هاشم نعمة
الحوار المتمدن-العدد: 8289 - 2025 / 3 / 22 - 17:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة على المستوى الرسمي والأكاديمي والإعلامي والشعبي بموضوعة الفاشية الجديدة وعلاقتها بصعود شخصيات وأحزاب اليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وبعض البلدان النامية، خصوصا في أمريكا اللاتينية. وجاء فوز دونالد تراب بفترة رئاسية ثانية في انتخابات عام 2024، والذي ينتمي إلى اليمين المتطرف وذو توجهات فاشية شعبوية واضحة ليزيد من هذا الاهتمام؛ إذ يشكل صعود اليمين المتطرف تحولا خطيرا، وستكون له تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، وعلى مستوى النظام العالمي، وهو أكبر تحول تلا صعود الفاشية بين الحربين العالميتين.
لاشك أن هذه التحول مرتبط بشكل وثيق بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلدان الرأسمالية في المركز والأطراف، خصوصا بعد تبني نهج الليبرالية الجديدة-على الرغم من ثبوت فشله بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008- وما تركه من نتائج فاقمت حدة الفوارق الطبقية، ودفعت المزيد من الشرائح الاجتماعية نحو الهامش. كل هذه الظروف تهيأ الحاضنة الخصبة لصعود الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة، والتي تجد فيها شرائح اجتماعية واسعة يائسة منقذا لها من الأزمات التي تعيشها بعد خيبة آملها بالأحزاب الليبرالية التي حكمت طيلة عقود.
ما هي الفاشية الجديدة؟
يُطلق مصطلح الفاشية الجديدة في المقام الأول على تلك المجموعات السياسية والأيديولوجية والأحزاب التي عملت بعد عام 1945، خصوصا في أوروبا، والتي استلهمت بشكل مباشر تجربة الأنظمة الفاشية والنازية في فترة ما بين الحربين العالميتين في ألمانيا وإيطاليا وبلدان أوروبية أخرى. كانت هذه المجموعات تتكون في كثير من الأحيان من بقايا الناشطين الفاشيين والنازيين الذين لم يكونوا مستعدين للتخلي عن نشاطهم السياسي أو في الواقع التخلي عن أيديولوجياتهم على الرغم من الهزيمة العسكرية. وكان عدد كبير من الذين يدعمون هذه المنظمات يحنون إلى الماضي ومعزولين عن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب، ويحمل الكثير منهم وجهات نظر متطرفة وغير قابلة للمساومة، مؤكدين على الطابع "الثوري" للفاشية بدلا من نسختها القومية أو تلك التي تؤكد على بناء دولة قوية(1). وما نفهمه عن الطابع الثوري هنا استخدام العنف المفرط ضد الخصوم، وهذا يذكرنا بالمجازر التي ارتكبتها النازية ضد خصومها الداخليين والخارجيين، والاعتداءات المتكررة على المهاجرين من قبل اليمين المتطرف.
حديثا، وبعد رفع السرية عن وثائق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ظهر ما كان مشتبها به لفترة طويلة، وهو أن الجيش الأمريكي وجهاز الخدمة السرية قاما بحماية العديد من المجرمين النازيين والفاشيين بعد الحرب العالمية الثانية، وتجنيدهم كجنود وجواسيس ضد البلدان الاشتراكية(2). وكان العمل الأساس لوكالة المخابرات الأمريكية هو زرع الجواسيس في البلدان الأخيرة، وهذا ما أقر به رئيسها ألين دالاس للفترة 1953-1961، بشكل موسع في مذكراته.
على الرغم من تشوه سمعة الفاشية، وما أرتبط بها من تمييز عنصري بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية في بناء دولة الرفاه الاجتماعي، لكن كان هناك وجود مستمر للفاشية على هامش السياسة السائدة. لقد كانت واحدة من السمات الأكثر لفتا للانتباه لهذه الفاشية الجديدة تتمثّل في الغياب الكلي تقريبا للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين والتي ازدهرت فيها الفاشية لأول مرة، إنها ظروف عدم الاستقرار السياسي، والضائقة الاقتصادية الشديدة، والخوف من تمدد الشيوعية والشعور الواسع بالإذلال الوطني والتطلعات المحبطة. يتمثّل أحد العوامل المساهمة في صعود الفاشيين المعاصرين في الهجرة الوافدة. خصوصا عندما يتفاقم الوضع نتيجة الركود الاقتصادي على الرغم من عدم ظهور ضائقة اقتصادية كالتي كانت بين الحربين العالميتين(3)، علما أن موضوع الهجرة يجري تسيسه على نطاق واسع، لأغراض انتخابية بحتة، حيث تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن هناك حاجة ماسة للهجرة الوافدة حاليا وفي السنوات القادمة.
منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، برزت إلى الواجهة كثير من الحركات اليمينية المعادية للأجانب، متأثرة باليمين الجديد في أوروبا وأمريكا، لهذه الحركات في بعض الأحيان جذور واضحة مع الماضي الفاشي والفاشية الجديدة، ولكنها غالبا ما تنأى بنفسها عن ذلك علنا. لقد ركزت كثير من المناقشات الأخيرة بين العلماء على التوصل إلى إجماع جديد حول تعريف شامل للفاشية، والذي من شأنه أن يسمح بتصنيف أكثر وضوحا للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية(4) عبر العالم، أي التمييز بين الفاشية الحقيقية وغيرها من الظواهر الزائفة. فقد عرّف روجر غريفين الفاشية على أنها صنف من الأيديولوجيا السياسية التي يتمثل جوهرها الأسطوري في شكل متخلف من القومية الشعبوية المتطرفة(5).
منذ انبثاق النظام الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، حلت إلى حد كبير أنماط جديدة من الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة محل المجموعات المتطرفة الأقدم أو التي تحن إلى الماضي الفاشي، وحققت إنجازات كبيرة في الانتخابات في العديد من البلدان. هذه الأحزاب لا تسعى في أوروبا الغربية علانية إلى الإطاحة بالأنظمة الديمقراطية أو تدعو إلى العنف، بدلا من ذلك، تؤكد على قضايا هي موضع اهتمام كثير من الناخبين، خصوصا الهجرة الوافدة والقانون والنظام. وعلى العكس من ذلك، اتخذ إحياء اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، شكلا من القومية المتطرفة، والتي قد تكون لها جذور مع فاشية ما بين الحربين العالميتين أو لها صلات مع الأيديولوجية الفاشية(6). وهنا لا تكون الهجرة أحد الأسباب لأن هذه المنطقة طاردة للمهاجرين، ويمكن أن يكون تاريخ الحروب والتطورات السياسية التي مرت بها المنطقة، وإعادة رسم الخرائط السياسية عدة مرات، وضم بعض الأراضي إلى دول أخرى، واخفاق التجربة الاشتراكية أسبابا قد ساهمت في صعود هذا التوجه القومي المتطرف.
الجانب النظري - التفسيري
بحكم نفور الفاشية من الفكر، تفضل عدم إضاعة الوقت في بناء نظريات مجردة حول نفسها، لكن لا ينبغي لنا أن نستنتج أنها ممارسة عمياء أو طريقة غريزية بحتة. ترى الفاشية نفسها أنها معادية لجميع الأنظمة الطوباوية التي ليس مقدر لها أن تواجه أبدا اختبار الواقع. إنها معادية لكل العلوم وكل الفلسفات التي تظل مجرد مسائل خيال أو ذكاء. لا تنكر الفاشية قيمة الثقافة، إذا كانت المساعي الفكرية العليا تجري من خلالها تنشيط الفكر باعتباره مصدرا للعمل(7)، أي موجها للعمل الذي تريد تنفيذه خصوصا العمل على تزييف وعي الناس واشغالهم عن أسباب مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية.
تدور سياسة الفاشية بالكامل حول مفهوم الدولة القومية، وبالتالي فهي لديها نقاط اتصال مع العقائد القومية، إلى جانب التمييز بينها وبين الأخيرة والذي من المهم أخذه بالاعتبار. وترى أنها تتوفر على حل للتناقض بين الحرية والسلطة؛ إذ تكون سلطة الدولة مطلقة. وإن الدولة لا تلجأ إلى الحلول الوسط، ولا تساوم، ولا تتنازل عن أي جزء من مجالها لمبادئ أخلاقية أو دينية أخرى قد تتداخل مع الضمير الفردي. ولكن من ناحية أخرى، لا تصبح الدولة حقيقة إلا في وعي أفرادها. وتوفر الدولة الفاشية التشاركية نظاما تمثيليا أكثر صدقا وأكثر اتصالا بالواقع من أي نظام آخر تم ابتكاره سابقا، وبالتالي فهو أكثر حرية من الدولة الليبرالية القديمة(8). علما هذه الأفكار تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية على نحو مباشر أو غير مباشر، حيث تنتقد المؤسسات والنخب السياسية الليبرالية وتتهمها بالفساد.
يعتمد اليمين الجديد على منظري "الثورة المحافظة" مثل كارل شميت، وأوزوالد شبنغلر، ومنظري الليبرالية الجديدة مثل فريدريش فون هايك الذي يفضل دكتاتورية ليبرالية، وعلى هذا الأساس رأى في حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة في شيلي في بداية سبعينيات القرن الماضي بزعامة سلفادور اليندي دكتاتورية مستبدة. وفرض الليبرالية الجديدة بواسطة العنف في هذا البلد رأى فيها تحقيقا لـ "الحرية"،(9)، وهو ما أثبت الواقع عدم صوابه، حيث جلب تطبيق الليبرالية الجديدة كوارث اجتماعية واقتصادية واسعة وعمق التفاوت الطبقي.
أصبح ألكسندر دوغين الفيلسوف السياسي الروسي ونظريته "السياسية الرابعة" أحد المبادئ لتوجهات الفاشية المنظمة عالميا وفوق الوطنية. وتتمثّل موضوعته الرئيسة: أن جميع الأيديولوجيات السياسية، باستثناء الليبرالية، قد عفا عليها الزمن ويجب على جميع معارضي الليبرالية أن يتحدوا. ويجب ان يتم هذا الاتحاد تحت خيمة نظام اجتماعي استبدادي تقليدي واضح"(10).
ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية والتي اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما تعتبر النظرية الماركسية عادة أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية.
الكتاب الماركسيون الذين تصدوا للقيام بمهمة بناء مفهوم نظري للفاشية، من الذين جرى الاستلهام بأعمالهم، هم: ليون تروتسكي، جورجي ديمتروف، أنطونيو غرامشي، دانيال غيرين، بالميرو تولياتي، ونيكوس بولانتزاس(11)، والأخير لا يقوم بتقليص تفسير الفاشية إلى تناقض بسيط بل يرى أنها على العكس تنتج من تناقضات معقدة للغاية.
تؤكد جميع الكتابات الماركسية بشأن الفاشية على الصلات التي تربطها بالرأسمالية. وكان أكثر تعريفات الفاشية تأثيرا الصادر عن مؤتمر الأممية الشيوعية في عام 1935، والذي نصَّ على أن "الفاشية الممسكة بزمام السلطة هي الدكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر الرأسمالية المالية رجعية وشوفينية وإمبريالية". وكان رأي الأممية الشيوعية أن الأزمة التي عانتها الرأسمالية على درجة من الخطورة لم تكفِ معها الدكتاتورية التقليدية؛ لذلك استخدم الرأسماليون الحركة الفاشية الشاملة لتدمير الاشتراكية. ويذهب تعريف عام 1935 إلى أن الفاشية ليست "صنيع" الرأسماليين فقط؛ لأنها اعتمدت أيضا على أفراد من البرجوازية الصغيرة التي كانت ناقمة بشدة على رأس المال الكبير(12). وهذا ما نراه أيضا في الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية.
وقد شعر بعض الماركسيين أن هذا التعريف يسم جميع الأنظمة الدكتاتورية دون تمييز بالفاشية. وشعر آخرون أن البرجوازية الصغيرة تلعب دورا أكثر استقلالية، وأنها تقف إلى حد ما في طريق مصالح الرأسماليين. تبنى الماركسيون هذه الانتقادات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في محاولة لإضفاء قدر أكبر من المرونة على نموذجهم. لكن معظم الماركسيين لم يتخلوا عن قناعتهم بأن الفاشية تعمل بالأساس لمصلحة الرأسمالية(13).
وقد سبق أن قدم ديميتروف، في ثلاثينيات القرن العشرين، بداية الإجابة على سؤال، ما الذي يحفز كتلاً كبيرة من الناخبين على الانضمام إلى الفاشية؟ بالقول: "ما هو مصدر نفوذ الفاشية على الجماهير؟ إن الفاشية قادرة على اجتذاب الجماهير لأنها تخاطب بشكل ديماغوجي احتياجاتها ومطالبها الأكثر إلحاحاً. إن الفاشية لا تؤجج الأحكام المسبقة المتجذرة بعمق في الجماهير فحسب، بل إنها تلعب أيضاً على مشاعر الجماهير، وعلى شعورها بالعدالة، بل وأحياناً حتى على تقاليدها الثورية. إن الفاشية تهدف إلى استغلال الجماهير على نحو غير مقيد، ولكنها تقترب منها بأشد أساليب الديماغوجية المناهضة للرأسمالية، مستغلة الكراهية العميقة التي يكنها العمال للبرجوازية الناهبة، والبنوك، والترست، وأباطرة المال"(14).
حاليا يقدم لنا الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه "التعرّف على الفاشية"، الصادر حديثا، وصفا للفاشية، مؤكدا أن ظهور بعض سماتها لا بد أن يؤدي إلى عودة "فاشية جديدة" قد تكون أكثر قسوة من فاشية موسوليني. وإن تغيير الفاشية لشكلها لا يعني استحالة كشفها، فهي تشترك في جميع أشكالها، حتى تلك التي لم تظهر بعد، في 14 سمة يعتقد إيكو أنها تمثل جوهر كل نظام فاشي، وهي: "عبادة التقاليد، رفض الحداثة بالمطلق، اللاعقلانية، رفض النقد والفكر النقدي، الخوف من التنوّع، العمل على إحباط الطبقات الوسطى، تصوير الخصوم كأعداء يمكن هزيمتهم بقوة مفرطة، تكريس فكرة الحرب الدائمة وضرورة الاستعداد لها دائما، تكريس الفكر الشعبوي والعمل على تبرير احتقار كل طبقة للطبقة التي تخضع لها، ابتكار بطولات جماهيرية ولو وهمية، استعمال الخطاب الشعبوي السهل في مخاطبة الشعب، تقديس ما يسمى بالزعامة والرجولة، إعمال "الشعبوية النوعية" في مواجهة إنكار الحقوق الفردية"(15). كل ذلك من اجل أن تحتفظ الطبقة الحاكمة بالسلطة. وكما يقول تون فان دايك "الحق أن التاريخ يقول إن الأيديولوجيات غالبا ما تتشكل لإضفاء الشرعية على سيطرة طبقة حاكمة أو نخب أو منظمات"(16).
العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة
يرفض كثير من الكتّاب تطبيق مفهوم الفاشية لوصف التوجه الفكري لليمين المتطرف الحالي. يستند هذا الرفض إلى دوافع وحجج تختلف استنادا إلى رؤية كل كاتب والنظرية التي يستند إليها في التحليل. فمثلا، يرفض إميليو جنتيل التفريق بين المفهوم والظاهرة التاريخية. ويذكر أن مفهوم الفاشية هو تاريخ الفاشية بحد ذاته، الذي ليس له أسلاف في القرن التاسع عشر، ولن يتكرر في القرن الحادي والعشرين. ويرى أرماندو بواتو، إذا أردنا أن نقبل التماهي الكامل بين المفهوم والحقيقة التاريخية المذكور في هذا القول، فإن ذلك من شأنه أن يمنعنا من استخدام مفاهيم أخرى، مثل الديمقراطية والدكتاتورية في التمييز بين ديمقراطيات ودكتاتوريات مختلفة عرفناها عبر التاريخ. وسوف يصبح استخدام العلوم السياسية مستحيلا(17)، وهذا القول دقيق وينسجم مع واقع البحث في شتى صنوف المعرفة.
لا يبدو أن هناك إرثا واضحا منفصلا للفاشية الجديدة؛ إذ إن الإرث الرئيس، هو الإرث الأيديولوجي الذي ينتمي إلى الفاشية بدلا من الفاشية الجديدة. قد يبدو قبول اليمين المتطرف الأوروبي الجديد بالنظام الديمقراطي، لكن في الواقع، ربما لا يزال مثقفوه يؤمنون بمعتقدات راسخة تتمثّل في العودة الأسطورية إلى العصر الاستبدادي الذهبي. ومن ناحية أخرى، جرى تهميش النزعة العسكرية العنيفة والروح الحربية (18)، دون أن يعني ذلك التخلي عنها.
لقد بدا واضحا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن هناك علاقة بين فضائع الفاشية الكلاسيكية لسنوات ما بين الحربين العالميتين والحركات المعاصرة لليمين المتطرف الأوروبي؛ إذ في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، جرى تحديد أي مجموعات قومية متطرفة باعتبارها تمثّل الفاشية الجديدة أو النازية الجديد، لأسباب ليس أقلها أنها كانت تؤوي الكثير من أتباع الأنظمة الفاشية القدامى. ولكن حتى حاليا، فإن أخبار أعمال العنف أو النجاحات الانتخابية لليمين المتطرف في أوروبا تحيي شبح الفاشية في أذهان المراقبين في كل مكان. وبدون شك، ظلت العلاقة بين جميع حركات اليمين المتطرف وسنوات ما بين الحربين العالميتين أمرا واقعا لا مفر منه(19).
تحتل في عصر القطبية الأحادية، معاداة أمريكا مركز الصدارة، وكذلك معاداة العولمة والهجرة الوافدة. وبما أن التعاون عبر الحدود الوطنية آخذ بالازدياد، وخاصة بفضل شبكة الإنترنت، لذلك فإن الجيل الجديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة لم يعد كما يبدو مهتما بإحياء الفاشية الدولية(20)، ولكن لا يعني هذا عدم وجود علاقات وتنسيق وتعاون بين الأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصا في أوروبا، وهذا ما يلاحظ في برلمان الإتحاد الأوروبي، حيث تعززت كتلة الأحزاب المذكورة في الانتخابات التي جرت عام 2024.
1- ألمانيا
بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال في ألمانيا عدد مهم من النازيين السابقين. وكانت حكومة ألمانيا الغربية، تخشى من انتعاش التطرف، لذلك، حظرت الأحزاب المناهضة للدستور ومنعت أعضائها من العمل الحكومي. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك كثير من المجموعات النازية الصغيرة، لكن دون أن تتمتع بأهمية سياسية، إضافة إلى ذلك تقدم أعضائها في السن. لكن الانتعاش الحديث والأكثر خطورة لنشاطات النازيين الجدد حدث في أوائل التسعينيات ردا على الهجرة الوافدة(21)، خصوصا من بلدان أوروبا الشرقية.
وأحدث الأحزاب اليمينية المتطرفة هو حزب البديل من أجل ألمانيا الذي تأسس عام 2013، لكنه في هذه السنة لم يتمكن من الدخول للبرلمان. ومنذ انتخابات عام 2017، أصبح الحزب أكبر أحزاب المعارضة، وهو أول حزب يميني قومي متطرف يدخل البرلمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحقق الحزب نجاحات مهمة في الانتخابات الإقليمية عام 2024 في عدد من الولايات خصوصا في شرق البلاد وللحزب ارتباطات مع النازية الجديدة (22)، ويتبنى مواقف عنصرية معادية للمسلمين والمهاجرين عموما.
2- إيطاليا
كانت ومازالت إيطاليا النموذج الأول لدراسة الحركة الفاشية، حيث ظهرت هناك واستولت على السلطة منذ عشرينيات القرن الماضي بقيادة بينيتو موسوليني، وتحالفت مع النازية. وقد كانت الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحروب وما خلفته من تداعيات هي الحاضنة المناسبة لنمو الحركة الفاشية.
