|
مسرحية -سيرك- - رؤية نقديّة
راضي شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 8230 - 2025 / 1 / 22 - 16:17
المحور:
الادب والفن
مسرحيّة "سيرك" بقلم: *راضي شحادة- فلسطين
(مسرحيّة "سيرك" للفرقة الوطنية للتّمثيل من العراق، والتي شاركت في الدّورة الخامسة عشرة لمهرجان الهيئة العربيّة للمسرح في "مسقط" عُمان) نبذة عن عرض مسرحيّة "سيرك" كما عرّفها مقدّموها: "مسرحيّة سيرك" ، تُسلّط الضّوء على التَّصدُّع والتّفكُّك في المجتمعات الإنسانيّة. ترصُد انهيارات الـمُدن المتحضّرة وتحويلها الى رماد، في نزعة وحشيّة قاسية لإبادة النّاس وتهجيرهم من بيوتهم الى منافٍ جديدة شديدة الوحشة والمرارة. يَظهر ذلك من خلال فَرضيَّة وجود سيرك تـَهدّمت واجهتُه الجنوبيّة خلال حرب دمويّة أطاحت بشخوصه الذين يلعبون أدوارَهم أمام جمهور يحْـتشِد عند شبّاك التّذاكر. المسرحيّة في مضمونها توضّح ذلك النّسيج بين الإنسان والحيوان في رسم ملامح الشّراكة الرّوحيّة والفنتازيّة في تشكّل الحكاية عبر أنْسنَة الأحداث وتَضادّاتـِها الفكريّة والجماليّة" **** المزاج العام لعرض مسرحيّة "سيرك": أمامنا شخصيّات تعيش غُربة قاتلة في وطنها، وهي شخصيّات محطّمة ومتألّمة ومأزومة ومهزومة ويائسة الى درجة الانهيار، وتعاني من القسوة والخوف، ومحاصَرة بالبطش والقمع والقتل والتوحّش والدّمار. "ريمون" نذل ومَصلحجي يَقتل الضّابط أخاه، ويُصبح عميلاً ويَرضَخ لبَطش ضابط متوحّش قاتل مغتصب لـ"كميلة" زوجة "ريمون"، و"لبيد" روائي عاجز عن القدرة على الكتابة، وفاقدٌ لذُكورتِه بسبب تعرُّضه للتّعذيب. وبطل الحكاية، الذي تأسّس السّيرك على مواهبه السّحرية مات مقتولاً، وقد تحوّل الى أسطورة، ويتحدّثون عنه بدون أن نراه ضمن الشّخصيّات الماثلة أمامنا، ألا وهو الكلب "دودين". الكلب، البطل الأسطوري غير المرئي، رمزٌ يُشكِّل نقطة انطلاق تُعبّر عن الخسارة الكبيرة لأهم عنصر قام السّيرك على كاهله وعلى مهاراته. تقول عنه "كميلَة" لقد تحوّل الكلب الى أسطورة". ويقول الرّوائي "لبيد" عنه: "كنتُ من رواد السّيرك.. وشديد الإعجاب بمشاهدة الخيول والعربات وطَيران الحيوانات في سماء المسرح، ثم مشاهدة القِرَدة الـمُسَلّين، والكلاب الملوّنة ذات السّحر والدّهشة..يا إلهي، كانت تَفتننُي مَشاهِدُ الكلب "دودين".. خِفّة دم الكلب "دودين"، يعرف كيف يُدخِل الفَرح الى أرواح النّاس". وأمّا وقد حلَّ ما حلَّ بـ"لبيد" من عجْز، فإنّه يـُلخِّص ذلك قائلاً: "ماتت ذكورتي، فأَصبحتُ رجلاً مُتخشّباً يابساً بلا روح، رجلاً منزوع الشَّهْوة.. رواياتي صودِرت وتـَمّ مَنعُ بيعِها من جميع المكتبات."