|
دراسة نقدية / حول نص “سرير السراب”
فراس الوائلي
الحوار المتمدن-العدد: 8229 - 2025 / 1 / 21 - 09:37
المحور:
الادب والفن
سرد تعبيري
النص/ سرير السراب
ذاكرة مهشمة يعربد فيها التشتت، قلبٌ يطوقه الغثيان، جسدٌ وبقايا روح، جذور حية لشجرة ميتة تنام كل ليلية على سرير السراب، تحت قمر الحقيقة المتشظي، حين تبحث عن أمل بارق في عيني فجر مكبل بالرماد. الضياع يطارد الأحلام، الهواء المر لا تعرفه الرياح، والمآذن التي تخلت عن الشمس لا يزال صراخها في دمي. المدن ترعى الغربة، والقلم المكسور يخط “لا أستطيع العودة إليكم، دعوني”، فهذه الشمس الناعسة يغفو الإخضرار الحزين على رموشها السمراء. فكرٌ مشوش يرسم الكلمات. تمثال سومري يتحدث عن الوفاء، كمنجات بلا ذاكرة. هلوسة الوساوس والبارانويا، والعود الذي مزقت أوتاره شراييني، قرر الرحيل لزمن خفي في المستقبل حيث وعدني باللقاء. انتبهت لنفسي، وإذا بالنهار يومئ لي بقصيدة أخرى. فراس الوائلي …. النص الذي بين أيدينا، والذي يحمل عنوان “سرير السراب”، يمثل فضاءً شعرياً معقداً يتمزج فيه الواقع بالخيال، والفوضى بالترتيب، بينما تمزج تقنياته المجازية بين الانكسار والبعثرة اللغوية لرسم هويات متسائلة غير مكتملة، كما لو أن الشاعر يرسل الضوء عبر الثقوب السوداء في ظلمات كونية. هذه القصيدة تتحدى التقليدية، وتُعرِّف جماليات الشعر الحداثي على طريقتها الخاصة.
1. “السراب” ومفارقات النص الفلسفية:
الشاعر هنا يطفو بعيدًا عن عالمه الواقعي، مستبدلاً إياه بكيانات رمزية مترسخة في واقع غير مستقر. فالسراب هو عنصر المجاز المسيطر الذي يستدعي معاني الانشطار والتلاشي؛ إنه سرير الحياة الوهمية. إن حالة الشاعر المترنحة بين الموت والحياة، الفقدان والوجد، ووجوده الذي يهتز بين “جذور حية” و”شجرة ميتة”، ترتبط بتقنية التقابل الأضواء، حيث يتم تجاهل الظلال الضبابية من أجل سبر أغوار الأشعة المتناثرة.
التنقل بين الضوء والظلام بين تاريخه الشخصي وجميع مفرداته – كالذاكرة المهشمة، والسراب، والرماد – يخلق شبه رسالة فلسفية عن الإنسان بين الوجود المتعالي والتواجد الدنيوي، الذي يركز على لعبة الضوء والمحو، فضوء الإلهام هنا ينزع واقعية اليوم المعاش ويحاول البقاء في الوجود والتفكير بالمستقبل المبهم.
2. أسلوب الدفقة الوجدانية الحادة وصورة الوشائج الضوئية:
أسلوب النص يستدعي لغة ما بعد الحداثة ليجذب القارئ لتشكيل قراءة متعددة الأبعاد، حيث ينزف الوعي الشعري كالضوء الذي يتراكم ويتناثر في الفضاء الداخلي من خلال “الضياع يطارد الأحلام” و”جسدي وبقايا روحي”. إن الشطر الذي يكتب عن “الهواء المر الذي لا تعرفه الرياح” يشير مباشرة إلى حالة من الجمود الكوني التي ترفض أية احتمالات للتفسير العقلاني. أما “المآذن التي تخلت عن الشمس” فهي صورة ضوئية تعكس مدى القلق على الأرواح في وقت الحروب الداخلية التي تتمزق بين نداء الخلاص واستحالة تحقيقه.
إن الشاعر يتنبأ بآلامه وكأن الشكوك تضاعف إيقاع الزمن، متأرجحًا بين الممكن والمستحيل، حتى يغرق في هذه الهياكل الضوئية التي تحمل لوحات الذاكرة “سومرية” كدعوة لفهم نبض الماضي الذي أسلمه المستقبل.
3. أشكال السرد وما بعد السرد:
فكرة الفقد المزدوج هنا متمثلة في العواطف المتناقضة تتطلب منا إعمال القراءة النقدية متعددة المناظير. النص ليس عبارة عن سرد خطي مرسوم على سطر، بل هو تلاعب عشوائي ومقصود بين الوعي، الذكريات المنثورة والشوق المستمر وراء الوعود المُراوغة. “القلم المكسور يخط لا أستطيع العودة إليكم” يشير إلى الاحتباس والموت التواصلي بين الكلمات وتفضيل التجوال في خبايا الآخر الداخل في انطواء جزئي عن الذات.
