|
أعشاب جولانية لمعالجة البطالة المقنعة
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 8225 - 2025 / 1 / 17 - 13:52
المحور:
الادب والفن
في إحدى البلدان العربية التي ظلت لعقود مكبلة بسلاسل الفساد وسوء الإدارة والظلم، اندلعت ثورة عارمة قلبت الموازين وأطاحت بنظام كان يتغذى على معاناة الشعب. كانت الشوارع تضج بهتافات الأمل، وتغلي بمشاعر مختلطة من الفرح والخوف مما يحمله المستقبل.
بعد انتصار الثورة، تشكلت حكومة انتقالية إسلامية معتدلة وعدت الشعب بأنها ستعيد بناء الوطن من الأساس. كانت القيادة الجديدة مختلفة، ليس فقط لأن أفرادها لا يحملون شهادات جامعية، ولكن لأنهم أظهروا ذكاءً وخبرةً نادرة في التعامل مع الأزمات.
كانت المهمة شاقة، فالبلد منهك، والفساد متغلغل حتى في أبسط زواياه. من بين أكبر التحديات التي واجهتها الحكومة كان إعادة هيكلة القطاعات العامة والخاصة وكان ملف العمال والموظفين أحد أهم النقاط: بدأ الفريق التقني المكلّف من الحكومة بمراجعة دقيقة للسجلات باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، واكتشف عشرات آلاف الموظفين والعمال الذين تقاضوا رواتبهم لسنوات طويلة من دون أن يؤدوا أي عمل حقيقي. بعضهم كانوا "عمالًا وهميين"، مسجلين فقط على الورق، كانوا يتقاضون رواتب دون أن يضعوا أقدامهم في أماكن عملهم ، وبعضهم كان يتقاضى أكثر من راتب تحت اسم واحد، وآخرون هربوا من البلاد مع بداية الأزمات الاقتصادية والسياسية، لكن أسماءهم بقيت في قوائم الرواتب كرمز للفساد المتجذر.
تم تسريح آلاف الموظفين والعمال الذين كانوا يشكلون عبئًا على الاقتصاد المنهك أصلاً رغم ضآلة الرواتب التي يتقاضونها وبالكاد تروي عطشهم. في البداية، قوبلت الخطوة بانتقادات لاذعة؛ كثير من الناس اعتبروها قاسية على الفقراء الذين يعانون أصلًا من شظف العيش.
"كيف ستعيش الأسر التي كانت تعتمد على تلك الرواتب؟"، تساءل أحد الفلاحين في سوق المدينة.
"هل تستطيع الحكومة أن تحقق التوازن بين تطهير النظام من الفساد وإعادة بناء الثقة؟"، تساءل رجل من شريحة التكنوقراط وهو يجلس على كرسي مريح في واحد من مقاهي المثقفين.
"هؤلاء المسرحون ثروة، إن لم نحسن استثمارها، سنفقدهم للأبد، هناك من قد يستثمر فيهم لإضعاف الحكومة!"، علّق أحد الصحفيين المدافعين عن نقاء الثورة.
لكن الحكومة الجديدة كانت واثقة من خطتها، أعلنت عن خطة جريئة لمحاربة ما أطلقت عليه "البطالة المقنعة"، وأكدت أن هذا الإجراء ليس نهاية الطريق، بل بداية لإعادة الهيكلة.
بعد الانتهاء من التصفية، بدأت الحكومة مشروعًا طموحًا لاستثمار هذه الطاقات البشرية. أطلقت برامج تدريبية مكثفة في مجالات متعددة لإعادة تأهيلهم: الزراعة، الصناعات اليدوية، التكنولوجيا، والتعليم. تم إطلاق "أكاديميات المهارات الجديدة"، التي ركزت على إعداد الموظفين للتكيف مع احتياجات السوق الحديثة، مثل التكنولوجيا، الطاقة النظيفة، والإدارة الذكية. كان هناك أيضًا برنامج دعم للابتكار، حيث دُعي الموظفون لتقديم أفكارهم لتحسين قطاعات العمل. لأول مرة منذ سنوات، بدأت المدارس والمراكز التدريبية تعج بالحياة. جلس رجل كان يعمل حارسًا وهميًا في إحدى الدوائر الحكومية جنبًا إلى جنب مع شابة مهندسة عاطلة عن العمل، يتعلمان سويًا مهارات جديدة.
بعد إعادة تأهيلهم، استثمرت الحكومة الكفاءات في مشاريع تنموية جديدة. كانت هناك حاجة إلى كل يد عاملة وكل عقل يفكر: في المدن الريفية التي كانت تعاني من نقص في الخدمات، في مشاريع الطاقة الشمسية التي أطلقتها الحكومة حديثًا، في قطاع التعليم والصحة، حيث تم دمج المهارات البشرية لتحسين البنية التحتية. تم أيضًا استغلال الأراضي الزراعية المهملة، حيث دعت الحكومة العمال المسرحين للمساهمة في استصلاحها، مقابل أرباح عادلة تعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع. كما تم تأسيس شركات صغيرة بإدارة جماعية، تمنح العاملين فيها نسبة من الأرباح.