، ويستنتج قائلاً: "الذين في الأعلى سيسقطون الى الأسفل، والذين في الأسفل سوف يتسلّقون نحو الأعلى"، ولكنّه يبقى متشبّثاً ببعض الأمل حيث يقول لاحقاً: "أنا واثق أنّ حياتَنا القادمة ستكون أفضل". وأما"ريمون" فيقول: "لذلك استأجرتُ للكلب بيتاً كبيراً، وحوَّلتُه الى سيرك لتقديم العروض فيه يومياً". "ريمون" هذا الـمَصْلَحْجي، المتعامل بنَذالة مع الضّابط ضدّ مصلحة المسرح/السّيرك، ولاعب قمار وسكّير، لم يستطِع الدّفاع عن زوجته التي اغتصبها الضّابط، ولا الانتقام منه لأنّه قاتِل أخيه. شعر "ريمون" أنّه كان مضطرّاً لقتل الكلب لأنّه أزعل الضّابط. حتى وإن كان السّيرك قائماً على موهبة الأداء السّحريّة السّركيّة للكلب، وهو الأمين والمخلص والمدرَّب، ويُدخِل الفَرح والتَّسلية الى قلوب النّاس، وهو مَن يجعل الجمهور يتدفّق الى المسرح أو الى السّيرك، وهو سبب رئيسي في نجاح هذا المشروع، فإنّ قَتْلَ هذه السّعادة ضروريّة لـ"ريمون" لكي يُرضي الضّابط المتوحّش واللئيم. ويلخّص الرّوائي "لبيد" ما به قائلاً: "أظن أنّ الهجرة أحيانا أرحم، بل أكثر جدوى من العيش مع الخوف.. لماذا يذهب شعبي كلّه للذّبح تحت وطأة الصّمت وخيانة أُلي القُربى؟..من سيُؤرِّخ الجحيم المسكوت عنه، ومن سيكتب روايات العار التي انتهَكَتْنا؟". لم يعُد السّيرك مكاناً للتّرفيه ولتقديم مسرحيّات تُسعِد النّاس وتُسلّيهم، بل إنّ كلّ ذلك تدمّر بعد تدميره، وبدلاً من ترويض الحيوانات والبَشر للُّعبة التّسلوية والإبداعيّة، تـَحوَّل الى رمزٍ لترويض البشر والحيوانات من قِبَل السُّلطة القامعة والظالمة والفاسدة. إنّها قصّة لواعج فنّانين مبدعين في مسرح تعرّض للقصف، وفي ذلك تَناسُب وعييّ مع شخصيّة لاعبي القصّة الذين يقدّمون قصّة قريبة من طبقة وعيهم الثّقافيّة ومن بيئتهم الحياتيّة والمهنيّة. هنالك ترميز لمعنى السّيرك بشكل مبطّن عن مجال هذا الفنّ الذي يتعامل مع المهرِّجين والحيوانات وفكرة التّرويض، وإسقاط على ساحة الوطن الذي فيه يتعاملون مع النّاس والحيوانات أيضا كمجال تسلية لتنفيذ وممارسة الظُّلم. يوجد ترميز شاعري لهذا المفهوم، وهذا أيضا كان مبرَّراً لكونه جزءاً من شخصيّة العرض في التّعبير عنه على لسان الشّخصيّات في المسرحيّة التي تتحدّث بمصطلحات مناسبة لخلفيّتها الثّقافيّة الإبداعة التي تقترب كثيراً من ثقافة المؤلّف/المخرج الثّوري، وصاحب الموقف والرّسالة من مجريات التّاريخ والسّياسة. ولأنها قصّة متجذّرة في وعي الـمُشاهِد وفِكْرِهِ الـمُسبَق عمّا يعرفه قبل مجيئه الى قاعة العرض عن واقعنا الحالي الذي نعيشه في مدن القَمع والظّلم والظّلام والحروب اللانهائيّة، فإنّ "جواد الأسدي" أراد تعميم الأمر إنسانيّاً، وإبداء موقف ثوريّ إنساني بما يتعلّق بالقضايا العادلة والأكتوآليّة، وفي ذلك رسالة مباشرة احتجاجيّة رافضة للظّلم؛ وكأنّ ما يريد قوله ينطبق على أيّ مكان فيه هذا النّوع من القمع والإرهاب والتّدمير والاغتصاب؛ حتى أنّه تفادى تسمية شخصيّاته بأسماء