طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8269 - 2025 / 3 / 2 - 03:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ان فكرة الحقيقة باعتبارها تماسكاً، وعدم التحديد الجوهري للأشخاص كموضوعات للمعرفة، والطوعية (احتفاظ الانسان بارادته الحرة, على الأفل جزئيا, في تحديد قراراته وسلوكياته)، مترابطة منطقياً على النحو التالي: إذا كانت أفعال الشخص مدفوعة ببواعث ليست أسباباً ولا مسببات، وإذا اختار الشخص دوافعه بحرية، فإن أفعاله تصبح محصنة ضد تأثير ماضيه وغير قابلة للتنبؤ. والطوعية هي مصدر لعدم التحديد الجوهري للعقل البشري الذي يسمح له بالانزلاق دائماً بعيداً عن أي وصف يسعى إلى التوافق مع طبيعة ثابتة ومحددة. وقد تم توضيح الارتباط بين الطوعية وعدم التحديد للحياة النفسية بشكل جيد على النحو التالي:
"لقد قيل كثيراً أن ماضي المرء يحدد حاضره ومستقبله. ولنؤكد هنا أن حاضر الإنسان ومستقبله ـ كيف يلتزم بالوجود في هذه اللحظة ـ يحددان ماضيه أيضاً"
(ماي، 1958، ص 88).
MAY, R. (1958). Contributions of existential psychotherapy. In Existence: A New Dimension in Psychiatry and Psychology, ed. R. May. New York
Simon & Schuster, 1967, pp. 37-91
https://www.scirp.org/reference/referencespapers?referenceid=2985851
(الطوعية في علم النفس الرأي القائل بأن السلوكيات البشرية هي، على الأقل جزئيًا، نتيجة لممارسة الإرادة - أيضًا الإرادة الحرة.
الموقف العام القائل بأن الإرادة والاختيار من العوامل المهمة في جميع الأنشطة البشرية. على سبيل المثال، في علم الأخلاق، تؤكد الطوعية على أن الالتزام بأي مبدأ أخلاقي هو، إلى حد كبير، "إرادة للاعتقاد"، والتي يتمتع الشخص ببعض السيطرة عليها. في نظرية المعرفة، يُقال إن نفس الشيء ينطبق على المعرفة. في مجال الدراسات التاريخية، تعتقد الطوعية أن ممارسة الإرادة كانت عاملاً رئيسيًا في مسار الأحداث البشرية. لذلك فهي تعارض مثل هذه المناهج مثل الماركسية، التي تؤكد على دور القوى الاقتصادية غير الشخصية.
وان كان معالجة العلاقة بين الماركسية والارادة البشربة ليس هدف هذه السلسلة من المقالات, الا انه قد يكون من المفيد اقباس High Culture Fever بهذا الصدد. وهذه الموضوعة, العلاقة بين الارادة البشرية والحتمية الاقتصادية لدى (بعض تفسيرات) ماركس مماثلة الى حد كببر للعلاقة بين الارادة البشرية والحتمية الجنسية لغريزتي الحياة والموت لدى فروبد. بخصوص ماركس نقرأ التالي
Marxist Humanism And The Question Of Voluntarism
The official refutation of the thesis of socialist alienation could not but foreclose its twin thesis of humanism. Presented as a single ideological package, alienation and humanism go hand in hand. Inasmuch as the overcoming of alienation entails the return of humanity, the young Marx reemerged for the Chinese alienation theorists as a humanist at large. The battle between the alienation school and its opponents is too predictable to be worthy of thorough treatment here. The Party s stance was clear: the young Marx treated humans as an abstract and universal category—an idealist standpoint under the heavy influence of Kantian-Hegelian-humanist anthropology—whereas the mature Marx understood ren in the correct terms of social relations. The Party also insisted upon the total absence of any historical continuity between the two Marxes. As a result, the myth of two Marxisms, namely, Humanist Marxism and Materialist Marxism, is simply a theoretical fallacy to be dismissed. To combat such an uncompromising perspective, the alienation school sought ideological --backup-- from Soviet, Polish, and Yugoslav philosophers who argued in the same impassioned tone that the two Marxisms by no means form an antagonistic relationship. Citing Lenin, Adam Schaff, and other socialist comrades, Chinese theorists proclaimed that there is no epistemological break between the young and mature Marx, that the biological nature of human beings is fundamentally immutable and their social attributes are historically determined, that Marxism and humanism are complementary to each other, and that even some Soviet philosophers propounded the existence of an abstract human nature that "never disappears regardless of any circumstances, and which jيust underwent transformation in different historical ages. " )
"إنسانية الماركسية ومسألة الطوعية
إن الدحض الرسمي لأطروحة الاغتراب الاشتراكي لم يكن ليمنعها من أن تتخلى عن أطروحتها التوأم المتمثلة في الإنسانية. فإذا ما قُدِّمَت هذهي الأطروحة والإنسانية كحزمة أيديولوجية واحدة، فإن الاغتراب والإنسانية يسيران جنباً إلى جنب. وبما أن التغلب على الاغتراب يستلزم عودة الإنسانية، فقد عاد ماركس الشاب إلى الظهور في نظر منظري الاغتراب الصينيين باعتباره إنسانياً على نطاق واسع. إن المعركة بين مدرسة الاغتراب وخصومها متوقعة للغاية بحيث لا تستحق المعالجة الشاملة هنا. وكان يموقف الحزب واضحاً: فقد تعامل ماركس الشاب مع البشر (رين- للتعريف به انظر ادناه رجاء ) باعتبارهم فئة مجردة وعالمية ـ وهي وجهة نظر مثالية خاضعة لتأثير كبير من الأنثروبولوجيا الكانطية ـ الهيجلية ـ في حين كان ماركس الناضج يفهم (حسب رين ) في المصطلحات الصحيحة للعلاقات الاجتماعية. كما أصر الحزب على الغياب التام لأي استمرارية تاريخية بين ماركسية ماركس الشاب والشيخ. ونتيجة لهذا فإن أسطورة الماركسية المزدوجة، أي الماركسية الإنسانية والماركسية المادية، ليست أكثر من مغالطة نظرية لا يمكن تجاهلها. ولمكافحة مثل هذا المنظور المتشدد، سعت مدرسة الاغتراب إلى الحصول على دعم أيديولوجي من الفلاسفة السوفييت والبولنديين واليوغوسلاف الذين زعموا بنفس النبرة العاطفية أن الماركسيتين لا تشكلان بأي حال من الأحوال علاقة عدائية. واستشهد المنظرون الصينيون بلينين وآدم شاف وغيرهما من الرفاق الاشتراكيين، وأعلنوا أنه لا يوجد انقطاع معرفي بين ماركس الشاب وماركس الشيخ-الناضج، وأن الطبيعة البيولوجية للبشر ثابتة في الأساس وأن صفاتهم الاجتماعية محددة تاريخياً، وأن الماركسية والإنسانية متكاملتان، وأن بعض الفلاسفة السوفييت أنفسهم زعموا وجود طبيعة بشرية مجردة "لا تختفي أبداً بغض النظر عن أي ظروف، وأنها "خضعت للتحول في عصور تاريخية مختلفة".