أصبحت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تقودها حكومة أكثر يمينية بقيادة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوة إيطاليا، الذي لديه علاقات تاريخية بالفاشية الجديدة، وذلك بعدما تمكن التحالف اليميني المُكون من حزبها بجانب حزب الرابطة وحزب فورزا إيطاليا من الفوز بأكثر من ثلث الأصوات بنسبة تقدر 44 في المئة في انتخابات عام 2022. بالنسبة إلى تاريخ حزب إخوة إيطاليا الذي تأسس عام 2012 على يد ميلوني، فإنه يعود إلى حزب الحركة الاجتماعية الإيطالية الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة جورجيو ألميراني، رئيس الأركان في حكومة موسوليني الأخيرة، وضم في عضويته أنصار الفاشية. واستمر الحزب خلال الثلاثة عقود التي أعقبت الحرب يُمارس العمل السياسي باعتباره حزبا يمينيا صغيرا (23).
وفي التسعينيات شهد الحزب تحولا جديدا على يد جيانفرانكو فيني، المتأثر بالفاشية الجديدة، وكان ينظر إلى موسوليني باعتباره أعظم رجل دولة في القرن العشرين، غير أن فيني حاول تقديم صورة أقل تطرفا؛ حيث أعاد تسمية الحزب باسم التحالف الوطني.
وفي ظل قيادته انضمت ميلوني للتحالف وتدرجت فيه. وعلى الرغم من أنها كانت من المعجبين بموسوليني، فإنا قامت بزيارة نصب "ياد فاشيم" التذكاري للهولوكوست في إسرائيل، إبان توليها وزارة الشباب في حكومة سيلفيو برلسكوني عام 2009(24). وهذا الموقف محاولة للتقرب من اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل على المستوى الأوروبي والعالمي.
3- روسيا
لفترة من الوقت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مباشرة، ظهرت بعض السمات التي حفزت سابقا نمو الفاشية وتطورها في إيطاليا. فقد تواصل ارتفاع معدل التضخم المفرط في روسيا ووصل إلى ما يقرب من 2000 في المئة سنويا. وتراجع الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي السابق نحو 40 في المئة عام 1994 (25).
كانت هذه الفترة التي حقق فيها فلاديمير جيرينوفسكي أكبر نجاحاته. متسلحا بأفكار الفاشية المألوفة، إذ نجح في جذب 22,8 في المئة من الأصوات في انتخابات عام 1993. وأشار أحد التقارير إلى أن 43 في المئة من العسكريين الروس في طاجاكستان صوتوا إلى حزب جيرينوفسكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي). وبعد ذلك، ولأسباب عدة، تراجع الدعم للأخير وحزبه(26). ويُعد جيرينوفسكي "أول شعبوي حديث" وأحد أعمدة نظام بوتين عن طريق استيعاب أصوات الناخبين الغاضبين والمخيبة آمالهم وأصحاب التوجهات اليمينية المتشددة(27) وبقي على الدوام عضوا في الدوما حتى وفاته عام 2022.
4- البرازيل
تُعد البرازيل نموذجا لدراسة الفاشية الجديدة، حيث أنها ظهرت في بلد غير أوروبي، ويُعد من البلدان النامية، ولهذا فإن هذه التجربة جديرة بالدراسة واستخلاص النتائج منها، لأنها قد تكون مفيدة لبقية البلدان النامية التي ربما تواجه مثل هذه النزعات. علما امتدت هذه التجربة أربع سنوات (2019-2022) وهي فترة حكم الرئيس جير بولسونارو وحركته.
ولدت حركة بولسونارو من تظاهرات الشوارع الكبيرة التي جرت عامي 2015 و2016 للمطالبة بعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي أول مرأة تتولى هذا المنصب للفترة 2011-2016. وتستند الحركة الفاشية كحركة رجعية على البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، بتعبير أدق الجزء العلوي من هذه الطبقة. وتضم هذه الحركة أيضا المالكين الصغار – الجزء المنظم جدا والمستقل من أصحاب الشاحنات والذي كان منذ بدايته ذو توجه يميني فاشي. وقد بحثت الأنثروبولوجية ايزابيلا خليل لمدة ثلاث سنوات توجهات المتظاهرين ذوي التوجه اليميني في البرازيل من خلال إجراء مقابلات معهم في التظاهرات، وقد أحصت أحد عشر عنصرا رئيسا حاضرا في خطاب بولسونارو ومؤيديه ضد كل من: الفساد، الشيوعية، اليسار، النسوية، السياسيين، الأحزاب، الإجهاض، المثلية الجنسية، الامتيازات والنظام(28). ويُلاحظ هناك مشتركات بين هذا الخطاب وخطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في بلدان أخرى خصوصا الأوروبية منها.
في الفاشية الأصلية، كانت البرجوازية المهيمنة هي البرجوازية الإمبريالية الكبرى، ويمكن أن تكون الفاشية عكس ذلك في بلد تابع، فهي تنظم هيمنة رأس المال الأجنبي الإمبريالي والجزء المرتبط به من البرجوازية المحلية الخاضعة لهذا الرأسمال. لذلك، فإن الليبرالية الجديدة والبرامج السياسية توسع انفتاح الاقتصاديات التابعة على رأس المال الإمبريالي، والفاشية، باعتبارها نوع خاص من الدكتاتورية، لا تتعارض مع الليبرالية الجديدة. لذلك فإن حكومة بولسونارو تنتمي إلى الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة(29) في الوقت نفسه. وبحسب أرماندو بواتو توجد في البرازيل ديمقراطية برجوازية تواجه أزمة وتدهورا.
