمل هذا إصدار قانون رقم 96 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام قانون الإصلاح الزراعي، فتم رفع إيجار الأراضي الزراعية المؤجرة لمدة 5 سنوات حتى 1997، ثم تحرير العلاقة بين المؤجر والمستأجر وتركها لقوانين السوق. كما تم إلغاء التعيين في الإرشاد الزراعي. ادَّعت التوصيات "تحرير الفلاح" من سلطة الدولة بإلغاء دور الجمعيات التعاونية في مد الفلاح بمستلزمات الإنتاج (أسمدة، بذور...) وفي تسويق المحاصيل، وفي التسليف التعاوني. تُرِك الفلاح تحت رحمة البنوك التجارية بسعر فائدة مرتفع. تم أيضا إلغاء الدورة الزراعية. أضعفت قوانين السوق من توجه الإنتاج لإشباع احتياجات الوطن الغذائية والصناعية، واتجه إلى الاندماج في السوق الرأسمالية العالمية، وزراعة وتصدير احتياجاتها من خضروات وفواكه وخامات زراعية.
***
بعد ترحيب أمريكا والغرب، وبعد مرور عدة سنوات، بدأت شكوى الهيئات الدولية وأمريكا المتكررة بأن الجنيه المصري مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية ولابد من مزيد من التخفيض، كما إن الخصخصة تسير بمعدلات بطيئة. وجاءت فرصة الغرب للضغط هذه المرة بسبب ظرف سياسي هو بروز مشروع التوريث لجمال مبارك. وعند استطلاع رأي أمريكا كان من المنطقي ألا تمانع، مع اشتراط استكمال الإصلاح الاقتصادي وتحقيق مطالبهم. بدأت المرحلة الثالثة مع تنحية الحرس القديم عام 2002 حتى ثورة يناير. وتولي جمال مبارك رئيس لجنة السياسات وأمين مساعد الحزب الوطني ورئيسه الفعلي. قامت وزارته، وزارة نظيف ورجال الأعمال، بالإسراع في الخصخصة، فخصخصت بين 2003 و2010،ى70% مما تم خصخصته منذ إصدار قوانين الخصخصة عام 1991. تم تخفيض الجنيه وزيادة الدولار، من أكثر من 4 جنيهات وحتى أكثر من 6 جنيهات، ليستقر بعد فترة عند 5.6 جنيه للدولار، مع رفع أسعار الكهرباء والوقود البترولي.
أدت تلك التغيرات إلى التضخم وارتفاع الأسعار الشديد، وزيادة الفقر. كما تفاقمت الأزمات السياسية، من استبداد، وتوريث نجل الرئيس مبارك. وتزايد عنف الشرطة وقتلى السجون والأقسام. تراكم سخط الجماهير حتى انفجر في ثورة 25 يناير 2011. مرت مصر بفترة انتقالية صعبة؛ وثق الشعب لفترة بالإخوان في أول انتخابات، ثم أدت ممارساتهم إلى فضح حقيقتهم، فنزل الشعب لإسقاطهم. بعدها استقر الأمر منذ العام 2014 بعد نجاح النظام في التحجيم الشديد للإرهاب، والنجاح في تبريد الثورة، واستعادة استقرار النظام. وتم استكمال ما سُمِّيَ مقومات الدولة الثلاث، إقرار دستور يناير 2014، وانتخاب البرلمان والرئيس، خلال نصف عام بعد الدستور. أصبحت مصر أمام قيادة جديدة من خارج دوائر صنع القرار القديم، ولا تملك رموزه وخبرائه أمثال زكريا عزمي وفتحي سرور وغيرهم.
عندما اقتنعت أمريكا بنجاح النظام في غل يد الإرهاب واستعادة استقراره ومقومات حكمه، توقفت عن الإصرار على اسقاطه، واستعادت العلاقات معه من مدخل الأزمة الاقتصادية، واستخدامها في فرض التعديلات الهيكلية التي يتطلبها المزيد من نهب الفائض من مصر وتعميق التبعية، والمزيد من الاندماج في السوق العالمي، استيرادا وتصديرا. تميزت القيادة الجديدة بسمات متفردة عن سابقاتها منذ بدء الأخذ بسياسات الانفتاح والتبعية، مثل الإدارة بالمشاريع والفرص وليس بالأهداف والخطط؛ وبدلا من الاقتصاديين تولى مهندسون وغيرهم المناصب التنفيذية، وغابت الرشادة عن القرارات الاقتصادية للقيادة.
