|
بروق القلادة كتاب كامل
كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8291 - 2025 / 3 / 24 - 19:03
المحور:
الادب والفن
حكايا بعض الادباء والعلماء العرب كاظم حسن سعيد 2018
مقدمة حفزني لوضع هذا الكتاب ما رأيته من عزوف الشباب عن القراءة والابتعاد عن تراثهم...لقد بذل رواد النهضة العربية جهودا جبارة في غربلة التراث واحيائه ودفع المواطن العربي الى التمسك بتأريخه والفخر بحضارته , لكن الانظمة الشمولية و ظهور النت و شبكات التواصل الاجتماعي ويأس الشعوب اجهزت على كل تلك الجهود , حتى اصبحنا نغلف الكتاب بكيس ونحن نحمله خشية الاتهام بالبطر ... والكتاب جمع لاهم حكايا بعض الاعلام و العلماء العرب .. بعد توطئة مختزلة لسيرهم , وقد بذلت جهدي في التحقيق معتمدا على مصادر قديمة ومعاصرة . ان اية امة تتخلى عن تراثها ورجالها الخالدين فمصريها العبودية او الفناء ..انهم هناك في الغرف السرية يهندسون تخلفنا..وعلى المثقفين ان يعرقلوا الانزلاق الى الهاوية . كاظم حسن سعيد بصرة 19 مارس -2018 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض ومعجم العين ولد أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي في سنة 100 هـ / 718م بعمان،(وقيل بالبصرة ) والفراهيدي نسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد، سافر إلى البصرة طلباً للعلم فتتلمذ على مشاهيرعلمائها.. عرف بالصلاح وحسن الخلق ورجاحة العقل والذكاء والوقار والتواضع، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه والتقلل من الدنيا والصبر على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: «إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي»، فحكى عنه تلميذه النضر بن شميل، أنه أقام في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال>>. ». وعكف الفراهيدي على دراسة علوم اللغة العربية، حتى عده العلماء الواضع الحقيقي لعلم النحو في صورته النهائية، التي نقلها عنه تلميذه سيبويه في كتابه المسمى «الكتاب» فذكره وروى آراءه في نحو ثلاثمئة وسبعين موضعاً معترفاً له بوافر علمه، وعظيم فضله. ويذكر أنه ذهب إلى الكعبة حاجاً، فتعلق بأستارها، ودعا الله أن يهب له علماً لم يسبقه أحد إليه، ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في دفتر منفرد، وذات يوم مر الخليل بسوق النخاسين، فسمع طرقات مطرقة على طست من نحاس، فلمعت في ذهنه فكرة علم العروض، وهو ميزان الشعر إذ ضبط أوزان الشعر العربي، وحفظه من الاختلال والضياع، وقد اخترع هذا العلم وحصر فيه أوزان الشعر في خمسة عشر بحراً واهتم بضبط أحوال القافية.. ويعد الفراهيدي من أهم علماء المدرسة البصرية، تتلمذ عليه الكثيرمن العلماء منهم سيبويه. وأشاد به العلماء فقال السيرافي: «كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله>>. » مصنفات الفراهيدي خلف الفراهيدي الكثير من المصنفات منها كتاب «العروض»، و«الشواهد»، و«النقط والشكل»، و«النغم»، و«معاني الحروف»، و«العوامل»، و«النوادر»، و«الجمل». غير أن الذي أذاع شهرته في الآفاق هو كتابه ومعجمه الفريد في مصنفات اللغة العربية كتاب «العين»، إذ يعتبر أول معجم جامع للألفاظ في اللغة العربية، قال عنه أبو الطيب اللغوي: «أبدع الخليل معجمه حسب مخارج الحروف مع مراعاة أوائل الأصول.توفي بالبصرة عام 170 هـ ، ويقال إن سبب وفاته هو استغراقه في التفكير في طريقة تيسر استخدام الحساب على العامة، فدخل إلى المسجد، وهو شاغل فكره في التفكير فاصطدم بسارية(عمود) المسجد وهو غافل فكانت السبب في موته. ((الحكاية)) ــــــــــــــــــــــــــــــ المزي 2-327 ومن حكايات زهده أن سليمان بن عليٍّ والي البصرة وجَّه إليه يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يُجرِيه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:: أبلغ سليمان أني عنـه في سعـةٍ وفي غِنًى غير أني لسـت ذا مـالِ سخَّى بنفسيَ أني لا أرى أحـدًا يموت هزلاً ولا يبقي على حـالِ والفقر في النفس لا في المال نعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـالِ فالرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصـه ولا يزيـدك فيه حَـْولُ محتـال إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِه . فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل: إن الذي شقَّ فمي ضامن ــــ للـرزق حتى يتوفـاني حرمتني خيرًا قليلاً فما ــــ زادك في مالك حرمـاني فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل : وزَلَّة يكثر الشيطان إن ذكرت منها التعـجب جاءت من سليمـانا لا تعجبَنَّ لخيرٍ زلَّ عن يـده . فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو نصر محمد الفارابي
أبو نصر محمد الفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي. ولد عام 260 هـ في فاراب في إقليم تركستان (كازاخستان حالياً). ولهذا اشتهر باسمه. نسبة إلى المدينة التي عاش فيها, وتوفي عام 339 هـ. فيلسوف مسلم, اشتهر بإتقان العلوم الحكمية وكانت له قوة في صناعة الطب.
