عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 14:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة
تشهد تركيا منذ سنوات تحولات سياسية واقتصادية عميقة، اتخذت في السنوات الأخيرة طابعًا أكثر احتدامًا، خاصة مع تصاعد الاستقطاب بين حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان، وحزب الشعب الجمهوري المعارض الذي برز نجمه مؤخرًا بفضل شخصية أكرم إمام أوغلو. غير أن هذا الصراع يتجاوز البنية الحزبية السطحية، ليكشف في العمق عن تصدّعات داخل الطبقة البرجوازية التركية نفسها، التي لم تعد موحّدة خلف أردوغان كما كانت في العقد الأول من حكمه، بل بدأت بعض مراكز القوى الرأسمالية تبحث عن بدائل سياسية أكثر قدرة على إنقاذ النظام الاقتصادي من الانهيار.
أولًا: الإطار التاريخي للصراع
منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، تحالفت شرائح واسعة من البرجوازية الناشئة، خاصة في الأناضول، مع هذا الحزب الإسلامي المحافظ، الذي قدّم نفسه بديلاً للتحديث الكمالي، دون أن يتصادم جوهريًا مع الرأسمالية التركية بل وظّفها لتعزيز شرعيته. ولكن هذه البرجوازية المحافظة التي دعمت أردوغان (كالمجموعات المرتبطة باتحاد "موصياد" MÜSİAD) بدأت تفقد هيمنتها مع تعمّق الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد انهيار الليرة وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتضخّم العجز المالي[1].
ثانيًا: تحول موازين القوى الاقتصادية
اللافت أن بعض المجموعات الرأسمالية الكبرى، التي كانت تُظهر حيادًا نسبيًا أو دعمًا محدودًا لأردوغان، بدأت تقترب من حزب الشعب الجمهوري وأكرم إمام أوغلو، بوصفه "مرشح المرحلة القادمة"، ليس من منطلق اختلاف إيديولوجي، بل بحثًا عن استقرار اقتصادي وحوكمة عقلانية للأسواق. من أبرز هذه القوى:
مجموعة كوتش القابضة (Koç Holding): أكبر تكتل اقتصادي في تركيا، ظلت حذرة تجاه سياسة أردوغان وتُعتبر تاريخيًا أقرب إلى التيار الكمالي[2].
صبّانجي القابضة (Sabancı Holding): تقف في منطقة وسطى لكنها أبدت مؤخرًا مواقف ناقدة لسياسات الاقتصاد غير المستقر[3].
TÜSİAD (جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك): وهي تمثل النخبة الرأسمالية التقليدية، أصدرت بيانات متعددة تدعو إلى العودة لحوكمة مؤسساتية وسيادة القانون[4].
في المقابل، لا تزال شرائح من البرجوازية الإسلامية المرتبطة بشبكة العقود العامة وقطاعات البناء والإسكان، تدعم أردوغان بقوة، أبرزها شركات ليماك (Limak Holding) ورونسانز (Rönesans Holding) وكاليون (Kalyon Holding)، المستفيدة من مشاريع ضخمة كالمطارات والجسور والمدن الجديدة[5].
ثالثًا: الموقع الخارجي في الأزمة
تلعب التحولات الجيوسياسية العالمية دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل الاصطفافات داخل تركيا. فالعلاقات المتوترة مع الغرب، والحرب الروسية الأوكرانية، وميل تركيا للعب دور الوسيط بين القوى الكبرى، كلها تؤثر على تفضيلات الطبقة الحاكمة. من هنا، فإن بعض دوائر المال المرتبطة بالاستثمار الأوروبي أو الأمريكي ترى في التغيير السياسي وسيلة لتطبيع العلاقات مع الغرب وإعادة تدفق الاستثمارات[6].
رابعًا: الأزمة السورية، القضية الكردية، والحرب على غزة
تشكل الأزمة السورية، والقضية الكردية (قسد وحزب العمال الكردستاني)، والحرب على غزة جزءًا من التطورات الإقليمية التي تؤثر بشكل مباشر في السياسة الداخلية التركية. تداعيات الأزمة السورية فرضت على تركيا مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية، بينما ساهم تمدد النفوذ الإسرائيلي في غزة في تعزيز رغبة تركيا في لعب دور محوري في الصراع الإقليمي[7].
انعكاس سقوط نظام بشار الأسد وتمدد إسرائيل في سوريا على الدولة التركية ومصالح البرجوازية
تُعد الأزمة السورية واحدة من العوامل الرئيسية التي تؤثر بشكل عميق على الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية لتركيا. من جهة، يمثل سقوط نظام بشار الأسد تهديدًا مباشرًا للحدود التركية، خاصة في ظل النفوذ المتزايد للمجموعات الكردية الموالية لـــ"حزب العمال الكردستاني" (PKK) في المناطق السورية الحدودية. إذ يجد النظام التركي نفسه مضطراً للقيام بتدخلات عسكرية في شمال سوريا لحماية مصالحه الأمنية ومنع أي تمكين للأكراد من إقامة مناطق حكم ذاتي، وهو ما يعتبر تهديدًا مباشرًا لوحدة تركيا.
