أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية















المزيد.....



مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية


كاظم حسن سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 8059 - 2024 / 8 / 4 - 17:01
المحور: الادب والفن
    


(مشاريع الرجل الضرير)
قصص قصيرة









(مشاريع الرجل الضرير)

يحشي خرج الحمار بالطابوق ,ويدليه فقط ,فيعود فارغا اليه فيملؤه ثانية , , لا ندري كم عملا اشتغل فيه وهل التحق بالخدمة العسكرية او لا ,هل تزوج من قبل او لم ,لكن من المؤكد انه اشتغل حمارا لسنين طويلة, انه الان رجل اسمر بلا بصر نحيل طويل القامة , يمر ماسكا عصاه متلفعا بالدشداشة وفي الشتاء يضع عليها سترة وعباءة ويلف الرأس بكوفية ..وقيل من عمي متأخرا لا ينشط بالدبيب كمن فقد بصره متأخرا .. لقد فرض بالقوة على امراة بلا اطفال وزوجها.. اخبرتهم السلطات :(لن نملككم بيتا حتى تفرغوا لهذا البصير غرفة معكم )..
هكذا حصل على غرفة تأويه بعد انتقاله الى الحي الجديد في مرحلة منحت السلطة البيوت مجانا للمستأجرين واصحاب العشوائيات .. بمرور الايام توسط البيت بينهما جدار خشب.. وتحول البيت المشيد من غرفتين من الطابوق والمقام على تسعين مترا مربعا الى بيتين مع باب مشترك .
ظل هذا الرجل المكنى ابو جاري انسانا خاملا يعتاش على المحسنين .. لم يمد يدا في سوق ولم يطرق بابا ليستجدي ..لعله من اسرة تعودت الكبرياء رغم الفقر والجوع ..حتى حصل على مبلغ من جهة مجهولة في اواخر عمره ..هنا انقلب على جموده الذي ترسخ عبر عقود يسانده اليأس والايمان بالقدر ..فبدأت تتدفق المشاريع بذهنه ..فكر اولا بشراء باص خشبي على ان يودعه لدى سائق ثقة .. لكن فكرة الزواج كانت الابرز .. والاشد اشعاعا في وجدانه وخياله .. زواج لرجل اعمى تجاوز الخامسة و الستين لا بد ان تكون فكرة طريفة .. لكنه يملك الرد .. سيختار شحاذة عمياء مثله ..تخيل كيف سيجني الارباح منها وهي تعود من الطرقات والاسواق وطرق الابواب محملة بالنقود وربما بالوان من الزاد وغيرها مما يجود به الكرماء في عباءة سوداء مشققة احالتها الشمس .. وما لا يصرح به هي تلك المتعة معها وهما يشتركان بلحاف واحد في وحشة الشتاء وقسوة البرد .. لحم على لحم , حلالا ولذة .
كان يزور عائلة ابو حمد ثلاث مرات في الاسبوع , يتناول الغداء ويمطق لقدح الشاي ويمضي بطوله البارز ونحوله ,ضاربا العصا ضربتين مع كل خطوة حذرا من العثرات منخفض الرأس..
الحرب قد اندلعت وهو رجل ملك بعضا من النقود فصدعهم بافكاره عن مشاريعه :
ــ اقول ما رأيكم افتح دكانا واستعمل عاملا يديره ؟
ــ الافضل ان تشتري باخرة .. قال ذلك ابو حمد فشهقت العائلة بالضحك .. كان ابو حمد يضيق بوجوده .. ومن زياراته الثقيلة الا ان زوجته الطيبة لا توافقه الرأي فقد نشأت في جو رحمة وانسانية وتعاطف .
لكن تلك المشاريع ليست جادة تماما فقد كان وجدانه مركزا على الاقتران ..كان يبحث في سوق البصرة والخضارة وام البروم عن مسكينة شحاذة تناسبه ,فهو يطلبها شريفة وفيها روح , تتحمل في الفراش عنف جسده , والا فربما يفصم ظهرها او تزهق تحته .. فما تزال يداه السمراوتان تتمتع بقوة الحجر رغم العمر , كان يتجول في الاسواق حتى اذا سمع امراة تصوت (يا اللله .. صاحبة ايتام .. على حب الحسين ...) يقترب منها ويجلس جوارها وهو يسعل ويبادرها (صبحك .. مساك الله بالخير ).. ويجري الحوار بهمس فان تأكد حقا بان لها بصرا او اطفالا يبتعد عنها ..مضت اشهر من البحث والتجوال حتى صادف ام اشعل وهي امراة بيضاء في الاربعين .. تسكن وحيدة في احد الارياف ..في صريفة لا تعصم من برد ولا مطر تربي الدجاج والقطط ولها كلب لا يستكين ..مات زوجها وقضى نجلها في حرب الشمال فبكت دما حتى ودعت بصرها ..نشطت ذاكرة ابو جاري واستعادت روحه الحكايا عن النساء , المحرجة منها خاصة , واغرقها بشعر غزل في اللهجة الدارجة ..كلاهما تحركت روحه بعد تكلس ..كان ابو جاري يفكر كيف يمرر اصابعه على جسدها ليتأكد من حيويته , فهو رجل صاحب مال , والنساء يعبدن المال , وربما عشرات من يتمنين الاقتران به .. وهو يملك دارا ,وما تزال صحته دافقة ..وليس عليه ان يستعجل فهو لا يرغب بامرأة جامدة ..في شبابه شققت ثلاثة نساء جيوبهن تحت جسده البركاني ..يريدها امرأة تصمد ....