اليمين المتطرف والهجرة الوافدة
أصبحت الهجرة الوافدة في عدد من بلدان أوروبا الغربية قضية سياسية، خصوصا في أوقات الصعوبات الاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف التي أصبحت شائعة على نحو متزايد في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، يمكن بسهولة التلاعب باستخدام التمييز العنصري من قبل الأحزاب ذات التوجهات الفاشية والنازية. وبحسب إيان آدمز يبدو أن الفاشية الجديدة ليست أكثر من كراهية عنصرية منظمة سياسيا. ومن المؤكد أن هذا هو الحال في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا(30).
وإذا تركنا جانبا مسألة التصنيف، من الممكن مناقشة أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية حاليا، مقارنة بفترة الحرب الباردة، اضطر إلى التأقلم مع الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي وضع جانبا أفكاره "الثورية". لكن لم يتم كبح العنف بالضرورة، حيث يمارس العنف من خلال الهجمات ضد المهاجرين من قبل المتعاطفين مع اليمين المتطرف. وتراجعت في أوروبا الغربية معاداة السامية إلى الخلف في حين برزت إلى الواجهة معاداة المسلمين، على عكس أوروبا الشرقية حيث ظلت الأولى بارزة فيها(31).
يذكر دايك "نفهم من هذا الطرح أن الأيديولوجيات العنصرية ليست نظاما مجردا سقط من السماء مصادفة على المجتمع الأوروبي، بل هو معتقدات ترسّخت تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في الذهن الاجتماعي لعدد كبير من الأوروبيين، وتتحكم إلى حد ما في معتقداتهم عن الآخرين ضمنيا. وقد تظهر هذه المواقف مثلا حقيقة أن أكثر من ثلثي سكان أوروبا الغربية اليوم يعارض وفود المزيد من المهاجرين"(32). على الرغم من الحاجة الماسة للعمالة المهاجرة في أوروبا، نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان، وهذا ما أعلنته مؤخرا عدة دول منها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى هنغاريا وغيرها.
1- ألمانيا
كانت ألمانيا الغربية سابقا تتوفر على سياسية ليبرالية للغاية تجاه الهجرة الوافدة، وكانت ترحب بالكثير من "العمال الضيوف"، خصوصا من تركيا. لكن ساهم ارتفاع البطالة في الثمانينيات في نمو الفاشية الجديدة التي تغذت على الخوف والاستياء من الهجرة. وقد بقي الأمر تحت السيطرة خلال هذا العقد؛ بسبب أن الاقتصاد الألماني كان قويا ومزدهرا، لذلك نظر معظم الألمان إلى المشكلات الاقتصادية باعتبارها مؤقتة.
وقد تغيرت هذه الوضعية بسبب عاملين مترابطين. يأتي في المقام الأول، تفكك الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والفوضى الاقتصادية التي أعقبت ذلك ما عزز من تدفق المهاجرين من هذه المنطقة باتجاه الغرب الغني. وتمثّل العامل الثاني في إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 الذي عقب انهيار المانيا الشرقية، إذ لم يكن هذا التوحيد نجاحا فوريا. وسببت إعادة هيكلة الاقتصاد بطالة ضخمة في المانيا الشرقية، وهددت ازدهار المانيا الغربية. وترافق هذا الوضع واحتمال الهجرة الوافدة مع الاضطراب الاقتصادي، كل ذلك كان أرضا خصبة لنمو الفاشية الجديدة. لذلك، كان هناك نمو سريع للمجموعات النازية الجديدة، وهجمات على المهاجرين، خصوصا في ألمانيا الشرقية. وقد تأسس الحزب الجمهوري الجديد باعتباره الحزب اليميني المتطرف الرائد في وقته بعد عام 1989. وكان برنامجه يتضمن ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (33).
2- فرنسا
على نحو مشابه، غذت الهجرة الوافدة والقلق من آفاق المستقبل النشاط الفاشي الجديد في فرنسا. على الرغم من أن كثير من الهجرة يرتبط بإرث الاستعمار الفرنسي. فهناك أعداد كبيرة من المهاجرين من بلدان شمال أفريقيا، إضافة إلى توقعات بأن كثير من المهاجرين الجدد يريدون الدخول إلى البلد نتيجة المشكلات الاقتصادية والحروب الأهلية في عدد من بلدان هذه المنطقة، لذلك كان هناك نمو في المشاعر المعادية للمهاجرين.