Marxist Humanism And The Question Of Voluntarism
https://publishing.cdlib.org/ucpressebooks/view?docId=ft0489n683&chunk.id=d0e510&toc.id=d0e177&brand=ucpress
اما "رين" فهو يكاد ان لا يكون معروف في منطقتنا وحتى بين المتخصصين في الفلسفة ودارسي الماركسية, بالرغم من كونه فيلسوفا كبيرا (كان بروفسور فلسفة في جامعة بكين) وله اسهامات متميزة في الفلسفة الماركسية. فقد شهد عالم الفلسفة الصينية عاصفة أيديولوجية استمرت لأربعة عقود تقريبًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان رين جي يو (1916-2009) شخصية رائدة في تلك العاصفة. كان التفسير الماركسي للفكر الصيني التقليدي من حيث خمس مراحل تاريخية محددة علميًا، وبنية تحتية اقتصادية مع بنيتها الفوقية الإيديولوجية، وصراع مستمر بين المادية والمثالية، أشبه بعاصفة تأتي وتذهب في الأوساط الأكاديمية الصينية. وقد هيمن هذا الإطار التفسيري لدراسة الفلسفة الصينية على المجال بين الخمسينيات والثمانينيات، عندما تم تهميشه بسرعة. والآن بعد أن هدأت الرياح وأصبحت القيود الماركسية أكثر تراخيًا، أصبح لدى علماء الفكر الصيني والمؤرخين المهتمين بالقرن العشرين ما يتأملونه. لقد قدم رين اسهامات ثاقبة في فهم طبيعة المثقفين الماركسيين وتأثيرهم وتقييم ادوارهم. كيف تم التعبير عن الاختلافات في الرأي ومعالجتها ضمن حدود ما كان مقبولًا أيديولوجيًا؟ وكيف نشأت وتطورت وتغيرت الآراء خلال هذه الفترة؟
Ren Jiyu, a life for the cause and a heart for the motherland
https://www.cctv.com/english/special/excl/20090714/106006.shtml
بطبيعة الحال ان الإرادة الحرة موضوع مهم لكل من الفلسفة وعلم النفس، وهي واحدة من أكثر القضايا الميتافيزيقية تعقيدًا عبر العصور (Kane).
The Oxford Handbook of Free Will
by Robert Kane (Ed.)
https://www.amazon.com/Oxford-Handbook-Free-Will-Handbooks/dp/0195399692
يميل الناس إلى المطالبة بالحرية أثناء العيش في المجتمع، ولكن هل يمكن للمرء أن يكون حرًا على الإطلاق؟ إن افتراض أن الناس يمكنهم التصرف بحرية يشكل أساسًا لنطاق واسع من الممارسات الاجتماعية، بما في ذلك نظام العدالة والسياسة والاقتصاد والأخلاق والدين والعلاقات الشخصية العادية. إذا ثبت أن الإرادة الحرة غير موجودة، فقد يقلب هذا العالم كما نعرفه، مما يستلزم أحد أكبر الإصلاحات الاجتماعية في التاريخ. الإرادة الحرة والمسؤولية لها أيضًا صلة مباشرة بالعلاج النفسي. يمكن وصف أي اضطراب عقلي بأنه فقدان معين للحرية، في حين يمكن اعتبار العلاج او التحلبل النفسي أداة يمكن للناس من خلالها أن يصبحوا أكثر حرية في وكالتهم وحياتهم. علاوة على ذلك، فإن العديد من القضايا التي تتم مناقشتها أثناء العلاج النفسي لها طبيعة أخلاقية. يمكن أن تكون هذه معضلات أخلاقية، وصراعات مع الآخرين. يحاول البعض فهم ما هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به أو كيفية التعامل مع الرغبات غير الجذابة. ويسعى آخرون إلى المساعدة في التعامل مع مشاعرهم الأخلاقية الشديدة، مثل الشعور بالذنب أو العار أو السخط. ويصبح موضوع المسؤولية الأخلاقية مهمًا بشكل خاص لأولئك الذين يخضعون لإعادة التأهيل في السجن ويتأملون في أفعالهم الخاطئة. ساعود اى معالجة موضوعة الارادة الحرة في التحليل النفسي بتفصيل اوسع لاحقا. لكن يمكن القول هنا ان موضوعة الحتمية الاقتصادية, اذا فهمت بحدها الأقصى الذي ينفي الارادة البشرية, تضع الماركسية والعلاح او التحليل النفسيي على طرفي نقيض. فاذا كان البشر محكومين بالقوانين الحديدبة للعوامل الاقتصادية, التي هي, بعرف فردريك انجلز , كما ذكرت سابقا, مماثلة لقوانين الاصطفاء البشري لدى داروين , فهذا يعني لا محالة ان الماركسية لا تؤمن بقدرة الشخص على التسامي على موقعه الاقتصادي من اجل العمل على تغيير نفسه او مجتمعه (وضع ماركس وانجلز الاقتصادي يكفي لتكذيب الحتمية الاقتصادية فكلاهما لم يكونا من البروليتاريا), وبالتالي تنتفي الحاجة الى العلاج النفسي, كنظربات او تطببق, او الى علم الثورة لأن الثورة (ونقيضها) لا تحتاج الى علم لدراستها لكونها حتمية تاريخية واحدى تفرعات قوانين علم الاقتصاد. وبهذا المعنى ستكون الماركسية نظرية لاأخلاقية لأن الشخص قد يبرر موبقاته وجرائمه بحجة وضعه الاقتصادي في لحظة ارتكابه الجريمة او اثناء نشأته. اي ان الحتمية التاريخية, بمفهوما المبتذل-السوفبتي بعد لينبن, تنفي الارادة الحرة والمسؤولية الشخصية. وللاسف, هكذا فهم ساهم في تردي اخلاقية العمل في مجتمع مثل المجتمع السوفيتي, فاصبح العمل صنوا لبطالة مقنعة مع تفاقم الادمان على الكحول والتغيب عن العمل. كما ان هذا الفهم ساهم في تجريد الشخص من خياراته الحرة ومسؤولبته في صنع القرار وترحيلها الى الحزب او مسؤولبه-ما في العرف الديني, وبالتالي اصبح الفرد ممثلا لارادة الحزب التي هي صنو للارادة التاريخية القاضية بانتصار الطبقة العاملة. ماركسية الحتمية التاريخية ساهمت مساهمة كبيرة في تفشي الكسل الفكري وانعدام الاجتهاد وفي تفاقم الفساد الاخلاقي بمعنى لماذا عليّ ان اجتهد واكدح في عملي اذا كان تحقق المجتمع الشيوعي حتمية تاربخية وتحصيل حاصل؟ وهذا الفساد الاخلاقي الذي انتشر انتشار الطاعون في القرون الوسطى قد احال شيوعيي الاتحاد السوفيتي, وكانوا بالملايين, الى روباتات مسلوبة الارادة والقدرة على التفكير وهدفها الاول والاخير تنفيذ مهمات او قرارات الحزب او قيادته بدون مناقشة او تفكير . فلم نشهد اي احتجاج ذا مغزى من قبل الملايين من اعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي عندما قرر رأس الهرم, زعيم الحزب, غورباتشوف, حل الاتحاد السوفيتي. هذه العقلية للأسف لا تزال معشعشة لدى قيادات وكوادر احزاب شيوعية في منطقتنا مما ادى الى شللها عن الفعل وتضاؤل هائل لدورها على الصعيد السياسي والاجتماعي. فهم لا يجرؤون على التغكير ويخشونه اكثر من خشيتهم للموت-وعدم التفكير, بعرف التحليل النفسي, كما شرحت من قبل, هو من مشتقات غريزة الموت, واذا اتفقنا ان الماركسية هي فلسفة حداثة وان الفيلسوف ديكارت هو رائد الحداثة, فان قول ديكارت "اني افكر اني اذن موجود" يعني ان شيوعية هؤلاء هي نقيض الحداثة والماركسية على حد سواء. ولا يغير في الامر قيد شعرة صراخهم وهرجهم وزعيقهم بالكلام عن التحضر والدولة المدنية. انه ضجيج بعرف نظرية المعلومات لشانون. انه محاولة لملأ الفراغ باعتبار ان الطبيعة تكره الفراغ. انهم اقران غورباتشوف الذي كان وجه العملة الآخر لستالين وليس نقيضه.
ستالين, رائد الحتمية التاريخية في الماركسية الرسمية, رفض التحليل النفسي ومنعه في الاتحاد السوفيتي بعد ازدهاره في حقبة لينين.
كان تروتسكي احد الماركسيين الذين تعمقوا بدراسة فرويد وتأثروا بافكاره. يقول تروتسكي بنبرة فرويدية جلية:
The nature of man himself is hidden in the deepest and darkest recesses of the unconscious, the elemental and the submerged. Is it not self-evident that the greatest efforts of inquiring thought and of creative initiative will move in that --dir--ection?—Trotsky
Intrepid thought: psychoanalysis in the Soviet --union--
https://www.wsws.org/en/articles/1999/06/freu-j11.html
"إن طبيعة الإنسان نفسه مختبئة في أعمق وأظلم تجاويف اللاوعي، في العناصر الأساسية والباطنة. أليس من الواضح أن أعظم الجهود المبذولة في التفكير الاستقصائي والمبادرة الإبداعية سوف تتحرك في هذا الاتجاه؟ - تروتسكي
Intrepid thought: psychoanalysis in the Soviet --union--
https://www.wsws.org/en/articles/1999/06/freu-j11.html
في المقالة المهمة المنشورة في المدونة الاشتراكية العالمية في الرابط اعلاه, يعالج فرانك برينر, 1999, واقع التحليل النفسي في الاتحاد السوفيتي. ولأهمية هذه المقالة بخصوص العلاقة بين التحليل النفسي والبلشفية (اشهار الحقيقة) من جهة, والعلاقة المناقضة لعلاقة التحليل النفسي والستالينية (قمع الحقيقة), من جهة احرى, والتي , حسب علمي, لم تترجم الى اللغة العربية, اترجمها بالكامل ادناه.
"لقد ظل التاريخ الحقيقي للاتحاد السوفييتي طيلة هذا القرن مدفوناً تحت جبل من الأكاذيب. ولكن في السنوات التي تلت انهياره، تم انتشال بعض القطع المهمة ,من الحقيقة التاريخية من بين الأنقاض. ومن بين هذه القطع قطعة موجودة في كتاب جديد عن تاريخ التحليل النفسي السوفييتي بعنوان " فرويد والبلاشفة: التحليل النفسي في روسيا الإمبراطورية والاتحاد السوفييتي " (منشورات جامعة ييل) للكاتب مارتن أ. ميلر، الأستاذ بجامعة ديوك.
إن حقيقة أن التحليل النفسي كان له تاريخ في الاتحاد السوفييتي كانت بمثابة كشف مذهل. فقد لاقت أفكار فرويد في ظل الستالينية نفس المصير الذي لاقته كل الاتجاهات التقدمية الأخرى في العلوم والفنون ـ بل نفس المصير الذي لاقته الماركسية ذاتها: فقد حظرت الماركسية وبذلت كل الجهود لمحو أي أثر لوجودها في الحياة السوفييتية. (وبطبيعة الحال، ولأسباب سياسية وتاريخية واضحة، لم تُحظر الماركسية رسمياً في الاتحاد السوفييتي؛ بل تعرض محتواها وحيويتها للهجوم بطريقة أخرى، وذلك بتحويلها إلى دين دولة بلا حياة). وكانت النزعة الجنسية التطهيرية من أشد أنواعها خنقاً هيمنت على الحياة، وكان من المستحيل إجراء دراسة أو مناقشة جادة لأي شيء له علاقة بالخبرة الذاتية. وليس من المستغرب أن تؤدي هذه الظروف إلى تدهور رهيب في مجال علم النفس، والذي وجد تعبيره الأكثر وضوحاً ربما في استخدام المستشفيات النفسية مثل معهد سيربسكي في موسكو لاحتجاز و"علاج" المعارضين السياسيين في الستينيات والسبعينيات.