تقدمت الناقلات البرمائية وعبرت نهر الكارون، الذي يقع في منطقة الأهواز في إيران و ينبع من (زردكوه) الواقعة في جبال (زاغروس)، ويبلغ طوله حوالي 950 كيلو متراً , أن طبوغرافية هذه المنطقة معقدة جداً لا تصلح لعمل القطعات المدرعة والآلية لأن المياه الجوفية عالية جداً ، لكن المساحة التي إنتشرت فيها القوة العراقية بعد عملية العبور لا تسمح بالإنفتاح الواسع ومُحاطة بالمياه من جميع الإتجاهات , جنوبا منطقة (هورالشدكان ) المغمور بالمياه وغربا ترعة بهمشير و نهر الكارون شمالا , وأصبحت القطعات هدفاً دسماً للمدفعية الإيرانية.
لكن حمد استقر ضمن الاعاشة والمطبخ في منطقة الشلامجة بمحاذاة نهر صغير ..كانت الاغذية المجففة تتبعثر بارتفاع متر وعلى مساحة واسعة تحت سعف النخيل .. فيما تقدم فوجه الكمندوز المظلي منقولا بالبرمائيات وعبر الكارون .. يتذكر انهم يصرخون ساعة التدريب (بر .. بحر .. جو ) او يرددون في اول الفجر في ساحة العرضات:
( جر المدفع فدائي
ابدا ما يهاب الغارة
طير علينا صهيون
اكثر من مية طيارة )..
استقر هناك يكرع الخمر ليلا ويصطاد بالصنارة في النهار ..
لكنهم يهجمون الان ولا صهيون ولا هم يحزنون ..شعوب تشتري الذخيرة لتقاتل ابناءها او يبتكرون اعداء ليقاتلوا ..
بعد عصر احد الايام ركب الايفا مزودة بالمؤونة وعبر الكارون ليغذي فوجه .. كان القصف على طول الطريق والظلمة مهيمنة .. وكان يمسك بقضبان العجلة المثبتة افقيا بسقفها كي لا يهوي الى الارض في العثرات العميقة .. ووصل بعد ساعتين .. ثم برقت المتفجرات وكان في احدى العجلات, فاحس بالارض تمور وان رعدا وحشيا يتفجر وصرخ من اصيب فرمى نفسه الى الارض وشعر بان بللا في جوربيه فعلم بانه اصيب فتم نقله مع اربعة جنود الى اقرب موقع طبي ..
مضى شهران ورجله اليسرى مجصصة من الكاحل حتى اعلى الفخذ ..في احدى الليالي انهد عليهم وهم نائمون على السطح انفجار مرعب فركضوا نازلين , في تلك اللحظة لم يعلم بان قالب الجبس قد تصدع ,
ــ انه مكسور ولا بد من اعادة القالب
قال ذلك طبيب شاب في المستشفى العسكري وهو ينظر الى حمد بعيون شافقة .. لكنه وجد ردة فعل عيون الجندي المصاب اشد صمودا .
ظل يجلس كل صباح جوارها , ودلها ذات يوم على باب جامع فظلا يجلسان في ظله كل يوم حتى انتهاء صلاة الظهر , يجلسان صامتين او متهامسين وكل قد وضع عصاه جواره .ثم يفترقان ..
ــ ما رأيك بالزواج ام اشعل
ــ ستر للمرأة وحصانة للرجل .. الرجال لا يتمكن من لم نفسه بلا امرأة ..
ولم يكن يدرك بانها تحركت واصبحت تستقبل الصباح بنشاط وربما تقلبت في الفراش متأرقة في انتظار الصباح والجلوس المنعش قرب الجامع .. شعرت انها ليست وحيدة وان رجلا شهما يهتم بها .. واصبحت تشتري العطور والمحسنات وتسمتع في الحمام وان تكن بدلة الزفاف بعيدة عن خيالها ..لكنه ادرك انجذابها له وفرحها باحاديثه ..
وقادها ذات يوم الى منزله وتغدا معا .. وحدثها بروايات مشجعة عن الرجال والنساء ومكر النساء :
ـ ( تصوري كان زوجها شديدا معها , شكاكا قاسيا , بخيلا . وسخ اللسان )
قالت :
ــ الشك والبخل صفات خسيسة للرجل وربما تزهق الانثى ..
ــ فارادت ان تتحداه ـــ اكمل ابو جاري ــ, فابتكرت حيلة: (هل تقدر ان تظهر عجيزتك في المطر دون ان تتبلل .. قال وهو يضحك .. اجابته واضافت ( غدا في العاشرة صباحا سابرهن لك ساعة المطر ) .. وتراهنا .