لكي تضمن النجاح، وضعت الحكومة نظام مراقبة ومحاسبة دقيقًا. لم يكن الهدف العقاب، بل التأكد من أن الجميع يسيرون في الاتجاه الصحيح.
لم تكن الرحلة سهلة. مر الشعب بفترات من الجوع والمصاعب، لكن مع مرور الأشهر، بدأت النتائج تظهر. عاد الفلاحون إلى الحقول، وانتعشت الأسواق المحلية. الشاب الذي كان يائسًا وجد وظيفة في مصنع جديد، بينما استطاعت الأم التي فقدت راتب زوجها أن تبدأ عملًا يدويًا يعود عليها بدخل ثابت.
وفي وسط كل ذلك، كانت الحكومة الانتقالية تواجه تحديات داخلية وخارجية. خصوم الثورة حاولوا عرقلة التقدم، لكن الشعب ظل متماسكًا، يدعم حكومته بقدر ما يستطيع.
في أحد الخطابات التاريخية، قال رئيس الحكومة التي لم تعد انتقالية مؤقتة بل كاملة الشرعية بصوت هادئ لكنه مفعم بالإصرار: "البطالة المقنعة تعتبر مشكلة شائعة في الاقتصادات النامية، وتحتاج إلى إصلاحات شاملة لتحسين الكفاءة الاقتصادية والاجتماعية. نحن نعلم أن الفقر يحاصرنا، لكننا نملك شيئًا أقوى: الأمل والعزيمة. لقد سرحنا الآلاف، لكننا نعدكم بأن لا أحد سيبقى مهمشًا. كل فرد في هذا الوطن له دور، وله مكان في مسيرة البناء".
مع مرور السنوات، بدأ صوت الآلات في المصانع، وضجيج الورش، يروي قصة مدينة تنبعث من جديد. أصبحت التجربة نموذجًا يُحتذى به. لم يكن النجاح مبهرًا فقط في نتائجه الاقتصادية، بل في الطريقة التي تمكنت بها الحكومة والشعب من استعادة الثقة المفقودة بينهما. كان للذكاء والخبرة التي أظهرتها الحكومة الجديدة أثر عميق في استثمار رأس المال البشري. لم يكن الأمر سهلًا، لكن الأمل الذي زرعته هذه القيادة أثبت أن التغيير ممكن، إذا توفرت الرؤية والإرادة.
وفي المساء، حين كانت المدينة تغرق في ضوء الغروب، كان صوت الأطفال الذين يلعبون في الشوارع يمتزج مع ضحكات الكبار وهم يعملون في مشاريعهم الصغيرة. كان هذا المشهد شهادة على أن الثورة لم تكن فقط لإسقاط نظام، بل لإعادة بناء وطن ينبض بالحياة.
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرئيس الذي لم ير المسرح
-
حكومة الذقون
-
أدب بلا أسوار
-
صرخة في البرية
-
الحرية تمر عبر المعدة
-
مع اقتراب رأس السنة
-
أهمية التمويل الذاتي للجامعات
-
إلى تلك التي لم ألتقِها بعد
-
الأستاذ الجامعي في زمن الذكاء الاصطناعي
-
الكاتب والذائقة الأدبية في زمن الذكاء الاصطناعي
-
مستقبل القصة القصيرة في زمن الذكاء الاصطناعي
-
هل الأديب سياسي؟
-
فريق الجيل الجديد
-
ذيل السنونو
-
العمل -أربعة- في ألمانيا
-
حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 8 والأخيرة
-
حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 7
-
حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 6
-
حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 5
-
حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 4
المزيد.....
-
الشاعر والكاتب وفائي ليلا ضيف برنامج حكايتي مع السويد
-
بعيدا عن الأفلام.. كاميرون دياز تتحدث عن أفضل فترات حياتها
-
عاجل..وفاة الفنان فكري صادق وموعد صلاة الجنازة عليه اليوم
-
وفاة الفنان المصري الكبير فكري صادق (صورة)
-
وفاة عرّاب السينما الأميركيّة ديفيد لينش
-
أغنية -Sigma Boy- الروسية تدخل قائمة Billboard الشهيرة
-
فنانة رقمية سعودية تتخيل ما سيبدو عليه العيش داخل كهوف العلا
...
-
مصر.. الفنانة نيرمين الفقي ترصد مكافأة مالية لـ-قاتل الكلاب-
...
-
صدمة في بوليوود.. فنان هندي شهير يتعرض للطعن أثناء ردعه متسل
...
-
الفنان السوري باسم ياخور يتحدث عن موقفه من العودة إلى سوريا
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|