أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أكد الجبوري - بإيجاز: أزمة المثقف بين حكمة الشك و هشاشة الحقيقة/ إشبيليا الجبوري - ت: من اليابانية أكد الجبوري















المزيد.....

بإيجاز: أزمة المثقف بين حكمة الشك و هشاشة الحقيقة/ إشبيليا الجبوري - ت: من اليابانية أكد الجبوري


أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 18:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"كل ما نسمعه هو رأي، وليس حقيقة. كل ما نراه هو وجهة نظر، وليس الحقيقة."
(ماركوس أوريليوس، التأملات، الكتاب السادس)

إن التحذير الموجود في هذه الكلمات التي قالها الإمبراطور الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس واضح بشكل مثير للقلق. بجملة واحدة، يزعزع ادعاءات اليقين التي تغوي الروح البشرية. فمن خلال تأكيده على أن السمع لا يعطينا حقائق، بل آراء، وأن الرؤية لا تعطينا الحقيقة، بل وجهات نظر فقط، فإنه يذكرنا بطريقة موجزة وعظيمة أن الوعي الإنساني، في جوهره، محدود، وتفسيري، وليس مطلقًا أبدًا. يصبح المنظور هنا بمثابة دعوة للاستماع، وليس لفرض الأمور.إن شئتم.

إن هذا الاعتراف، بعيداً عن كونه لفتة من الشك التافه، هو دعوة إلى التواضع المعرفي. إن العالم ليس مُعطى لنا بالكامل، بل يتم تصفيته من خلال هياكلنا العقلية والعاطفية والثقافية والتاريخية. الرؤية هي التفسير، والاستماع هو فك الشفرات، والتفكير هو التنقل عبر المعاني التي هي دائما مؤقتة. وبهذا المعنى فإن التفكير الأصيل يعني قبول حقيقة مفادها أن كل يقين يحمل في داخله علامة البناء، وليس علامة شفافية الواقع.

إن هذا الوعي بالحدود المعرفية هو بالفعل أساس الفلسفة الغربية. سقراط نفسه (حوالي 470 - 399 قبل الميلاد)، عندما قال "أنا أعلم فقط أنني لا أعلم شيئًا"، بدأ تقليدًا يرى أن الاعتراف بالجهل هو البداية الحقيقية للحكمة. وعلى هذا الروح قام الرواقيون، مثل إبيكتيتوس (حوالي 50 – حوالي 135 م) وماركوس أوريليوس (121-180 م)، ببناء فلسفة عملية للعقل، حيث لا يأتي الاضطراب من الأشياء ولكن من الحكم الذي نصدره عليها. الحقيقة لا تكمن في الحقيقة الخام، بل في الطريقة التي نفسرها بها، وهذه الطريقة دائما جزئية.

ومع ذلك، ففي العصر الحديث، وخاصة مع نيتشه (1844-1900)، اكتسب هذا المنظور نبرة أكثر جذرية. يعلن الفيلسوف الألماني أنه "لا توجد حقائق، بل مجرد تفسيرات"، ويدين "إرادة الحقيقة" باعتبارها شكلاً مقنعاً لإرادة القوة. إن كل بناء للحقيقة سيكون في نهاية المطاف تمرينًا في الإتقان الرمزي. إن الموضوعية، إذن، ليست انعكاسا للعالم كما هو، بل هي فرض نظام من المعنى على تعدد الواقع.

يتناول ميشيل فوكو (1926-1984) هذا الشك ويعمقه من خلال إظهار أن أشكال المعرفة متشابكة دائمًا مع هياكل السلطة. إن ما يسميه المجتمع "الحقيقة" ليس تطابقًا بين اللغة والواقع، بل هو تأثير مجموعة من الممارسات الخطابية التي أقرتها المؤسسات المهيمنة. وهكذا فإن الحقيقة تاريخية، ومشروطة، ومحددة، والتفكير النقدي يعني على وجه التحديد الكشف عن الآليات التي يتم من خلالها بناء وهم الحياد.