كان أبوه قائد جيش ، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى سوريا وتجول بين البلدان وعاد إلى مدينة دمشق واستقر بها إلى حين وفاته.. تأثر به كل من ابن سينا وابن رشد.. تنقل في أنحاء البلاد وفي سوريا، قصد حلب وأقام في بلاط سيف الدولة الحمداني فترة ثم ذهب لدمشق وأقام فيها حتى وفاته عن عمر يناهز 80 عاماً ودفن في دمشق، ووضع عدة مصنفات وكان أشهرها كتابه (احصاء العلوم ) حصر فيه أنواع وأصناف العلوم.. سمي الفارابي "المعلم الثاني" نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية كان والده تركياً من قواد الجيش، وفي سن متقدمة، غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا. يؤكد الدكتور عادل العوا (تسلح الفارابي بثقافة موسوعية وألم بعلوم اللغة والرياضيات والكيمياء والعلوم العسكرية والموسيقا والسياسات فضلاً عن العلم الإلهي والمنطق واللغة) ص185 جـ 1 التجربة الفلسفية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ > قال ابن خلكان : ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر (الفارابي ) لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك وكان ذلك دأبه دائماً فوقف . فقال له سيف الدولة اقعد . فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال حيث أنت . فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه، حتى أخرجه عنه. وكان على رأس سيف الدولة مماليك، ولهم معهم لسان خاص يسارهم به، قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: أن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله في أشياء، إن لم يعرف بها فأحرقوا به. فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها. فتعجب سيف الدولة ،وقال له: أتحسن بهذا اللسان. فقال: نعم، أحسن بأكثر من سبعين لساناً . فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده. ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وصرفهم سيف الدولة، وخلا به. فقال: هل لك أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم . فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت . فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصنعة شيئاً؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، وفتحها، وأخرج منها عيداناً، فركبها، ثم ضرب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها غير تركيبها، وضرب بها، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها فنام من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكاية بتصرف برواية معاصرة : ذات يوم كان مجلس الأمير حافلاً بالفلاسفة والكتاب والشعراء والنحاة والفقهاء وعلماء الكلام وأصول الدين وغيرهم من بطانته ، وكان الأمير يصغي إلى الجميع إصغاء متبحر ومتمعن ، وفي هذا الجو المشحون بالتوهج الحضاري اقتحم المجلس رجل مهيب على محياه مواصفات الدراويش لكنه كان متوجاً بالحكمة والوقار وأثار دخوله المفاجئ وغير المتوقع جميع الحضور بما في ذلك الأمير الذي عرف بسيفه البتار على الأعداء وباهتمامه بأئمة المعارف والعلوم كما عرف باهتمامه بالبسطاء والدراويش المعقلنين ، فلم يسارع إلى اتخاذ موقف قد يندم عليه ، وما إن ألقى الدرويش السلام ، حتى رد له التحية قائلاً : اجلس حيث أنت، فقال الدرويش : أأجلس حيث أنا أم حيث أنت ، فأجاب سيف الدولة : بل اجلس حيث أنت .
لكنما لم يجلس حيث هو، وتابع سيره الوقور ليتربع على الأريكة إلى جانب الأمير فاغتاظ الأمير ووجه الأمر إلى قائد حرسه في المجلس بإخراجه فقال الدرويش له: أرجو التريث سيدي الأمير وألا تأمر بإخراجي قبل سماعي.
فأبدى سيف الدولة موافقته لاكتشاف سرّ هذا الدرويش المكابر وهنا أخرج الدرويش من جيبه قصبات وراح يعزف ألحاناً أذهلت الحضور .... فعزف أولاً نغمة الرست وأطرب بها الجميع حتى كادوا يرقصون فرحاً ثم عزف نغمة الصبا فحرك أشجانهم حتى أبكاهم محققاً لهم نقلة سريعة من الطرب المشحون سروراً إلى عالم النغم الحزين وفي خضم هذا التناغم الآسر حزناً ، حقق لهم نقلة جديدة عندما عزف نغمة الحجاز ... وكلما ازداد في العزف كلما خلدوا إلى الهدوء والسكينة .
ثم غادر المجلس والكل نيام، بعد ساعات طرب تلاها نغم حزين واختتمها باللحن الحجازي الهادئ الذي سيطر على الجميع فأصبحوا نياماً أو شبه نيام ... وحينما عاد الحضور إلى يقظتهم، لم يروا العازف فأمر سيف الدولة بالبحث عنه في أنحاء المدينة إلى أن عثروا عليه في إحدى زوايا المساجد يذاكر أناساً في المعارف والعلوم فأعلموه بطلب الأمير وما إن التقيا حتى وقف كل منهما متفحصاً الآخر، فسارع إلى التعريف بنفسه : أنا الفارابي.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(عتبة بن غزوان ) عتبة بن غزوان.قيل أسلم سابع سبعة في الإسلام وهاجر إلى الحبشة ويثرب ثم شهد بدرا وشارك في كل الغزوات . وكان أحد الرماة المذكورين ومن أمراء الرماة ,عرف بالزهد , وهو الذي مصرالبصرة فاختطها وأنشأها, وكانت قبلها الابلة وبنى المسجد بقصب ولم يبن بها دارا، وقيل كانت البصرة قبل تسمى أرض الهند.. ــــــــــــــــــــــ مضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرًا، حتى قدم الأبلّة. وكان الفرس يحشدون بها جيشًا من أقوى جيوشهم. ونظم عتبة قواته، ووقف في مقدمتها، حاملاً رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!! وصاح في جنده: "الله أكبر، صدق وعده)) فما هي إلا جولات حتى استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس. وكان من رواة الحديث الشّريف عن النّبيّ قضى عُتبة بن غزوان في ولاية مدينة البصرة حواليّ ستّة أشهر, وتُوفّي في طريقه من المدينة المنوّرة إلى البصرة بعد ردّ الخليفة عمر بن الخطّاب له ليُتمّ ولايته عليها بعد أن دعا ربّه ألّا يردّه إلى البصرة ولا إلى المُلك فاستجاب الله له دعاءه. مات عتبة عن عمرٍ يناهز 57 سنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحكاية (خطبة ) قال خالد بن عمير: خطبنا عتبة بن غزوان، قال: (( أيها الناس إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم ييق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ألا وإنكم في دار أنتم متحولون منها فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا، وإنكم والله لتبلون الأمراء من بعدي، وإنه والله ما كانت نبوة قط إلا تناسخت حتى تكون ملكًا ، وإني رأيتني مع رسول الله ..