|
حب مدفون في العفن .. ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8227 - 2025 / 1 / 19 - 10:43
المحور:
الادب والفن
تدحرجتُ بهدوء نحو شارع بشار .. وقفتُ أمام بناية كبيرة خافق القلب . وأنا أدخل هبّت عليّ روائح الحمامات والبيرة وعطور من النوع الرخيص .. وقفتُ وأنا أذوب خجلاً أمام امرأة سمينة يفيض لحمها من جنبيها .. فشل المكياج الصارخ في إخفاء قبح سحنتها .. يتناثر من فمها أسوء كلام فاحش سمعته في حياتي .. تفرستني بعينين واسعتين زاد الكحل من اتساعهما ، ثم قالت بصوت مقتضب : — إختر .. أيهن تريد .. ؟ مددت بصري نحو مجموعة من النسوة يجلسن نصف عاريات .. فيهن النحيفة والممتلئة .. السمراء والبيضاء .. المرغوبة والتي بحسرة من يشتهيها .. قلت بلا تفكير : تلك .. ! وأشرت الى فتاة تبدو أصغرهن تجلس صامتة ساهمة تحدق في اللاشيء كأنها في عالم آخر .. تمتمتْ المرأة السمينة بعد أن حدجتني بنظرة صامتة : ( تفاحة .. ! ) ثم التفتت نحو الفتاة ، وأشارت لها باصبعها أن تجهز .. أعطتني قرصاً بعد أن استلمت ثمنه .. امتثلت الفتاة فوراً كأن أمراً عسكرياً صارما قد صدر لها .. انتفضت واقفة بتكاسل ، وبحركة سريعة من يدها سترت الأجزاء الفاضحة من جسدها .. تسلقتني بنظراتها المتفحصة مرات ، ثم قالت ببرود ، وهي تلاعب العلكة بين أسنانها : — اسبقني .. جهز نفسك .. لن أتأخر .. وجدتُ نفسي أقف كالأبله وسط غرفة معطرة شبه عارية إلا من سرير متهالك ومرآة مكسورة وطبلة صغيرة . علتني رجفة فجائية ، وأنا أراها بعد لحظات تقف أمامي ، وبمجرد دخولها خطفت القرص من يدي وأخفته في جيبها ، ثم أخذت تتجرد من ثيابها قطعة قطعة حتى أصبحت عارية إلا ما يستر العورة .. ألقت بجسدها المنحوت بدقة على السرير ، ثم سترت نفسها بشرشف .. كنت أتأمل المشهد بغباء ، وكأني لم أكن معنياً بما كان يدور أمامي . لم أدري ماذا أفعل . هممت بالمغادرة ، وترك كل شيء ورائي ونسيان الموضوع ، لكني تسمّرت في مكاني كأن جسدي قد شُل . هزّت رأسها متأففة ، ثم قفزت من مكانها متلفلفة بالشرشف ، وسحبتني من يدي ، وقالت ضاحكة : — تعال .. لا تخف لن آكلك .. باين عليك غشيم لا تعرف رأسك من رجليك .. بعد أن أفقت من ذهولي أدركت ما يجب علي فعله ، لكن ما اكتشفته لا يشبه في شيء ما كنت سمعته أو تصورته في مخيلتي عن عالم اللذة هذا . رغم إدراكي بأنها لحظة عابرة وتمضي ، لكن شيئاً في داخلي أشعرني بانجذاب غريب نحو الفتاة . كان الوقت محدداً ليس فيه رفاهية الهدر ، فالزوار كُثر .. تبادلنا أي كلام ، ثم سلمتني جسدها بطريقة آلية دون أحاسيس تُذكر .. ! افترقنا يملأني خيالها ، وخيط خفي فشلت في تعريفه أغراني لأعود اليها في الأيام التالية ثانية وثالثة .. وهكذا أخذت أهرع الى أحضانها كلما اشتعل قلبي حنينا حتى أصبحتُ زَبوناً دائماً يعرفني كل من في ( المنزول ) .. ! بمجرد رؤيتي قادماً تسارع المرأة السمينة الى تنبيه ( تفاحة ) أن تستعد ، وهي تضحك بأعلى صوتها وتقول : — ها