خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 20:56
المحور:
المجتمع المدني
يمر في حياة الإنسان أحيانا من يجده يمتلك فضولا غير طبيعي في التدخل بشؤونه ، كما يقول المثل الألماني ، شخصاً يدس أنفه في كل القدور. ولكن أن يصل الأمر لتمتد يد هذا حد التطفل لتعمل على نبش جراحات غيره ممن يسعى جاهدا في تضميدها أو إثارة الألم في قلب أنهكته السنين واوجعته الظروف والأحوال ليدفع بها في موضع الوجع متلذذا مختبراً عمق الألم ، فهذا أمر لا يمكن تفسيره إلا إنه أمر تقوده نوايا خبيثة ، طالما كان الشخص هذا بكامل قواه العقلية ولا يفتقر إلى الوعي بمقدار ما يسببه من اذى ، بفتحه جروحاً متذرعا بدافع الإصلاح أو المواساة او غير ذلك ، مع إدراكه ان الجرح لا يحتاج إلى من يعمقه او يوسّعه، بل إلى من يساعد في تضميده و شفائه.
كم يحوي الواقع من امثال هذا الشخص. قد تجد انساناً فقد عزيزا عليه كأن يكن وحيده ، و بالكاد يحاول التعايش مع غياب وحيده والتأقلم مع واقعه وقدره بمرور الزمن، لكن ما يلبث أن يأتي أحدهم بلا مبالاة ولا شعور ليسأله بسذاجة او دون تروي من منطلق مشاركته أحزانه : كيف تحتمل الحياة بعد فقدان وحيدك ، و من المؤكد أن الألم لا يزال يمزقك ويمزق أفراد عائلتك ويهدد كيانكم ؟. متناسيا أن كلمات كهذه لا تعيد له فقيده الوحيد ، لكنها بلا شك تزيد في عمق جراحه و وقع المه ، في وقت يجد هذا الوالد مواسين آخرين يحاولون جاهدين تخفيف وقع ذلك عليه بحكمة من هنا وحكاية من هناك ليزرعوا الصبر في قلبه بما يعينه على لملمة جراحه فيه.
وقد يجاورك شخصا تلاحظه عن قرب يكافح من أجل تحسين وضع عائلته المادي ويسلك في سبيل ذلك كل السبل الإنسانية الشريفة دون جدوى ، رغم أنه يمتلك كل المؤهلات والخبرة التي تؤهله لذلك ، في وقت يُفاجَأ بمن يسأله بسخرية مبطنة : لماذا لا تزال تعيش هكذا في نفس الوضع الذي أنت عليه منذ سنوات طوال ، ألم تجد فرصة أفضل؟. و كأن السائل يجهل أن الحياة لا تمنح الجميع نفس الفرص ، وأن هناك من يحارب يوميًا في صمت ليبقى واقفًا على قدميه من اجل اطفاله ، مع أنه يرى من هم ادنى منه وفق كل المعايير او المقاييس ولكنهم في حال افضل منه بما لا يقاس ، دون ان يسمح لنفسه أن يسلك مسارهم الملتوي لانه يتقاطع مع ما يمتلكه من مثل أو ما تربى عليه من قيم.
سلوكيات مرفوضة كهذه وغيرها ، يمكن ملاحظتها عند بعض الأشخاص و تنتقل معهم أينما حلوا و ارتحلوا واصبحت صفة لصيقة بهم حدا بات الآخرين يتحاشونهم كآفة مجتمعية. عن هذه السلوكيات كتبت قبل أيام الدكتورة وفاء سلطان في موقعها على منصة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) مقالا ، سأنقل في أدناه ما رصدته في لقاء عابر وكما هو نصا ، قبل ان انتقل الى ما عبرت عنه بنقد بناء:
جمعنا لقاء اجتماعي في قاعة كبيرة بمناسبة ما.
التقينا مجموعة من عدّة أشخاص بالصدفة
قرب ركن المشروبات، ورحنا نتسامر.
دخل شخص القاعة ومرّ من جانبنا،
وإذ بابراهيم الرجل الذي يقف إلى يميني يصيح:
أهلاااااا فلان!
وتابع دون أن يأخذ نفسا:
وينك يا زلمي؟ كيفك أنت، كيف المدام، كيف بنتك،
ما أخبار ابنك؟
ردّ الشخص باقتضاب:
الحمدلله…الحمدلله كلنا بخير
ثم تابع متهرّبا من الدخول في التفاصيل
لا أعلم من هو صاحب السيارة موديل كذا وكذا
ولونها كذا وكذا، لقد صفّ سيارته خلف سيارتي،
أريد أن أغادر وعليه أن يحرّك سيارته!
رد إبراهيم دون أن يعطي لتساؤل الرجل أي اهتمام:
رايح؟ مازالت السهرة في أولها يازلمي!