مألوفة في مجتمعنا أو مجتمَعِه العراقي، فـ"لبيد" و"كميلة" و"ريمون" هي أسماء نادرة، وحتى الكلب "دودين" ليس اسما مألوفاً في عالم الكلاب. هنالك تعميم في التّلميح عن مكان حدوث الحدث، فَـيُعطي الـمُتَلقّي المستهلِك للعرض القادم مع فِكرِه الـمُسبَق الـمُشابِه لأحداث الظُّلم التي تـَخصُّه إنسانيّاً بشكل عام، أو ما يخص الـمُـُتلقّي العربي الذي تتحدّث إليه المسرحيّة بلغته الفُصحى التي يفهمها أينما تواجد. فالفلسطيني أو العراقي أو السّوري أو أيّ متلقٍ عربي، يُعطَى الفرصة لكي يقرّب هذه الأحداث إليه ويقارنها كنموذج قريب من واقعه الخاص ومن فِكْره الوطني والقومي أو الإنساني العام. تبدو تراجيديتها الجِدّية ومأساويّة شخصيّاتها ثقيلة على الـمُشاهِد الـمُتعَب من مسلسل الظّلم والقمع الذي يتعرّض له، أو الذي يحيط بالإنسان العربي بشكل عام، كقضيّة تخصّ جغرافيّتَه، أو كقضيّة عربيّة عامّة. وأمّا في فكر الـمُتلقّي الـمُسبَق، فَـالمدينة هي الدّولة أو الوطن، والضّابط هو النّظام. لأنّه موضوع وطني سياسي صاخب وعنيف، وليس موضوعاً اجتماعيّاً عاديّاً، فإنّ ذلك يساعد المؤلّف/المخرج استغلال رموزه الـمُبَطّنة حسب نسبة الحرّيّة الـمُتاحة له، بحيث يـَحتاج أحيانا الى التّبطين كرقابة ذاتيّة ضمن حدود الممكن، بحيث يجعل التّرميز والتّبطين والإيحاء جزءاً من أدوات اللعبة الابداعيّة. العراقي المهموم، السّوري المهموم، الفلسطيني المهموم، والعربي المهموم بشكل عام، وأصعب أنواع التّعبير عن هذا الهمّ يحملها الـمُبدِع المهموم إبداعيّاً وحياتيّاً، الـمُلتزِم بقضاياه الحارقة، فيصبح اهتمامُه بـِهَمِّه الوطني والسّياسي والاجتماعي مضاعَفاً، حتى وإن كان انطلاقُه المبدئي هو إنساني بشكل عام. إنّ استغلال أنْسَنة المضمون وتقوية الجماليّات الإبداعيّة للعرض ساعدا المؤلّف/المخرج في تمرير أقصى ما يمكنه من منتوج اللعبة المسرحيّة. بشكل عام، عندما يكون موضوع المؤلف/المخرج سياسيّاً او وطنيّاً، تكون مواقفُه التّقدميّة وتحيّزه للعدالة وشجبه للظّلم فيه شيء من المباشَرة في الطرح أكثر من مواضيعه الاجتماعيّة والإنسانيّة العامّة، لا بل إنّه يعبّر عن ذلك كلاماً أو شعاراتيّاً، أو بقول رأيه المباشر نسبيّاً حسب مساحة الحريّة الـمُتاحة له، والتي تختلف بين بيئة يكون فيها مسموحاً له بحريّة التّعبير فيها، او عكس ذلك عندما يحتاج الى الرّقابة الذاتيّة أو التّبطين. يبدو المجمل العام لعرض "سيرك" كأنّه "فشّة غُلّ" أو شفاء غليل الكاتب عبر "فشّة غلّ" شخصيّاته عمّا تعرَّضَت له من ظلم وقسوة، وكأنّما هو أعطاها فرصة التّعبير عن ذاتها بشكل انفجار قد يؤدّي الى علاج، بدلاً من أن يؤدّي هذا الاحتقان الى انفجار داخلي، فأعطاها مُتَنفَّساً لحرّية التّعبير عمّا كان مُتراكِماً بداخلها بسبب الضّغط الخارجي الذي