الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 19:56
المحور:
الادب والفن
عندما يتحدث الأدب عن الحقيقة، فإنه لا يكتفي فقط بسرد الوقائع، بل يفتح أفقًا أوسع للتأمل والشك، ولعل رواية "الليل لنا" للأستاذ محمد مباركي هي خير مثال على ذلك. إنها ليست مجرد سرد لقصص شخصيات وهمية في مكان نائي، بل هي مرآة حقيقية لعالم مليء بالأسئلة المعلقة، حيث يصبح الغياب والحضور معركة مستمرة بين الأمل والمأساة.
لقد كانت لحظة مفصلية في حياتي الأدبية عندما التقيت بالأستاذ محمد مباركي بمدينة وجدة عام 2015. كان ذلك اللقاء أكثر من مجرد مقابلة؛ كان بداية رحلة ملهمة في عالم الأدب والكتابة القصصية. لم يكن حديثه مجرد نصائح سطحية أو تحفيز بسيط في مجال التاريخ والجغرافيا والذهنيات والسوسيولوجيا، بل كان بمثابة إشعال فتيل إلهام لا ينطفئ. كان هو من أضاف لي أفقًا جديدًا في فهم الأدب ورؤية العالم من خلال الكتابة. وتلك اللحظة التي وضعتني على الطريق، كانت بمثابة نقطة التحول التي دفعتني لأغوص في عالم الكلمات وأكتب، وأكتب، حتى أجد صوتي الخاص.
أول رواية قرأتها له كانت "رائحة التراب المبلل". هذا النص جعلني أدرك كيف يمكن للأدب أن يكون أداة للكشف عن الأسئلة الوجودية الكبرى، ولم يكن مفاجئًا لي أن أكتشف في "الليل لنا" نفس القدر من العمق والرمزية، حيث يحمل كل حرف من الرواية روحًا تبحث عن إجابات حتى في عالمٍ مليء بالأسئلة المفتوحة.
من هنا، وبكل تقدير وامتنان، أوجه كلمتي للأستاذ محمد مباركي، الذي كان ملهمًا لي في مسيرتي الأدبية. هذا النص، "الليل لنا", يستحق بكل جدارة أن يكون محط تحليل ونقد، وأنا إذ أقدم هذا العمل النقدي، فإنما هو شهادة على ما تركه فيَّ من أثر عميق، ليس فقط كأديبٍ، بل كإنسانٍ يفتح أبواب الأدب على مصراعيها.
في رواية "الليل لنا" للروائي المغربي محمد مباركي التي صدرت عن دار "أكورا" في مايو 2021، لتشكل محطة جديدة في مسيرته الأدبية، حيث تأتي كثمرة لتجربة سردية ناضجة. تمتد الرواية عبر 437 صفحة تتوزع على 45 فصلًا، في بناء سردي يوازن بين العمق الفكري والتدفق السلس، مما يجعل القارئ عالقًا بين سطورها، متورطًا في أسئلتها الوجودية ومتاهاتها الإنسانية.
يتجلى النص كلوحة سردية غنية بالتفاصيل والطبقات، تتشابك فيها خيوط الواقع والرمز في نسيج محكم يتجاوز حدود القصة التقليدية ليغوص في أعماق التجربة الإنسانية والاجتماعية. يأخذنا الكاتب إلى عالم الدوّار النائي "أولاد سعدون" ، ذلك الفضاء الذي يتجاوز كونه مجرد مكان جغرافي ليصبح استعارة حية للهامش، حيث تتداخل العزلة الفردية مع النسيان الجماعي، ويصبح الليل ليس فقط عنوانًا بل حالة وجودية تتسع للضياع والتأمل والصراع الصامت. من خلال شخصية المعلم الشاب "كريم"، ذلك البطل الممزق بين طموحه التربوي وإحساسه بالعجز، يرسم مباركي صورة لفرد يحمل مشعل المعرفة في مواجهة ظلام الجهل، لكن سرعان ما نكتشف أن هذا الظلام ليس مجرد غياب للعلم، بل هو نسيج معقد من التقاليد، والخوف من التغيير، والقهر الاجتماعي المتوارث.
يبرع مباركي في بناء عالمه السردي عبر 45 فصلًا تشكل جسد الرواية، حيث يتدرج السرد من واقعية مباشرة إلى تأملات فلسفية عميقة، دون أن يفقد تماسكه أو ينزلق إلى التشتت. يبدأ النص بخطية سردية تبدو مألوفة—معلم يصل إلى قرية نائية ليواجه تحديات التعليم—لكن هذه البساطة الظاهرية تتحول تدريجيًا إلى فضاء أوسع، حيث يصبح "الدوّار" رمزًا لمجتمع متكلس، يعيش على هامش التاريخ والتقدم، ومع ذلك يحمل في طياته تناقضات الحياة بكل ما فيها من ألم وأمل. هذا التحول من الواقعي إلى الرمزي ليس اعتباطيًا، بل هو انعكاس لمهارة الكاتب في جعل المكان شريكًا في الحدث، فالدوّار ليس مجرد خلفية، بل كيان حي يتنفس ويتفاعل، يعزل أبطاله عن العالم الخارجي ويحاصرهم بجدرانه اللامرئية، مما يجعلنا نتساءل: هل المكان هو من يشكل الإنسان، أم أن الإنسان هو من يعيد تشكيل المكان بصمته وصراعاته؟
الشخصيات في "الليل لنا" ليست مجرد أدوات لدفع السرد، بل هي كيانات حية تحمل في طياتها انعكاسات المجتمع بكل تعقيداته. المعلم، بطل الرواية، ليس بطلًا بالمعنى الكلاسيكي، فهو ليس منقذًا ولا ثائرًا بقدر ما هو شخصية مترددة، تحمل وعيًا مؤلمًا بمحدودية دوره. إنه يمثل ذلك الفرد الذي يحلم بالتغيير لكنه يصطدم بواقع لا يرحم، حيث تتسع الفجوة بين رسالته كمربٍ وتشككه في قدرتها على اختراق جدار الجهل والعادات. حوله، تنتشر شخصيات ثانوية كالأطفال الذين يجسدون براءة مشوهة بالخوف والحرمان، والشيخ الذي يتمسك بالماضي كدرع ضد الحداثة، والنساء المقيدات بسلاسل العرف غير المرئية، وكل منهم يضيف طبقة إلى هذا النسيج الاجتماعي الذي يقاوم التغيير بنفس القدر الذي يتوق إليه في صمت. هذه الشخصيات لا تعيش بمعزل عن بعضها، بل تتفاعل في شبكة من العلاقات التي تعكس ديناميات القوة والخضوع داخل المجتمع الهامشي.