سابع سبعة ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فوجدت بردة فشققتها بنصفين فأعطيت نصفها سعد بن مالك ولبست نصفها فليس من أولئك السبعة اليوم رجل حي إلا وهو أمير مصر من الأمصار، فيا للعجب للحجر يلقى من رأس جهنم فيهوي سبعين خريفًا حتى يتقرر في أسفلها، والذي نفسي بيده لتملأن جهنم، أفعجبتم وإن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتين عليه يوم وما فيها باب إلا وهو كظيظ)). شرح : قوله: (آذنت بصُرْم) يعني: بانقطاع وفناء، وصَرْم الشيء بمعنى قطعه، صرَمَ الثمر، صرَمَ النخل يعني: جذ ما فيها من ثمر، والمعني: أنه قد أَعلمتْ أو قرب انقطاعها، وذهابها وزوالها وتحولها، وفناؤها. وولت حَذاء: يعني: سريعة، قد أزف ذهابها وانقضاؤها، ويقال: للقطاة حذاء؛ لأن ذنبها قصير، أو لأن ذيلها قصير. الدنيا سريعة الانقضاء، وقد آذنت بالذهاب والزوال والانقشاع، وذلك أن النبي - ص - قال:(بعثت أنا والساعة كهاتين) وجمع بين السبابة والوسطى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو الفرج الأصفهاني
أبو الفرج الأصفهاني (284هـ - 356 هـ)، علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي: وأُمّه شيعية من آل ثوابة، كان أديبا عربيا، ومن الأعلام في معرفة التاريخ والأنساب والسير والآثار واللغة. وله معارف أُخر في علم الجوارح والبيطرة والفلك والأشربة. ولأبي الفرج شعر قليل، وكان، على تشيّعه الظاهر، يراسل الأمويين في الأندلس، وحصل له فيها مصنفات لم تنته إلينا، فأجزلوا له العطايا سرّاً. ولد في أصبهان، ونشأ وتوفي في بغداد. من كتبه " كتاب الأغاني" واحد وعشرون جزءا، جمعه في خمسين سنة،وقد كانت لابي الفرج مكانته الاجتماعية العالية في منتديات بغداد الأدبية ومجالسها العلمية ، بسبب الحظوة الكبيرة التي نالها من ركن الدولة البويهي الذي صيره كاتبا له أقوال العلماء فيه ــــــــــــــــــــــــــــــ قال الحموي: أبو الفرج الأصبهاني العلامة النساب الأخباري الحافظ الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية: لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنّها وحسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه، وكان مع ذلك شاعرا مجيداً. قال ابن خلكان: الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " وجده مروان بن محمد المذكور آخر خلفاء بني أمية؛ وهو أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ، كان من أعيان أدبائها، وأفراد مصنفيها، وروى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم، وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير. قال التنوخي: كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم آخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء. قال الخطيب البغدادي : أبو الفرج الأموي الكاتب المعروف بالأصبهاني: كان عالماً بأيّام الناس والأنساب والسيرة، وكان شاعراً محسناً، والغالب عليه رواية الأخبار والآداب، وصنَّف كتباً كثيرة . قال ابن خلدون: وقد ألف القاضي أبو الفرج الاصبهاني كتابه في الاغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الاحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الاديب ويقف عندها وأنى له به. (كتاب الأغاني ) يقع هذا الكتاب في خمسة وعشرين جزءا و يعد من كتب فن الغناء والموسيقى في العصر العباسي. حيث ألف الكثير وجاء أبو الفرج الأصفهاني ليأخذ كل ما في تلك الكتب من ميزات ومحاسن وليضيف إليها كل ما لديه من إمكانات ومقدرة فنية وعلم بهذا الفن الذي ارتفع في زمانه حتى وصل الذرى. تعمق أبوالفرج بالموسيقى الشرقية وفن الغناء العربي ولكنه بطبيعته الموسوعية، وتمثله معارف عصره كلها أراد أن يكون كتابه غاية ما ألف في مضماره وأعلاه، فما أتى بصوت مغني حتى رجع إلى قائل الشعر، وتوقف عند أخباره بعد ذكر اسمه ونسبه، فلا يترك شاردة ولا واردة إلا أتى بها. ولم يكتف أبو الفرج بالصوت المغنى ولا القصيدة التي غنيت منها أبيات، وإنما رجع إلى كل ما قاله الشاعر أو إلى أكثره مع إيراد الأخبار المتعلقة بذلك الشاعر وعلاقته بعصره وصلاته بالناس، ولا سيما الطبقة العليا، وعلى وجه الخصوص الخلفاء والأمراء والوزراء وقد حاول أبو الفرج السير على طريقة معاصره في إسناد الأخبار فجاء بسلسلة الرواة الذين أوصلوا الخبر إليه أخيراً، ولم ينس أن يذكر الروايات كلها، وكأنها أراد بذلك أن يوثق كتابه. ورد عليه الكثير من العلماء والفقهاء ومنهم العلامة الشاعر وليد الأعظمي في كتابهِ السيف اليماني في نحر الأصفهاني، فيما لخص الكتاب بعض المعاصرين فخلصوه من الاسناد .او جمعوا مصنفات منه مثل ( اخبار النساء في كتاب الاغاني ــ لابن الجوزي ـ ) وغيره.
الحكاية ـــــــــــــــــــــ ورد في كتاب الاغاني قصة ديك الجن وهو يقتل حبيبته < ورد بنت الناعمة > وصديقه <بكربن رستم>.. غيرة .. وقال فيهما قصيدته الشهيرة : (يا طلعة طلـع الحمـام عليهـا وجنى لها ثمر الـردي بيديهـا حكمت سيفي في مجال عناقها ومدامعي تجري علـى خدّيهـا رويت من دمها الثرى ولطالمـا روي الهوى شفتي من شفتيهـا فوحق نعليها وما وطىء الحصى شيء اعزّ علـيّ مـن نعليهـا ما كان قتليها لأنـي لـم اكـن أبكي إذا سقـط الغبار عليهـا لكن ضننت على العيون بحسنها وأنفت من نظر الحسود إليهـا) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلف الاحمر : توفي (180 ه) )
هو أبو محرز خلف بن حيَّان ناقد وراوية بصير بالشعر حفظًا وتأليفًا. من شعراء العصر العباسي، ولد في البصرة ونشأ بها، وأخذ العلم والرواية عن أعلامها المشهورين، فأخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو بن العلاء. رحل إلى البادية وشافَه الأعراب، وأخذ عنهم الشعر واللغة، كما رحل إلى الكوفة، وروى الشعر عن حماد الراوية. وقد أخذ عنه الجيل الثاني من اللغويين والرواة كالأصمعي وأبي حاتم السجستاني وغيرهما. شاعر وناقد للشعر ,لكن الرواية غلبت عليه، فكان أحد الرواة الذين تنتهي إليهم رواية الشعر القديم وصنع دواوينه، لكن الثقة في مروياته محل خلاف بين القدماء, والمعاصرين والمستشرقين . وكان خلف من النسابين والعلماء : عالماً بغريب اللغة والنحو والنسب والأخبار والشعر رواية ونقداً . .
ما قاله النقاد ـــــــــــــــــــــــ : قال ( ابن سلام ) : كان خلف أفرس الناس ببيت شعر وأصدقهم لساناً ، كنا لا نبالي عنه خبراً أو( إذا ) أنشدنا شعراً ألا نسمعه من قائله . وخلف هو الذي روى غزل الأعراب فزهد الناس بعد ذلك في غزل العباس بن الأحنف ، وكانوا من قبل يحرصون على غزل العباس أشد الحرص.