تعرّضت له من الأشرار. إنّها "فشّة غُل"، "فَشّة خُلْق"، حيث أصبح مُتاحاً للمبدع ولصاحب الرأي قول الحقيقة عندما أصبح من الـمَسموح ولو نسبيّاً البوح بها بأقلّ خطر من العقاب السُّلطوي، في الزّمان والمكان الـمُناسِبَين، وتفجير الـمَكبوت والـمَسكوت عنه. المسكوت عنه ينكشف الآن في الحكاية، في المسموح التّعبير عنه بعد صَمت معبّأ بما لم يكن مسموحاً به أن يتفجَّر بالقول والتّعبير. إنّه التَّوق الى وجود مساحة من الحريّة للتّعبير الحرّ عن لواعج الوطن والموقف المكشوف عن طريق الإبداع المسرحي بالمضمون، وبالوسائل الإبداعيّة بالشّكل، والتي تحتويها عناصر الفن المسرحي الجمالي. وفي لحظة ما يقترب الكلام من الخطابيّة الـمـنبريّة الاحتجاجيّة التّظاهريّة، وكأنما تودّ الشّخصيّات أن تقول للمُشامِعين، اي الـمُشاهدين والسّامعين:"شوفونا يا عالم، اسمعونا يا عالم". هنالك استشهاد بكثافة بكلّ ما يَخدم فِكرة الطّمع في البحث عن مَشاهد تـَخدم فِكرة الطَّمَع في الدراما، حتى ولو كان ذلك بتقريبها الى درجة الشِّعار والمنبريّة. يبدو كأنّما هنالك اختيار الحَدَث المليء بالعنف كمصدر للّعبة الدراميّة الحكائيّة التي تساعد على اللعب بالشّكل والمضمون من أوسع أبواب السّرد التّشويقي، وإعطاء الـمُمثّل أقصى ما يمكن من إمكانيّة التّعبير واللعب، وبالتّالي يساعده على الأداء الثُّلاثي الأبعاد المكّون من المخرج/ المؤلّف، وهو ذاته الشّخص الذي يدير اللعبة من جهة، والممثل من جهة أخرى، وربما هو ما يشكّل مرتكز الثّالوث المقدّس الذي يتشكّل من وحدة الجسد الـمُتكامل والـمُتناسق للعرض. إنّه الطّمَع في اختيار مواضيع فيها قَسوة دراميّة وقتل واضطهاد واغتصاب، وخُنوع وموت واستسلام، وصراع ضد الظّلم، وصراع من أجل عَرش السُّلطة أو ضدّها. إنّه الطّمع في الاستيحاء من واقع عنيف وقاسٍ مغرٍ من أجل الحصول على اللعبة المسرحيّة شكلاً ومضموناً، وزاخرٌ بالتّشويق وحبّ الاستطلاع. كلّ ذلك يشكّل نقطة انطلاق للحكاية التي يغرف المؤلّف/المخرج من نَبْعِها الدرامي المتدفّق لكي يعبّر عن احتجاجه الصّارخ ضدّ الظّلم. ما رأيناه في أعمال "جواد الأسدي" في مسرحيّة "انسوا هملت"، ومسرحية "الـمُجَنْزَرة مَكْبِث"، واختياره لمسرحية "الاغتصاب" لـ"سعدالله ونّوس" والتي أخرجها "جواد" للمسرح الوطني الفلسطيني، يصبّ في هذه النّيّة من الطّمع من أجل الوصول الى اللعبة المسرحيّة؛ ولكي يؤكّد لنا ميله الى الدراميّة التراجيديّة، فإنّه يلمّح لنا ضمن مسرحيّة "سيرك" عن تراجيديا "الملك لير" و"ماكبث" و"هملت"، كأعمال كانت تُقدَّم على خشبة مسرح سيرك "جواد"، لتذكيرنا بأنّ القتل والاقتتال والعنف دورةٌ مستمرة ولانهائيّة، وما يتأتّى عن ذلك من شكل يوحي بالتّعلّق بالمسرح الشّكسبيري لما به من شاعريّة ودراما ومضمون تراجيدي في معظمه.