هو رجلك العاشق الولهان شرَّف .. يُصادف أحياناً أن تكون في خلوة ، وهي لحظات شديدة القسوة عليّ كنت أقضيها ممزقاً مقهوراً ، وأنا أتخيلها في أحضان رجل آخر ينهش في جسدها .. لعلها الغيرة القاتلة التي كانت حِمماً تحرق قلبي على مجرد قحبة لم يكن بيننا سوى عملية مقايضة المال مقابل إشباع الغريزة . شعرتُ براحة وأنا أراها ، وقد بدت في لقاءاتنا التالية هادئة طيبة غير مستعجلة تسبقها ابتسامة مشرقة . قالت لي يوماً ، وهي تتفرس في وجهي باعجاب : أريد أن أعرف أسمك ؟ قلت : — حسن .. — وأنتِ .. ؟ — تفاحة .. غلبتني ابتسامة لم أستطع كتمها فقلت : — اسمك الحقيقي .. ؟ ضحكت وهمست في أذني كأنها تُفشي سراً : — مروج .. ثم قامت من مكانها ، وضمتني الى صدرها .. بدت بين يدي كطفلة يتيمة .. تمتمتْ وهي تدفن رأسها في صدري : — لا أدري ماذا فعلتَ لي .. كأنك مسحت بكفك على قلبي . هل تصدقني لو قلت لك أني بدأت أحبك .. ؟ ربما هناك شيئاً لا يعرفه إلا الله قد جمعنا معاً .. قد لا تصدقني ، لكني اتكلم معك من قلبي . — أنا أيضاً احببتكِ منذ أن وقعت عليك عيناي ، وأنتِ تجلسين كنجمة مشرقة أو شيئاً يشبهها .. هذا هو الحب يا تفاحة أو مروج الذي لا حكم لنا على مساره .. ثم سلمتني نفسها بصدق .. فعلتُ الشيء نفسه ، لكن بإتقان هذه المرة . خرجتُ محتضناً فرحتي كأسعد انسان لأني أصبحت موضع اهتمام كائن رقيق وجميل مثلها . تأكد لي بأن الحب أجمل مما قال عنه الشعراء وألذ ، وأن شيئاً يشبه عالماً جديداً ملوناً بدأ يتشكل بين يديَّ . كفت المرأة السمينة عن محاسبتنا على الوقت . كانت تتركنا على راحتنا ربما لأنها رأت فينا حلم حياتها الذي ضاع منها يوماً . قالت تفاحة وسيل الكلام ينهمر من قلبها : — أعرف أنك ككل الرجال تريد امرأة لم تمسها يد رجل قبلك .. كيف بإمرأة مرّ على جسدها المئات .. كلٌ يريدها لفراشه لا لشيء آخر . لم أختر مهنتي هذه رغبةً مني ، بل دفعتني اليها قسوة الأيام .. ( أكملت وهي تبكي .. ) قد تظن أن ما تسمعه هنا من رنين ضحكاتنا ، وطقطقت العلكة في أفواهنا ، وما تراه من حركات العُهر التي تبدر منا أننا سعيدات هانئات .. أبداً .. لزوم الشغل حبيبي .. أما الحقيقة فكل واحدة منا تنكفئ على مأساة تُبكي الصخر . نحن الخاطئات مظلومات .. لسنا مقطوعات ، بل بنات عوائل وأصول .. قل لي بربك من هذا الذي لا يخطئ .. الله يقول كل بني آدم خطاء .. حتى الانبياء أخطأوا .. ليس لنا إلا الله نتضرع اليه دوماً أن لا ينسانا ، فهو الوحيد القادر على فهمنا وانصافنا .. الناس يا غالي يموتون مرة واحدة ، أما أنا فأموت في كل لحظة .. ما أفظع أن تعيش مع فكرة الموت تطاردك ليل نهار حتى في أحلامك .. ! أحسست أن كل ما قالته هذه الطفلة الشقية كان خارجاً من قلبها ، وأنني أقف أمام مأساة إنسانة معذبة . وفي يوم ربيعي دافئ سألتها عن رأيها في أن نلتقي خارج هذا العفن .. رفضت بشدة وقالت : — بودي ومنى عيني .. ثم صمتت .. اليك شيئاً من قصتي كما وعدتك لتفهم سبب