على ان ( ابن قتيبة ) يقول : كان يقول الشعر وينحله المتقدمين . ويقول ( ابن قتيبة ) أيضاً : وأشعار العلماء ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة كشعر الأصمعي وشعر ابن المقفع وشعر الخليل ، خلاف الأحمر فإنه كان أجودهم طبعاً وأكثرهم شعرا. قال القفطي: "ليس في رواة الشعر أحد أشعر منه، وهو عند أبي علي القالي "أعلم الناس بالشعر واللغة، وأِشعر الناس على مذاهب العرب. وأثنى عليه ابن سلام الجمحي وقال: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لساناً" ، وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه بعد موت حماد الراوية وقال الأخفش: (لم أدرك أحداً أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعيً ). وقد وضع خلف الاحمر كتبا عدة منها (مقدمة في النحو )وقد حققه عضو المجمع العلمي العربي <عز الدين التنوخي >وكتب له مقدمة .. وقد رد فيها على من اتهموا خلف الاحمر بالنحل. قال الصفدي - المتوفى سنة 764 هـ - في كتابه الوافي بالوفيات في ترجمة خلف الأحمر: "خلف الأحمر الشاعر صاحب البراعة في الآداب، يكنى أبا محرز، مولى بلال بن أبي بردة، حمل عنه ديوانه أبو نواس، وتوفي في حدود الثمانين ومائة. وكان راوية ثقة علاّمة، يسلك الأصمعي طريقه ويحذو حذوه حتى قيل: هو معلِّم الأصمعي، وهو والأصمعي فتَّقا المعاني، وأوضحا المذاهب، وبيَّنا المعالم، ولم يكن فيه ما يعاب به إلا أنه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء، وينحلها أعيان الشعراء، كـ أبي داود، والإيادي، وتأبَّط شراً، والشنفري وغيرهم، فلا يفرَّق بين ألفاظه وألفاظهم، ويرويها جلَّة العلماء لذلك الشاعر الذي نحله إيّاها، فمّما نحله تأبَّط شرّاً وهي في الحماسة من الرمل:
إنّ بالشِّعب الذي دون سلعٍ لقتيلاً دمه لا يطلُّ
ومما نحله الشنفري القصيدة المعروفة بلامية العرب أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم فإني إلى قومٍ سواكم لأميل قال خلف الأحمر: أنا وضعت على النابغة القصيدة التي منها: خيل صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما. واضاءة للموضوع اضيف هنا رأي طه حسين (كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ . وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضاً . وكان كلا الرجلين مسرفاً على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار . كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون . فأما حماد فقد كان صديقاً لحمّاد عجْرد وحمّاد الزبرقان ومُطِيع ابن إيَاس . وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور . وأما خلف فكان صديقاً لوالبة بن الحُبَاب وأستاذاً لأبى نُوّاس . وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؛ ليس منهم إلا من أتهم في دينه ورمي بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعاً : لا يصفهم أحد بخير ، ولا يزعم لهم أحد صلاحا في دين أو دنيا . وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب . وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً . وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما.) فائدة ::< النحل والوضع في الشعر الجاهلي أول من شق طريق البحث في هذا الموضوع من العرب المحدثين هو الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في سنة 1911م. وقد خص الرواية والرواة بباب كامل من الجزء الأول نيفت صفحاته على مائة وخمسين. (الحكاية ) ـــــــــــــــ: ((وصية هرون قال خلف الأحمر: بعث إليَّ الرشيدُ في تأديب ولده محمد الأمين، فقال:: (يا أحمرُ، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة؛ فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أَقْرِئْهُ القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّرْه بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. ولا تَمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميتَ ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفَه, وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة) مروج الذهب" للمسعودي (ج3/ص254) ط/ دار إحياء التراث العربي، و"مقدمة ابن خَلدون)). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد الحريري هو أبو محمد البصري أديب من أدباء البصرة (446هـ/ 516 هـ) . من أكبر أدباء العرب ، وصاحب مقامات الحريري. لم يبلغ كتاب من كتب الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وتسابق العلماء على قراءتها عليه, وبلغ من شهرتها في حياة الحريري أن أقبل من الأندلس فريق من علمائها لقراءة المقامات عليه، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم العلماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظًا ومدارسة وشرحًا.
حياته ولد بالمشان ، وهي من ضواحي مدينة البصرة سنة (446 هـ - 1054م)، ولما شبَّ إلى البصرة، وسكن في محلة بني حرام ، لهذا لقب بالحرامي , وهي قبيلة عربية كانت تسكن البصرة، وتأدب بها، واتصل علي بن فضال المجاشعي ، فقرأ عليه العربية، ودرس الفقه على أبو إسحاق الشيرازي ، كما سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين. وكان الحريري غنيا, فضلا عن علمه الواسع وتمكنه من فنون العربية ، وكان له بقريته "المشان" ضيعة كبيرة مليئة بالنخل، وكان له بالبصرة منزل يقصده العلماء والأدباء وطالبو العلم.. عُين في ديوان الخلافة في منصب "صاحب الخبر"، وهو يشبه هيئة الاستعلامات المعاصرة و ظل بها إلى أن تُوفي..
مقامات الحريري المقامات فن من فنون الكتابة العربية ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهو نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، وتزخر باسلوب على السجع والبديع. يحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات التي بدأ في كتابتها في سنة 495 هـ وانتهى منها عام 504 ه ـ110 ه، فيقول: «إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذاً أديباً بليغاً فصيحاً، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام ، فسلّم، ثم سأل، وكان المسجد غاصاً بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى كل واحد عنه نحو ما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة. البطل والراوي وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهو الذي يرويها ، أما بطل هذه المقامات فهو أبو زيد السروجي، وهو متسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم. وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يذهب البعض أنه شخصية حقيقية. وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبًا واعظًا في جمع من الناس، ثم تبعه فعرفه مخادعًا كذابًا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها "المقامة الصنعانية"، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبو زيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدّم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده "سروج" وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هو آخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.
بين القص والصنعة البيانية ويذكر الحريري في مقدمة عمله مقصده بقوله: «"أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية"». ولم يكتف الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورًا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة، فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان "المراغية" رسالة بديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله: «"العطاء ينجي، والمطال يشجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي..."» ، ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء ، لأنها تحتوي على رسالة ، تتوالى حروف كلماتها بالتبادل بين النقط وعدمه ، مثل قوله: «"ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب...".» ، وفي المقامة الثامنة يخطب أبو زيد السروجي خطبة كل كلماتها غير منقوطة، بدأها بقوله: «"الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم...)