تابع الشخص سيره واختفى بين الحضور.
على الفور اقترب مني إبراهيم وتظاهر بأنه
يهمس في أذني:
يا حراااام، هذا الشخص من بلدي ومن مدينتي،
ويعيش ورطة حقيقية!
وتابع:
زوجته قعيدة الفراش، وابنه سقط صريعا للمخدرات،
وابنته فرّت مع رجل أمريكي أسود (أسود!!!)
...........
...........
امثال ما اشارت له الدكتورة وفاء يمتلكون قلوبا متحجرة ويعيشون في ظلام نفسي دامس، يفتقدون معه النور في حياتهم إلى درجة أنه لا يهمهم أن يحرقوا غيرهم ، لمجرد أن يعينهم ذلك على رؤية بصيصاً من ما يعتبرونه ضوءا ينير حياتهم الخاصة ، وكأن اثارتهم لجراح غيرهم او الحط من مكانتهم تندرا بضحكة الضباع ، وسيلة مرفوظة مجتمعيا ، لتخفيف أعبائهم الداخلية أو إسقاط آلامهم بنقلها إلى غيرهم ، يقودهم في ذلك مشاعر دفينة من الانانية ، الحسد، أو حتى الشعور بالنقص او بعدم الامان التي لا تؤدي بهم إلا إلى مزيد من الألم والانفصال بين الناس. دون أن يعلموا أن الحل الأفضل يكمن في مواجهة مشاعرهم السلبية بوعي، ومعالجتها بطرق صحية.
ولعل هذا ما قاد الدكتورة وفاء في تكملتها ان تنتقد (ابراهيم ) في إطار موقفها منه ، الواضح نصا في ادناه :
يا ابن ستين ألف……"آدمي"،
لماذا تفقأ دملا متوذما؟
لماذا تدخل مخرزا في عين ملتهبة؟
ثم اضافت :
أول علامات الفقر الأخلاقي وانعدام الضمير
هو عدم الإحساس بآلام الآخرين،
ناهيك عن محاولة إثارتها بالنقر على
عصبهم الحسّاس وعلى الملأ أمام الناس!
بعض البشر ينتشون عندما يراقبون
شخصا آخر يتألم
وهي نشوة وهميّة مؤقتة يحاول من خلالها الوعي
أن يتجاهل رسائل اللاوعي والتي تبلغه بأن وضعه
سيء للغاية!
واختتمت مقالها بالقول:
لا تهرب من آلامك على حساب تضخيم
وفضح آلام الآخرين.
السلام لروح ستي أم علي، كم مرّة ردّدت:
(لا تمسك حدا من ايدو اللي بتوجعو)
بعض البشر يعيشون في ظلام دامس لدرجة
قد يحرقونك أملا في رؤية بعض الضوء
وابراهيم، على ما يبدو، كان واحدا منهم
يمسك الآخر من يده التي توجعه، بل قد يحرقه
أملا في رؤية بعض الضوء الذي يبدد ظلامه
لا تكن كابراهيم،
وإياك أن تسأل أحدا عمّا قد يفتح جرحا في قلبه
…
لو فعلت عار عليك!
في كتابه (قوة عقلك الباطن) يقول الدكتور جوزيف ميرفي:
اعتقد في الناس ما تحب أن يعتقدوه فيك، وعاملهم بالطريقة التي تحب أن يعاملوك بها. وعلى سبيل المثال: قد تكون مهذبا ومحتشما تجاه شخص ما في مكتبك ، ولكن عندما يدير ظهره لك تكون أكثر استياء وانتقاداً له في عقلك الباطن. هذه الأفكار السلبية مدمرة جدا لك، إنها مثل تجرع السم. إنك - فعلا - تتناول سموما. عقلية تجردك من حيويتك وحماسك و قوتك و رشدك و نيتك الحسنة، وهذه الأفكار والعواطف السلبية تغوص في عقلك الباطن وتسبب لك كل أنواع الصعوبات والأمراض في حياتك.
لذلك (والكلام لا زال للدكتور ميرفي ) فإن المفتاح الرئيسي للعلاقات السعيدة مع الآخرين تتجسد في آن لا تحكم على الآخرين بما لا تحب أن يحكموا به عليك، كما أن المقياس الذي تقيس به الآخرين يقيسونك به. ولكي تصدر حكماً ، يجب أن تفكر لتصل إلى حكم عقلي أو نتيجة في عقلك. والفكر الذي تعتقده بشأن الآخرين هو فكرك، لأنك تفكر فيه. إن أفكارك خلاقة. ولذلك، فأنت تخلق - فعلاً - في تجاربك ما تعتقده وتحسه بشأن الآخرين. وحقا أيضاً إن الإيحاء الذي تنقله للشخص الآخر، تعطيه لنفسك لأن عقلك هو الوسيط الخلاق. ولهذا، يقال إن ما تحكم به على الآخرين يحكمون به عليك. وعندما تعرف هذا القانون وطريقة عمل عقلك الباطن، فإنك ستفكر بعناية وستكون مشاعرك صادقة وستفعل الصواب تجاه الطرف الآخر هذا الشعور يعلمك تحرر الإنسان ويكشف لك حل كل مشاكلك الشخصية.