رفضي .. أشاحت بوجهها دامعة نحو الفراغ وقالت : كم كانت تلك الأيام قاسية .. ! بعد أن نفرني الجبان الذي أغواني وتنكر لفعلته ، ولى هارباً . بقيت أتلوى قابضة على الجمر أكابد محنتي وحدي .. أنا التي أحببته ومنحته ما لم أمنحه لغيره .. وفي ليلة كان البرد فيها قارصاً ، وبعد أن كبرت الفضيحة وأصبحت مثل كرة النار ، وضعت أمي أساورها وبعض الاوراق المالية وخاتم من ذهب في منديل وشدته باحكام ووضعته في يدي .. ضمتني الى صدرها ، وتمتمتْ في أذني بكلمات مرتعشة وهي تبكي : — أخرجي الآن قبل أن ينتبه أخوتك ، ولا تلتفتي ورائك .. سترك الظلام ، ودليلك الرحمن يحفظك .. ! ثم قبلتني وأجهشت .. ظل مشهد وداعي الأخير لأمي ماثلاً في أحلامي يدمي قلبي ولازال . تناولتُ حقيبة صغيرة وضعت فيها أغراضي .. يتملكني الخوف ، وتعلوني الصفرة ، وأختفيت في أعماق الليل . أمضيت حياتي بعد ذلك هاربة أختبئ في العتمة ، وأتنقل من مدينة الى أخرى مثل أرنب مذعور ، والخوف يأكل قلبي .. أحمل مصيري على راحة يدي ، وأشق طريقي متلفتة مخافة أن تلمحني عينا متربص لئيم .. مستنفرة دوماً غريزة الهرب في داخلي لأنجو بنفسي الشقية عند أدنى إحساس بالخطر . أتوجس من كل ما يحيط بي ، وأتحسس خطر الموت أينما حللت حتى تعبت من حياتي وسأمتها . حاولت وكم حاولت أن أجد من يسترني لأعبر به أبواب الخوف والظلام باتجاه الأمان ونور الشمس ، لكن من هذا الذي يستر على فضلة غيره ..؟! أكملتْ وهي تعض على شفتها حتى لا تنفجر باكية : كانت فكرة الانتحار تلاحقني كظلي لأرتاح وأريِّح ، لكن مهما يكن ، فالروح عزيزة عند صاحبها ، وإن كان عليّ لغادرت هذه الدنيا الملعونة غير نادمة ، لكن ما ذنب الكائن الذي بدأ يتكون في أحشائي . لحظتها اكتشفت متأخرة عبث الدنيا حين تُلاعب من هم تحت رحمتها . لم أجد أمامي غير جسدي المنكسر ، ثم وأنا أُقدم خطوة وأتراجع خطوتين شعرت كأن يداً خفية هي من دفعت بي الى هذا المستنقع لمزيد من الغرق والعذاب والمهانة . ومنذ ذلك اليوم أصبح جسدي مستباحاً ولم يعد ملكي .. رغم إحساسي بالأمان نوعاً ما في عزلتي هذه إلا أن ما يخيفني هو أن أصحو يوماً وأجد احد أشقائي كالقدر أمامي ، فلن يتردد حينها ثانية واحدة للاجهاز علي وذبحي ، ولأني زانية لوثت شرف العائلة لن يطاله أي عقاب . سيخرج في اليوم التالي ، وقد تحول الى بطل محمولاً على الأكتاف . كنت أبكي طوال رحلة الآلام تلك دون توقف ، وكثيراً ما كنت أتقيأ دماً . كنت أقنع نفسي بأن المسافات الشاسعة ، والجدران السميكة التي تركتها ورائي ستعطيني فسحة أمان كافية ، وكنت أصرخ بأعلى صوتي : يا الله امنحني من عندك صبراً لكي أنسى ، وأتحمل أوزان الحياة الثقيلة التي ينوء بها جسدي الضعيف . توقفتْ لتمسح دموعها ولتناول رشفة ماء .. كنت أسمعها بكل جوارحي ، وخوفي عليها يشتد . شعرتُ بالألم الذي يسكن عينيها ، وبالجرح العميق الذي وجد له طريقاً الى قلبها . كنت عاجزاً لم يكن بيدي شيئاً أفعله .. قالت مستسلمة : — يكفينا