تميزت تلك الفترة بالإسراف الشديد غير العقلاني في الديون الداخلية والخارجية، بحيث تضاعف كل منهما بنحو أربعة أضعاف خلال عشر سنوات، وهو أعلى معدل زيادة في الدين العام وبالذات الخارجي. ازداد العبء بشدة للدين الخارجي بعد تخفيض العملة لارتفاع مقابل الدين بالعملة المحلية. بالطبع اشتدت أعباء خدمة الدين العام وتضخمت حتى التهمت في كل عام من العامين الأخيرين أكثر من نصف استخدامات الموازنة العامة للدولة، وبلغت أعباء خدمة الدين أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالطبع وضعت هذه الوقائع مصر تحت رحمة شروط الدائنين واضطرارها للقبول بما لا يمكن القبول به. عقدت مصر في تلك الفترة من 2016 إلى 2024 خمس اتفاقات مع صندوق النقد الدولي، عام 2016 (12 مليار دولار)، وعام 2020 (اتفاقين، الأول بثلاث مليارات والثاني 5 مليارات دولار)، وعام 2022، وعام 2024، وهو امتداد للاتفاق السابق بزيادة القرض من 3 إلى 8 مليار دولار.
نتيجة تلك السنوات العشر هي تخفيض العملة وارتفاع سعر الدولار بنحو سبع أضعاف، من 7.7 جنيه للدولار إلى نحو 50 جنيها للدولار. ونُذَكِّر بأن خمسين عاما من الانفتاح جعل الجنيه المصري ينخفض أمام الدولار، فأصبحت قيمة الجنيه حوالي 8 مليمات، لأن الدولار ارتفع من 40 قرشا إلى خمسين جنيها! كما زادت معدلات الخصخصة حتى أصبحت بالجملة بخصخصة الشركات القابضة نفسها ( قانون 185 لسنة 2020) ووصلت في عام 2022 إلى النص في قرار خبراء صندوق النقد الدلي بقبول القرض لأن مصر وافقت على "تصفية ممتلكات الدولة divestment of state-owned assets". هذا هو ما ترجمته وثيقة ملكية الدولة بتصفية كل شركات قطاع الأعمال العام في 79 مجالا، وأكثر من نصفها في 40 مجالا أخرى، وأقل من 50% في المجالات الباقية، مع إعادة الدراسة بداية كل عام حول ما إذا كان مازال هناك أسباب للاستمرار في ملكية ما تملكه الدولة!
تم طرح أصول مصر للبيع، ليس الشركات الإنتاجية فقط، بل أيضا القصور والمرافق التاريخية، ومقرات الوزارات، بل والمطارات والموانئ. كما تم تعديل المناهج التعليمية، لاستبعاد الثقافة المعادية للسلام مع العدو الصهيوني! تدهورت الأحوال الاجتماعية وزادت نسبة السكان تحت خط الفقر. وتدل أحدث إحصائيات "قاعدة البيانات الدولية لعدم المساواة World Inequality Database" حول توزيع كل من الدخل والثروات في مصر، إلى أن نصيب أغنى 1% من السكان (18.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ن م أ) أكبر من نصيب أفقر 50% (15.4% من ن م أ). وأن نصيب أغنى 10% من السكان يساوي نحو نصف السكان (47.6%)، أي يساوي تقريبا 90% الآخرين. أما توزيع الثروة (الدخل المتراكم المدخر) فيوضح أن ثروة أغنى 1% من السكان يساوي نحو ثلث الثروات (31.8%)، وأن ثروة أغنى 10% من السكان تساوي حوالي ثلثيّ الثروات (63.8%)، بينما تبلغ ثروة أفقر 50% من السكان 4% فقط من الثروة.
أي أن مصر ليست دولة فقيرة، وتنتج الكثير من ناتج عمل أبنائها ومن ثرواتها الطبيعية، ولكن عائدها يذهب جزء معتبر منه للخارج في صورة فوائد وأقساط ديون، وفي صورة عوائد الاستثمارات الأجنبية في مصر. أما الباقي للمصريين فيتم توزيعه بالصورة المُخِلَّة التي رأيناها. ولنا أن نتصور وضع استقلال القرار السياسي (بمناصرة الفلسطينيين مثلا أو الدفاع عن حق مصر في مياه النيل) مع مثل ذلك الوضع شديد الضعف. هذا هو حصاد نصف قرن من التبعية، ولا يبقى لنا سوى استعراض أوضاع الطبقة الحاكمة في ظل كل ذلك، وليست تلك الكتابة هي مجال التحدث عن موقف الطبقات الشعبية التي لها مجال آخر.
