حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8282 - 2025 / 3 / 15 - 14:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يُعدّ مفهوم الجواهر الفردة (أو الجوهر الفرد) أحد الأسس الجوهرية في الفكر الكلامي الإسلامي، خصوصًا في المدرسة الأشعرية، وهو يرتبط بمحاولة تفسير بنية العالم الطبيعي والفصل بينه وبين المفاهيم الفلسفية التي سادت في الفكر اليوناني، مثل نظرية الهيولى والصورة عند أرسطو.
تعريف الجواهر الفردة
الجواهر الفردة هي أصغر وحدات تكوينية للوجود، وهي جواهر غير قابلة للتجزئة، تتكون منها جميع الأجسام والكيانات المادية. بمعنى آخر، يرى المتكلمون أن العالم ليس مستمرًا أو متصلًا بلا نهاية، وإنما يتكون من وحدات دقيقة متناهية الصغر لا يمكن تقسيمها، وهذه الوحدات تُخلق وتفنى باستمرار بإرادة الله.
التفسير الأشعري للجواهر الفردة
ذهب الأشاعرة، وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري، إلى أن الكون مركب من هذه الجواهر الفردة التي تفتقر إلى الاستقلال الذاتي، أي أنها لا تمتلك خصائص ذاتية تجعلها موجودة بشكل مستقل، بل تحتاج في كل لحظة إلى أن يخلقها الله ويمنحها صفاتها. ومن هنا، جاء ارتباط هذا المفهوم بنظرية العادة الإلهية، حيث أن ما يُسمى بالعلية أو السببية في الطبيعة ليس قانونًا ذاتيًا في الأشياء، وإنما هو عادة أودعها الله في الكون.
مقارنة مع الفلاسفة
يختلف تصور الجواهر الفردة عن مفهوم الذرات عند الفلاسفة الطبيعيين، مثل ديمقريطس أو حتى الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا والفارابي، الذين اعتقدوا بوجود بنية مادية أكثر تعقيدًا للعالم تعتمد على عناصر أو أشكال من المادة تتحول وفق قوانين طبيعية. أما المتكلمون، فقد رفضوا فكرة الاستقلال الذاتي للذرات، مؤكدين على أن كل لحظة في وجودها تعتمد على إرادة الله المباشرة.
أثر المذهب الذري الكلامي
لقد كان لهذا المفهوم تداعيات هامة على الفكر الإسلامي، أبرزها:
1. رفض الحتمية السببية: حيث أن كل حادث في الكون يقع بإرادة الله الفورية، وليس نتيجة لقانون طبيعي ثابت.
2. إثبات الحدوث الزماني للعالم: إذ إن وجود العالم قائم على لحظات متجددة من الخلق والفناء، مما يدحض فكرة أزلية العالم كما زعم بعض الفلاسفة.
3. ترسيخ عقيدة التوحيد والتنزيه: حيث إن رفض أي قوانين طبيعية ذاتية يساعد في التأكيد على أن الله هو الفاعل الحقيقي لكل شيء في الكون.
نقد المفهوم
واجه مفهوم الجواهر الفردة نقدًا شديدًا من الفلاسفة المسلمين مثل ابن رشد، الذي رأى أنه يؤدي إلى تصور غير عقلاني للطبيعة، حيث يجعل العالم محكومًا بتدخل مباشر ومستمر من الله دون أي انتظام طبيعي ذاتي. كما أن التصور الذري للكلاميين لم يكن مدعومًا بأدلة تجريبية، مما جعله أقل قبولًا في الفلسفات اللاحقة.
مفهوم الجواهر الفردة يعكس محاولة المتكلمين تقديم تفسير للعالم يتماشى مع العقيدة الإسلامية، حيث يكون الله هو الخالق والمتحكم المطلق في كل شيء. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم لم يعد يُستخدم اليوم في الفيزياء أو الفلسفة الطبيعية، إلا أنه يظل جزءًا مهمًا من تاريخ الفكر الكلامي الإسلامي، حيث يكشف عن الجهود الفكرية العميقة التي بُذلت لفهم بنية الوجود في سياق العقيدة الدينية.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