ولكن لا شيء يمكن أن يتناقض بشكل صارخ مع هذا القمع المروع أكثر من الطفرة الهائلة في الطاقة الاجتماعية والفكرية التي ميزت السنوات الأولى من النظام البلشفي. إن الإبداع المذهل للفنون في هذه الفترة معروف جيداً، ولكن كل جانب من جوانب الثقافة كان ينجرف في الغليان الثوري، في النضال ـ كما قيل في ذلك الوقت ـ من أجل "حياة جديدة". وعلى كل جبهة كانت الأفكار الأكثر تقدماً فقط هي التي تصلح، وفي علم النفس كان هذا يعني إلى حد كبير أفكار فرويد. وكان هذا هو الجو الذي ازدهرت فيه مدرسة التحليل النفسي السوفييتية لبضع سنوات ثمينة. وما يجعل هذا الأمر أكثر أهمية من الاهتمام الأكاديمي اليوم أمران: أولاً، إنه يساهم ـ كما تفعل كل رواية صادقة للتاريخ السوفييتي ـ في فضح الكذبة الكبرى التي مفادها أن البلشفية كانت مثل الستالينية؛ وثانياً، إن القضايا الكبرى التي كان فرويديو السوفييت يتصارعون معها ـ وخاصة التوافق بين التحليل النفسي والماركسية ـ لا تزال ذات صلة اليوم.
إننا في مراجعة هذا التاريخ لابد وأن نقول شيئاً عن التحليل النفسي ذاته. فقد أحدث فرويد تغييراً هائلاً في علم النفس؛ وكان تأثيره عميقاً بقدر تأثير داروين أو أينشتاين في مجاليهما. وللمرة الأولى على الإطلاق، تغلب علم النفس مع فرويد على التناقض الكلاسيكي بين العقل (أو الروح) والجسد، وهو التناقض الذي حكم على العلوم النفسية السابقة إما بالتكهنات الميتافيزيقية أو الاختزالية الميكانيكية. وليس هذا هو المكان المناسب لمناقشة أهمية اكتشافات فرويد (على سبيل المثال، معنى الأحلام، والعقل اللاواعي، والطبيعة النفسية الجنسية للعلاقات الأسرية) أو للتعامل مع الخلافات الحالية المحيطة بالتحليل النفسي. ولكن ما ينبغي أن يقال هو أن علم النفس يشكل بالضرورة علماً خطيراً في مجتمع منقسم طبقياً: لأنه يتعامل مع الجوانب الأكثر شخصية وحميمية في الحياة، فإنه يثير حتماً مقاومة أيديولوجية شديدة. والحقيقة أن التحليل النفسي كان منذ بدايته في مطلع القرن العشرين بمثابة فضيحة للرأي العام البرجوازي، وكان فرويد يتعرض للذم والتشهير بشكل روتيني باعتباره صانع أدب إباحي (ويهودي أيضاً). واليوم أصبح خط الهجوم أكثر تعقيداً، ولكن الدافع وراءه لا يزال هو نفسه في الأساس ــ الغضب من نظرية تفترض أنها تسلط ضوء العقل على الأسرار المظلمة للعقل. وقد نُقِل عن فرويد ذات يوم قوله إن "التحليل النفسي يتطلب درجة من الصدق غير عادية، بل ومستحيلة، في المجتمع البرجوازي". وفي هذه الأيام يبدو أن هذه الدرجة من الصدق نادرة بشكل خاص.
كانت حركة التحليل النفسي قد رسخت مكانتها كحركة علمية في روسيا قبل عام 1917، حيث كانت لها مجلتها الخاصة ومجموعة صغيرة ولكنها نشطة من المؤيدين في الأوساط الأكاديمية. ومن غير المستغرب أن تؤدي الثورة إلى فرز هذه المجموعة، ولا سيما رحيل زعيمها نيكولاي أوسيبوف في عام 1920. (كان أوسيبوف مقتنعاً بأن البلاشفة سوف يكونون معادين للتحليل النفسي، وهو ما تبين أنه عكس ذلك تماماً). وربما كان أولئك الذين بقوا، مثل العديد من المثقفين الآخرين من الطبقة المتوسطة في ذلك الوقت، إما متشككين في الثورة أو غير مبالين بها.
ولكن الدور الحاسم في إبقاء التحليل النفسي حياً أثناء الاضطرابات الاجتماعية المذهلة التي شهدتها الحرب العالمية والثورة كان من نصيب واحدة من المحللين القلائل المتعاطفين سياسياً مع البلاشفة، وهي الطبيبة النفسية تاتيانا روزنثال. واللمحات التي نلقيها على حياتها في رواية ميلر رائعة: فبعد انضمامها إلى البلاشفة أثناء ثورة 1905، قرأت كتابات فرويد أثناء دراستها في كلية الطب، وقررت أن تصبح محللة نفسية، وفي عام 1911 نشرت أول ورقة بحثية لها كدراسة رائدة حول العلاقة بين التحليل النفسي والأدب، تناولت عمل الكاتبة الدنمركية كارين مايكلز. وبعد مرور عام، كانت روزنثال في منزل فرويد في فيينا لحضور الاجتماعات الأسبوعية للجمعية التحليلية النفسية. في المرة التالية التي سمعنا فيها عنها كانت جزءًا من لجنة الترحيب بلينين العائد إلى روسيا في أبريل 1917. وفي خضم الحرب الأهلية في عامي 1919 و1920 كانت تحاضر في التحليل النفسي، وتنشئ مجموعة تحليلية جديدة في بتروجراد ومدرسة تجريبية جديدة للأطفال الذين يعانون من مشاكل عصابية؛ وفي الوقت نفسه، كانت تواصل عملها الرائد في الأدب بدراسة فرويدية لدوستويفسكي. ويبدو من المعقول أن نفترض أن نفس الدافع الأساسي - نفس الرغبة في خلق "حياة جديدة" - قاد هذه المرأة الرائعة إلى منزل فرويد ومحطة فنلندا.
وهناك شخصية أخرى تستحق الذكر، ولو بشكل موجز، وهي سابينا سبيلراين، رفيقة روزنثال في زياراتها إلى فرويد. وقد بقيت سبيلراين في أوروبا خلال الحرب والثورة، حيث طورت مسيرة مهنية جعلتها، وفقًا لبرونو بيتلهيم، "واحدة من رواد التحليل النفسي العظماء". ومن بين أمور أخرى، أشاد بها فرويد لتوقع نظريته المثيرة للجدل حول غريزة الموت. وفي عام 1923 اختارت سبيلراين العودة إلى روسيا، وكانت خبرتها وسمعتها حاسمة في تعزيز الحركة السوفييتية وكسب اعتراف رسمي بها من الأعضاء المحافظين سياسيًا في الجمعية الدولية للتحليل النفسي.