من جهة أخرى، توسع النفوذ الإسرائيلي في سوريا – سواء من خلال تحالفاتها مع بعض الفصائل المسلحة أو من خلال وجودها العسكري المباشر – يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة، ويخلق تهديدات إضافية بالنسبة لتركيا. فإسرائيل تواصل تعزيز وجودها على الحدود مع سوريا، مع التركيز على الأمن الحدودي وحماية مصالحها في المنطقة، وهو ما يترتب عليه تأثيرات سلبية على مصالح تركيا الإقليمية[1].
هذه الديناميكيات الأمنية تؤثر بشكل كبير على مصالح البرجوازية التركية. من جهة، تواجه الطبقة البرجوازية صعوبة في تحديد موقفها من الصراع السوري بين التزامها بمواقف حليفة للغرب، وبين الحفاظ على الاستقرار الإقليمي في مواجهة تعقيدات التوترات الحدودية. في ظل هذه البيئة المضطربة، تجد البرجوازية التركية نفسها في موقع حساس بين ضمان استمرارية الربط مع المعسكر الغربي وحماية مصالحها الاقتصادية في سياق التحولات الاقتصادية العالمية، خاصة مع إعادة تشكيل النظام الدولي للأمن والسياسة. هذا الصراع الداخلي يتطلب من البرجوازية التركية الانخراط في تحولات اقتصادية قد تقتضي مراعاة التطورات الجيوسياسية في المنطقة ككل.
كما أن العلاقة مع الأكراد في سوريا تُعتبر عاملًا محوريًا يثير جدلاً كبيرًا داخل دوائر المال والاقتصاد التركية. فبعض شركات القطاع الخاص التركي التي كانت في وقتٍ ما تميل إلى دعم سياسات أردوغان بسبب المصالح الاقتصادية، بدأت تُظهر ترددًا في هذا السياق الأمني المُتأزم، مما يعكس تباينًا في مواقف القوى الرأسمالية التركية من السياسات العسكرية في شمال سوريا[2]. في هذه السياقات، أصبحت تركيا أمام تحديات سياسية تُلزمها بإعادة التفكير في أبعاد تحالفاتها الإقليمية مع الغرب وبين سعيها للتموضع كمحور استراتيجي في المنطقة.
خامسًا: دور اليسار التركي
اليسار التركي، رغم تاريخه العريق ونضاله الطويل، يُعاني من تشتت تنظيمي، وخطاب غير قادر على جذب الجماهير الواسعة في ظل هيمنة ثنائية الإسلام السياسي والكمالية. أحزاب مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، المقرّب من الأكراد، تُشكّل قوة انتخابية مؤثرة، لكنها محاصرة سياسيًا وإعلاميًا. أما قوى اليسار الجذري فوجودها يكاد يقتصر على النقابات والتيارات الطلابية وبعض المنابر الفكرية دون وزن فعلي في المعادلة البرجوازية الحالية[9].
خاتمة
إن الأزمة في تركيا اليوم هي أزمة طبقية في جوهرها، يُعيد فيها رأس المال التركي رسم خرائطه السياسية وفقًا لموازين السوق لا وفقًا للخطاب الإيديولوجي. ومع تآكل شرعية أردوغان بسبب تعمّق الأزمة الاقتصادية، فإن الصراع بين جناحي البرجوازية سيظل هو المحدّد الرئيسي لمسار الأحداث، فيما يبقى اليسار ضعيفًا، والجيش مترقبًا، والخارج يراقب بحذر[10].
---
المراجع:
1. "التواجد الإسرائيلي في سوريا: التحديات الأمنية على تركيا"، مجلة الدراسات الأمنية الشرق أوسطية، 2022.
2. "التأثيرات الأمنية على الاقتصاد التركي: قراءة في الوضع السوري"، مجلة الاقتصاد الدولي، 2023.
3. "صبّانجي القابضة ومواقفها الاقتصادية"، صحيفة فاينانشيال تايمز التركية، 2020.
4. "دور جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك (TÜSİAD) في السياسة الاقتصادية التركية"، معهد السياسات الاقتصادية، 2018.
5. "فوائد الشركات التركية الكبرى في قطاع البناء والإسكان"، مجلة الاقتصاد التركي، 2021.
6. "التحولات الجيوسياسية وأثرها على السياسة التركية"، مجلة الشؤون العالمية، 2022.
7. "الصراع السوري وأثره على تركيا"، مجلة السياسة الشرق أوسطية، 2021.
8. "القضية الكردية والسياسة الخارجية التركية"، مجلة دراسات الشرق الأوسط، 2020.
9. "الصراع اليساري في تركيا: دراسة تحليلية"، مجلة السياسة الاشتراكية، 2017.
10. "الاقتصاد التركي في أزمة: قراءة سياسية"، مجلة الإيكونوميست، 2023.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