الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8291 - 2025 / 3 / 24 - 04:49
المحور:
الادب والفن
ماذا لو كان الزمن مجرد وهمٍ متكرر، ندور فيه كما تدور الأصداف في محيط لا يهدأ؟ ماذا لو كانت الدهور التي نحياها ليست إلا ظلالًا لحكايات تعاد بصيغ مختلفة، حيث تتغير الأسماء والوجوه، لكن المصائر تبقى كما هي؟ في مجموعة أصداف الدهور، لا يقدّم عبد الله البقالي مجرد قصص، بل يفتح بوابات التأمل في مصير الإنسان المغربي وهو يتأرجح بين تقاليد تأبى أن تموت وحداثة تتسلل كطوفان لا يُرد.
إنها ليست مجرد حكايات عن قرى معزولة أو شخصيات تتصارع مع أقدارها، بل هي مرآة تعكس السؤال الأكبر: هل نحن من نصنع الزمن، أم أن الزمن هو من يصنعنا؟ هل الحداثة خلاصٌ أم فخٌ جديد، وهل الماضي الذي نتمسك به هو الملاذ أم القيد الذي يمنعنا من التحليق؟
في هذا التحليل، سنتوغل في عالم أصداف الدهور، حيث تتداخل الأقدار، وتُبعثر الهويات، ويصبح الإنسان عالقًا بين ما كان وما يجب أن يكون.
عندما نغوص في أعماق المجموعة القصصية "أصداف الدهور" للكاتب المغربي عبد الله البقالي، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي يتجاوز حدود السرد التقليدي ليصبح مرآة متلألئة تعكس تناقضات الروح الإنسانية في لحظة التحول التاريخي. إنه عمل يشبه تلك الأصداف التي تحمل في طياتها أصوات البحر، أصوات الزمن الذي مضى والذي يأتي، يتردد صداها في أذهاننا ونحن نحاول فك شيفرة هذا العالم الذي يرسمه البقالي بخطوط دقيقة وجريئة في آن واحد. هنا، لا نتحدث عن قصص بمعنى الحكايات البسيطة التي تُروى للتسلية، بل عن نصوص تنبض بالحياة، تحمل في داخلها أنفاس المجتمع المغربي، خاصة ذلك الريف الذي يقف على مفترق طرق بين ما كان وما سيكون، بين الجذور العميقة في التربة والرياح الجديدة التي تهب من بعيد حاملة معها وعودًا ومخاوف.
في هذه المجموعة، يبدو البقالي كمن يحفر في طبقات الزمن، يكشف عن أصداف تحمل آثار الماضي، لكنه لا يكتفي بمجرد الرصد الأثري، بل ينفخ فيها الحياة، يجعلها تتكلم، تصرخ، تتأمل، وأحيانًا تسخر من نفسها ومن العالم من حولها. منذ اللحظة الأولى التي نلتقي فيها بشخصيات مثل "فاطمة مورينو" أو "مونيك" أو حتى "العياشي الروخو"، ندرك أننا لسنا أمام أفراد عاديين، بل أمام رموز تتجاوز حدودها الفردية لتصبح تجسيدًا لصراعات أكبر، لأسئلة تتردد في أعماق كل من يعيش لحظة التحول هذه: من نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ وما الذي يبقى منا حين تتلاشى الأصداف ويبتلعها الزمن؟
لعل ما يجعل هذه المجموعة مميزة هو قدرتها على التقاط تلك اللحظة الزمنية الحرجة التي يصطدم فيها التقليد بالحداثة، حيث يقف الإنسان المغربي، بكل بساطته وتعقيده، متأرجحًا بين الانبهار والرفض. في قصة مثل "أصداف الدهور"، التي تحمل اسم المجموعة وروحها، نجد أنفسنا في قرية تبدو وكأنها منسية من الزمن، لكنها سرعان ما تستيقظ على صدمة الوافد الجديد، "مونيك"، تلك الشخصية التي تأتي كالنيزك، تحط في وسط السكون لتثير موجات من الاضطراب والتساؤل. ليست "مونيك" مجرد شخصية أجنبية تمثل الحداثة الغربية، بل هي رمز للغزو الثقافي الذي لا يأتي بالضرورة بالسيف، بل بالمظاهر، بالكلمات، بالأفكار التي تتسرب كالماء إلى التربة الجافة، فتغيرها دون أن يدرك أحد متى حدث ذلك بالضبط.