أما الولوج إلى حالة الغربة التي تفترس المكان كما هو الحال في صورة “المآذن التي تخلت عن الشمس”، يعكس نمطًا أدائيًا لإيصال صورة ملموسة ومشوشة لحالة الشعور بالضياع بين المطلق والنسبي.
4. الإشعاع التوسعي والتشابك بين الزمن والمكان:
يتسم النص بحركية قادرة على كسر الخوف من السكون. فالعلاقة بين الأزمان المستقبلية والشعور بالزمن الخفي هي بنية تفتح النقاش عن قدرة الذات الشاعرة على تأمل الألم والفقد والأمل التائه بطريقة غنية بالصور التجريدية. سؤال هذا النص هو: هل الحياة تبدأ مع لحظة فقد؟ إن الاستفهام هنا يبدو ضوءاً ساطعًا في دائرة مغلقة يُبتكر فيها التنقل داخل مفهومات الكون عبر الحدث البشري، كالذروة التي تلمس شدة الاندفاع الذاتي والتحدي مع الحواس.
خاتمة:
يستدعي النص “سرير السراب” منا فتح النقاش عن الروح المشتتة التي تكشف نفسها أمام ما وراء التحديدات الزمنية أو المكانية، ليبرز صراع الوجود كأداة تجريبه والتعامل معه بماديات الذاكرة والمكان المقدس.
من خلال كلمات تفجيرية مزدوجة مثل: “والمآذن التي تخلت عن الشمس”، و”قلب يطوقه الغثيان”، يدعونا النص للتساؤل حول ملحمة تطهير الذهن أو السعي لحلول جديدة لمكان خارجي غير قابل للوجود المجازي.
إن في “سرير السراب” يكمن الاعتراف العميق بتداخل العناصر الكونية كإسقاطات مختلفة للتنوير والموت معًا عبر وصلة من الضوء. وبذلك، تكون القصيدة تجربة اختبار مستمر للمحركات الباطنية التي ترد الوعي الفني للوجود الكوني، وتمنح الشاعر الضوء والظلام، مسترجعًا عالمية المختلف الذي لا يمكن إمساكه أو تصنيفه كتحليل بسيط.
ديترويت/ ميشيغان 2025/1/20
#فراس_الوائلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا لست شاعرا
-
قراءة نقدية أسلوبية مختصرة في قصيدة /ديسمبر المضيء/ لفراس ال
...
-
أنا لا اكتب قصيدة
-
إضاءة أدبية في نص / متاهات الانتظار/ للشاعرة سمر الديك/ بقلم
...
-
ضوء الأكوان
-
ديسمبر المضيء
-
قراءات نفسية في قصائد سردية تعبيرية/ بقلم الناقد والشاعر الق
...
-
سرد تعبيري/ ربة الأنا
-
اللوحة الغامضة/ سرد تعبيري
-
سرد تعبيري/ أساور الشتاء
-
سرد تعبيري/ أنثى الأنا
-
الرمز الصوفي في الشعر التعبيري السردي عند فراس الوائلي/ بقلم
...
-
الرمز الصوفي في الشعر التعبيري السردي
-
الإنسان بين عالمين
-
دمع الرماد
-
قراءة أدبية في قصيدة ( أورورا) للشاعر فراس الوائلي بقلم الشا
...
-
قراءة أدبية في قصيدة (( أورورا)) للشاعر المبدع فراس الوائلي
...
-
دراسة نقدية / بقلم الناقدة الفذة د . رشا السيد أحمد / الرمزي
...
-
دم الحسين
-
نصان سرديان/ قصة الخراب/ غربة الناي
المزيد.....
-
ثلاثة أفلام روسية تفوز بجوائز في مهرجان دكا السينمائي
-
-من النهر إلى البحر- لسامر أبو هواش: رحلة في قلب الألم الفلس
...
-
عبد الجبار الرفاعي في اتحاد الأدباء: القراءة رحلة اكتشاف مرت
...
-
الناصرية تلتحق ببغداد والبصرة والموصل باعادة افتتاح شارع الث
...
-
-من الصفر إلى القمة-.. جمال بنون يقدم دليلاً عمليًا لتحقيق ا
...
-
-هند تحت الحصار-.. رحلة سينمائية إلى قلب الصمود الفلسطيني
-
قصة عائلة مصرية احترفت الخط العربي على مدى قرنين من الزمان
-
مثقفو سوريا: بلادنا -قارة- مبدعين مستقبلها مرهون بالغنى والت
...
-
جوائز الفنانين السوريين في حفل صنّاع الترفيه -Joy Awards-..
...
-
عروض جليدية روسية مبهرة في افتتاح الموسم الثقافي في أستراليا
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|