|
التناقض بين الديمقراطية والدين
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8071 - 2024 / 8 / 16 - 15:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نعم، الديمقراطية ضد الدين في كل شيء تقريباً، لتناقضها الحاد مع الدين شكلاً ومضموناً. كلٌ من الديمقراطية والدين وجهة نظر، مُنشأ نظري لتفسير وفهم الكون وحياة البشر فيه، ومن ثم محاولة تنظيم حياة هؤلاء وفقاً لهذا التفسير أو ذاك. ويكمن وجه التناقض بين الدين والديمقراطية في كون الأول نظرة سماوية، آتية من الأعلى من السماء، لهؤلاء الموجودين بالأسفل، أهل الأرض وساكنيها. بينما تتبنى الديمقراطية وجهة النظر العكسية، هذه التي تنطلق من الأسفل، من البشر الأرضيين أنفسهم، باتجاه الأعلى. هكذا، من حيث الشكل، الدين نظرة عُلوية، آتية من أعلى، للحياة القائمة بالأسفل؛ بينما الديمقراطية تقلب الآية، ومعها زاوية النظر، لتبدأ من أسفل إلى أعلى. لذلك، حسب المنظور الديني، الأعلى يهيمن على الأسفل؛ بينما الديمقراطية تُقدم وتُغلب دائماً الأسفل على الأعلى. وفق هذا التصور، تكون الديمقراطية ضد الدين ويسيران في خطين متوازيين، في اتجاه عكسي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجمعهما أبداً نقطة التقاء.
يمكن تشبيه الديمقراطية بقوانين الفيزياء الطبيعية، حيث وجهة الجاذبية ومن ثم زاوية نظر البشر ومحط انتباههم وتركيزهم وبحثهم ودراستهم تنصب على الأسفل، نحو الأرض وساكنيها كمركز لها. بينما الدين بطبيعته يَسمو فوق الفيزياء والطبيعة ذاتها، يناقض قوانينها، ومن ثم يُحيل زاوية نظره وانجذابه وبؤره انتباهه وتعلقه الذهني والعاطفي، وجهده البحثي والعلمي، إلى سكان الميتافيزياء، الآلهة والملائكة والجن والشياطين والأرواح فيما وراء الطبيعة. ولما كانت الاحتياجات البشرية بطبيعتها تتردد جيئةً وذهاباً في توتر لا ينطفئ ما بين المادية والروحية، قضى الإنسان حياته الأزلية بجسد حبيس ومُقيد بالأرض، وروح طلق هائمة في السماء. بالجسد وبالفعل، يعيش الإنسان حياته الكاملة في ومن الأرض، من داخل الفيزياء؛ لكن روحه تأبى التسليم بهذا الوجود المُقيد الزائل والناقص، وظلت دائماً وأبداً تَنْشُد الخلاص والخلود والكمال في عالم آخر مثالي يُكافئ تضحياتها ويُلبي طموحاتها في السماء، في الميتافيزياء وراء الحياة الطبيعية.
النظر إلى الأعلى لا يأتي عبثاً، بل لغرض. طالما ظلت الأبصار شاخصة نحو السماء، هذا يعني أنها إما تطمع في نيل شيء، أو اتقاء شيء، من هناك. إن البشر يتضرعون إلى السماء إما طمعاً في الظفر بنعمة، أو الإفلات أو التلطيف من نقمة يفسرونها على أنها عقاباً مستحقاً لهم. معنى ذلك أن الثواب والعقاب يأتيان من الأعلى. من يملك قدرة الثواب والعقاب على آخرين يملك بالضرورة سلطة مؤكدة عليهم. ولما كانت السماء تملك القدرة على إثابة ومعاقبة البشر، هذا يعني أن السماء تملك سلطة مؤكدة عليهم. لذلك، حتى يأمن الناس غضب ونقمة السماء ويفوزون برضاها ونعمتها عليهم، كان لا مفر أمامهم من الرضوخ لأوامر ونواهي السماء، أو على الأقل من يتحدثون باسم السماء ويدعون لأنفسهم تفويضاً منها بما أن السماء لا تتحدث إلينا بصوت مسموع.