أسس جان ماري لوبان حزبا يمينيا متطرفا عام 1972، لكنه أصبح في الصدارة مع الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة في أوائل الثمانينيات، عندما فازت الجبهة الوطنية بمقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الأوروبي. وعندما وصلت البطالة إلى ثلاثة ملايين، زعم لوبان أن ترحيل ثلاثة ملايين مهاجر سيحل المشكلة "بضربة واحدة". وتحدث عن تنامي أسلمة أجزاء من فرنسا وعواقب تهديد الهوية والثقافة الفرنسيتين. يبدو من المرجح أن مسألة الهجرة ستكون ذات أهمية متنامية، وقد تكون مصدرا لتنامي الدعم لليمين المتطرف في المستقبل(34). وقد كادت الجبهة الوطنية أن تحتل الصدارة في انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت عام 2024 لولا مبادرة تحالف اليسار الذي أحتل المرتبة الأولى.
الترامبية
نشأ مصطلح الترامبية وبات يتداول على نطاق واسع خصوصا من قبل المحللين السياسيين والإعلاميين والكتّاب، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021)، وزاد الاهتمام أكثر بهذا المصطلح بعد فوز الأخير في انتخابات عام 2024. وتواجه دراسة الترامبية صعوبات منهجية، لأن صاحبها لا يتوفر على فكر سياسي - اقتصادي منسجم، ويتسم بالمزاجية وتقلب الآراء، ثم أن صعوده السياسي لم يأت بالتدرج عبر المؤسسات السياسية بل جاء من خارجها، ومن قطاع العقار والمال حصرا، ولا يمتلك خبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة.
الحقيقة أن فوز ترامب في انتخابات عام 2024، ودراسة النتائج المترتبة عليه سيستغرق بعض الوقت قبل التمكن من تكوين صورة كاملة له. إذ ليس كل شيء واضحاً كما قد يبدو من الوهلة الأولى. وكما قال كارل ماركس: "كل العلوم ستكون زائدة عن الحاجة إذا كان المظهر الخارجي وجوهر الأشياء متطابقين بشكل مباشر"(35).
وعن أسباب فوز ترامب يبدو أن الجانب الاقتصادي لعب دورا محوريا في ذلك. فقد شكلت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد وارتفاع تكاليف المعيشة والإسكان والتضخم محور اهتمام الناخبين. إذ تشير استطلاعات الرأي التي جرت للخارجين من التصويت إلى أن ثلثي الناخبين يرون أن الاقتصاد في حالة سيئة أو ليست جيدة، وأن 69 في المئة منهم صوتوا لترامب(36) إضافة إلى ذلك، فقد اجتمعت أكثر القطاعات رجعية وتطرفا في الطبقة الرأسمالية لدعم دكتاتور متمرس نجح في حشد حركة جماهيرية من القوى المتناقضة خلفه. إنها الصيغة الكلاسيكية للفاشية(37).
والأسوأ من ذلك، على عكس ما حدث عندما فاز عام 2016، لن يتصرف ترامب بشكل ارتجالي هذه المرة. فسوف يدخل البيت الأبيض بأجندة مدروسة بالكامل للمليارديرات ــ مشروع 2025 ــ تستهدف الطبقة العاملة والنقابات، والأشخاص الملونين، والمهاجرين، والنساء، والمثليين جنسيا، والرعاية الطبية للمعمرين، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية المساعدة، وتشريعات تغير المناخ، وغير ذلك. ومن المتوقع أن يفرض تخفيضات ضريبية كبرى لصالح الأغنياء وتخفيضات في الخدمات العامة لبقية الناس(38). وقد وقع بعض الأوامر التنفيذية التي تخص ذلك منذ اليوم الأول لاستلامه الرئاسة. وهذ جلي إذ أنه جاء ليخدم الشركات الكبرى التي أوصلته إلى الحكم بتبرعاتها الضخمة لحملته الانتخابية.
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية المتوقعة لترامب "على الرغم من المؤشرات المبنية على رؤية ترامب وترشيحاته للمناصب الرئيسة في إدارته، فإن مزاجيته، وتقلباته، وعدم امتلاكه منظومة أفكار منسجمة، كلّها عوامل ستجعل من الصعب التنبؤ بسياسته الخارجية"(39). وهذه تعد من الفترات الصعبة التي تتطلب تنسيق جهود قوى السلام والديمقراطية لإجبار ترامب على احترام حقوق الآخرين وقبول الحقائق الجيوسياسية.
باتت فترة حكم ترامب السابقة، محل دراسة وتحليل واستخلصت منها نتائج مهمة منها: إن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016، والدعم اللاحق الذي كان قادرا على المحافظة عليه أثناء وجوده في منصبه، حير العديد من المهتمين. فمثلا، يشير ويندي براون وبيتر جوردون وماكس بنسكي إلى أن صعود ترامب، إلى جانب صعود الحركات اليمينية الشعبوية المعاصرة، لا يتناسب مع التصنيفات المعترف بها في التحليل السياسي. ومن بين الألغاز الرئيسة التي تمثلها الترامبية لمثل هؤلاء المراقبين افتقارها إلى التماسك الأيديولوجي(40). وهذه الصفة تنطبق على الفاشية في إيطاليا في عهد موسوليني.