عناية العلماء بمقامات الحريري وقد أحصى "حاجي خليفة" صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر من خمسة وثلاثين شارحًا. و انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي "جوليوس" في سنة (1067 هـ - 1656م) بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات بين سنتي (1731 م ـ 1740م) إلى اللاتينية.
وفي فرنسا قام المستشرق "كوسان دي برسفال" بنشر المتن العربي الكامل سنة (1918 م)، كما قام الأستاذ "دي ساسي" بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحًا عربيًا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة (1822م). كما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق "ركرت"، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة (1284 هـ - 1867م). وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المكتبة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن ودلهي والقاهرة وبيروت .
رسائل ومؤلفات كان للحريري رسائل أدبية إلى جانب مقاماته، لم تحتفظ بها يد الزمن، فضاعت مع ما ضاع من التراث الإسلامي الضخم ، ولكن احتفظ بعض الكتب القديمة ببعض رسائله، وقد سجّل "ياقوت الحموي" في معجم الأدباء رسالتين اشتهرتا في عصر الحريري والعصور التي تلته، إحداهما عرفت بالسينية ؛ لأن كلماتها جميعًا لا تخلو من السين، والأخرى اشتهرت بالشينية، لالتزام كلماتها بإيراد حرف الشين. وقد استهل الرسالة السينية التي كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له – بقوله: «"باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان،… السيد النفيس، سيد الرؤساء، حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب ...>>
وللحريري مؤلفات اخرى غير المقامات والرسائل.: الحكاية - المقامة البصرية للحريري ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أُشعِرْتُ في بعضِ الأيامِ همّاً برَحَ بي استِعارُهُ. ولاحَ عليّ شِعارُهُ. وكنتُ سمِعتُ أنّ غِشْيانَ مجالِسِ الذّكْرِ. يسْرو غَواشيَ الفِكْرِ. فلمْ أرَ لإطْفاء ما بي منَ الجمْرَةِ. إلا قصْدَ الجامِعِ بالبَصرَةِ. وكانَ إذْ ذاكَ مأهولَ المسانِدِ. مَشْفوهَ المَوارِدِ. يُجْتَنى منْ رِياضِهِ أزاهيرُ الكَلامِ. ويُسمَعُ في أرْجائِهِ صَريرُ الأقْلامِ. فانطلَقْتُ إليْهِ غيرَ وانٍ. ولا لاوٍ على شانٍ. فلمّا وطِئْتُ حَصاهُ. واستَشْرَفْتُ أقْصاهُ. تَراءى لي ذو أطْمارٍ بالِيَةٍ. فوْقَ صخْرَةٍ عالِيَةٍ. وقدْ عصيَتْ بهِ عُصَبٌ لا يُحْصى عديدُهُمْ. ولا يُنادَى وَليدُهُمْ. فابتَدْتُ قصْدَهُ. وتورّدْتُ وِرْدَهُ. ورجَوْتُ أنْ أجِدَ شِفائي عندَهُ. ولمْ أزَلْ أتنقّلُ في المَراكِزِ. وأُغْضي للاّكِزِ والواكِزِ. إلى أن جلسْتُ تُجاهَهُ. بحيْثُ أمِنْتُ اشْتِباهَهُ. فإذا هوَ شيخُنا السّروجيّ لا ريْبَ فيهِ. ولا لَبْسَ يُخْفيهِ. فانْسَرى بمَرْآهُ همّي. وارْفَضّتْ كتيبَةُ غمّي. وحينَ رآني. وبصُرَ بمكاني. قال: يا أهْلَ البصرَةِ رعاكُمُ اللهُ ووقاكُمْ. وقوّى تُقاكُمْ. فما أضْوَعَ ريّاكُمْ. وأفضلَ مَزاياكُمْ! بلَدُكُمْ أوْفَى البِلادِ طُهرَةً. وأزْكاها فِطرَةً. وأفسَحُه رُقعَةً. وأمرَعُها نُجعَةً. وأقوَمُها قِبلَةً. وأوسَعُها دِجلَةً. وأكثرُها نهْراً ونَخلَةً. وأحسَنُها تَفْصيلاً وجُملَةً. دِهْليزُ البلَدِ الحَرامِ. وقُبالَةُ البابِ والمَقامِ. وأحدُ جَناحَيِ الدّنْيا. والمِصْرُ المؤسّسُ على التّقْوى. لمْ يتدنّسْ ببُيوتِ النّيرانِ. ولا طِيفَ فيهِ بالأوْثانِ. ولا سُجِدَ على أديمِهِ لغَيرِ الرّحْمَنِ. ذو المَشاهِدِ المشْهودَةِ. والمساجِدِ المقصودَةِ. والمَعالِمِ المشْهورَةِ. والمقابِرِ المَزورَةِ. والآثارِ المحْمودَةِ. والخِطَطِ المحْدودَةِ. بهِ تلْتَقي الفُلْكُ والرّكابُ. والحيتانُ والضِّبابُ. والحادِي والمَلاّحُ. والقانصُ والفلاحُ. والناشِبُ والرّامِحُ. والسّارِحُ والسّابِحُ. ولهُ آيةُ المدّ الفائِضِ. والجزْرِ الغائِضِ. وأما أنتمْ فممّنْ لا يختلِفُ في خَصائِصِهِمِ اثْنانِ. ولا يُنكِرُها ذو شَنآنٍ. دَهْماؤكُمْ أطْوَعُ رَعِيّةٍ لسُلْطانٍ. وأشكَرُهُمْ لإحْسانٍ. وزاهِدكُمْ أوْرَعُ الخليقَةِ. وأحسنُهُمْ طَريقَةً على الحَقيقَةِ. وعالِمُكُمْ علاّمَةُ كلّ زمانٍ. والحُجّةُ البالِغَةُ في كلّ أوانٍ. ومنكُمْ منِ استنبَطَ عِلمَ النّحْوِ ووضَعَهُ. والذي ابتدَعَ ميزانَ الشِّعْرِ واخترَعَهُ. وما