يتضح مما سبق التغير في بنية نفس الطبقة الحاكمة قبل وبعد 1974، ولم تتم تغيرات جذرية بإحلال طبقة محل أخرى. ما تغير هو سلوك تلك الطبقة، بعد فشل مشروع استقلالها السياسي والاستقلال الاقتصادي النسبي، فعادت إلى المعسكر الرأسمالي العالمي من موقع التابع، والذي يقتسم عائد ثروات هذا الشعب مع الغرب الرأسمالي. إذن فإن الرأسمالية المنتجة الزراعية مثلا تتكامل مع السوق العالمية وتستفيد منها تصديرا للخضروات والبطاطس والبصل، واستيرادا للبذور ومختلف مستلزمات الإنتاج الزراعي. والرأسمالية الصناعية تستورد الآلات والسلع الوسيطة بما قيمته أكثر من نصف سعر المنتج، والذي تذهب إلى الجهة الموردة، وتوقفت الطبقات المنتجة عن الصراع مع الاستعمار على سيادتها على سوقها وعلى عملتها الوطنية، واستسلمت لواقع الهزيمة والاكتفاء بالشراكة مع الاستعمار من موقع التبعية.
أما مقولة أن الكومبرادور هو الحاكم، فالكمبرادور بالتعريف العلمي هو الوكلاء التجاريين لشركات الإنتاج الأجنبي، وهو قطاع من الطبقة السائدة. ويتوسع العديد من الكتاب حتى في استخدام كلمة الطبقة الكومبرادورية كمرادفة للطبعة الخادمة للمصالح الغربية، هذا غير دقيق. إنه مجرد أحد مكونات الطبقة المالكة والحاكمة الرأسمالية التابعة الكبيرة. وفي الوقت الذي يتصور البعض أن وصف الكومبرادور يعني مزيدا من نقد الطبقة الحاكمة، إلا أن نتيجته المنطقية هي تبرئة قطاع من الطبقة الحاكمة الكبيرة. كيف؟ ينبني هذا على تبسيط بأن عميل الاستعمار هو التاجر وكيل الأجنبي، بينما رأس المال المنتج، أو البرجوازية الوطنية، فتتناقض مع الاستعمار تتصارع معه على استقلال سوقها المحلية، وهذا غير صحيح. لماذا؟
في الحقيقة لا يوجد "نوع" من البرجوازية اسمه البرجوازية الوطنية، والموضوع نفسه يتضمن خطأ في الترجمة، فهو ترجمة لمصطلح national bourgeoisie، ولكن الترجمة الصحيحة هي البورجوازية القومية، مثل البرجوازية المصرية أو الفرنسية أو البرجوازية منسوبة إلى بلدها. أما الوطنية، وترجمتها إلى الإنجليزية هي كلمة patriotic، فهي صفة قد تلحق بالبرجوازية في فترة ما، عادة بالنسبة لعالمنا المتخلف في فترة صعودها وكفاحها من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي ولو النسبي. أما إذا ما هُزِمَت في معركتها، فهي تقنع بالمشاركة مع الاستعمار من موقع التابع، وتصبح برجوازية تابعة.
ولنستكمل التشكيلة الحالية للطبقة الحاكمة وقطاعاتها المختلفة، ننبه في البداية إلى أهمية وضخامة رأس المال المالي، التي لا تلقى حقها من الإشارة والدراسة. وتعريف رأس المال المالي هو رأس المال الذي لا يرتبط مباشرة بالعملية الإنتاجية، ولكنه بالطبع يرتبط به بشكل غير مباشر، لأن الإنتاج هو أساس كل قيمة، وربحه يأتي منها. وعادة ما يقسم رأس المال المالي إلى رأس مال بنكي وغير بنكي. بالنسبة لرأس المال البنكي، فرغم أن البنوك الحكومية تبلغ عشرة بنوك فقط من 38 بنكا عاملا في مصر، فإن البنوك الحكومية تسيطر على حوالي نصف الخدمات المصرفية التي تقدمها البنوك.
أما رأس المال المالي غير البنكي فيشتمل على رأس المال المضارب في البورصة، وعلى شركات التأمين، وشركات الخدمات المالية، وصناديق الاستثمار، وصناديق التحوط وغيرها. وإذا كانت وزارة التخطيط تقدر مساهمة الخدمات المالية في مصر ب 12% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن وزن هذا القطاع يتفوق على تلك النسبة بالطبع، لأنه يسيطر على الكثير من رأس المال الإنتاجي بحكم التحكم في تمويله.