في العاشرة اخرجت مؤخرتها المكشوفة من ثغرة في خص الصريفة اعدتها بنفسها .. وكان المطر غزيرا والرعد يزمجر .. وكان زوجها يتابعها بفضول .. في تلك اللحظة كان عشيقها جاهزا ... فغطى مؤخرتها بحضنه .. ورواها دون ان تتبلل باقصى سرعة ممكنة .. فلما سحبت نفسها داخل الصريفة لم تظهر عليها قطرة مطر ... فضحكت ام اشعل حتى دمعت عيناها وانحنت ضاحكة على الارض
ــ لعنك الله يا ابو جاري من اين تأتي بهذه الحكايا .. واكملت ضحكاتها .. فتجرأ الرجل وقد علم بان المرقة قد نضجت .. فاقترب منها وامسكها وتفحص ما يستطيع وهي تتمنع بدلال .. درس رقة جسدها وقياساته .. فقد حسب ارتواء الصدر والخصر الدقيق وامتلاء الارداف علامات على جسد حيوي يقاوم عنفوانه وعصبيته .
اشتد جنون الحرب بعد سنة من اصابته ... كان بعض الجنود في اجازاتهم يقتلون رواتبهم ويعيشون بلا امل .. والضباط في سياراتهم يتجولون بحثا عن القنص ايام اجازاتهم ..واهتزت بالفقد عوائل طالما تخمرت بالسكينة واسودت الملابس وامتلات الجدران بلافتات النعي وقال العسكري ابو زمن < اضحك فانه عمر وخلص بالفرهود .. ربما لا استمتع باجازة اخرى و ساعود بتابوت ملفوف بالعلم>.. وقالت بائعة هوى وهي تنزل من العجلة (هنيئا لها فزوجها شهيد .. تخلصت منه واستمتعت بنوط الشجاعة والسيارة والراتب .. ليس مثل حظي فهو كمسحوق غسيل على قلبي ).
لكن حمد لم يكن معتادا على الحبس وهذا الجبس والعكاز يضغطان على روحه .. كان يتشمس قرب الباب في ايام الشتاء النقية الدافئة واضعا رجله على كرسي امامه ساندا عكازه على الحائط وكانت جارته الصغيرة بعيونها الزرق قد بدات تنجذب اليه وترمي له علبة شخاط فيها رسالة ويبادلها ..بعد سنة تحسنت صحته وضاقت روحه واسودت فقال في نفسه (( انا املك شهية للطعام ورجلا لم تقطع وعينين فكيف من لا بصر له ؟.. سازور ابو جاري لاتفقده ولعلي اتزود بارادة من خلال لقائي به ..
قبل ذلك باسبوع وقعت حادثة اللمس فقد تعود شاب صغير بدين ان يستقر قربه حتى الظهر ثم يعاونه بادخال الكراسي الى الدار .. كان ابوه تاجر اسماك .. وفي مرة اتى له بكيس زاخر بالكرزات والمشويات وعلب صغيرة ملئت كل واحدة بجرعة ويسكي واحدة .. وازهرت الجلسة وامطرت السماء وهب نسيم بارد واذا بالشاب يقول مشيرا الى وسط حمد :(الا يتحرك ؟ الا يستحق الاستعمال ؟ ).. فانتبه حمد اليه وعرف مرامه واشمأز وغضب وقال له :<اخرج ولا تعد ولا تقترب مني بعد الان ) ..ولم يشفع له اعتذاره وهكذا افترقا للابد ..
في ضحى اليوم الثاني قصد ابو جاري فطرق وبان له فحياه .. وبعد ان استقر لدقائق .. ترخص ابو جاري : (ساعود في الحال >.. وغاب لحظات وعاد بقنينة شربت برتقالية .. (كيف كلفت نفسك يا حاج ؟)
ــ انه واجب الضيافة .. كان قد حفظ الغرفة والمنزل عن ظهر قلب وتخلى عن عصاه وكانت المراة التي تقاسمه المنزل امرأة حميراء مكتنزة وزوجها ابيض البشرة ..قد افتتحا محلا لهما داخل البيت ولان زوجها يقود سيارته فهم يتوفر في محلهم من الاغذية ومن السلع الاخرى كل شيء.. وهما غالبا ما يتشاجران .. وفي مرة احتدم الشجار حتى احرق المنزل ..وتجمهر الناس , كان يلعن ويشتم ويهدد كل من يحاول ان يقترب لاخماد النار..كان الدخان يتصاعد والمرأة يعلو صراخها من الداخل والناس في ذهول وتوتر .. وكان بيت ابو برهان ــ وهو احد الشقاة المعدودين في شبابه ـ لصيق منزلهم .. فظل يرقب المشهد مدة ربع ساعة يحدق فيه مرة وفي الجمهور مرة اخرى .. وبعد ربع ساعة هاجمه كالذئب وتحكم بيديه على ظهره وامر الناس بالدخول واخماد النيران .