منْ فخْرٍ إلا ولَكُمْ فيهِ اليَدُ الطّولى. والقِدْحُ المُعَلّى. ولا صيتٍ إلا وأنتُمْ أحَقُّ بهِ وأوْلى. ثمّ إنّكُمْ أكثرُ أهلِ مِصرٍ مؤذّنينَ. وأحسَنُهُمْ في النّسكِ قَوانينَ. وبكُمُ اقتُدِيَ في التّعريفِ. وعُرِفَ التّسحيرُ في الشّهرِ الشّريفِ. ولكُمْ إذا قرّتِ المضاجِعُ. وهجَعَ الهاجِعُ. تَذْكارٌ يوقِظُ النّائِمَ. ويؤنِسُ القائِمَ. وما ابتسَمَ ثغْرُ فجرٍ. ولا بزَغَ نورُهُ في برْدٍ ولا حرٍّ. إلا ولتأذينِكُمْ بالأسْحارِ. دويٌّ كدويّ الرّيحِ في البِحارِ. وبِهذا صدَعَ عنكُمُ النّقْلُ. وأخبرَ النّبيُّ، عليهِ السّلامُ، منْ قبلُ. وبيّنَ أنّ دويّكُمْ بالأسْحارِ. كدويّ النّحلِ في القِفارِ. فشرَفاً لكُمْ ببِشارَةِ المُصطَفى. وواهاً لمِصرِكُمْ وإنْ كانَ قدْ عَفا. ولمْ يبْقَ منهُ إلا شَفاً. ثمّ إنهُ خزَنَ لسانَهُ. وخطَمَ بيانَهُ. حتى حُدِجَ بالأبْصارِ. وقُرِفَ بالإقْصارِ. ووُسِمَ بالاستِقْصارِ. فتنفّسَ تنفُّسَ مَنْ قِيدَ لقَوَدٍ. أو ضبَثَتْ بهِ براثِنُ أسَدٍ. ثمّ قال: أما أنتُمْ يا أهلَ البَصرَةِ فما منْكُمْ إلا العَلَمُ المعروفُ. ومنْ لهُ المعرفَةُ والمعروفُ. وأما أنا فمَنْ عرَفَني فأنا ذاكَ. وشرُّ المَعارِفِ منْ آذاكَ. ومنْ لم يُثْبِتْ عِرْفَتي فسأصْدُقُهُ صِفَتي. أنا الذي أنجدَ وأتهَمَ. وأيمَنَ وأشأمَ. وأصْحرَ وأبحَرَ. وأدْلَجَ وأسْحَرَ. نشأتُ بسَروجَ. ورَبيتُ على السُّروجِ. ثمّ ولَجْتُ المَضايقَ. وفتحْتُ المغالِقَ. وشهِدْتُ المَعارِكَ. وألَنْتُ العَرائِكَ. واقْتَدْتُ الشّوامِسَ. وأرْغَمْتُ المَعاطِسَ. وأذَبْتُ الجَوامِدَ. وأمَعْتُ الجَلامِدَ. سَلوا عني المشارِقَ والمَغارِبَ. والمَناسِمَ والغَوارِبَ. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ. واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ. وحُذّاقِ الكُهّانِ. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ. وحِجابٍ هتكْتُ. ومَهلَكةٍ اقتَحمْتُ. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ. وأُسُدٍ افترَسْتُ. وكمْ محلِّقٍ غادَرْتُهُ لَقًى. وكامِنٍ استَخرَجْتُهُ بالرُّقى. وحجَرٍ شحذْتُهُ حتى انصدَعَ. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ. فأمّا الآنَ وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ. وكُنتُ رُوّيتُ منَ الأخْبارِ المُسنَدَةِ. والآثارِ المُعتَمَدةِ. أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي. ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي. ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا إلى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ. ثمّ أنشدَ:
أستغْفِرُ الـلـهَ مـنْ ذُنـوبٍ *** أفرَطْتُ فيهِـنّ واعْـتَـدَيْتُ
كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلاً *** ورُحتُ في الغَيّ واغْتَـدَيْتُ
وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِـراراً *** واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْتـرَيْتُ
وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْـضـاً *** إلى المَعاصي ومـا ونَـيْتُ
وكمْ تَناهَيْتُ في التّخـطّـي *** إلى الخَطايا وما انتـهـيْتُ
فلَيتَني كُـنـتُ قـبـل هـذا *** نَسْياً ولمْ أجْنِ مـا جـنَـيْتُ
فالمَوتُ للُـجْـرِمـين خـيرٌ *** من المَساعي التي سـعَـيْتُ
يا رَبِّ عفْواً فـأنْـتَ أهـلٌ *** للعَفْوِ عنّي وإنْ عـصَـيْتُ
قال الرّاوي: فطفِقَتِ الجَماعَةُ تُمِدّهُ بالدّعاء. وهوَ يقلّبُ وجْهَهُ في السّماء. إلى أن دمَعَتْ أجفانُهُ. وبَدا رَجفانُهُ. فصاحَ: اللهُ أكبرُ بانَتْ أمارَةُ الاستِجابَةِ. وانْجابَتْ غِشاوَةُ الاستِرابَةِ. فجُزيتُمْ يا أهلَ البُصَيْرَةِ. جَزاءَ منْ هدَى منَ الحَيرَةِ. فلمْ يبْقَ منَ القوْمِ إلا منْ سُرّ لسُرورِهِ. ورضخَ لهُ بمَيْسورِهِ. فقَبِلَ عفْوَ بِرّهِمْ. وأقبلَ يُغْرِقُ في شُكرِهِمْ. ثمّ انحدَرَ منَ الصّخرَةِ. يؤمّ شاطئَ البَصرَةِ. واعْتَقَبْتُهُ إلى حيثُ تخالَيْنا. وأمِنّا التّجسّسَ والتّحسّسَ علَيْنا. فقلْتُ لهُ: لقدْ أغْرَبْتَ في هذِهِ النّوبَةِ. فما رأيُكَ في التّوبَةِ؟ فقال: أُقسِمُ بعَلاّمِ الخَفيّاتِ. وغَفّارِ الخطيّاتِ. إنّ شأني لَعُجابٌ. وإنّ دُعاء قومِكَ لَمُجابٌ. فقلتُ: زِدْني إفْصاحاً. زادَكَ اللهُ صَلاحاً! فقال: وأبيكَ لقدْ قُمتُ فيهِمْ مَقامَ المُريبِ الخادِعِ. ثمّ انقلَبْتُ منهُمْ بقَلْبِ المُنيبِ الخاشِعِ! فطوبى لمَنْ صغَتْ قُلوبُهُمْ إليْهِ. وويْلٌ لمَنْ باتوا يدْعونَ عليْهِ! ثمّ ودّعَني وانطلَقَ. وأوْدَعَني القلَقَ. فلمْ أزَلْ أُعاني لأجْلِهِ الفِكَرَ. وأتشوّفُ إلى خِبرَةِ ما ذكرَ. وكلّما استَنشَيْتُ خبرَهُ منَ الرُّكْبانِ. وجَوّابَةِ البُلْدانِ. كُنتُ كمَنْ حاوَرَ عجْماء. أو نادَى صخْرَةً صمّاء. إلى أن لَقيتُ بعْدَ تَراخي الأمَدِ. وتَراقي الكَمَدِ. ركْباً قافِلينَ منْ سفَرٍ. فقلتُ: هلْ منْ مُغرِّبَةِ خبَرٍ؟ فقالوا: إنّ عندَنا لخَبراً أغرَبَ منَ العَنْقاء. وأعْجَبَ منْ نظَرِ الزّرْقاء. فسألتُهُمْ إيضاحَ ما قالوا. وأنْ يَكيلوا بما اكْتالوا. فحَكَوْا أنهمْ ألمّوا بسَروجَ. بعْدَ أنْ فارقَها العُلوجُ. فرأوْا أبا زيْدِها المعْروفَ. قد لبِسَ الصّوفَ. وأَمَّ الصّفوفَ. وصارَ بها الزّاهِدُ الموصوفَ. فقلتُ: أتعْنونَ ذا المَقاماتِ؟ فقالوا: إنهُ الآنَ ذو الكَراماتِ! فحفَزَني إليْهِ النّزاعُ. ورأيتُها فُرصَةً لا تُضاعُ. فارْتَحلْتُ رِحلَةَ المُعِدّ. وسِرْتُ نحوَهُ سيرَ المُجِدّ. حتى حللْتُ بمسْجِدِهِ. وقرارَةِ متعبّدِهِ. فإذا هوَ قد نبَذَ صُحبَةَ أصْحابِهِ. وانتصَبَ في مِحْرابِهِ. وهو ذو عَباءةٍ مخلولَةٍ. وشمْلَةٍ موصولَةٍ. فهِبْتُهُ مَهابَةَ منْ ولَجَ على الأسودِ. وألْفَيْتُهُ ممّنْ سِيماهُمْ في وُجوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجودِ. ولمّا فرَغَ منْ سُبْحتِهِ. حيّاني بمُسبِّحَتِهِ. منْ غيرِ أن نغَمَ بحديثٍ. ولا استَخْبرَ عنْ قديمٍ ولا حَديثٍ. ثمّ أقْبلَ على أوْرادِهِ. وتركَني أعجَبُ منِ اجتِهادِهِ. وأغبِطُ مَنْ يَهدي اللهُ منْ عِبادِهِ. ولمْ يزَلْ في قُنوتٍ وخُشوعٍ. وسُجودٍ ورُكوعٍ. وإخْباتٍ وخُضوعٍ. إلى أن أكْملَ إقامَة الخمْسِ. وصارَ اليومُ أمْسِ. فحينئذٍ انْكفأ بي إلى بيتِهِ. وأسْهَمَني في قُرْصِهِ وزَيْتِهِ. ثمّ نهضَ إلى مُصلاّهُ. وتخلّى بمُناجاةِ موْلاهُ. حتى إذا التمَعَ الفجرُ. وحقّ للمُتهَجِّدِ الأجْرُ. عقّبَ تهجّدَهُ بالتّسْبيحِ. ثمّ اضطَجَعَ ضِجْعَةَ المُستريحِ. وجعلَ يرجّعُ بصوْتٍ فَصيحٍ:
خلِّ ادّكـارَ الأرْبُــعِ *** والمعْهَدِ المُـرتَـبَـعِ
والظّاعِـنِ الـمـودِّعِ *** وعـدِّ عـنْــهُ ودَعِ
وانْدُبْ زَماناً سـلَـفـا *** سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفـا
ولمْ تزَلْ مُعـتـكِـفـا *** على القبيحِ الشّـنِـعِ
كمْ لـيلَةٍ أودَعْـتَـهـا *** مآثِمـاً أبْـدَعْـتَـهـا
لشَهوَةٍ أطَـعْـتَـهـا *** في مرْقَدٍ ومَضْجَـعِ
وكمْ خُطًى حثَثْـتَـهـا *** في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَـهـا
وتوْبَةٍ نـكَـثْـتَـهـا *** لمَلْـعَـبٍ ومـرْتَـعِ
وكمْ تجـرّأتَ عـلـى *** ربّ السّمَواتِ العُلـى
ولـمْ تُـراقِـبْـهُ ولا *** صدَقْتَ في ما تدّعـي
وكمْ غمَـصْـتَ بِـرّهُ *** وكمْ أمِنْـتَ مـكْـرَهُ
وكـمْ نـبَـذْتَ أمـرَهُ *** نبْذَ الحِذا الـمـرقَّـعِ
وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ *** وفُهْتَ عمْداً بالكَـذِبْ
ولـمْ تُـراعِ مـا يجِـبْ *** منْ عهْدِهِ الـمـتّـبَـعِ
فالْبَسْ شِـعـارَ الـنّـدمِ *** واسكُبْ شـآبـيبَ الـدّمِ
قبـلَ زَوالِ الـقـــدَمِ *** وقبلَ سوء المـصْـرَعِ
واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ *** ولُذْ مَلاذَ المُـقـتـرِفْ
واعْصِ هَواكَ وانحَـرِفْ *** عنْهُ انحِرافَ المُقـلِـعِ
إلامَ تـسْـهـو وتَـنـي *** ومُعظَمُ العُمـرِ فَـنـي
في ما يضُرّ المُقْـتَـنـي *** ولسْـتَ بـالـمُـرْتَـدِعِ
أمَا ترَى الشّـيبَ وخَـطْ *** وخَطّ في الرّأسِ خِطَـطْ
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّـمَـطْ *** بفَـودِهِ فـقـدْ نُـعـي
ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصـي *** على ارْتِيادِ المَخـلَـصِ
وطاوِعي وأخْـلِـصـي *** واسْتَمِعي النُّصْحَ وعـي
واعتَبِرِي بمَـنْ مـضـى *** من القُرونِ وانْقَـضـى
واخْشَيْ مُفاجاةَ القَـضـا *** وحاذِري أنْ تُخْـدَعـي
وانتَهِجي سُبْـلَ الـهُـدى *** وادّكِري وشْـكَ الـرّدى
وأنّ مـثْـواكِ غـــدا *** في قعْرِ لحْـدٍ بـلْـقَـعِ
آهاً لـهُ بـيْتِ الـبِـلَـى *** والمنزِلِ القفْرِ الـخَـلا
وموْرِدِ السّـفْـرِ الأُلـى *** واللاّحِـقِ الـمُـتّـبِـعِ
بيْتٌ يُرَى مَـنْ أُودِعَــهْ *** قد ضمّهُ واسْـتُـودِعَـهْ
بعْدَ الفَضاء والـسّـعَـهْ *** قِيدَ ثَـــــلاثِ أذْرُعِ