ومن ناحية أخرى، يجسد مونتين (1533-1592) نهجًا أكثر حميمية وأدبية لهذه الحساسية نفسها. وفي مقالاته، يتساءل مع نفسه والعالم بالشك والسخرية. بالنسبة له، الهوية الإنسانية متقلبة، متعددة، ومتناقضة. "ماذا أعرف؟"، "ماذا أعرف؟"، تصبح شعارًا للوعي الذي لا يثق في الصيغ الجاهزة ويجد في الشك ليس عقبة، بل أخلاقًا. وهكذا يصبح الشك هو التربة الحقيقية للحرية الداخلية.

وهنا يمكننا أن نستحضر باسكال (1623-1662)، الذي تقدم حساسيته المأساوية بعداً آخر لمشكلة الحقيقة. بالنسبة لباسكال، العقل عاجز أمام هاوية اللانهاية والعدم. في أفكاره، يوضح أن الحالة الإنسانية تتأرجح بين البؤس والعظمة، العظمة لأنها تفكر، والبؤس لأنها مخطئة. لا يرفض باسكال العقل، بل يخضعه لمحدوديته. "إن للقلب أسباباً لا يعرفها العقل نفسه"، يكتب، مشيراً إلى البعد العاطفي والروحي للمعرفة. الحقيقة، بالنسبة له، ليست مجرد مفهوم، بل هي أيضًا تجربة تتجاوز العقل.

مع كيركيغارد (1813-1855)، يكتسب الشك ثقلاً وجودياً. فهو يفهم أن الحقيقة لا تنحصر في القضايا، بل تتجسد في الوجود الملموس. الحقيقة ذاتية، بمعنى أنها لا تكون صحيحة إلا عندما نعيشها بشغف ومسؤولية. "إن الحقيقة هي واقع يجب الاستيلاء عليه"، كما يقول، وهذا الاستيلاء على وجه التحديد هو ما يتطلب الألم والاختيار والإيمان. الحقيقة ليست ما يقال، بل ما يُعاني منه. الشك، بعيدًا عن كونه ضعفًا، هو المدخل إلى القفزة.

يأخذ إيمانويل ليفيناس (1906-1995) هذا التأمل إلى بعد أخلاقي عميق. فالحقيقة بالنسبة له ليست مجرد مشكلة معرفية، بل هي حدث في مواجهة الآخر. إن اللقاء مع الآخر، هذا الكائن الذي يزعزع استقراري، والذي يفلت من فهمي، والذي يتحداني، هو المكان الذي تكشف فيه الحقيقة عن نفسها كمسؤولية. إن التفكير لا يعني السيطرة على العالم بالمفاهيم، بل يعني فتح الذات أمام جاذبية الآخر الذي يتحداني. يصبح المنظور هنا بمثابة دعوة للاستماع، وليس لفرض الأمور.

وأخيرا، المثقف وسط كل هذه الأصوات، على الرغم من اختلافاتها، تتفق على نقطة أساسية واحدة: الحقيقة لا تُمتلك، بل نبحث عنها، وهذا البحث لا يكون ممكناً إلا عندما يتم الاعتراف بهشاشة نقطة البداية. العيش في الشك، وقبول النقص، والتخلي عن غطرسة المعرفة المطلقة، كل هذه هي الشروط للتفكير الأصيل، والرؤية بشكل أكثر وضوحًا، والاستماع بشكل أعمق.

لذا المثقف في عالم اليوم المشبع بالآراء والاستقطابات واليقينيات المعلنة، فيكاد أن يركن إلى منظور ورأي. يكاد يلامس ما ذهب إليه. في تذكر درس ماركوس أوريليوس؛ هو بمثابة عمل من أعمال ثقافة المقاومة الصامتة. عندما يصبح كل شيء ضوضاء، يصبح الفكر استماعًا. عندما يصبح كل شيء مؤكدًا، يصبح الفكر انتظارًا. فالتفكير، بالمعنى الأسمى، لا يعني التسرع في التوصل إلى استنتاجات، بل يعني معرفة أن "كل ما نسمعه هو رأي، وكل ما نراه هو وجهة نظر"، وبالتالي فإن الحقيقة هي دائمًا أفق يجب السعي إليه، وليست أبدًا جائزة يجب عرضها.