قلب حمد عينيه في غرفة من الطابوق غير ملبوخة يصبغ حيطانها الدخان والسخام وقد تبعثرت ادوات المطبخ المظلمة والسلع الاخرى باعلى فوضى رآها ..وكانت على الجدران رفوف ازدحمت بعلب صغيرة من الزجاج والصفيح ينحني بعض على بعض ويساند شيء شيئا اخر .. الفئران تعبث.. البسط فرشت بميلان , ثمت اكياس مبعثرة تنتشر ..وتساءل في نفسه <كيف يهتدي لاشيائه .. لابد ان نظاما تحتفظ به الذاكرة يعينه .. نظاما لا يعرفه المبصرون ؟>.. فقد انطبع في مخه بانها غرفة فوضى ومزبلة مصغرة ..
وتناول منه كأس العصير وحياه ثانية .. فساله حمد ان يحدثه بقصص موروثة او واقعية لان نفسه زاهقة ..
ضحك ابو ناجي مظهرا فما بلا اسنان وبقايا لحية غير مرتبة وحدث رافعا راسا مسبحا بمسبحة بلون العقيق كبيرة الخرز ..
ــ (اسمع حمد يا ولدي الطيب , انت من عائلة تعرف الاصول والكرم ).. ونفث دخانا ثقيلا من سيجارة بفمه ... وتابع
ــ كان لنا جار صاحب دكان .. عشق بنت جاره .. ونسفت كل ماله حتى كاد يعلن الافلاس دون ان ينال شيئا منها .. فاتانا في احد الايام كئيبا يائسا .. وقص حكايته وطلب المشورة .. فقلنا له هناك حل وحيد ..( ان اتتك اغلق عليها الباب ونم معها وما تبقى نحن نتكفل الامر .. )
وقطع حديثه صوت نحيل .. ودخلت زوجته ام اشعل تتقدمها عصاها وطاسة فافون في يدها اليسرى وقد امسكت كيسا بيدها اليمنى .. امراة بيضاء ناضجة الجسد تخفض راسها .. في عباءة بقعتها الحفر وصبغتها الشمس ..
ــ اللله يساعدك
ــ اهلا بك ابو جاري .. كيف انت يا حاج
ــ لدينا خطار انه ولدنا حمد حدثتك عن طيب وكرم عائلته انهم الجار الاقدم قبل ان ننتقل لهذا الحي
ــ اهلا وسهلا .. هل قدمت له الغداء
ــ لا .. كنت انتظرك
فرحب بها حمد واعتذر عن تناول الزاد ... فرمت عصاها وتحركت في الغرفة وقد حفظت اجزاءها مثله ..وتخلت عن عباءتها ..فظهر شعر تخطى حجابها, اسود كثيفا لم تعكره الايام ولا فقدان البصر ..
وقال حمد اكمل يا ابو ناجي فقال : (اختفى الرجل ثلاثة ايام فقصدناه في زيارة فرحب بنا وادخلنا منزله .. وسالناه عن الحال .. فاجاب يغمره الفرح : (اعد الشاي لكم ثم احدث )...ومضى شبه راقص منتشيا في غاية السرور .. وعاد باقداح الشاي وجلس جوارنا ..
ــ في اليوم الثاني من مغادرتي لكم اتت تتبضع .. اخبرتها اني هيأت لها هدية وعليها ان تصل منزلي ظهرا ... فاتت...
صمت بعدها وكنا متلهفين لمعرفة القضية ..وقدم لنا السجائر واضاف <لن اقول لكم ما حدث بل ساسبق قولي بالشعر ... وترنم :
ــ( ما اشوف مثل الوكت فتان فاتنا
وبنايباتة لعد الروح فاتنا
تميت انا مدة الايام الهم صبر
سأليت اهل العلم كالولي الهم صبر
كلت الصبر وين .. والايام فاتنا )
وقد اتت بالدقيقة نفسها فاغلقت عليها الباب .. وتحرشت فتمنعت ...فحصرتها بين اكياس الطحين وتزوجتها .. ههههه...بعد ساعتين اتت لي بصرة الذهب وقالت لا يلحمه شيء هاك خذ وتعال لتخطبني ...
فصاحت ام اشعل وهي تقلي السمك في طاوة مثل القار :
ــ ههه أي هاي قصصك التي خدعتني بها حتى تزوجتني .. هل تتذكر حين كنت تاتي لي بالهدايا والعطور صباحا قرب الجامع .. ثم استدعيتني هنا ولولا التهديد لكنت التهمتني ..
فقال ابو جاري :
اتركها انها اصبحت في الجيب واستمع لبقية القصة
فاجابته ملاطفة
ــ عسى عقربا بجيبك فاخلص منك ...
واكمل ..
ــ (وذهبنا في اليوم التالي وكانت قد اخبرت امها بالحادث وانها لم تعد باكرا .. فلما اتى المساء اعدت الام زادا شهيا لزوجها وحدثته :
(جارنا على خلق ومن عائلة شريفة ...)
وهكذا تتوجنا بالعقل وتلفعنا بالعباءات الوبر وخطبناها له , وتم الزواج .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمعيات بعد السقوط
تنفست رئة الشعب بعد سقوط النظام ,وتدفقت الى قلب المدينة المئات من المنظمات و الجمعيات ,(جمعية الخرسان ) , <جمعية الامل >,<جمعية الطايحين من السطح> ,<جمعية لا بعث بعد اليوم >, (معهد ألنور للمكفوفين), (جمعية الدفاع عن حقوق العاملين في دوائر الدولة) ,< جمعية الارامل >...< منظمة الرجل والمرأة >..(جمعية رعاية الطفولة >..
