أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - مأتم الذاكرة والجسد














المزيد.....


مأتم الذاكرة والجسد


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8131 - 2024 / 10 / 15 - 23:50
المحور: الادب والفن
    


الجسد يخون والذاكرة تتلاشى، إنه عزاء الروح والوجود. كم هو مؤلم ومرعب للإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة، بعد أن قضى سنوات عمره في مواجهة تحديات الحياة بكل ما تحمله من فرح وألم، مقدماً إنجازاته الفكرية والعملية. تشكلت هذه الفكرة في ذهني عندما زرته في منزله، بسبب تدهور حالته الصحية نتيجة مرض استمر معه لعقدين من الزمن. هو مثال بارز في عالم التأليف والكتابة، وأحد الأدباء الكبار في البلاد، وتربطني به صداقة وثيقة. هذا الرجل، الذي يقترب من السبعين، قضى حياته في عالم الكتابة والإبداع. جسده النحيل يذوي من شدة الضعف، حتى أن ملامح وجهه المعروفة قد تغيرت. هذا المرض أخذ منه شيئاً فشيئاً، حتى جاءت الضربة القاضية التي انتزعت منه أغلى ما يملك، ذاكرته الحديدية التي كانت كحديقة مزدانة بأعظم الأفكار، وخزاناً معرفياً ضخماً كالمحرك النفاث الذي تجاوزت سرعته سرعة الصوت . تبدلت تلك الذاكرة المليئة بالأفكار الجميلة، التي أراها اليوم كبطارية منهكة فقدت طاقتها. أتذكر تلك الأيام التي كنا فيها نحرص على حضور محاضراته الفكرية وأمسياته الغنية بالألوان الأدبية والثقافية والفلسفية، حيث تبقى تلك اللحظات عالقة في طيات الزمن. كان له مكانة فكرية رفيعة، بأطروحاته التي كانت دائماً محور جدل وإقناع، ومرجعاً فكرياً للعديد من الأدباء والمثقفين والباحثين. احتفت به المجالس الأدبية في الداخل والخارج، وفي مدينته التي يعشقها، ونهرها الذي ألهمه في قصصه الغنية وأشعاره المفعمة بالعواطف. كان يرافقه دائماً مجموعة من المثقفين، كأنه جبل شامخ. كان يتحدث بصوت عالٍ عبر المايكروفون أمام جمهور مليء القاعة، كما اعتاد. شعرت بتفاعل الحضور وهم يستمعون لكلماته البليغة والمبسطة، حتى لا يُساء فهمها أو تأويلها، مما جعله نجماً ساطعاً في سماء الذاكرة الجماعية. بالنسبة له، كانت الكتابة تشبه علاقة غرامية؛ فهي متعة للعقل ولذة مصحوبة بألم الجسد بعد جهدها، وهي في نظر المفكرين عملٌ يتطلب الكثير من الجهد.أستحضر كلمات أحد النقاد، الذي لا يستحضرني اسمه، حين قال إن الكتابة الأدبية تعكس شغف التلذذ بالكلمات، كأن الكاتب يمتص رحيق اللغة، أو كأنه ينغمس في لعبة إمتاع الذات للعقل، مثل لعبة الشطرنج، خاصة عندما يلعبها بمفرده ويحقق النصر على نفسه. الكتابة هي إحدى وسائل مقاومة النسيان، وإحياء الذاكرة، وتفريغها قبل أن يهاجم الروح وحش التصحر. هكذا هو اليوم، يكافح الزهايمر عبر الكتابة، ولا يتوانى عن القراءة رغم تدهور صحته الجسدية والفكرية بعد أن بدأ الزهايمر يتسلل إلى ذاكرته. كنت أتمنى أن أحتفظ بتلك الذاكرة الجميلة المليئة بعالم واسع من الأفكار والكلمات في متحف خاص بها. هو يكتب بقوة القلم الذي لم يفارق أصابعه النحيلة، وكأنه يجسد مقولة الأديب جورج أورويل بأنه يكتب "لكي يجد من يستمع إليه". ألف عشرات الكتب والأبحاث، وكان يستمتع بإهدائها للجميع. كنت أترقب الفرص بعد صدور كل عمل جديد لأكون من أوائل الذين ينتظرون الحصول على إهدائه. التقيت به أمس، ودخلت غرفته الخاصة التي تشبه المكتبة أكثر من كونها غرفة معيشة. استقبلني بابتسامة انتزعت من عمق الألم، محاولاً محو آثار المعاناة التي ارتسمت على وجهه. قال: "أهلاً بالطيب"، هكذا كان يناديني، حتى أصبحت هذه الكنية جزءاً من هويتي. تجمدت في مكاني