|
قراءة في رؤية أدونيس حول التغيير في سوريا
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 02:30
المحور:
قضايا ثقافية
أدونيس: «إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئاً. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي». خلال مؤتمر صحفي جرى في العاصمة الفرنسية باريس يوم الخميس الماضي ، وقبيل استلامه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية، تناول الشاعر الشهير أدونيس قضية التغيير في المجتمعات العربية عامة وسوريا بشكل خاص، مشددًا على أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتحقق بشكل مستدام إلا من خلال عملية شاملة لإعادة بناء المجتمع على أسس قوية ومتجددة. وأوضح أدونيس أن مجرد استبدال نظام سياسي بآخر، دون إحداث تحول عميق وجذري في النسيج الاجتماعي، يظل مفهومًا قاصرًا وسطحيًا وقليل الجدوى لتحقيق التطور المنشود. وأشار إلى أن الجهود المبذولة يجب أن تتجاوز فكرة الإطاحة بأي نظام حاكم، لتصب في سبيل إعادة صياغة القيم المجتمعية التي تشكل اللبنة الأساسية لأي تحول فعلي. وفي حديثه، استعرض أدونيس أفكارًا عميقة حول التحولات المتوقعة في سوريا، معبرًا عن قلقه تجاه غياب الضمانات بأن من سيخلف النظام الحالي سيكون قادرًا على إحداث تغيير حقيقي. وشدد على أن القضية لا تتعلق فقط بإزاحة الأفراد أو الأنظمة على رأس السلطة، بل بمواجهة المشكلات البنيوية التي كرست مفاهيم الاستبداد وعدم المساواة داخل المجتمع عبر العقود. و من وجهة نظره، يرى أدونيس أن التغيير المنشود لا بد أن ينطلق من تحرير المرأة بشكل كامل، باعتبار ذلك أحد الدعائم الرئيسية لبناء مجتمع أكثر عدالة وتوازنًا. فهو يعتبر أن تحقيق أي نهضة فعلية يستلزم تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة من ممارسة دورها الكامل كشريك فاعل ومسهم في كافة مجالات الحياة العامة. يؤكد أدونيس أهمية ترسيخ نموذج مجتمع يرتكز على احترام الحقوق والحريات الأساسية لجميع أفراده، دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو الانتماء العرقي. كما أكد ضرورة تكريس مبدأ العدالة الاجتماعية، إلى جانب تبني قيم الانفتاح الثقافي والفكري التي تتيح للمجتمع السوري القدرة على التواصل الفاعل مع العصر الحديث والمشاركة الحضارية على المستوى العالمي. ويرى الشاعر أن تأسيس مجتمع جديد ومتماسك يقوم على هذه المبادئ لا يمكن أن يتم دون إرادة حقيقية تنبع من أبناء الشعب السوري أنفسهم، مشيرًا إلى أهمية التحلي بروح المسؤولية الوطنية والابتعاد عن الاعتماد المفرط على التدخلات الخارجية التي قد تزيد من تعقيد الأمور بدلًا من حلها. وفي صميم رؤيته، حذر أدونيس من مخاطر استبدال نظام استبدادي بآخر يحمل نفس بذور المركزية والتسلط، لافتًا إلى أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد تغيير القيادات أو الأنظمة. فالبنية المجتمعية السائدة، بما تحمله من تقاليد متوارثة وأنماط تفكير جامدة، قد تكون السبب الرئيسي في تكرار نفس الأخطاء وإعادة إنتاج نفس حالات الإقصاء والظلم. ومن هذا المنطلق، شدد على ضرورة اعتماد نهج شامل وعميق يستهدف إصلاح منظومة القيم والممارسات على جميع المستويات، لضمان بناء مجتمع حديث قادر على مواجهة تحديات المستقبل برؤية واضحة وأفق واسع يضع مصلحة الأجيال القادمة فوق كل اعتبار. التصريحات التي يطلقها أدونيس غالبًا ما تثير جدلاً واسعاً، وخاصة في ظل الأوضاع المتأزمة التي تشهدها سوريا. يرى البعض أن التركيز على التغيير المجتمعي هو خيار طويل الأمد، بينما يرون أن الأولوية الحالية يجب أن تتمثل في وقف الصراع وإعادة بناء الدولة بصورة عاجلة. في المقابل، يجادل آخرون بأن تغيير النظام السياسي قد يمهد الطريق لتحولات إيجابية تلقائية في بنية المجتمع. ومع ذلك، هناك من يعتبر مواقف أدونيس مثيرة للجدل، أو ربما يرونه بعيداً عن فهم التعقيد الحقيقي للوضع السوري.