عنوان الرواية، "الليل لنا"، يحمل في طياته دلالات تتجاوز السطح لتصبح جوهر النص نفسه. الليل هنا ليس مجرد إطار زمني يحتضن الأحداث، بل هو حالة نفسية ووجودية تتسع لكل ما هو مكبوت وغامض. إنه الظلام الذي يخفي الجراح ويكشف في الوقت ذاته عن الحقائق العارية، فضاء يتحرر فيه الأبطال من قيود النهار الاجتماعية ليواجهوا أنفسهم وتساؤلاتهم. في هذا السياق، يمكن قراءة الليل كرمز للتيه الذي يعيشه المجتمع المغربي العميق، أو كمساحة للتمرد الصامت الذي لا يجد طريقه إلى النور. هذا التكثيف الدلالي في العنوان يعكس رؤية مباركي للعالم، حيث يصبح الليل ملكًا للمهمشين، لكنه في الوقت ذاته يحمل في طياته إمكانية الخلاص أو الهلاك.
لغة الرواية تتسم بمزيج نادر من البساطة والعمق، فالجمل تأتي محكمة، خالية من الزخرفة الزائدة، لكنها مشحونة بطاقة دلالية تتيح للقارئ التأويل على مستويات متعددة. مباركي لا يفرط في الحوارات، بل يجعل الصمت يتحدث في كثير من المشاهد، مما يعزز من إحساس القارئ بالتوتر الداخلي للشخصيات. عندما تظهر الحوارات، فإنها تأتي كأصداء لصراعات أعمق، تعكس الحيرة والمقاومة والاستسلام في آن واحد. هذا الأسلوب لا يخدم السرد فحسب، بل يضع القارئ في قلب التجربة، يجعله يشعر بثقل الصمت وحدة الكلمات، كما لو كان شاهدًا على حياة تتكشف أمامه بكل صدقها وألمها.
من الناحية الفكرية، تقدم "الليل لنا" نقدًا لاذعًا للعلاقة بين التعليم والتغيير الاجتماعي، متسائلة عما إذا كانت المعرفة قادرة على أن تكون أداة تحرر في بيئة ترفضها أو تخشاها. المعلم، بصفته رمزًا للتنوير، يجد نفسه محاصرًا بين جدران التقاليد والجهل، مما يفتح الباب أمام تساؤل أعمق: هل التعليم وحده كافٍ لإحداث ثورة في مجتمع يعيش في ظل الهامش؟ الرواية لا تقدم إجابة جاهزة، بل تترك القارئ يتأمل في هذا الصراع بين الطموح والواقع. كما تتناول قضية الهامش بكل أبعادها، فالدوّار ليس مجرد قرية نائية، بل هو صورة مصغرة للمغرب العميق، ذلك الفضاء المنسي الذي يعيش بعيدًا عن مركزية السلطة، لكنه يحمل في داخله تناقضات الحداثة والتقليد، التقدم والجمود، الأمل واليأس.
نهاية الرواية تأتي كتتويج لهذا الصراع الدائم، حيث تظل مفتوحة على احتمالات لا نهائية. لا نعرف ما إذا كان المعلم قد تمكن من الانتصار على عزلته، أم أنه استسلم لها وأصبح جزءًا من نسيج المكان الذي حاصره. هذه النهاية غير الحاسمة ليست عيبًا، بل هي تعبير عن رؤية الكاتب للحياة كمساحة مستمرة من الجدل بين التمرد والرضوخ، بين الرغبة في التغيير والخضوع للواقع. إنها دعوة للقارئ ليشارك في صنع المعنى، ليواصل التساؤل بعد أن تنتهي الكلمات.
في المحصلة، "الليل لنا" ليست مجرد رواية عن معلم في قرية نائية، بل هي تأمل عميق في مصير الفرد والمجتمع في مواجهة الهامش والتاريخ. إنها نص يتحدى القارئ أن يرى ما وراء السطح، أن يشعر بثقل الأسئلة التي يطرحها، وأن يبحث عن إجابات في ظلام الليل الذي يملكه المهمشون. ببراعة سردية وفكرية، ينجح محمد مباركي في تقديم عمل أدبي يتجاوز الحكاية ليصبح مرآة للواقع، وصرخة صامتة في وجه النسيان.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