وأنا ألقي عليه التحية للحظة، متأملاً ما خلفه المرض في جسده. كان هزيلاً، ولم تعد ملامح وجهه الحادة كما كانت. جبهته مليئة بالأخاديد، وكأنها آثار أنهار جفت منذ زمن بعيد. حاول أن يظهر متماسكاً وهو يتحدث إليّ، يسأل عن الزملاء والأصدقاء وجلسات المقاهي الثقافية. بدا سعيداً بوجودي، وكأنه يحتاج إلى شخص يتحدث معه. كنا نطلق عليه لقب "عمود" الخيمة، خيمة المثقفين والكتّاب. شعرنا بغيابه وكأن الأمور قد اختلت، وترك فراغاً عميقاً في حياتنا منذ أن غاب. كان ملهمنا، وخريطة أفكارنا في الكتابة، ومصدر حماسنا في إدارة الجلسات. حتى أكواب الشاي التي اعتدنا على احتسائها في تلك اللقاءات، كانت تعاني من غربة المكان. أخبرني أنه يعمل على اللمسات الأخيرة من كتابه في الفلسفة، رغم مرضه وآلامه وضعفه، لكنه يشعر أنه لا يزال قادراً على مواصلة إنتاجه الفكري. تذكرت حال المفكرين في العالم الذين عاشوا ظروفاً مشابهة. على سبيل المثال، تجربة الأديب الفرنسي "مارسيل بروست"، الذي عاش مع مرض الربو الذي عرقل قدرته على الكتابة لفترات طويلة. يُعرف بروست بروايته الشهيرة "البحث عن الزمن الضائع"، التي تُعتبر من أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين. رغم معاناته الصحية، استطاع بروست أن يبدع في كتاباته، حيث استلهم من تجاربه الشخصية ليعبر عن مشاعر الحزن والحنين والذكريات. تعكس كتاباته معاناته من المرض، مما يبرز الألم والضعف الإنساني، ويضفي عمقًا وتأثيرًا على أعماله. يعيش الكاتب في حالة من الغربة داخل مجتمعه، حيث يجد نفسه في عالم لا يفهمه الجميع أو لا يقدّر عمق أفكاره. قد يواجه صعوبة في التواصل مع من لا يشاركونه شغفه بالكتابة، ويُحاط بعدم الفهم من قبل عائلته وأصدقائه، الذين يرون في الكتابة مجرد هواية أو ترف لا حاجة لها . كما قد يعاني الأديب من مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق نتيجة ضغط الإبداع والسعي نحو الكمال، مما يؤثر سلبًا على علاقاته الشخصية بسبب انغماسه في عالم الكتابة. يجد صعوبة في العثور على شريك حياة يفهمه ويقدّره، وهذا ما عاشه حين رفضت زوجته العيش معه في عالمه الخاص. وعندما استأذنته بالخروج، نظر إليّ بعد أن قرأ أفكاري ونظرة التعاطف في عينيّ، وقال لي: "لا تحزن يا صديقي، إنها دورة الحياة الطبيعية."



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوء فهم عاطفي
- عندما ينطق الجرح
- غائم جزئي
- ايمان كاظم .. فصاحة المعنى وغربة النص
- تسميم البئر
- الى صديقي .. علي حسن كريم
- سجل العراق في الابداع يعاني الاهمال
- اِلا اَنتِ ..
- قانون الاضافة البسيطة
- وردة من البستان
- اغنية عاشق
- تهجير
- فاتورة الزمان
- ورقة التوت الاخيرة
- أفق خيال جامح
- جنون الخيال
- قارورة عطر
- ميدوزا
- اتركي لي جنوني وارحلي
- وجع القلوب


المزيد.....




- مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و ...
- إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
- مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي ...
- تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر ...
- تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها ...
- مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي ...
- السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم ...
- إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال ...
- اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
- عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - مأتم الذاكرة والجسد