تصريحات أدونيس تسلط الضوء على سؤال محوري حول نوعية وشكل التغيير الذي تحتاجه سوريا في ظل التعقيدات الراهنة التي تحيط بالمنطقة. إنها بمثابة دعوة مفتوحة للتفكير والتعمق في جذور الأزمات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل كاهل سوريا والدول العربية عموماً. وهنا تكمن ضرورة بلورة رؤى مستقبلية ترتكز على قيم أساسية لا غنى عنها، مثل العدل والمساواة والحرية، كعناصر محورية لأي مشروع تحول مستدام.
عند مقارنة أفكار أدونيس مع الطروحات الفكرية الأخرى المتعلقة بمسارات التغيير والإصلاح في العالم العربي، تتضح لنا آفاق جديدة لفهم ما يقدمه من رؤى. كما أن هذه المقارنة توفر فرصة ثمينة لاستكشاف نقاط التقارب والاختلاف بينه وبين مفكرين آخرين في السياق العربي. هذه المقاربة التحليلية تسهم ليس فقط في استيعاب العمق الفكري لأدونيس، بل أيضًا في بناء إطار أوسع لحوار فكري شامل يعالج مستقبل المنطقة من خلال منظورات متعددة ومتنوعة. يمكن النظر إلى رؤية أدونيس باعتبارها إضافة غنية ومتفرّدة في الحقل الفكري العربي، حيث تتشابك طروحاته مع العديد من التيارات الفكرية الأخرى، سواء تلك التي نشأت في سياق النهضة العربية أو ضمن الإطار الحديث والمعاصر. فعند مقارنتها برؤى مفكري النهضة العربية، نجد أن أدونيس قد يشترك معهم في التحليل النقدي لأسباب التخلف العربي وتفسير العوامل التي أعاقت النهوض الحضاري. لكنه يختلف عنهم في كثير من الجوانب، لا سيما عبر تسليط الضوء على أهمية الثورة الثقافية الجذرية بدلًا من الإصلاح التدريجي، إذ يرى أن التحول المنشود يحتاج إلى قطيعة مع التراث التقليدي بطريقة أكثر حدة مما طرحه هؤلاء المفكرون. عندما يطرح أدونيس رؤيته مقارنة بالتيارات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين والسلفية، يبدو واضحًا أن موقفه يبرز كمعارضة فكرية جذرية لهذه التيارات. بينما تعطي هذه الجماعات المركزية للدين في عملية التغيير، فإن أدونيس ينتقد ما يراه استغلالًا أيديولوجيًا للدين، معتبرًا أن إحياء المجتمعات لا يمكن أن يتحقق إلا بفصل التقاليد الدينية عن السياسة والحركة التقدمية. وفوق ذلك، يتبنى أدونيس قراءة مختلفة للتراث الإسلامي ذاته، ويدعو إلى إعادة فهم هذا التراث بطريقة أكثر انفتاحًا ونقدًا، بعيدًا عن التأويلات الدوغمائية التي تتبناها هذه التيارات. وعند مقارنة أدونيس بالتيارات اليسارية العربية، مثل القومية العربية والماركسية، نجده يشترك معها في بعض النقاط الأساسية، مثل التركيز على فكرة التحرر والعدالة الاجتماعية. غير أنه يخالفها في تحديد الآليات، حيث يرفض اختزال المشكلات في الصراع الطبقي فقط، ويولي اهتمامًا أوسع للبعد الثقافي والعلاقة الجدلية بين الحداثة والتراث. كما أن رؤيته لدور الدولة في التغيير ليست متطابقة تمامًا مع الرؤى اليسارية؛ فهو يعتبر أن الدولة ليست فقط أداة للتقدم إذا لم تصاحبها ثورة ثقافية وفكرية حقيقية. أما بالنسبة للفكر الليبرالي العربي، يلتقي أدونيس مع بعض من يمثل هذا التيار في التأكيد على أهمية الحريات