هكذا بالمقياس الذي تقيس به تقاس به أنت ، أي أن الخير الذي تقدمه للآخرين يعود عليك.. والشر الذي تفعله يرجع عليك وفقا لقانون عقلك، فإذا أبغض شخص شخصاً آخر و خدعه فإنه فعلاً يغش ويخدع نفسه، لأن شعوره بالذنب والخسارة سيجلب له ، لا محالة ، الخسارة بطريقة ما في وقت ما، لأن عقله الباطن يسجل أفعال عقله ويكون رد فعله وفقا للدافع العقلي.
إن العقل الباطن موضوعى ولا يتغير ولا يضع اعتبارات للأشخاص . وهو ليس عاطفيا أو انتقاميًا. وبذلك، فإن الطريقة التي تفكر بها وتشعر بها وتعمل بها تجاه الآخرين تعود في النهاية عليك. وبالتالي يتوجب ان تحسب الف حساب لسلوكك مع الآخرين.
عليه كم هو مطلوبا ﺗﺠﺎﻫﻞ أﺣﺪﺍﺙ, ﺗﺠﺎﻫﻞ أﺷﺨﺎﺹ, ﺗﺠﺎﻫﻞ أﻓﻌﺎﻝ , تجاهل أﻗﻮﺍﻝ , ليعود الإنسان ﻧﻔسه ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺠﺎﻫﻞ ﺍﻟﺬﻛﻲ ، ﻓﻠﻴﺲ ﻛﻞ أﻣﺮ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻭﻗﻮفك.
التجاهل يعيد كل شخص الى حجمه الطبيعي مهما كان ولعل هذا ما وجده ذلك الرجل من خلاص مع تساؤلات (ابراهيم) له في مقال الدكتورة وفاء ، لينفث رغبته في جرح الآخرين كهواية يتلذذ بها ، في حديثه المسموع للكل القريب منه من دون ان يطلب منه ذلك احد.
كم هو جميلا ومطلوبا ان لا يحاول الإنسان ان يبحث عن الوجه الآخر لأي شخص ، فلكل شخص جانب سيء يتحاشاه حتى مع نفسه ، فالإشتغال بسرائر الناس يفتح باب سوء الظن وظلم الغير.
كل الأشخاص بذور نجهل نوعها ، لكننا نكتشف حقيقتهم عندما نزرعهم في حياتنا ، قد يصبحون ورداً يعطر أيامنا ، أو شوكاً يؤلم قلوبنا.
ذات يوم بعيد كتبت الاديبة الشابة هدى صادق:
لا تستسلم للظروف التى قد تحيطك بالسلبيين
الذين يستهلكون طاقتك وكل مخزونك من الأمل والبشاشة وسيزرعون في داخلك مشاعر ملغمة من الإحباط والتى قد تنفجر بك أولا في أي وقت.
ومن ثمة توزع شظاياها على ما حولك وما يحيط بك
لتحدث دماراً مدويا من الألم و التشتت
انتزع نفسك منهم واقطع هالتهم التى تحيطك معهم
ولوح لهم بالرحيل.
وحين تصادف من يصنعون من الإنطفاء شمسا
ومن السراب حلما ومن قطرة الماء شلالاً
ومن حطام الأيام سفنا للإبحار نحو غد جديد
تمسك بهم لتنجو روحك بالإيجابية
ولا تُهن نفسك بمجاورة البائسين.
الكلمة التي نسمعها لها وقع كبير في النفس.
نصغر عشرين عاما بكل كلمة طيبة تقال لنا ، و نكبر ألف عام و نحمل داخلنا وجع السنين مع كل كلمة موجعة.
من قال أن الكلمات لا تفعل شيئاً !
إن الإنسان كائن هش كلمة طيبة قادرة أن ترفعه عاليا و كلمة جارحة قادرة على طرحه أرضا.
الكلمة إن لمستك إحتضنتك
وإن جرحتك أغرقتك فى بحر الألم
بكلمة نهدم حلماً
بكلمة نداوي جرحاً
بكلمة نخسر شخصاً
بكلمة نكسب قلباً
فتذكر قبل أن تنطق كلماتك لأنها تبقى بصمة فى القلوب لا تتغير.
ب. د. خالد محمود خدر
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