جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8274 - 2025 / 3 / 7 - 02:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تساءلت في مقالتي الأخيرة ماذا لو جرت الانتخابات الاسرائيلية اليوم؛ وافترضت أن مشاركة المواطنين الفلسطينيين فيها باتت مهدّدة لسببين رئيسين، الاول سياسة الحكومة العنصرية التي قد تعرقل هذه المشاركة، والثاني، اتساع حجم نزعة مقاطعة هذه الانتخابات على خلفية الأحداث الاخيرة والتغييرات الحاصلة داخل إسرائيل وفي المنطقة. ما زالت صورة الاصطفافات السياسية غير واضحة، الا أننا شهدنا مؤخرا تحركين لافتين يحملان مؤشرات حول احتمالاتها المستقبلية؛ حيث قامت بالتحرك الاول "القائمة العربية الموحدة" حين بادر رئيسها منصور عباس بتسليم بنيامين نتنياهو وثيقة أسماها مبادرة "جسور التصالح والسلام". أما التحرك الثاني فقد قرأنا عنه في بيان مشترك أصدرته قيادتا "حزب التجمع الوطني الديمقراطي" "والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" بعد اجتماع مشترك تناولتا خلاله "سبل تعزيز الشراكة بين الاطارين في ظل التحدّيات الخطرة التي تفرضها الحرب على الشعب الفلسطيني واسقاطاتها على المواطنين العرب في البلاد". يعيش المواطنون في اسرائيل تحت ضغوط حالتين عامتين منفصلتين ومتصلتين في آن واحد : استمرار حالة الحرب واعتداءات جيش الاحتلال العسكرية في غزة ولبنان وسوريا والضفة المحتلة من جهة، ومن جهة ثانية التداعيات السياسية الاجتماعية الحاصلة داخل المجتمع اليهودي. يحاول نتنياهو عرقلة امكانيات التوصل الى حالات وقف النار على الحدود الاسرائيلية، ويستمر في تأجيج الصراعات وتصعيد وتائرها، مستغلا حالات عدم الاستقرار هذه كذرائع لإسكات معارضيه السياسيين، "وكمولّدات" لمشاعر الخوف داخل المجتمع الاسرائيلي، وكذخيرة تُبعد عنه مخاطر نهايات الإجراءات الجنائية القضائية الجارية ضده في المحاكم الاسرائيلية.
لقد تمتعت حكومة نتنياهو، بعد عملية السابع من أكتوبر 2023 ، بدعم شبه مطلق من قبل جميع طبقات وشرائح المجتمع الاسرائيلي؛ وباشرت، ووراءها شعب كامل، في حربها الوحشية على غزة، غير مقيدة بأية كوابح اخلاقية أو قانونية. وبينما كان الإسرائيليون يواجهون انهيار مسلماتهم وقناعاتهم حول قوتهم العسكرية الخارقة وتفوّق قدراتهم الاستخباراتية على كل مستحيل ومعجزة ويسعون للانتقام لهيبتهم، استمرت حكومة نتنياهو ووكلاؤها بتنفيذ مخططهم في الانقلاب على الحكم وانجاز ما أسموه، بخبث وبمكر كبيرين، مشروع "الاصلاح القضائي" والسيطرة على جميع الأجهزة الأمنية والادارية التنفيذية في الوزارات وهيئات الحكم، تساندهم في ذلك الأكثرية المطلقة من أعضاء البرلمان الاسرائيلي، الكنيست. وعلى الرغم مما أنجزه نتنياهو وشركاؤه نجد ان هنالك تراجعا في الاجماع الذي حصل عليه في بدايات حربه على غزة، وأن بعض العقبات الجدية ما زالت تقف في وجهه ووجه حكومته. أول هذه العقبات وأهمها هي المستشارة القضائية للحكومة التي ترفض الانصياع الأعمى لجميع قرارات ومشاريع الحكومة وتعلن من حين لآخر معارضتها لها حتى لو أدى ذلك، كما جرى مرارا، الى مواجهات حقيقية وصاخبة. أما العقبة الثانية تتمثل في رئيس جهاز المخابرات العامة ، الشاباك ،حيث شهدنا في الايام الاخيره تصعيدا لافتا في المعركة بين الإثنين وتبادلا للاتهامات حيال قضية من يتحمل المسؤولية الاساسية على وقوع "الكارثة" في اكتوبر.
تخدم هذه الصراعات، في نهاية المطاف، سياسة نتنياهو ومخططه؛ فنشر الفوضى في الدولة وخلخلة أواصر الحكم القديم والتشكيك بضرورة المحافظة عليه وزعزعة ثقة المواطنين بمن يقف في وجهه، مثل قضاة المحكمة العليا والمستشارة القضائية للحكومة ورئيس جهاز المخابرات، يخدم هذا المخطط. ولقد قرأنا أن وزير القضاء يريف ليفين طالب قبل يومين سكرتير الحكومة بعقد جلسه طارئة وعرض قضية اقالة المستشارة القضائية للتصويت الفوري عليها داخل الحكومة؛ وكذلك قرأنا عن مطالبة نتنياهو ووزرائه أن يقيلوا رئيس الشاباك، وبعضهم طالب بتقديمه الى القضاء. وقد سبق ذلك معركة شنها نتنياهو وحلفاؤه على مكانة المحكمة العليا وضد رئيسها الحالي القاضي يتسحاك عميت. لم تنته هذه المعركة بعد؛ فرئيس الحكومة ورئيس الكنيست ووزير القضاء الاسرائيلي لم يعترفوا بشرعية انتخاب رئيس المحكمة وقاطعوا جلسة تنصيبه وما زالوا يقاطعونه.