الفردية والدور الفاعل للعقل النقدي في إحداث التغيير. ولكن يبرز الاختلاف في تعامله مع الدين والسياسة، حيث يتخذ موقفًا أكثر جذريًا بشأن فصل الدين عن النظام السياسي والاجتماعي بشكل كامل، بينما كانت الليبرالية العربية تستند غالبًا إلى التوفيق بين الدين والحداثة. وفي مجال الفكر النسوي العربي الذي يمثل جزءًا حيويًا من مشاريع التغيير الاجتماعية، تظهر بعض نقاط الالتقاء بين أدونيس وأسماء بارزة مثل نوال السعداوي لا سيما في القناعة المشتركة بأهمية تحرير المرأة كعامل جوهري للنهوض بالمجتمع ككل. ومع ذلك، يقدم أدونيس تصورًا مختلفًا ربما في محاولته قراءة تحرير المرأة ضمن إطار شامل يتعلق بتحرر الثقافة والفكر العربي بكل أبعادهما، بدل حصر المسألة في قضايا اجتماعية بحتة أو حقوق قانونية فقط. بهذا يمكن القول أن رؤية أدونيس هي دعوة شاملة للإصلاح الجذري الذي يتجاوز الأطر التقليدية والمقبولة فكريًا لدى العديد من التيارات الأخرى، والهادفة إلى إحداث زلزال ثقافي حقيقي ينقل المجتمع العربي إلى أفق جديد من الحداثة المتكاملة.
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجلنا في دمشق: دور سوريا في توظيف غرف التعذيب لصالح وكالة ال
...
-
أبارك لأبناء سوريا الجميلة الخلاص من كابوس الطغيان
-
تعبيرات جسد المرأة في ايران سياسياً وثقافياً
-
حزب الحرب الديمقراطي وفقدانه للشرعية
-
المعادلة المعقدة بين الشيوعي والشيعي
-
إمكانية إيقاف انزلاق أمريكا نحو الفاشية
-
شخص واحد، صوت واحد، دعابة واحدة... عن الديمقراطية
-
في ذكرى بازوليني
-
الفكرة اللينينية عن الامبريالية اليوم
-
المهاجرون الذين لا يمكن الاستغناء عنهم في أمريكا
-
كيف ساهمت جائزة نوبل للسلام في التغطية على الإبادة الجماعية
...
-
الشعر والالتزام في ستينيات القرن الماضي والعصر الرقمي
-
ألبرت أينشتاين لم يحصل على جائزة نوبل عن نظرية النسبية
-
لعنة الحدود
-
دور شبكات التواصل الاجتماعي في الحركات الاجتماعية والتحولات
...
-
نزعة نتنياهو العسكرية الخطيرة
-
لماذا لا نجد في عصرنا الحالي كتّابًا عباقرة مثل شكسبير، وبلز
...
-
الدين والتدين والنقد الديني
-
النمو الاقتصادي مرتبط بالسياسة الخارجية
-
كل ارض ساحة حرب، وكل يوم قتل ودمار
المزيد.....
-
واشنطن: توجيه اتهامات لإيرانيين فيما يتعلق بمقتل 3 جنود أمري
...
-
مباشر: الجولاني يعد بحل الفصائل المسلحة وضم مقاتليها إلى الج
...
-
اليمن: الجيش الأمريكي يستهدف منشأة قيادة للحوثيين في صنعاء
-
8 شهداء في غارة إسرائيلية جديدة على مدينة غزة
-
-قسد-: جاهزون لإبقاء الطريق إلى ضريح سليمان شاه مفتوحا
-
نيبينزيا: روسيا لن تقبل أي تجميد للنزاع في أوكرانيا
-
سويسرا تشدد شروط تصدير الأسلحة لضمان عدم توريدها إلى أوكراني
...
-
إيران تنفي انخفاض صادراتها من النفط الخام
-
السوداني يدعو الدول الأوروبية للعب دور إيجابي لمساعدة السوري
...
-
وزير الخارجية السويسري يؤكد التحضير لمؤتمر ثان حول أوكرانيا
...
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|