كذلك، "على الرغم من نجاة المؤسسات الديمقراطية الأميركية من رئاسة ترامب، إلا أنها ضعفت بشدة. وعلاوة على ذلك، تحول الحزب الجمهوري إلى قوة متطرفة معادية للديمقراطية تعرض النظام الدستوري الأميركي للخطر. إن الولايات المتحدة لا تتجه نحو الاستبداد على الطريقة الروسية أو الهنغارية، كما حذر بعض المحللين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميز بأزمات دستورية متكررة، وعنف سياسي متزايد، وربما فترات من الحكم الاستبدادي"(41).
على الرغم من أن ترامب حفز على هذا التحول نحو الاستبداد، إلا أن تطرف الحزب الجمهوري كان مدفوعا بضغط قوي من الأسفل؛ إذ أن الناخبين الأساسيين للحزب هم من البيض والمسيحيين، ويعيشون في الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية. ولا يقتصر الأمر على تراجع المسيحيين البيض كنسبة مئوية من الناخبين، بل إن التنوع المتزايد والتقدم نحو المساواة العرقية قد قوضا أيضا وضعهم الاجتماعي النسبي. ويعتقد كثير من الناخبين الجمهوريين أن بلد طفولتهم يؤخذ منهم. فقد وجد مسح أجري عام 2021 برعاية معهد أمريكان إنتربرايز أن 56 في المئة من الجمهوريين وافقوا على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة لدرجة أننا قد نضطر إلى استخدام القوة لوقفها"(42). وهذا ما دفع بعض المهتمين للقول بإمكانية حدوث حرب أهلية.
هذه المواقف تعكس اشتداد الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، ويتطلب حسم هذا الصراع لصالح الطبقات والفئات المتضررة ولو تدريجيا، معارك ونضالات سياسية وفكرية وثقافية لوقف هجوم اليمين المتطرف واستعادة المبادرة للقوى اليسارية والديمقراطية المناهضة لهذا التوجه، لأن خطورة صعود اليمين المتطرف لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل سينعكس ذلك في تعزيز مواقع هذا الجناح في أوروبا وبقية العالم.
الهوامش
(1) Bosworth R. J. B. The Oxford Handbook of Fascism, Oxford University Press, 2009, p. 586.
(2) Ibid., p. 593.
(3) Ian Adams, Political ideology today, Manchester, Manchester University Press, 1993, pp. 249-250.
(4)للمزيد راجع: هاشم نعمة، "في سمات الشعبوية"، الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول 2024، ص 46-57.
(5) Bosworth, p. 601.
(6) Ibid., p. 587.
(7) Paul Schumaker (ed.), The Political Theory Reader, Oxford, Wiley Blackwell, 2010, p. 58.
(8) Ibid., pp. 59-60.
(9) رشيد غويلب (ترجمة وإعداد)، قوى اليسار الأوروبي: الأزمة المالية والسياسات البديلة، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 232.
(10) عصر ذهبي تقليدي جديد - اليمين المتطرف والرأسمالية المتخلفة / ناتاشا شتروبل، ترجمة رشيد غويلب، 12 تشرين الثاني 2022.
(11) Armando Boito, Reform and Political Crisis in Brazil, Leiden/ Boston: Brill, 2018, p. 190.
(12) كيفن باسمور، الفاشية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة رحاب صلاح الدين، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014، ص 23.
(13) المصدر نفسه، ص 23-24.
(14) سي. جيه. أتكينز، "صباح اليوم التالي: تحليل ماركسي لفوز ترامب"، موقع صحيفة "عالم الشعب" (الحزب الشيوعي الأمريكي)، 6 نوفمبر 2024.
(15) الفاشية اللافكرية الجديدة كما فضحها أمبرتو إيكو /ثقافة / الجزيرة نت.
(16) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 50.
(17) Boito, p. 188.
(18) Bosworth, pp.603-604.
(19) Roger Griffin, (ed.) International Fascism, London: Arnold:1998, p. 305.
(20) Bosworth, pp.603-604.
(21) Griffin, p. 305.
(22) البديل من أجل ألمانيا - ويكيبيديا، 3 كانون الأول 2024.
(23) آية عبد العزيز، "تهديد محتمل! صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في السويد وإيطاليا"، اتجاهات الأحداث، العدد 34، نوفمبر- ديسمبر 2022، ص 53.
(24) المصدر نفسه، ص 53.
(25) James A. Gregor, Phoenix: Fascism in our Time: USA/ UK, Transaction publishers, 2002, pp. 150-151.
(26) Ibid., pp. 150-151.
(27) رحيل السياسي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي عن 75 عاماً، العربي الجديد، 6 أبريل 2022.
(28) Boito, p. 191.
(29) Ibid., pp. 189-190.
(30) Adams, pp. 249-250.
(31) Bosworth, p. 603.
(32) دايك، ص 56.
(33) Adams, pp. 250-251.
(34) Ibid., p. 251.
(35) أتكينز.
(36) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أسباب فوز ترامب والتداعيات المحتملة، الدوحة: 11 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 1.
(37) أتكينز.
(38) المصدر نفسه.
(39) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السياسة الخارجية لرئاسة ترامب الثانية: الرؤية والتوقعات، الدوحة: 18 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 5.
(40) Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism, Leiden, Brill, 2021, p. 366.
(41) Foreign Affairs, 20 January 2022.
(42) Ibid.
#هاشم_نعمة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