أسلوب عرض مسرحيّة "سيرك": أمامنا عمل مسرحي يعتمد جسدُه العام على شَراكَة عمل مخرج/مؤلّف مع ممثّليه، يجعلنا نركّز في متابعتنا له على عنصر التّمثيل الـمُحترِف في جوّ سينوچرافي متقشّف في بناء فضاء المنصّة، بحيث يعتمد مَلءُ فضائِها على الأداء التّمثيلي، والقُدرة على تحويل نصّ شبيه بسيناريو لا يتوضّح إلّا من خلال تـَحوُّله الى لعبة مسرحيّة متكاملة الأوصاف. عندما تقرؤه لا تستطيع أنْ تتوقّع كيف سيكون عليه عندما يصبح جسداً معبّأً بحيويّته التي تُحوِّل الهيكل العظمي لنصّ كلامي مطبوع على ورق، الى عرض مسرحيّ معبّأ باللحم والدّم والشّحم والعضلات والحياة، بكَرَمٍ منقطع النّظير لما يحمله هذا النّص من وراء سُطوره، لأنّ تصوّره النّهائي موجود في رأس المؤلّف/ المخرج. هذا ما يجعل خيوط اللعبة واضحة المعالم عندما يقوم صاحبها بتنفيذها مع الطّاقم المشارك معه في عمليّة الإنتاج والإبداع. تتحوّل شخصيّاتُه الى أُناس من لحم ودم، والى صراع حقيقي فيما بينها لكي تبثّ لواعجَها التي يصعُب مَلؤُها بكلّ تفاصيلها ضمن النّص الورقي. ومن هنا يكمن سرّ اللعبة المسرحيّة التي تتحوّل من صفحات قليلة مكتوبة، الى حياة مكثَّفَة ومُـمَنْتَجة، أي التي تصل إلينا من خلال عمليّة التّقطيع، الى اكتمال الحَبكة والسَّرد؛ ومع تقدّم العرض تبدأ خيوط الحكاية وسردها تتوضّح لتكتمل مع اكتمال معرفتنا لقصّة كلّ شخصيّة من شخصيّات الحكاية ومضامينها، ومن ثمّ الى الوصول الى الجسد المتكامل للعرض. كان لافتاً للانتباه ضمن هذا السّيناريو الـمُمَنْتَج للنّص(editting) وجود خمسة ممثلين يبدون كالكومبارس الذين كانوا يساعدون على الرّبط بين الـمـَشاهد بشكل ترميزي، وأحياناً بَدوا كأنهم مديرو منصّة أو ما يُطلق عليهم stage managers لكي يساعدوا على ربط أجزاء الحكاية، شكلاً ومضموناً، وهي خِدعة ذكيّة من المؤلّف/ المخرج للرّبط بين الـمَشاهد دون الحاجة الى تعتيم جزئي أو إسدال ستائر، وما يساعد على تدفّق العرض بإيقاعه المنطقي. ما يعني مشاهدو هذا العرض هو ما يشاهدونه أمامهم، ولا حاجة للرّجوع الى النّص الورقي المكتوب، فهم يتلقّونه كاملاً وبكَرَم بكلّ ما فيه من تشويق وفُرجة وقصّة محكيّة ومؤدّاة حركيّاً وإحساسيّاً وعاطفيّاً، من خلال ضَخّ كلّ ما يـُمتّعهم ويفيدهم من مغزى ومضمون، وكلّ ما تتمتّع به اللعبة المسرحيّة من عناصر العرض المسرحي الـمُقوّية للعرض فُرجوياً وسماعيّا، تمثيلاً وتقنيّاً وموسيقى تصويريّة وديكورات ..