كانت أوائل عشرينيات القرن العشرين بمثابة ذروة الحركة التحليلية النفسية في الاتحاد السوفييتي. فقد كان هناك معهد تدريبي وعيادة خارجية ومدرسة تجريبية. وكانت الحركة منخرطة في برنامج طموح لنشر كتابات فرويد باللغة الروسية وكانت تعمل على عدة جبهات ـ علم نفس الإبداع الفني، والتحليل السريري، وتطبيقات التحليل النفسي في التعليم. وكان هناك انفتاح وجرأة نظرية في كثير من هذا النشاط لا يمكن تقديرها إلا في سياق التطور العالمي للتحليل النفسي. وفي معظم البلدان الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة، كان التحليل النفسي حكراً تقريباً على مهنة الطب ـ كان المحللون أطباء وكان تركيزهم منصباً على الاستخدام العملي للتحليل النفسي كعلاج للعصاب. أما الحركة السوفييتية فكانت مختلفة تمام الاختلاف: فقد كان أغلب أعضائها من خلفيات غير طبية ـ الفلسفة، وعلم الجمال، والعلوم الطبيعية، والتعليم ـ وكان اهتمامهم الأساسي منصباً على التداعيات الثقافية والاجتماعية الأوسع لأفكار فرويد.
كان من الدلائل على ذلك مواضيع بعض الأوراق التي قُرئت في الاجتماعات الأولية لجمعية موسكو التحليلية: الرمزية في تماثيل آلهة النهر والمزهريات اليونانية، والكآبة في لوحات ألبرشت دورر، والخصائص الجنسية المختلفة للبنين والبنات كما تكشف عنها رسوماتهم. ربما كان معهد موسكو هو برنامج التدريب التحليلي النفسي الوحيد في العالم الذي يقدم ندوة منتظمة حول علم نفس الفن، ألقاها إيفان إرماكوف، مدير برنامج النشر في المعهد ومؤلف دراسة مهمة عن غوغول.
"أمام أعيننا، بدأ اتجاه جديد ومبتكر في التحليل النفسي يتشكل في روسيا". هكذا رأى ليف فيجوتسكي، الذي أصبح أعظم شخصية ظهرت في علم النفس السوفييتي، وأقرب معاون له (عالم الاعصاب الشهير, ط.ا.) ألكسندر لوريا، الحركة السوفييتية في عام 1925. ومن الجدير بالذكر أن كليهما انجذب إلى التحليل النفسي في هذه الفترة، وما أثار حماسهما كان هذا الشعور بالجرأة النظرية: "من بين العقول العظيمة في عصرنا،" كتبا، "ربما كان فرويد أحد أكثر العقول جرأة... الشجاعة مطلوبة لرجل العمل، ولكن يبدو أن قدرًا أعظم بلا حدود من الجرأة مطلوب للتفكير. في كل منعطف، تسكن الرغبة في البحث والدراسة العديد من العقول غير الجريئة، والأفكار الخجولة والفرضيات الضعيفة حتى يبدو الأمر وكأن الحذر واتباع خطى الآخرين أصبحا من السمات الإلزامية للعمل الأكاديمي الرسمي".
كانت الحركة السوفييتية "جريئة" في مشاريعها العملية أيضاً. وتستحق العيادة الخارجية بعض الذكر في هذا الصدد. يكتب ميلر أن "العيادة كانت تضمن ممارسة التحليل النفسي لأي شخص في السكان يتطوع أو يُحال إلى العلاج من اضطراب ما". في بلدان أخرى، كان التحليل النفسي متاحاً فقط لأولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفه ــ وهو ما يعني الطبقة المتوسطة والعليا. كانت هذه قضية أثارها فرويد عدة مرات (ولا سيما في خطاب ألقاه في بودابست عشية الثورة المجرية عام 1918) ــ الحاجة إلى توفير العلاج للجماهير، التي عانت من العصاب بقدر معاناة "الأفضل" اجتماعياً.
في الواقع، كان افتتاح عيادة موسكو جزءًا من الجهود المبذولة لمعالجة هذه المشكلة؛ ففي برلين وفيينا، تم إنشاء عيادات مجانية في هذه الفترة لنفس الغرض، وليس من المستغرب أن تأتي المبادرة لإنشاء هذه العيادات من محللين عرفوا أنفسهم بأنهم اشتراكيون وماركسيون. شحذ فيلهلم رايخ، أشهر الماركسيين الفرويديين، مهاراته التحليلية في عيادة فيينا في العشرينيات، وهي التجربة التي جعلته راديكاليًا سياسيًا وشكلت تفكيره حول أولوية الأسباب الاجتماعية للعصاب. في وقت لاحق، عمل على توسيع إمكانية الوصول إلى التحليل النفسي بشكل كبير، وإنشاء عيادات مجانية في جميع أنحاء فيينا وحتى تحويل الجزء الخلفي من شاحنة صغيرة إلى عيادة متنقلة كان يأخذها إلى أحياء الطبقة العاملة، حيث يقدم نصائح علاجية حول المشاكل العاطفية جنبًا إلى جنب مع رسالة سياسية حول كيف أن البؤس الجنسي وانهيار الأسرة يفرضان الحاجة إلى الاشتراكية.
وبرفع الحواجز المالية أمام التحليل النفسي، بدأت العيادات الخارجية عملية كان من الممكن أن تغير التحليل النفسي ذاته بشكل عميق، وأن تخرجه من المكتب المغلق بأريكته النمطية إلى عالم الشوارع والمباني السكنية والمصانع والحانات المضطرب. ومن المفيد أن نعرف المزيد عن عيادة موسكو ـ عن مدى ممارستها وأنواع المشاكل النفسية التي واجهتها ـ ولكن حقيقة وجودها في حد ذاتها تشكل مؤشراً على الطبيعة غير التقليدية للتحليل النفسي السوفييتي.
إننا نعرف الكثير عن مشروع آخر مهم قامت به الحركة السوفييتية ـ وهو مدرستها التجريبية. (في الواقع، كانت هناك مدرستان من هذا النوع ـ كان روزنثال قد أسس واحدة في بتروجراد ـ ولكن يبدو أن مدرسة موسكو كانت الأكثر أهمية). وكانت هذه المدرسة، التي كانت تعرف باسم "دار الأطفال"، روضة أطفال مقيمة تقع في مبنى رائع على طراز الفن الجديد كان قصراً لأحد المصرفيين قبل الثورة. وقد بدأت هذه المدرسة في عام 1921 بثلاثين طفلاً تتراوح أعمارهم بين سنة وخمس سنوات، وكانوا ينتمون إلى خلفيات اجتماعية متنوعة: فكان بعضهم من الطبقة العاملة أو أسر الفلاحين، وكان بعضهم من آباء مثقفين أو ناشطين بارزين في الحزب. (ومن بين هؤلاء، على نحو لا يصدق، كان فاسيلي نجل ستالين. والواقع أن المفارقة التاريخية الواضحة في هذا السياق تؤكد على مدى قبول التحليل النفسي كجزء من المشهد الثقافي السوفييتي في هذه الفترة).