بعد تفكير مقتضب قصد اسعد للخطاط مهدي وعاد بلافتة خط عليها (جمعية العاطلين عن العمل ), وقصد احد المحال واشترى قاطا ورباطا وحقيبة دبلوماسية واقتنى ختما واستاجر قرب ساحة ام البروم محلا في الطابق الثاني ليكون مقرا للجمعية ..هكذا جلس وراء مكتب لاول مرة في حياته , شاب اشهب في الثالثة والعشرين , يتمتع برشاقة ... وكانت الفايلات الصفر تتدفق اليه بالمئات يوميا .. حتى انه استدعى معاونا له , وكان يتقاضى مبلغا عن كل فايل ويصيح <ليس على الجمعية تعيينك لكنها تبذل اقصى جهد لاجلك >..او يصرخ بهم (اخوان عليكم بالنظام وانتم تقدّمون )..
منذ الساعة الثامنة وقبل ان يفتح القفل الثقيل .. يتجمهر العاطلون في انتظاره .. حتى تغريهم حقيبته ورباطه الاحمر فيبدأ التدافع ..كانت له مقدرة لافتة باقناع المغفلين ..تقع جواره <جمعية المحكومين السياسيين>,ورغم ان الكثير من الجمعيات وهمية او بلا مقرات فانها جميعا تحضر دورات تطويرية ينظمها المعهد البريطاني في البصرة ..فيكافأون بمبلغ او هدايا ,غالبا ما تكون حقائب ودفاتر مذكرات .. في ذات المكان الذي سرقت فيه عجلة رئيس < جمعية رعاية الطفولة ).. فارتفع ضغطه وتدفق دم من اجفانه ..كانت التظاهرات لا حصر لها .. فانتعش سوق الطبول والخطاطين .. ولاول مرة بعد تصحر تمكن اسعد من تناول اللحم وتذوق الفاكهة .. وتفاخرت زوجته باقراط الذهب والاساور .. وخاطبوه بلقب استاذ واصبحت لحياته معنى ...
مرت جمعية الارامل باغرب الاطوار..فقد اسست في مقر <حزب النجاة >.. حيث ترأسها رجل متثعلب في الاربعين .. قصير القامة ..احتفظ بصندوقين كبيرين من فايلات الارامل ورفض تسليمها بعدما طردوه من الحزب بتهمة التزوير .. الا ان عشرة صناديق من تلك الفايلات التي تحتوي على البطاقة الشخصية قد نجت ..في تلك الايام انتشر المبايل بين الناس فكان من السهل استدعاؤهن , ومن لا تملك محمولا فانها اعطت رقم قريبها او جارها ..سيحضرن تظاهرة الحمار اذن قبل ان يقف مسؤول مقاول غبي ..فقد ابصرهم امواجا محتشدة فرفع يمناه طاردا (لا رواتب ... قولوا لهن وابعدوهن من هنا )...وبذلك اجهز على حلم المسكينات بعد سنة من الوعود والاحلام ..
كان احد يقف اسفل شباك جمعية العاطلين يوزع اوراقا بالمجان فيها وعد بزيادة مفردات الكمية حتى بلغت اربعين نوعا..لم ينس مبتكرها ان يدرج فيها بيض اللقلق والفستق والجوز .. على مسافة امتار منه احرق ناقمون النار وقطعوا الشوارع وشرعوا بقذف دائرة حكومية بالحجارة مطالبين بالتعيين .. وقد تحولت العشرات من بنايات حزب النظام السابق ودوائره الثقافية والنقابية الى مقرات للاحزاب ..يعلن رئيس < حزب التحرير >في تجمع عام بانه قد حصل على وثائق تثبت تورط حزب النظام من خلال تعليمات بحرق المساجد ...كانت الدوائر الحكومية تحترق ولا احد يدين او يكتشف الفاعل ... كان رجل عربي يقف صارخا في عجلة عسكرية بريطانية <هذه املاككم فانهبوها>...والناس تتسابق للنهب والاستيلاء على الدوائر الحكومية ..
(حزب الانقاذ الوطني ) تمكن من اكتشاف طريقة لكسب المال.. في قصر فخم استدعى مسؤول منهم صحفيا واعلامية وطلب منهما ان يوافقا على وظيفة بسيطة :<تذهبان وتبحثان عن البيوت العشوائية فتصورانها >...<سنبذل الجهد لتوفير سكن لهم .. >..<في النية ان نأخذ تلك الملفات ونعرضها على دول اوربية او خليجية لنضمن الدعم .. وقد تسافران انتما معنا >
كانت الاعلامية نجلاء رشيقة الجسم ., بلغت العشرين عاما دون ان تتزوج وقد قطنت باسلوب النهب والاستيلاء بعد السقوط قصرا فخما يطل على ضفاف شط العرب , من تلك البيوت التي كانت سرا وموضع حسد للأهالي الفقراء, وكانت امها منفصلة , اما اخوتها فيدفعونها بالصفع والشتم لتزودهم بالنقود ولا يسألون عن مصدرها...<لكما راتب ممتاز >.. سألهم زميلها الصحفي :
ــ انتم ستدفعون لنا الراتب ؟ فحددوا مقداره )
ـــ هذا يعتمد على جهدكم .. فكل بيت تصورونه.. على قاطنيه ان يدفعوا مبلغا لكم .ومنه نستقطع راتبا لكما ..