ولعل أعظم بادرة للوضوح اليوم هي معرفة كيفية قول: لا أعرف. ومن هناك، ابدأ بفكرة لا تهدف إلى إغلاق العالم، بل إلى توسيعه. بل اتساع وجهات نظر فقط، إن حددت. وبلوغ ما آل إليه أن يذكرنا بطريقة منهج الثقافة. بلمسة موجزة وعظيمة أن الوعي الإنساني، في جوهره، محدود، وتفسيري، وليس مطلقًا أبدًا. أي يصبح المنظور هنا بمثابة دعوة للاستماع، وليس لفرض الأمور.إن شئتم.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2025
المكان والتاريخ: طوكيـو ـ 03/23/25
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة).



#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الثاني - ت: من الياباني ...
- بإيجاز: أزمة المثقف بين حكمة الشك وهشاشة الحقيقة/ إشبيليا ال ...
- مراجعة كتاب؛ -ظاهراتية التساؤل- لجويل هوبيك
- لا يوجد وقت للنهاية / بقلم خوسيه لارالدي
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ...
- مراجعة كتاب؛ -ظاهراتية التساؤل- لجويل هوبيك/ شعوب الجبوري - ...
- بإيجاز؛ شر القطيع و العزلة الباهرة/ إشبيليا الجبوري - ت: من ...
- بإيجاز؛ مقومات ثقافة الفردانية الجماعية
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول -/ ت: من الياباني ...
- -هل المعرفة أداة للسيطرة؟- وفقا لميشيل فوكو/ شعوب الجبوري - ...
- تركت رأسي يرتاح للأسف/بقلم إميليو أدولفو ويستفالن
- حين تركت رأسي يرتاح للأسف/بقلم إميليو أدولفو ويستفالن
- الاختزالية الأيديولوجية في رواية --البؤساء- لفيكتور هوغو /إش ...
- قصة قصيرة: -العذراء الشمعية-/ بقلم خوان كارلوس أونيتي - ت: م ...
- بإيجاز: الأوروبيين: عبيدًا في أفريقيا - إشبيليا الجبوري -- ت ...
- إضاءة: -علم نفس الجماهير- لغوستاف لوبون / إشبيليا الجبوري - ...
- بإيجاز: الأوروبيين: عبيدًا في أفريقيا - إشبيليا الجبوري - ت: ...
- قصة قصيرة: -الجمعة الأخيرة-/ بقلم خوان كارلوس أونيتي - ت: من ...
- بإيجاز؛ اليقينيات المتقلبة/ إشبيليا الجبوري - ت: من الياباني ...
- الاختزالية الأيديولوجية في رواية -البؤساء- لفيكتور هوغو /إشب ...


المزيد.....




- -إطلاق صاروخين من لبنان-، ووزير الدفاع الإسرائيلي يهدد: الهد ...
- وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية تزور سجنا مشدد الحراسة في السل ...
- منافس جديد في عالم الهواتف المميزة من Xiaomi (فيديو)
- الدفاعات الروسية تسقط 78 مسيرة أوكرانية جنوب غربي البلاد
- ماذا سيحدث خلال كسوف الشمس يوم السبت؟
- سوني تعلن عن سماعات لاسلكية مميزة
- مشروع طبي ثوري.. أجسام بشرية صناعية لإنقاذ الأرواح
- بعد 30 عاما من البحث.. علماء يتوصلون إلى حل ثوري لأخطر أزمة ...
- الصين.. طريقة لمنع تطور قصر النظر لدى تلاميذ المدارس
- حين تعرضت الولايات التحدة لخطر نووي ورئيسها لهجوم أرنب بري! ...


المزيد.....

- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أكد الجبوري - بإيجاز: أزمة المثقف بين حكمة الشك و هشاشة الحقيقة/ إشبيليا الجبوري - ت: من اليابانية أكد الجبوري