تشمل باقي قطاعات الطبقة على رأس المال التجاري، وهو ذو طابع احتكاري واضح في تجارة الجملة أساسا، ولكن أيضا في رأس المال التجاري الاحتكاري من خلال سلاسل المحلات التجارية المصرية والأجنبية (كارفور، هايبرماركت، أولاد رجب، سعودي...الخ). وقد سبق استعراض رأس المال الصناعي والزراعي ومظاهر تبعيتهم. وكذلك هناك الكومبرادور، وهو ليس كل رأس المال التجاري، ولكن فقط القطاع الوكيل عنه، من أول معارض السيارات وحتى تجار ووكلاء الماركات الأجنبية في أي مجال. وبالطبع فإن رأسمالية الدولة وبرجوازيتها البيروقراطية لم تنته قط، سواء في شقها المدني، أو العسكري، والذي تضخم بشدة في العشرية الأخيرة. وبالطبع لا ننسى رأس المال العقاري، وشركات المقاولات والخدمات في هذا المجال. قطاع الخدمات مسؤول عن 57% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تقلص القطاع الإنتاجي إلى 43%. ربما تلك هي أهم قطاعات طبقة الرأسمالية الحالية الحاكمة، ولا يوجد فيها من يدافع عن استقلال السوق القومي.
تتخذ مؤسسات التمويل الدولية مؤشرا دالا على التقدم هو مؤشر مستوى الاندماج في السوق العالمية، وهو يساوي نسبة مجموع الصادرات والواردات من سلع وخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويمتدحون وصول المؤشر في مصر إلى 37% و36% في عاميّ 2022 و2023 على التوالي. يعني هذا امتداح تقدم مصر في الاندماج في السوق العالمي. لكن المشكلتين الكبيرتين في تلك المقولات هي أنها مؤشرات تبادل وليس إنتاج، وثانيها عدم التفرقة بين زيادة الصادرات وزيادة الواردات.
بالطبع فإن الهدف البديل الذي نسعى إليه هو إقامة اقتصاد تنموي مستقل، يتوجه لإشباع احتياجات جماهيرنا الغذائية والصناعية، مع السيطرة على التكنولوجيا الملائمة لذلك، في سياق بناء مستقبل اشتراكي يحقق تطلعات جماهير الشعب المصري.
دكتور محمد حسن خليل



#محمد_حسن_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلتتوجه جميع البنادق الفلسطينية والوطنية العربية تجاه الكيان ...
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ...
- مبادرة تنموية لجمعية أهلية لصالح صغار الفلاحين وتعويض انسحاب ...
- ماذا ستفعل مصر في أزمة ديونها الخارجية؟
- ملاحظات مبكرة حول معركة -طوفان الأقصى- و-السيوف الحديدية-
- أفريقيا الفقر والاستغلال والانقلابات
- عالم اقتصاد من طراز خاص رحيل الأستاذ الدكتور محمد دويدار
- الموقف من أولويات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولة
- موازنة الديون والتضخم والتقشف على المواطنين
- أزمة الديون وبدائل الصندوق
- كلمات حول المشكلة السكانية في مصر
- نرفض حل الأزمة الاقتصادية بزيادة معاناة الشعب والخصخصة
- وثيقة ملكية الدولة في مصر ومستقبل التنمية
- ليبيا بين الانتخابات والتقسيم الإخواني
- مجلس النواب اللبناني الجديد والثورة والانهيار
- تونس: قيس سعيد، والنهضة، والثورة، والشعب!
- الانتخابات الرئاسية مرآة للأزمة المجتمعية في فرنسا
- قراءة في الموازنة العامة لمصر للعام المالي 2022- 2023
- خطاب الرئيس السيسي والأزمة المجتمعية والحل المطروح
- الحرب في أوكرانيا وعلى ساحة العالم


المزيد.....




- وزارة الصحة في غزة تكشف عن أحدث حصيلة للقتلى منذ 7 أكتوبر 20 ...
- لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟
- مجلس أوروبا يدعو تركيا للإفراج عن إمام أوغلو وزيدان
- تقارير: إقالة قيادين في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد
- هيئة البث الإسرائيلية: -حماس- تبحث الإفراج عن رهائن مقابل وق ...
- الدفاع الروسية: تحرير بلدتين جديدتين في دونيتسك وزابوروجيه خ ...
- الخارجية البريطانية تطلب من مواطنيها مغادرة سوريا بأي وسيلة ...
- مشاهد خاصة لـRT تظهر آثار القصف الإسرائيلي على الضاحية الجنو ...
- ما خيارات نتنياهو أمام دعوات العصيان داخل الجيش؟ محللان يجيب ...
- صور وفيديوهات تهاني عيد الفطر 2025 بالذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسن خليل - نصف قرن من تطور التبعية في مصر