اجابه الصحفي:
ــ انها وظيفة خطرة .. فان لم تتمكنوا من توفير السكن ..فان قيامتهم ستقوم علينا ..
منظمة الامل تشرف عليها امراة اربعينية بيضاء ضخمة واختها ,جسدها مخلوق للاثارة ... عيناها العسليتان شرستان ,تفاهمت مع تاجر كبير لاستقلال غرف من بيته كمقر للمنظمة على وعد بانها ستستقطب له مشاريع , الغريب ان اختها ادعت بان التاجر زوجها ..كانت توظف اعدادا من النساء اغلبهن ارامل او مطلقات او مراهقات ضائعات ,في علية ترى مدعيا , استقطبته المنظمة , يسمونه الخبير النفسي يحاضر في تجمع لنساء , يعلمهن كيف يعتنين برضعهن ..في احد الايام اتت احدى موظفاتها ومعها رجال الشرطة فقد مضى عليها شهران لم تتقاضى منها درهما .. وتبادلتا الشتم في باب المنظمة ...التي اغلقت بعد هذا الحادث باشهر .. بعدما تم الكشف عن منزل مشتبه فيه تديره في احد الارياف .. وقيل انها اتهمت بتهريب الفتيات للخليج .. دخل عليها مسلحون متشددون .. وتمكنت من الهرب ...
اكثر الجمعيات عنفا اولئك الذين بتر النظام آذانهم لهروبهم من الجيش.. (جمعية مبتوري الأذان ) واغربها (جمعية الخرسان ) الذين استدعوا مترجما ليعبر عنهم , وليشرح مطالبهم للصحفيين .تمكنوا من الاستيلاء على دائرة منزوية ليقيموا عليها مقرا لهم .
ورد في احصائية بان الفين من الجمعيات والمنظمات قد انشئت ولا احد يعلم كيف انطلقت .. ربما اقتنع البعض بان وزارة ما ستمنح دعما ماليا .. في مجتمع يزدهر فيه الخيال ان انبثقت الفوضى وتبرقعت الوعود بريش الطواويس ..
تم الاعداد لتظاهرة الحمار بدقة فقد تكفل حزب ليبرالي بتوفير السرادق والماء والمرطبات والطعام .. في مقره استدعوا راقصي الهيوة وفرق الخشابة والهازجين وتمرنوا ..
في صباح اليوم الثاني تصدرت الدفوف والطبول واللافتات وانطلقوا في اتجاه ديوان المحافظة .. واقاموا السرادق وسط الشارع امام باب المحافظة ..كان ناشط في احد الاحزاب قد اتى بحمار سمين يمسكه بحبل وقد كتب عليه (هذا محافظ البصرة )...وكان الحزب الليبرالي قدم هدايا نقدية لجمعية الخرسان وكان عددهم كبيرا نسبيا فتقدموا رافعين اسم وشعار جمعيتهم تعقبهم جمعية الارامل ومبتورو الاذان ..وخطب احد المتظاهرين بصوت مجلل وختم (جمعية الطايحين من السطح ).. استمر الاعتصام لثلاثة ايام .
رئيس جمعية رعاية الطفولة باع منزله واشترى بستانا واسعا في الريف البعيد بعدما سرقت عجلته .. ولم تمض عليه سنتان حتى رن بخياله شيطان الطيران , كان بن فرناس يسري في خياله منذ الصغر , فاشترى محركاً لسيارة فولكس واجن قديمة واجرى عليه بعض التعديلات..واقتنى مخلفات الحديد والالمنيوم واشياء عتيقة اخرى وصنع منها طائرة عمودية .. شعر جيرانه اولا بالسخرية ثم بالرعب حين اعلن بان الاقلاع قريب .. وقد دفعه الحماس في احدى الليالي الى تشغيلها لكنه لم يطر بها ..وقد حذره طيارهلكوبتر (بامكانك ان تطير لكن من الصعب عليك ان تهبط )..وبدلا من الطفولة صار همه مراجعة الدوائر الحكومية ليتلقى معونة لمشروعه الذي لن ينجح..
الى منزله لا الى جمعية العاطلين ,وصل الاثاث الذي منحته الحكومة المحلية له ..مضت سنتان ولم يتمكن من توظيف عاطل واحد , حتى هو نفسه لم يعثر على وظيفة ..فاغلق الجمعية وحشر الفايلات بالاكياس , واهداها لبائع حلوى ..وتحول حارسا لكراج يقع وسط بستان نخيل .. وفي احد الايام قصد رجال الشرطة ذلك الكراج بعدما تلقوا ابلاغا بان صبية تم اغتصابها قريبا منه في الباص الخشبي ..