كان المنزل تديره فيرا شميت. كان زوجها أوتو عضوًا مؤسسًا في جمعية التحليل النفسي السوفييتية بالإضافة إلى كونه مسؤولًا حكوميًا بلشفيًا بارزًا يرأس دار النشر الحكومية. كانت فيرا شميت ما قد يطلق عليه فرويد "محللة غير متخصصة" لأنها لم تكن حاصلة على شهادة طبية. ومع ذلك، في حركة التحليل النفسي السوفييتية، لم يكن هذا عائقًا أمام قيامها بدور قيادي في تجربة جريئة، وصفها أحد رايخ بأنها "المحاولة الأولى في تاريخ التعليم لإعطاء محتوى عملي لنظرية الجنس الطفولي". كانت هذه النظرية تنص على أن الأطفال ليسوا عديمي المشاعر الجنسية حتى سن البلوغ (اي انهم يمتلكون مشاعرا جنسية منذ ولادتهم. ط.ا.), كما تقول الحكمة التقليدية، بل إن لديهم "حياة جنسية غنية جدًا"، وإن كانت تأخذ أشكالًا مختلفة بشكل واضح عن الجنس البالغ (أي الأعضاء التناسلية). كانت الآثار المترتبة على هذا على التعليم عميقة.
في البداية، لم تكن هناك عقوبات في دار الأيتام، ولم يكن يُسمح للموظفين حتى برفع أصواتهم في التحدث إلى الأطفال. وكان المديح واللوم موجهين دائمًا إلى الفعل، وليس إلى الطفل: على سبيل المثال، إذا كان هناك شجار، فلن يتم تأنيب الطفل الذي بدأه، ولكن يتم وصف الألم الذي ألحقه بالآخر . لم يكن الأطفال "أخيارًا" أو "أشرارًا" - مثل هذه الأحكام الأخلاقية التقليدية (المتجذرة في مفاهيم الخطيئة الأصلية) لم تخدم سوى تعزيز الشعور بالذنب وإلحاق أضرار نفسية خطيرة، وهو السبب الرئيسي للمرض العصابي في وقت لاحق من الحياة. ما أدانه الكبار عادةً باعتباره سلوكًا "شقيًا" (على سبيل المثال، الاستمناء، والتبول اللاإرادي، ومص الإبهام، واللعب بالبراز) كان مظاهر غير واعية للغريزة، وخاصة الغريزة الجنسية.
في دار الأيتام، كان الموقف من مثل هذا السلوك يتلخص في الصبر والدعم. وكانت إحدى الحالات النموذجية هي حالة فتاة صغيرة تستمتع بتلطيخ نفسها بالبراز: فكانوا يغسلونها ببساطة ويغيرون ملابسها، دون أن يلوموها بأي شكل من الأشكال (استخدم الطبيب والمحلل النفسي الماركسي البريطاني لاينج Laing لاحقا الطريقة نفسها في معالجة انفصام الشخصية لدى البالغين. ط.ا.). وفي نهاية المطاف كانوا يعطونها ألواناً لتلعب بها. وبمرور الوقت، حل تلطيخ الألوان (ثم تطبيقها لاحقاً بالفرشاة) محل متعتها السابقة، التي تخلت عنها دون أي صعوبة. وكما لاحظت شميت، كانت المتعة الجديدة مماثلة للمتعة القديمة، ولكنها كانت أيضاً "متفوقة ثقافياً واجتماعياً". (وهذا مثال كلاسيكي لما يُعرف في التحليل النفسي بالتسامي، وليس من قبيل المصادفة أن يمنحنا لمحة عن ولادة الدافع الفني).
ولإحداث هذا النوع من التغيير في التعليم، كان لزاماً إعادة تأهيل المعلمين. ومن الواضح أن شميت لم تكن لتسمح للمعلمين بالمواقف القاسية والأخلاقية، ولكن من الجدير بالذكر أنها كانت تعارض أيضاً مظاهر المودة المفرطة، مثل القبلات الدافئة أو العناق الرقيق، والتي كانت تزعم أنها كانت مرتبطة بإرضاء الكبار أكثر من احتياجات الأطفال (شاهدت قبل فترة مشهدا لقيادي في الحزب الشيوعي العراقي اثناء حدث جماهيري للحزب وهو يقوم بتقبيل الاطفال المصاحبين لعوائلهم وبدا فيه الاطفال متفاجئين وغير مرتاحبن بتاتا لعملية تقبيلهم وكأنهم دمى بلا ارادة. انه نوع من الايذاء الجنسي مهما كانت دوافعه. وفي الدول المتقدمة يعاقب القانون بشدة على هكذا افعال بحق الاطفال. والطامة الاخرى, ان اولياء امور الاطفال في الحفل لم يستنكروا هذا الفعل الذي قد اظهر تصرف اطفالهم استنكارهم له وعدم تقبله. ط.ا).
وفي الأساس، كان هذان وجهان لعملة واحدة ــ المعلمون يسمحون لمشاعرهم الذاتية (سواء كانت سلبية أو إيجابية) بتحديد سلوكهم تجاه الطفل.
وكما أشار رايخ، فإن هذا التأرجح بين القسوة والحنان المفرط كان من سمات التربية التقليدية للأطفال: "إن أي شخص يشعر بأنه محق في ضرب طفل يشعر أيضاً بأنه محق في ممارسة حياته الجنسية غير المرضية مع طفل (تقبيل الطفل من اسرة غريبة هو بالتأكيد فعل جنسي. ط.ا). وإذا تخلصنا من المعاملة القاسية والحكم الأخلاقي على الأطفال، فلن يكون من الضروري بعد الآن أن نعالج بالقبلات الجرح الناجم عن الضرب". إن ما طالبت به شميت من المعلمين هو الموضوعية، والموقف الهادئ والمعقول الذي يأخذ الأطفال على محمل الجد. وهذا لا يستبعد العاطفة، بل على العكس من ذلك تماماً، ولكنه يجعل احتياجات الطفل ورغباته، وليس مشاعر الكبار، هي العامل الحاسم.