لا فـرْقَ أنْ يحُـلّـــهُ *** داهِـيَةٌ أو أبْــلَـــهُ
أو مُعْسِـرٌ أو مـنْ لـهُ *** مُلكٌ كـمُـلْـكِ تُـبّـعِ
وبعْدَهُ الـعَـرْضُ الـذي *** يحْوي الحَييَّ والـبَـذي
والمُبتَدي والمُـحـتَـذي *** ومَنْ رعى ومنْ رُعـي
فَيا مَفـازَ الـمـتّـقـي *** ورِبْحَ عبْـدٍ قـد وُقِـي
سوءَ الحِسابِ المـوبِـقِ *** وهـوْلَ يومِ الـفــزَعِ
ويا خَسـارَ مَـنْ بـغَـى *** ومنْ تعـدّى وطَـغـى
وشَبّ نـيرانَ الـوَغـى *** لمَطْعَـمٍ أو مـطْـمَـعِ
يا مَنْ عليْهِ الـمـتّـكَـلْ *** قدْ زادَ ما بي منْ وجَـلْ
لِما اجتَرَحْتُ مـن زلَـلْ *** في عُمْري الـمُـضَـيَّعِ
فاغْفِرْ لعَبْـدٍ مُـجـتَـرِمْ *** وارْحَمْ بُكاهُ المُنسـجِـمْ
فأنتَ أوْلـى مـنْ رَحِـمْ *** وخـيْرُ مَـدْعُـوٍّ دُعِـي
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ يزَلْ يرَدّدُها بصوتٍ رقيقٍ. ويصِلُها بزَفيرٍ وشَهيقٍ. حتى بكيتُ لبُكاء عينيهِ. كَما كُنتُ منْ قبلُ أبكي عليْهِ. ثمّ برزَ إلى مسجِدِهِ. بوُضوء تهجّدِهِ. فانطلَقْتُ رِدْفَهُ. وصلّيتُ مع مَنْ صلّى خلفهُ. ولمّا انفَضّ مَنْ حضَرَ. وتفرّقوا شغَرَ بغَرَ. أخذَ يُهَينِمُ بدَرْسِهِ. ويسْبِكُ يومَهُ في قالِبِ أمْسِهِ. وفي ضِمْنِ ذلِكَ يُرِنّ إرْنانَ الرَّقوبِ. ويبْكي ولا بُكاءَ يعْقوبَ. حتى استَبَنْتُ أنهُ التحقَ بالأفْرادِ. وأُشرِبَ قلبُهُ هوى الانْفِرادِ. فأخطَرْتُ بقَلْبي عَزْمَةَ الارتِحالِ. وتخْلِيَتَهُ والتّخلّي بتِلكَ الحالِ. فكأنهُ تفرّسَ ما نويْتُ. أو كوشِفَ بما أخْفَيْتُ. فزفَرَ زَفيرَ الأوّاهِ. ثمّ قرأ: فإذا عزَمْتَ فتوكّلْ على اللهِ. فأسْجَلْتُ عندَ ذلِكَ بصِدْقِ المُحدّثينَ. وأيقَنْتُ أنّ في الأمّةِ محَدّثينَ. ثمّ دنَوْتُ إليْهِ كما يدْنو المُصافِحُ. وقلتُ: أوْصِني أيها العبْدُ النّاصِحُ. فقال: اجعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِكَ. وهذا فِراقُ بيني وبينِكَ. فودّعْتُهُ وعبَراتي يتحدّرْنَ منَ المآقي. وزَفَراتي يتصَعّدْنَ منَ التّراقي. وكانتْ هذِهِ خاتِمَةَ التّلاقي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
اهم المصادر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ياقوت الحموي: معجم الأدباء – تحقيق إحسان عباس – دار الغرب الإسلامي – بيروت – 1993م. ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1397=1977م. الشريرشي: شرح مقامات الحريري – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – المؤسسة العربية الحديثة – القاهرة – 1969م. شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي – دار المعارف – القاهرة – 1983م
الفهرست 1- الفراهيدي 2- الفارابي 3 - عتبة بن غزوان 4- الاصفهاني 5- خلف الاحمر 6- الحريري
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهروب الى جزيرة سرطان البحر
-
سرطان البحر في العلاقات كتاب كامل
-
ارتداد عن التقوى وسرطان البحر بين مراهقتين قصيدتان
-
واتساب و موهبة النهب قصيدتان
-
جفاء لا ارادي قصيدة
-
ديوان تعليب الارواح كتاب كامل
-
امرأة في مصنع تدوير ومصانع العلب قصيدتان
-
علبة مجهولة المصدر قصيدة
-
حوار داخل علبة قصيدة
-
جرذ العسل قصيدة
-
الشيخوخة في لوحات متحف كتاب كامل
-
شيخوخة بستان قصيدة
-
سلعة الحزب المنحسر قصيدة
-
سلعة الحزب المنحسر
-
شيخوخة جامع قصيدة
-
بريفير شاعر البساطة وطفولية الالتقاط
-
ابعدوني عني قصيدة
-
حاجة لصوت بشري قصيدة
-
عجوزان قصيدة
-
الضباع تحت الوسادة كتاب كامل قصائد
المزيد.....
-
-طمس الرواية الفلسطينية-.. خطة الجيش الإسرائيلي لمخيمات الضف
...
-
مشاهد -جريئة- في مسلسل -رحمة- تثير حفيظة الجمهور المغربي
-
جديد التعليم الجامعي للطلاب الأجانب والمنح الدراسية بماليزيا
...
-
تحليل.. ماذا قالت أمانبور عن ضرورة -حماية- المخرج الفلسطيني
...
-
حبكة عبقرية وسرد ممتع.. -المعلم ومارغاريتا- يفوز بجائزة Nika
...
-
الباحثة المعمارية سارة فؤاد: مدينة الإسكندرية معرضة للغرق بس
...
-
إطلاق سراح المخرج الفلسطيني الحائز الأوسكار بعد تعرضه للاعتد
...
-
تركي آل الشيخ يصدم -سعفان- بقرار مخرج بريطاني (فيديو)
-
الجيش الإسرائيلي يعتقل مخرج فيلم -لا أرض أخرى- عقب تعرضه للض
...
-
تركيا تلفت أنظار صناع السينما العالمية بفضل صادرات الدراما
المزيد.....
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
المزيد.....
|