نجت وحدها .. نافعة وحدها ..اما ملايين الفايلات فالى بائعي الحلوى او وقود لمحرقة البراميل.. للانهار العطشى .. لخنادق خلفتها الحرب .. سيرهم الذاتية وصورهم اسمدة لتضخيم القمامة .. نجت وحدها ..ستكون الاسماء في مكان والصور او اجزاؤها بمكان ..احلام يصهرها تيزاب الواقع .. وحدها نجت ملفات الارامل ... فقد اجتمع حول منضدة طويلة مجموعة من الفتيات والرجال في ظهيرة سرية ليسجلوا في سجلاتهم اسماءهن حسب البطاقات الشخصية ليتحولوا دون علمهن الى حزب جديد , فيما كان خطاط في اعلى واجهة البناية ينسخ العنوان الاول , ويخط ( حزب الشروق )..
الحي العشوائي
لا يعرف عنها الا انها تنتمي لعائلة ارتجت اخلاقها وعنه سوى انه حسب اشاعات هجر زوجة وخمسة اطفال ..في زقاق من حي عشوائي كونته الفاقة وضعف القانون اشترت ذلك المنزل الصغير بسعر زهيد شيدوه من الطابوق والحجر الاسمنتي وقطع الصفيح.. والقصب و والمشبكات الصدئة وقطع من بقايا الاثاث القديم جادت به القمامة التي بدات تنتفخ في تلك الايام ..
احتج الجيران لانها ارادت انشاء دكان يتصل بالبيت ويتقدمه الى الشارع .
ــ انه طريق عام
انها حجة فقط ..فالطريق يتسع لمرور اربعة عجلات .. فتصورتهم حاقدين ووصفتهم (ناس كلاب ) .. وانشاته في الهول متصلا بالحمام والتواليت الواقعين خلف خشبة وستارة والظاهرين للزبون .. وقد كدست سلع البيع في كراتين من الورق المقوى على الارض وزبلان وصفائح وقدور المنيوم وصناديق خشب وبلاستيكية وبعض رفوف خشب .. تمتزج كلها مع مقتنيات المنزل .. فالثلاجة مشتركة لسلع المحل والمنزل .. وترى اكياسا نايلون معلقة بخيط يوازي السقف لاحتواء الكركم ونومي البصرة والعلك المر والفلفل الاسود المطحون والباميا المتيبسة .. هناك زاوية صيرت صيدلية فكاهية : علاج لوجع الراس وحبوب منع الحمل والشب وعلاج القولون وحبوب خفظ الضغط .. كتبت لافتة بخط عريض (الدين ممنوع )واخرى ( لا يسمح بالجلوس هنا مطلقا ومكانك في القلب ) وفي زاوية اخرى علقت ايات لمنع الحسد وهناك اعلان في ورقة مدرسية : (مستعدون لمعالجة العقم )و <المباع لا يرجع
>..محل جامع للشرائط ..يتقدمه باب خشبي خلف مشبك علقت سلسلة وقفل ثقيل من منتصفه ...يغلق الدكان بعد التاسعة والنصف ليلا ولا يفتح حتى لرئيس الجمهورية .. فيشرع الزبائن بالطرق المتكرر حتى يصابوا بالياس .. اما صغار الجيران فقد اتقنوا اللعبة (يتناولون حجرا ويطرقون على مجمدة عاطلة حتى يفتح لهم الباب ).مع صياح الديكة تفتح الباب وتبدا ببث وتلقف الاخبارالتي ستنقلها ايضا ..ما يجري في أي منزل لا تبحث عنه بعيدا فهنا اكبر وكالات انباء ..حتى اشد الاسرار تكتما والفضائح الكارثية ستقدم اليك بلا مقابل وقبل ان تسأل .. (طلقت .. عشقت .. خطبت . حصرها قريبها قرب دولاب العتيق ..تلك تسرق زوجها وهذه قاق قيق ..ام السحر .. ام السلفة .. ام الارداف الثخينة .. زوجها لا ينام معها لشدة النتانة ..خالسة ام التكسيات ..تكنك سرا ..لوطي .. زوجته تخضعه بالنعال وشارباه كبيران .. سارق .. قاتل .. امه قحبه .. بنت خالته كشافة فأل...انفجار في الديوانية .. راتب الارامل ظهر.. الكمية توزع الان )..
حدثت المعركة يوم الخامس والعشرين من شهر محرم .. خمسة عشرا يوما تبقت عن الاربعينية حيث تتوافد الملايين مشيا من اقصى الجنوب الى كربلاء ..لم تتمكن الرياح والصبية العابثون والماعز من تمزيق اللافتات المسودة ..حتى جارتها البيضاء التي تتقن لعبة الجسد مع الغرباء سرا وضعت لافتة سوداء كتب عليها اسماء الائمة بالوان متنوعة وقالت لسميرة ام الدكان (بعد اسبوع نمضي الى النجف ومنها <نديح >في كربلاء ...).
كانت سميرة قد عرفت المدرس ماجد على عائلة تبحث عن مدرس رياضيات لابنها في الصف الاول المتوسط فهي ذات استعداد فطري لاعمال خيرية حتى انها تعطي القديم من الملابس للايتام ..وتقدم النقد الزهيد للشحاذين تحت شعار ( دفع البلاء ).. وقد تتبرع بتوصيل رسائل العشاق.. وتتحول في لحظة الى لبوة هائجة من كلمة تنطقها جارة لها وقد تمزق دينها ولا تنضح درهما من جيبها ..وهي حريصة على مسمار صديء ولا تبالي لو احترق نصف بيتها : (نفسي التي تحمل الاشياء ذاهبة ـ فكيف ابكي على شيء اذا ذهبا ).لكن انوثتها خشبتها طرقات الفواجع ولهذا اخبرت متلذذة باسمة ام تحرير بان صغيرها بن اربعة اعوام ونصف قال لها : (سميرة خلفيتك كبيرة )..