هذا التصادم بين القديم والجديد لا يقتصر على مستوى الأفكار فقط، بل يتجسد في الشخصيات نفسها، في أحاديثها، في صمتها، في نظراتها المتبادلة التي تحمل دهشة وخوفًا وفضولًا. الشباب في القرية ينظرون إلى "مونيك" كما لو كانت كائنًا من عالم آخر، بينما يرى فيها الشيوخ تهديدًا لما اعتادوه من استقرار. لكن البقالي لا يقدم لنا حكمًا نهائيًا، لا يقول لنا من على صواب ومن على خطأ، بل يتركنا نغوص في هذا الصراع، نشعر به، نتأمل فيه، كأننا نحن أيضًا جزء من تلك القرية، نشهد تلك اللحظة التي تتغير فيها المعادلة إلى الأبد.
ومن هنا، تنبثق إحدى أقوى الثيمات في المجموعة: ثنائية الماضي والحاضر. الماضي في قصص البقالي ليس مجرد ذكرى باهتة، بل هو حضور حي، يتنفس في البيوت الطينية، في الأحاديث البسيطة، في التقاليد التي تحكم حياة الناس. لكنه ماضٍ يتعرض للتهديد، يتراجع أمام الحاضر الذي يتقدم بخطى متسارعة، حاملًا معه أدوات جديدة، أفكارًا غريبة، وأحلامًا لا تتناسب دائمًا مع الواقع. في "طريق الجبل"، نرى هذا التوتر يتجسد في المكان نفسه، ذلك الجبل الذي كان يومًا رمزًا للثبات والصمود، لكنه الآن يشهد مرور الطرق الجديدة، السيارات، والأشخاص الذين يحملون معهم عالمًا مختلفًا. هذا الجبل ليس مجرد خلفية، بل هو شاهد صامت على تلك التحولات، يحمل في صخوره ذاكرة الزمن وفي منحدراته أسئلة المستقبل. الطريق الذي يشق الجبل ليس مجرد ممر مادي، بل هو استعارة للتغيير الذي يخترق الثوابت، يفتح آفاقًا جديدة لكنه في الوقت نفسه يترك وراءه شعورًا بالفقدان، بأن شيئًا ما قد ضاع إلى الأبد.
لكن البقالي لا يكتفي بتصوير هذا الصراع على مستوى المجتمع فقط، بل يأخذنا إلى أعماق الفرد، إلى تلك الروح التي تجد نفسها مشتتة بين هويتين، بين الانتماء والاغتراب. في قصة مثل "فاطمة مورينو"، نرى شخصية تحمل اسمًا يجمع بين المحلي والأجنبي، كأنها تجسيد لهذا التمزق الداخلي. فاطمة، الاسم المغربي التقليدي، يقترن بـ"مورينو"، وهو لقب يحمل نكهة أجنبية، ليخلق تناقضًا يعكس حالة الإنسان المغربي الذي يجد نفسه مضطرًا للتعايش مع الآخر، لكن دون أن يفقد جذوره تمامًا. هذه الشخصية ليست حالة استثنائية، بل هي نموذج لجيل بأكمله يعيش هذا التوتر، يحاول أن يجد توازنًا بين ما ورثه وما يواجهه.
ومن هنا، يبرز سؤال الهوية كأحد أعمدة المجموعة. من هو الآخر الحقيقي؟ هل هو ذلك الوافد الأجنبي الذي يحمل معه ثقافة مختلفة، أم أن الآخر هو نحن أنفسنا حين نبتعد عن جذورنا؟ هذا السؤال يتردد في أكثر من قصة، يتسلل إلى أحاديث الشخصيات، إلى صمتهم، إلى نظراتهم المتبادلة. في "أصداف الدهور"، يصل هذا التساؤل إلى ذروته عندما يجد الشباب أنفسهم يتساءلون: "هل نحن الآخر أم هم؟"، وهي لحظة كاشفة تكشف عن عمق الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان في مواجهة التغيير.
ولا يمكننا الحديث عن هذه المجموعة دون التوقف عند واقع الشباب، تلك الفئة التي تحمل على عاتقها أحلام المستقبل لكنها تجد نفسها محاصرة بجدران الواقع. في "طريق الجبل"، يرسم البقالي صورة مؤثرة لهؤلاء الشباب الذين يقفون على هذا الطريق، ينظرون إلى الأفق البعيد، يحلمون بما يمكن أن يكون، لكنهم في الوقت نفسه يشعرون بثقل الجبل خلفهم، ذلك الجبل الذي يذكرهم بما كانوا عليه، بما يربطهم بالماضي. هؤلاء الشباب ليسوا مجرد شخصيات عابرة، بل هم انعكاس لجيل يعيش بين الأمل واليأس، بين الرغبة في الانطلاق والخوف من مغبة التغيير. لكن البقالي لا يقدم هذا الواقع بأسلوب ميلودرامي مبالغ فيه، بل يمزجه بالسخرية، بتلك النظرة الفاحصة التي ترى التناقضات وتكشفها دون مواربة.