وعلى المستوى التربوي، كان النهج المتبع يتلخص في تكييف بيئة التعلم مع الطفل (من حيث احتياجاته ومستوى عمره) بدلاً من تكييف الطفل مع البيئة. وكتبت شميت: "إذا كان للطفل أن يتكيف مع الواقع الخارجي دون صعوبات كبيرة، فلا ينبغي للعالم المحيط أن يبدو له قوة معادية". وهي فكرة بسيطة، ولكنها اصطدمت بكل القيود المفروضة على التعليم التقليدي، بل وكل القيود المفروضة على العالم المقابل. وكما لاحظ رايخ، كانت هذه فكرة يمكن "تطبيقها خارج رياض الأطفال على كل الوجود الاجتماعي، على سبيل المثال، لا ينبغي تكييف الاحتياجات الاقتصادية مع المؤسسات الاقتصادية؛ بل ينبغي للمؤسسات أن تتكيف مع الاحتياجات. (ونفس الكلام ينطبق على المؤسسات الدينية التي عليها ان تتيكف مع احتياجات المجتمع بكل افراده بدل تكيف الفرد مع ما تمليه علىه المؤسسة الدينية لأن الدين ينبغي ان يُسخر لخدمة الانسان وليس العكس. ط.ا). وينبغي أن نضيف أن هذا المفهوم ـ الذي يشكل الأساس للاشتراكية منذ زمن الطوباويين مثل فورييه ـ لم يكن ليكتمل إلا بعد أن فتحت اكتشافات التحليل النفسي الطريق أمام فهم مادي للاحتياجات البشرية، بما في ذلك احتياجات الطفل.
من الصعب علينا اليوم أن ندرك مدى التغيير الجذري الذي أحدثته هذه المدرسة. ففي بعض الجوانب ـ على سبيل المثال، الطريقة التي تم بها التعامل مع تدريب الطفل على استخدام المرحاض دون إثارة القلق في نفسه ـ تحول ما كان تجريبياً في العشرينيات إلى جزء من التيار السائد في الخمسينيات والستينيات (على الأقل في الغرب) بفضل عمل أشخاص مثل بنيامين سبوك (رائد طب وتربية الطفل . ط.ا). (وبالمعنى الأوسع، بطبيعة الحال، تظل سياسة تغيير العالم المعادي لتلبية احتياجات الطفل جذرية في تداعياتها كما كانت دائماً). ولكن دار شميدت كانت على عتبة التغييرات التي اجتاحت التعليم في هذه الفترة: فقد فتحت أبوابها في نفس العام الذي أطلق فيه المربي الاسكتلندي أ. س. نيل (وهو أيضاً فرويدي واشتراكي) أولى مدارسه التجريبية، والتي عُرفت فيما بعد باسم سمرهيل، على مبادئ مماثلة. ولابد أن نضيف هنا أن شميت كانت تخترق آفاقاً جديدة في التحليل النفسي: فقد أبدى فرويد وتلامذته البارزون مثل كارل أبراهام وأوتو رانك اهتماماً كبيراً بعمل دار الأيتام عندما زارتهم شميت وزوجها في فيينا في عام 1923. (كان فرويد وزملاؤه مهتمين بشكل خاص بتأثير التعليم الجماعي على عقدة أوديب ـ أي على التطور العاطفي للأطفال وخاصة علاقتهم بوالديهم. وهذه قضية تهم الماركسيين بقدر ما تهم الفرويديين، ويبدو من تقرير شميت عن دار الأيتام أن التأثير كان إيجابياً بشكل واضح).
ولم تكن هذه التجربة تجري في فراغ. ففي الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة، كانت كل أنواع كوميونات الأطفال والمدارس التجريبية تنشأ، وكان البلاشفة يحاولون إعادة تنظيم نظام التعليم على نطاق واسع بعيداً عن النزعة المدرسية والتعلم عن ظهر قلب نحو نموذج مدرسة بوليتكنيكية تؤكد على التعلم بالخبرة وتستند إلى نظريات التعليم التقدمية لجون ديوي. والواقع أن مبدأ "عدم العقاب" لم يكن مقتصراً على مدرسة شميت: فقد كانت سياسة مفوضية التنوير، بقيادة البلشفي أناتولي لوناشارسكي، تقضي بإلغاء العقوبات والامتحانات والواجبات المنزلية في جميع المدارس. وحتى في النظام القانوني، أزيلت مصطلحات "الذنب" و"الجريمة" و"العقاب" من أول قانون جنائي سوفييتي صدر عام 1919 لأنها كانت تعمل على إخفاء الأسباب الاجتماعية للجريمة.
إن هذا يقودنا إلى السؤال الأكبر حول موقف البلاشفة من التحليل النفسي. إن نطاق أنشطة الحركة التحليلية النفسية السوفييتية في تلك السنوات كان من المستحيل تصوره بدون التسامح والدعم المادي النشط من جانب النظام الثوري. وكما كتب ميلر: "لقد تم افتتاح معهد ببرنامج تدريبي معترف به بالكامل، وتم إنشاء عيادة خارجية إلى جانب دار للأطفال، وكل ذلك يعمل على مبادئ التحليل النفسي. وكان النشر المكثف للكتب والمقالات التحليلية النفسية مستمراً على مستوى كان من الصعب تخيله قبل بضع سنوات. وكانت كل هذه الأنشطة مدعومة إلى حد ما من قبل الدولة. والواقع أنه يمكننا أن نقول بأمان ... إن أي حكومة لم تكن مسؤولة قط عن دعم التحليل النفسي إلى هذا الحد، سواء قبل ذلك أو بعده".
ولكن من المهم أن نشير هنا إلى أن ميللر يرى أن مدى هذا التورط ـ الذي جعل التحليل النفسي يعتمد على النظام وبالتالي أكثر عرضة للقمع في وقت لاحق من قِبَل الستالينيين ـ يمثل مشكلة حقيقية. ولكن هذا القلق لا يصبح منطقياً إلا إذا افترضنا أن البلشفية والستالينية كانا في الأساس نفس الشيء. ولكن التاريخ الذي سجله ميللر في كتابه يتحدى هذا الافتراض، لأنه يُظهِر أنه لم تكن هناك أي استمرارية، بل كان هناك بالأحرى قطيعة عنيفة بين السياسة البلشفية تجاه التحليل النفسي والسياسة الستالينية. وكان الأمر نفسه صحيحاً فيما يتصل بالطابع السياسي العام للنظامين: فالعنف الناجم عن القطيعة بينهما لا يشهد عليه معارضة البلاشفة بقيادة تروتسكي للستالينية فحسب، بل وأيضاً عشرات الآلاف من العمال والمثقفين الشيوعيين الذين وقعوا ضحايا للإرهاب الستاليني.