اسرائيل ماضية الى مجهول مقلق ومخيف؛ فكل ما عايشناه فيها خلال العقود الماضية، رغم قساوته وعجفه، سيختفي، وسيحلّ مكانه الأسوا والأوحش؛ ويكفينا أن نقرأ نتائج استطلاعات الرأي بين المواطنين اليهود ومواقف اكثريّتهم ضد استمرار وجود الفلسطينيين على أراضيهم، أو بقائنا كمواطنين في اسرائيل. فالأكثرية الكبرى بين المواطنين اليهود لا تثق بنا وتدعم تهجيرنا من الدولة والتخلص منا. قد يقول البعض ان لا جديد تحت شمس العنصرية الصهيونية الحارقة وعقيدتها الاستعمارية التاريخية. لا اكتب كي اناقش هؤلاء ولا كي اقنعهم، فأنا أعيش على تخوم الاحتلال وفي قلبه عقودا من الزمن، وأعي ما تغيّر وكيف حصل ويحصل ما حصل، واستحضر مشاهد الدم والنزوح في غزة لغزة والضفة المحتلة واعرف أن لا مكان للمقامرة ولا للمهادنة ولا للمزايدة ولا للجهل؛ فالعميان والجهال والقابضون على السراب هم من لا يرون الفوارق بين ما كان وما هو آت. نحن أبناء قوم واجهنا مكر الصهيونية، وجهل عربنا وغدر بعضهم، بصبر وباصرار وبحكمة وبتقية، فنجونا بعد أن جفت حلوق جدودنا وتعبت المدامع. لم نكن ايتاما على موائد اللئام ولن نكون، لكننا تعلمنا ان نفرّق بين وحش كاسر يهاجم بيتك ليقتلك أو ليقتلعك، وبين طير جارح يحلق فوقه. كانت اسرائيل "تحترمنا وتشكك فينا" فأوكلت مهمة ترويضنا لجهاز مخابراتها في حين كان يُعدّ واحدة من بقراتها المقدسة. واليوم اسرائيل لا تحترمنا وتعتبرنا أعداء لها ولا تثق بجهاز مخابراتها ولا بأن يوكل شأننا. حكام إسرائيل الحاليون يعدّون لنا اجهزة قمع جديدة لا تعرف المحرمات ولا احترام حقوق المواطنة، بحدها الادنى، اجهزة تمتلك "اليقين" كما امتلكته جميع فرق الموت. هذه الفرق موجودة وعتادها جاهز ونفوس عناصرها سكرى وشهيّاتهم مفتوحة كشهية القروش الجائعة. اقول هذا بينما أطلع القراء على معطيات احصائية اعدها ونشرها "معهد سياسات الشعب اليهودي jppi" قبل بضعة أيام، جاء فيها أن 85% من بين المواطنين اليهود الذين يعرفون انفسهم باليمينيين (مصوتي حزب الليكود واحزاب الصهيونية الدينية على تفرعاتها) لا يثقون بجهاز المخابرات الاسرائيلي، ولا برئيسه فهم يرونه يساريا منحازا ضد اليمينيين ! دهشت عند قراءة معطيات هذه الدراسة، فهي تعزز ما نعرفه عن إسرائيل الجديدة وعن شعبها الذي يرفض أن يتعايش معنا ولا يؤمن بامكانية ترويضنا، ويفكر بخلق الفرص للتخلص منا او من كثيرن منا. انها إسرائيل الجديدة التي تسرح في سماء الشرق وتقصف وتمرح في عصر امبراطور اهوج اسمه دونالد ترامب الذي ترقص على ايقاعه قمم السراب العربية بينما منطقتنا تغلي كالمرجل: نارها تأكل أهلها ونارها؛ ونحن، المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، نقف على حافة نارها ونعدّ الأيام بقلق وبخوف ولا نعرف كيف ومتى سينتهي عصر الفوضى الحالي ولا كيف ستنتهي معارك اليهود ضد اليهود وأي ثمن سندفع؛ فقد تنتهي المعارك والنظام في الدولة حطام، وسوائب الفاشيين يحومون على عتبات أبوابنا وينبشون فراشنا. وقد تنتهي والدولة فيها بعض عُقّال يؤمنون بصناديق الاقتراع حكما ودروبا للنجاة. لا وقت لدينا سواء ان وقع الخراب او ان استحكم العقل وانتصر محبو الحياة. نراوح في مطارحنا ووراءنا السيل جارف، وهو ككل سيل غشيم وأعمى، ولا يوارب. لن يكفينا بيان ودعوة للتصالح ولا اجتماع قد يصبح يتيما بين أخوة كانوا أعداء وأفاقوا وهم يفتشون عن سبل تعيدهم أشقاء وحلفاء في وجه عدو عاتٍ.
كنا نقول ذات يوم أننا كمواطنين عرب لن نستطيع وحدنا النجاة؛ بيد أن اليهود المعارضين للفاشية لن يستطيعوا وحدهم الانتصار ودحر الفاشية والفاشيين؛ واليوم أقول: نحن المواطنين العرب لن نستطيع وحدنا النجاة، لكن الفاشيين وحدهم قادرون على الانتصار، إلا اذا نجحنا، وهذا دورنا وواجبنا، ببناء جسور المواجهة بيننا بداية، ثم مع جميع القوى اليهودية، على ندرة وجودها، المؤمنة بقدسية الحياة ..
#جواد_بولس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