لذلك نجد الرجل، أو المرأة، يقتطع من فوائضه المالية بغرض الصدقة والزكاة لله، بمعنى الاستجابة لوعظ وفتاوى كهنة السماء وصب معظم هذا المال الفائض عن حاجته في قنواتهم ومصارفهم الشرعية حتى يتم توزيعه على الفقراء والمحتاجين؛ ونجده، أو نجدها، ينفق حجماً كبيراً من جهده وعمره في الادخار ليس بغرض الاستثمار أو المتعة الشخصية بل لإنفاقه على بناء أو تعمير مسجداً أو قضاء عُمْرةً أو كدفعة مقطوعة لتأدية فريضة الحج. لكن ذلك ليس عن اقتناع ولا حُب في أعمال الخير والبر بحد ذاتها، أو لرغبة صادقة منه في التخفيف من شقاء وبؤس الفقراء؛ بل هو في المقام الأول طمعاً في استرضاء السماء والفوز بمكافئتها الأثمن سواء في هذه الحياة أو الآخرة. هكذا، وفق هذا المنطق الأناني، لا يُستغرب أن تُحسب الحَسَنة بعشرة أمثالها. إن زاوية نظر الدين الفوقية إلى الحياة تتسبب في انقلاب سريان قوانين الجاذبية الطبيعية رأساً على عقب؛ عندئذٍ تتطاير (بدل أن تسقط) الأشياء (ومعها فوائض الجهد والمال) من أسفل لأعلى عكس سقوطها الطبيعي من أعلى لأسفل. في مثل هذا الوضع غير الطبيعي، يصبح أهل الأسفل، الأرض، هم الذين ينفقون فوائض عملهم وجهدهم على من هم فوق بالأعلى، في السماء. لكن السماء لا تأكل ولا تشرب وليس لها جيوب وخزائن، ولا شيء مما ينفقه البشر قادر على أن يخترق غلاف الأرض حتى يبلغ السماء! إلى أين، في الحقيقة، ينتهي المآل بما ينفقه الأرضيون من مدخراتهم على السماء لاسترضائها؟ في جيوب وخزائن بشر أرضيين مثلهم لكن أعلى منهم درجات وعلماً وتفضيلاً بحسب أهواء ومشيئة السماء. هذا يعني، ببساطة ووضوح، أن هؤلاء من أهل وسكان الدرجات البشرية الأعلى يعيشون عالة على كد وإنتاجية من هم بالأدنى أسفل منهم.
إذا كان الدين ينظر إلى الناس من فوق، من الأعلى، ويرتبهم هرمياً في درجات تعلو كل واحدة منها الأخرى، وكل درجة بالأسفل تخضع لسلطة الأعلى منها، ومن ثم تحرص على استرضائها وخدمتها؛ الديمقراطية تفعل العكس. الديمقراطية تساوي بين كل الناس على مبدأ أن لكل شخص واحد صوت واحد. وعلى أساس مجموع الأصوات المتساوية يتم ترتيب المجتمع وظيفياً- لا قيمياً- في درجات تعلو بعضها بعضاً حتى الذروة السياسية التي يشغلها شخص واحد يجتمع فيه تمثيل الجسد السياسي كله. ولما كان ترتيب هذه الدرجات الأعلى حتى ذروتها يتم من خلال تعداد نسب هذه الأصوات، تصبح هذه الأخيرة، أو من يدلون بها، هي السلطة الحقيقية التي تنجذب إليها كل الدرجات العليا، يسعون بكل السبل الممكنة إلى استرضائها وكسب ودها والفوز بأغلبية أصواتها في الانتخابات المقبلة. بذلك تعود قوانين الجاذبية الطبيعية إلى عملها وسريانها الطبيعي، ويعود الأعلى إلى الانجذاب والسقوط في حجر الأسفل. إذا كان يريد الحفاظ على امتيازاته ودرجته ومكانته المهنية بالأعلى، يجب ألا يدخر جهداً في خدمة واسترضاء هؤلاء الذين يملكون، بقوة أصواتهم، إزاحته من منصبه وتنصيب آخر أكفأ منه في خدمتهم في مكانه.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف أضعنا غزة مجدداً
-
ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
-
محاولة لفهم الدولة
-
مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
-
حُلُم الدولة العربية المُجهض
-
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو
-
عبادة المقاومة - حدود حق الدفاع عن النفس
-
تفكيك السلطوية العربية-2
-
تفكيك السلطوية العربية
-
اللهُ في النفسِ الفردية والجَمْعِية
-
جمهورية الجيش وحركة كفاية في يناير 25
-
شرعية الحكم والأمر الواقع
-
من خواص العقل العربي المعاصر- حماس عينة
-
اللهُ في السياسة
-
هيا بنا نَكْذب
-
حقيقة الأجهزة السيادية في الدولة الوطنية
-
لماذا نَظْلمُ النساء؟
-
لَعَلَّنَا نفهم الخير والشر
-
لا الشمسُ تَجري...ولا الليلُ يُسابق النهار
-
الخير والشر، بين المطلق والنسبي
المزيد.....
-
دهسوا بعد دقائق على نشرهم هذه الصور.. آخر لحظات مسرح الجريمة
...
-
سوريا تعلن بدء استقبال الرحلات الجوية الدولية بمطار دمشق
-
هل تنجح المفاوضات بين حماس وإسرائيل هذه المرة في التوصل لوقف
...
-
الداخلية الألمانية: على بعض السوريين العودة لبلادهم في ظل اس
...
-
بلينكن يؤكد لعبد العاطي دعم واشنطن للعملية الانتقالية في سور
...
-
تركيا تحيي مشروعا طبيا تعليميا في دمشق عمره أكثر من 120 سنة
...
-
اليابان.. بيع سمكة تونة تزن 276 كغ بـ1.3 مليون دولار
-
مسؤولون أمميون: نقيم الإطار الزمني الانتقالي في سوريا ويمكن
...
-
توضيح أسباب فقر الدم
-
ما العلاقة بين الأمعاء والحالة العاطفية؟
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|