كان من الضروري بطبيعة الحال أن يزعم الستالينيون أنهم يتبنون البلشفية من أجل إضفاء الشرعية على جرائمهم. وعلى هذا فقد تم تجنيد لينين (الذي كان قد فارق الحياة آنذاك) في عام 1925 في الحملة ضد التحليل النفسي: فقد حظيت تصريحاته التي اقتبستها الشيوعية الألمانية كلارا زيتكين في مذكراتها، والتي بدا فيها منتقداً لنظريات فرويد، باهتمام خاص في الصحافة السوفييتية.
كان هذا مثالاً مألوفاً للغاية للتشويه الستاليني. وكما يشير ميلر، كان المقطع غامضاً، والإشارة إلى فرويد عابرة، وموثوقية ذاكرة زتكين مشكوك فيها. إن سجل حكومة لينين ـ وهو مستوى غير مسبوق من الدعم المادي للتحليل النفسي، فضلاً عن ذلك، في وقت عصيب اقتصادي كبير في الاتحاد السوفييتي ـ هو أفضل دحض لهذا التشويه. وفي الزعامة البلشفية، كان تروتسكي الأكثر ارتباطاً بالتحليل النفسي، ولكن كان هناك آخرون، بما في ذلك كارل راديك ونيكولاي بوخارين، الذين يبدو أنهم اهتموا بالأفكار الفرويدية. والواقع أن الدائرة الداخلية البلشفية كانت تضم محللاً ممارساً سابقاً ـ وهو صديق تروتسكي المقرب والدبلوماسي السوفييتي الرائد أدولف جوف.
كان جوف قد خضع للتحليل في فيينا مع ألفريد أدلر (زعيم مدرسة العلاج النفسي الثانية في فيينا. الاولى كانت بزعامة فرويد والثالثة بزعامة فيكتور فرانكل. ط.ا.) في عام 1908، ويبدو أنه عمل كمحلل أدلري بنفسه عند عودته إلى روسيا. يستشهد ميلر بورقة نشرها في عام 1913 في المجلة الروسية للتحليل النفسي تناقش حالة مريض مثلي الجنس عالجه.
وكان الاهتمام بالتحليل النفسي كبيرا داخل الدوائر الحزبية الأوسع، وخاصة بين المثقفين.
إن تسامح البلاشفة مع التحليل النفسي ودعمهم المادي له يثير قضية نظرية مهمة، وذلك لأن هذه السياسة كانت تتضمن ضمناً الاعتقاد بأن العقيدتين ـ عقيدة ماركس وعقيدة فرويد ـ متوافقتان. ولم يكن أحد يتوهم أن فرويد ماركسي (تماماً كما لم يكن داروين ماركسياً)، ولكن القضية كانت تتلخص في ما إذا كانت النظريتان تشتركان في أرضية فلسفية مشتركة. وبعبارة أخرى، هل كان التحليل النفسي متوافقاً، ليس مع سياسات الماركسية، بل مع نظرتها المادية؟ وقد تحولت هذه القضية إلى موضوع نقاش ساخن في العشرينيات.
ولكن من المؤسف أن هيمنة البيروقراطية الستالينية أدت بحلول منتصف العقد إلى خلق بيئة معادية للتحليل النفسي، وكان من أبرز آثارها قطع التمويل عن معهد التحليل النفسي في عام 1926 وإغلاق دار الأطفال بعد ذلك بعامين. وكما اشتكى تروتسكي في ذلك الوقت، فإن قدراً كبيراً من حدة الجدل الدائر حول التحليل النفسي لم يكن نتيجة للصراع بين الأفكار، بل نتيجة للتملق والخضوع للقوى الحاكمة.
فضلاً عن ذلك فإن موضوع الانتقادات في هذه المناقشات لم يكن فرويد في كثير من الأحيان، بل كان مفسرين ومفسرين لأفكاره. وفي عشرينيات القرن العشرين، عندما أصبحت الفرويدية (من النوع السطحي للغاية) رائجة في الغرب، كانت مثل هذه الأعمال المشتقة كثيرة وكان نطاق عدم جودتها واسعاً. وعلى هذا فلم يكن من الصعب، في إقامة الحجة ضد التحليل النفسي، أن نجد أي عدد من الأفكار الطائشة التي يتم تمريرها باعتبارها فرويدية ـ على سبيل المثال، ادعاء أحد المحللين الغامضين (الذين استشهد بهم في إحدى المناقشات السوفييتية ضد فرويد) بأن الشعار الشيوعي "يا عمال العالم، اتحدوا!" كان في الحقيقة تعبيراً غير واعٍ عن المثلية الجنسية. وعلى نحو مماثل كان التفكير الخام والاختزالي واضحاً في مجال مثل النقد الأدبي، حيث بدا التحليل النفسي وكأنه لا ينطوي على أكثر من البحث عن رموز القضيب. ومع ذلك فإن نظرية ذات عواقب وخيمة مثل التحليل النفسي تستحق أن يتم الحكم عليها على أساس أفضل مناصريها، وليس أسوأهم.
ولكن مع ذلك، فليس من الصعب أن ندرك أن هناك الكثير مما قد يجده الماركسيون محيراً في التحليل النفسي. "مبدأ اللذة"، و"مبدأ الواقع"، والرغبة في النوم مع الأم وقتل الأب (أو العكس)، وخيالات الانحراف والأوهام ، لابد أن كل هذا بدا مثالياً إلى حد كبير. فعند قراءة فرويد، كما كتب أحد النقاد السوفييت، "ننجرف إلى شبه غياهب النسيان في ليلة والبورجي Walpurgisnacht الحديثة (احتفالات عيد القديس Walpur. ط.ا)، مع صرخاتها الجامحة ورقصاتها المحمومة... على أمواج الخطوط العريضة اللاواعية للمنطق البروسي".
كانت مثل هذه ردود الفعل مفهومة، ولكنها كانت مضللة أيضاً. ففي النظرة الأولى يبدو العالم مسطحاً: فالعلم موجود لأن الأشياء في أغلب الأحيان ليست كما تبدو، والحقيقة ليست شفافة. وهذا ينطبق أيضاً على الحقيقة المتعلقة بالعقل البشري: فنحن لسنا كما نبدو لأنفسنا، فهناك الكثير من الأشياء في حياتنا الداخلية التي لا ندركها على الإطلاق، والتي إذا تم الكشف عنها من خلال علم النفس العلمي، فإنها ستبدو لنا غريبة أو حتى سخيفة في البداية. وأفضل دليل على ذلك هو ما نراه في أحلامنا. ففي كل ليلة نذهب إلى النوم وينفتح عالم غريب داخلنا، وهو عبارة عن خليط من المشاعر والذكريات والدوافع والأوهام، بما في ذلك أي عدد من "الصرخات البرية والرقصات المحمومة".
يتبع
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