حبيبي ما نحن فيه من سعادة وأمان . علينا أن لا نطمع بالمزيد . من ناحيتي أتمنى أن أظل ما تبقى لي من عمر بين ذراعيك ، وأن لا أتركك أبداً ، ولا أفكر في أي شيء آخر غيرك . أعرف أنه وعداً لن يتحقق ، فالنهاية المؤجلة حتمية كأني أراها الآن شاخصة أمام عينّي ، والآن دعني أستمتع بصحبتك ما تبقى لي من أيام حتى يدركني ذلك الأجل .. ثم اندست في حضني وتمتمت في تضرع : حبيبي حسن أنا تعبانة أريد أن أرتاح .. يا الله كم أشعر بالحاجة الى النوم كأني لم أنم في حياتي .. ! اهتزَّ بدني عند تصوري المشهد المخيف الذي رسمته من وحي معاناتها .. تخيلت في لحظات شكل حياتي بدونها .. دمعت عيناي .. بدت لي خائفة كطفلة مذنبة تنتظر عقابها .. ضممتها الى صدري وقبلت جبينها . شعرتُ بها ترتعش بين ذراعي ، وبكينا معاً .. ألقيت الغطاء عليها وأحكمت أطرافه .. رأيت في عينيها المغمضتين سكينة واستسلام لم أراهما من قبل .. بقيتُ لحظات أتمعن في وجهها الطفولي كأني أتزود منه لما تبقى لي من عمر .. لثمتُ جبينها بلطف .. لملمت أشلاء قلبي ، ثم غادرتُ مقهوراً لدرجة البكاء يمزقني التوجس والأسى .. !! ( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امرأة من ذلك الزمان .. ! ( قصة قصيرة )
-
خرجتْ ولم تعد .. ! ( قصة قصيرة )
-
المخاض .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة الموبايل .. ! ( قصة قصيرة )
-
المال حين يتكلم .. ! ( قصة قصيرة )
-
سرّي الدفين .. ! ( قصة قصيرة )
-
هَمْ البنات للممات .. ! ( قصة قصيرة )
-
راشيل .. ! ( قصة قصيرة )
-
يد القدر الثقيلة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عامل الزمن .. ! ( قصة قصيرة )
-
لا حياة مع زوج خائن .. ! ( قصة قصيرة )
-
في حياتنا رجل .. ! ( قصة قصيرة )
-
رغبات مكبوتة .. ! ( قصة قصيرة )
-
شجاعة نسوان أيام زمان .. ! ( قصة قصيرة )
-
أنا .. وأمي الخائنة .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة عناق .. ! ( قصة قصيرة )
-
نحن مسلمون .. ! ( قصة قصيرة )
-
البحث عن مكان في الحياة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )
-
راوية .. ! ( قصة قصيرة )
المزيد.....
-
معزوفة اليوم السابع.. جديد الروائي الأردني جلال برجس
-
فيلم -مرعب 3-.. دماء وجثث وأعضاء متناثرة وسط حبكة غير مكتملة
...
-
متحف السلطان دينار.. من مركز ثقافي إلى هدف للحرب
-
-مكتبة طريق الحرير- في بكين.. طموح ريادة ترجمة الكتاب العربي
...
-
المسلسلات التركية تحصد أكثر من نصف مليار دولار كعائدات دولية
...
-
حملات لطمس هوية وثقافة أهالي التبت البوذيين
-
القلق والاغتراب الوجودي في -بانتظار غودو- في اتحاد الأدباء
-
مصر.. الموت يفجع الفنانة ياسمين عبد العزيز وأحمد العوضي يعزي
...
-
ثورة السينما.. نهاية عصر الأبطال الخارقين وظهور حقبة الأفلام
...
-
رامي مالك: التمرد، العنصرية، والشعور بالاغتراب
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|