الخ يبدو جليّاً المجهود الكبير الذي بذله المؤلّف/المخرج مع ممثّليه من أجل تحويل العمل من كلام على ورق الى جسد مسرحي وآدمي مشوِّق ناتج عن مُختبَر البروڤات الـمُنهِكة للمشاركين فيه. يبدو جَليّاً هنا وجود ممثّلين واعين يُساهمون مع المؤلّف/المخرج في عَجْن أدوارهم جماعيّاً من أجل الوصول الى هذا المنتوج الإبداعي الذي أمامنا. ويبدو واضحاً أيضاً أنّ النّص المسرحي الصّادر عن مؤلّف/مخرج مرتبطٌ فقط بِنيّة تقديمه معروضاً أمامنا على المنصّة، وليس كنصّ أدبي مكتوب من أجل قراءته ورقيّاً، والدّليل على ذلك أنّه يبدو متكاملاً وواضحاً عندما يتحوّل المنتوج الى عرض متكامل على المنصّة. أماممنا ممثلون مبدعون مثقفون يسردون قصّة نابعة من مجالهم الإبداعي، ومُصطلحات نصِّهم ولغتِهم نابعة من أفق ثقافي واسع، يترأسهم وعيُ وثقافةُ المؤلّف/المخرج، وكلُّ ذلك يتمثّل بالشّخصيّات اللاعبة للقصّة وعلى رأسها شخصيّة روائي وممثّل وممثلة. لغة الشّخصيّات الواسعة فيها سموّ يبرّر حديثَهم بالفُصحى، والقريب الى الشّاعريّة السّامية، وهذا لم يكن متناقضاً مع قصّة المسرحيّة التي تحكي قصّتهم كممارسين لهذه اللعبة في مسرح سيركي، وكأنّما هم يسردون قصّتهم الواقعية التي كان جزءٌ منها يحدث داخل جدران هذا المسرح أو هذا السّيرك. كان جليّاً وملفتاً للانتباه خلال عرض مسرحيّة "سيرك" قُدرة الممثّلين والمخرج/المؤلّف وطاقم الانتاج على تجسيد النّص، وعلى مهنيّة الممثّلين في تطويع مشاعرهم وعواطفهم وردود أفعالهم وتفاعلاتهم مع بعض، ما خَلق نصّاً جديداً هو نصّ المنصّة، نصّ العرض المسرحي، أو جسد العرض المسرحي الـمُقنِع والمتماسك في أعضائه الحيويّة، من حيث تحويله الى حياة جديدة تـَطلَّب تـَجسيدُها على المسرح طاقةً جبّارة وموهبةً وحِرْفيّة ساحرة وجميلة، وملء فضاء المنصّة ومساحتها بوجود تـَقشُّف ديكوراتي، ما جعلنا كمُشامعين، أي كمشاهدين وسامعين، نَصُبّ معظمَ تركيزِنا على الامتلاء منها بمتابعة التّمثيل، وما تـَميَّز فيه الممثّلون بحركاتهم العريضة والتّغريبيّة أحياناً، وأحياناً الشّبيهة بالحركات التّهويليّة التي تَميَّز بها جدّنا الأكبر الحكواتي، الممثّل الأول، وما يُطلَق عليه في العراق اسم "القَصْخون" اي راوي القصّة. وحتى أن بعضاً من أداء الممثلة "شَذى سالم" في دور "كميلة" بدا بحركاتها العريضة لدرجة التّشبّه بحركات ممثّلي الكابوكي اليابانيّين، وهو أيضا نوع من الحكواتيّين من شرق آسيا. أمامنا حركات وتحرّكات عريضة لممثّلين حكواتيّين، قصّخونيّين، تـُميِّزُهم في لعبتهم المسرحيّة التي تختلف عن الحركة أمام الكاميرا. هي حركة تجعلنا في هذه المسرحيّة نقترب من اللعبة التّغريبيّة في الأداء، ما تؤكّده من خلال استعمال اللغة الفصحى في العرض، البعيدة عن اللغة التي نتحاور بها في حياتنا اليومية الواقعيّة، فهي ليست لهجة الممثلين ذاتهم في حياتهم اليوميّة الواقعيّة. إنّه اللعب الواضح على مقولة it is as if not as، أي "كأنّه وليس كما هو عليه"، بشكل قويّ ما يقوّي عنصر الإيهام والايحاء. ابتكر المخرج تقنية تُسهِّل تتبّعنا لمكان وزمان واستمراريّة السّرد للأحداث من خلال استغلاله الطّاولة والكراسي كاكسسوارات متنقلة للتّعبير عن أماكن مختلفة من أماكن سرد القصّة وأحداثِها وأدائِها، وعلينا أنْ نتخيّلها سينوچرافيّاً وافتراضيّاً وتـَخيُّلاً من خلال تَعدّد استعمالاتها كحوض ماء، أو كأنْ نتواجد في حديقة عامة؛ والطّاولة تتحوّل الى منبر ومنصّة تستغلها الممثّلة البطلة لكي تسرد حكايتها وتُلقي خطاباتـِها أو قصائدَها فتقول مثلاً: "مَن سيَكتُب قصيدة وحدتي؟". وأمّا المنصّة فَجُدرانـُها مائلة آيلة الى السّقوط، لكي نستوحي أنّها تعبّر عن جدران السّيرك المقصوف. **** *راضي شحادة: مسرحيّ وروائي وباحث فلسطيني.
#راضي_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل المسرح توثيقي وخادم للتراث؟
-
نِسبة حرّية التّعبيرّ في المُنتَج الثَّقافي لدى فلسطينيّي ال
...
-
الهُوِيَّة والأَناوِيَّة- محاولات -إسرائيل- الحَثيثة صَهْر ه
...
-
الهُوِيَّة- و-الأَنَاوِيَّة-* - محاولات -إسرائيل- الحَثيثة ص
...
-
فيلم -صالون هُدى-
-
ما أجمل البساط الأحر، لولا..راضي شحادة
-
التَّخَفِّي والظُّهور خلف قناع وماكياج
-
ما معنى سماح ادريس؟
-
حُطّ راسك بين هالرّوس
-
ورطتنا في أوسلو
-
اللعبة التنكّريّة القاتلة
-
زمن الجوائح العربيّة- تَساؤلاتُ مُلِحّة وحارقة ومُربِكة
-
تساؤلات عربي فلسطيني -مقهور-
-
حارس القدس- سجين القضية الفلسطينية والعربية
-
إحذروا الفوضى واللعب مع كوماندوز -المُستَعرِبين-
-
الشرف المطعون
-
معركة الدَّامُورْ ونُون البندورة- محاكمة فيلم -قضية رقم23- -
...
-
المسكوت عنه في أزمة الممثل الفلسطيني بين العرض والطلب
-
جيش الدفاع الديمقراطي
-
امبراطورية رأس المال وثورات العرب
المزيد.....
-
بعد نجاح فيلم -الدشاش- جماهيريا.. هل نجح محمد سعد في استعادة
...
-
الدين مادة أساسية بمدارس مصر.. ما وجه الاعتراض؟
-
بعد ساعتين بالظبط هتشوف العظمة”.. مسلسل عثمان 178 الحلقة الج
...
-
المترجم جنغيز عبد الواحد ”فرض رسوم لخدمة الترجمة قد يؤدي إلى
...
-
الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت -سياسات الهوية- السردية الس
...
-
أحزاب تيدو تريد من المولودين في الخارج دفع رسوم الترجمة بأنف
...
-
تركي آل الشيخ يعلن عن حدث مهم بتاريخ صناعة السينما في السعود
...
-
دار الأنام اللبنانية تصدر كتاباً جديداً للدكتور زهير ياسين ش
...
-
مصر.. حارس مصري يرتكب جريمة مروعة في معهد للسينما
-
الأنبار.. خطاطون وفنانون يشكون الإهمال وقلة الدعم
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|