والمرأة، تلك الكائنة التي تحتل مكانة خاصة في عالم البقالي، تظهر بأشكال متعددة، تحمل أحيانًا دور المحرك للأحداث وأحيانًا دور الضحية الصامتة. في "أصداف الدهور"، تظهر "مونيك" كقوة تغيير، كعنصر دخيل يقلب الموازين، لكنها في الوقت نفسه تظل غامضة، بعيدة، كأنها لا تنتمي تمامًا لهذا العالم. أما في قصص أخرى، فنجد المرأة المغربية التقليدية، تلك التي تقاوم القيود بصمت، تحلم بما هو أبعد من جدران بيتها، لكنها تبقى أسيرة تقاليد تحدد مصيرها. هذه الثنائية بين المرأة الدخيلة والمرأة المحلية تعكس بدورها الصراع الأوسع بين الحداثة والتقليد، بين الحرية والقيد.
ومن الناحية الفنية، يبرز البقالي كسارد يمتلك أدواته ببراعة نادرة. السرد هنا لا يسير بخط مستقيم، بل يتماوج كالأمواج، يأخذنا إلى الوراء عبر الارتدادات الزمنية، ثم يعيدنا إلى الحاضر بلحظة كشف مفاجئة. في "البياض القاتم"، على سبيل المثال، نجد أنفسنا نتحرك بين طبقات الزمن، بين ذكريات الشخصيات وواقعها، في بناء سردي يشبه الحلم، يتركنا نتساءل أين تنتهي الحقيقة وأين تبدأ الرمزية. هذا التداخل الزمني ليس مجرد تقنية شكلية، بل هو تعبير عن حالة الإنسان المغربي نفسه، ذلك الإنسان الذي يعيش بين زمنين، بين ماضٍ يتشبث به وحاضر يجذبه بقوة.
واللغة، تلك الأداة السحرية التي يستخدمها البقالي، تأتي مشحونة بالصور الشعرية والرمزية. "مونيك" ليست مجرد امرأة، بل هي "نيزك"، "مذنب" يضيء السماء للحظة ثم يترك وراءه الاضطراب. الجبل في "طريق الجبل" ليس مجرد مكان، بل هو كائن حي، يتنفس، يشهد، يحكي. هذه اللغة التصويرية تضفي على النصوص بعداً شعرياً يجعلها تتجاوز الواقعية البحتة لتصبح تأملات في الوجود نفسه. ومع ذلك، لا يغيب عن هذه اللغة الحس الساخر، تلك الابتسامة المريرة التي تظهر حين يصف البقالي تناقضات شخصياته، حين يضعها في مواقف تكشف هشاشتها وطموحاتها في آن واحد.
المفارقة أيضًا تلعب دورًا كبيرًا في هذه المجموعة. نرى شخصيات تحارب الحداثة لكنها تنجذب إليها سرًا، نرى شيوخًا يدافعون عن التقاليد لكنهم يتساءلون في قرارة أنفسهم إن كانوا على حق، نرى شبابًا يحلمون بالمستقبل لكنهم عالقون في الحاضر. هذه المفارقات ليست مجرد لعبة سردية، بل هي انعكاس للواقع نفسه، ذلك الواقع المليء بالتناقضات التي يعيشها المجتمع المغربي في لحظة التحول هذه.
وبعيدًا عن التحليل الاجتماعي، هناك بعد فلسفي عميق في "أصداف الدهور" يستحق التأمل. هذه القصص ليست مجرد حكايات عن قرية أو عن أفراد، بل هي تأملات في الزمن، في التغيير، في معنى الوجود. السؤال عن "الآخر" يتحول إلى سؤال عن "الذات"، والسؤال عن الحاضر يصبح سؤالًا عن المستقبل. البقالي يضعنا أمام مرآة كبيرة، يدعونا لننظر إلى أنفسنا، لنتساءل عن موقعنا في هذا العالم المتغير، عن هويتنا التي تتشكل وتتحلل مع كل موجة جديدة من التغيير.
وفي النهاية، حين نطوي آخر صفحة من هذه المجموعة، نشعر أننا لم نقرأ قصصًا فقط، بل عشنا تجربة إنسانية عميقة. "أصداف الدهور" ليست مجرد عمل أدبي، بل هي دعوة للتأمل، للنظر إلى أنفسنا وإلى عالمنا بعيون جديدة. إنها أصداف تحمل أصوات الزمن، أصوات الماضي والحاضر والمستقبل، تتردد في أذهاننا طويلاً بعد أن ننتهي من قراءتها، تذكرنا بأننا، مثل تلك القرية الريفية، نقف على مفترق طرق، بين ما كان وما سيكون، بين الجذور التي تغذينا والسماء التي نحلم بها.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