وفي مرة تعاطفت مع عشيقين فقصدت معهما بيتا لاقربائها الناعسين الذين اعماهم وبلدهم الفقر واخبرتهم بان الشاب من الاقرباء وان الفتاة خطيبته ..وتركتهم في غرفة منفردة اغلقاها فيما كانت مع قريبتها في المطبخ تثرم البصل ..
كانت الام شديدة السمرة ضخمة الجثة مستديرة الوجه .. بعد شهر من التدريس مرت في يوم عيد وقد لمحها المدرس ماجد على بعد في تبرج مبالغ تندفع مثل برميل احمر ,في مزاج خالطه المرح , كان يستقر ضحى على كرسي قرب محل لبيع الخضار, لما اقتربت غمزت له .. كان اتساع عينيها لا يدع مجالا للشك , لم يجر بينهما مزاح طيلة الشهر , فاستغرب ماجد من غمزتها المباغتة .. وحدث روحه <ربما هو المزاج المنعش ما دفعها .. وقد يدفع مثل هذا المزاج لسلوك خارج المألوف .. واقر بانها لا تقصد ونفى ان تكون هناك اشارة منها او دعوة مقصودة ..> انتهى العيد وقصدهم صباح الاحد .. غرفة الاستقبال منخفضة عن مستوى المنزل فينزل الانسان درجتين ليصلها.. وفيما كان منهمكا بحل المعادلات والولد مطرق تمتمت وهمست بصوت غير واضح فالتفت فرآها تخرج لسانها وتحركه كالافعي وهي تبتسم..عندها ادرك المدرس ماجد بانها تنصب شبكة ..وحين ودعهم قال لهم (ساعود غدا قبيل صلاة الغروب ).. قيل عنها حسب مصادر شبه موثوقة بانها تناولت من البقال ثلاث كيلوات من السكر مقابل ان تسبقه لمنزله ..وقالت احداهن <رايت صاحب الكمية البقال الحاج ابو مزهر يقبض عليها بين اكياس الطحين , عابثا باثداء تشبه قدور الطبخ متهدلة حتى صرتها وحين رأتني قالت : ــ المعيشة تتطلب ــ !!> ..تلك الاشاعات اتت لاحقا .. اما المدرس ماجد فقد طرق قبيل الغروب في اليوم الثاني .. وبعد ربع طلب تربة ومصلاة بعد ان توضأ .... في نفس اليوم جلست بعد انتهاء الدرس قربه على القنفة وقالت له (وحق صلاتك وصيامك ..). هكذا تمكن من تمزيق الشبكة قبل نضوجها .كانت بوزن مائة وعشرين كيلو وكان بامكانها ان تنفق زوجها من الاشهر الاولى الا ان زوجها كان اذا احتضن ماجد مرحبا يحس بان ظهره سيتكسر .. بتلك الضمة المنكنة ..
كل ليلة في الساعة الثانية تمر عجلة تئن وتقف جوار الدكان ..لا احد يعلم بالامر فهم يخشون الحسد ولهذا يقود زوج سميرة تلك العربة الصندوق بعد الساعة الحادية عشر فيما يقفر الزقاق الا من الكلاب والقطط.. وشوهد مؤخرا رجل من الاستخبارات يرقب المنزل ..انه بائع الحلوى يضعها في كيس صغير.. في دشداشة وكوفية يصيح بصوت جوهري طول اليوم بين الازقة (حلي يا ولد حلي ) ..
كانت ام سميرة جوزية البشرة ..عينان حادتان .. دائمة التبرم ناقمة على الناس ..يتصدرها ثديان ثقيلان .. قبل الزواج عقلها يتركز بين فخذيها ولسانها ينهش وينقب عن عيوب الناس..تنتقل من عاشق لعاشق ..تصرخ متاوهة طوفانية الاهتزاز في مرافق الصفيح وعلى ظهور المطايا..وفي الباصات الخشبية المعطلة وخلف تلال القمامة .. اخوتها صغار وابوها يعود غروبا من الصيد وامها لا تتمكن من ردعها .. تغادر المنزل لحظة المطر وفي شرر الهاجرة فلا يفوتها عرس او مأتم او مناسبة..وغالبا تغادر بلا لباس داخلي .. بعد سنتين من ولادة سميرة اكتفت بعاشقين وعريفين وعتال..تساومهم على مصوغات بسيطة ونقود وتهديها للعاشقين ولا احد يدري ماذا يفعل في بيتها الصغير مناف ذو الست اعوام ..لقد دربته على الرضاعة وتحريك الاصابع .. اثناءها كانت تمسد شعره نافخة غبار اللذة على حصير من الخوص..في الصف الخامس غشت سميرة بمادة الاسلامية فطردوها ولم تعد للمدرسة .. ولان امها كانت كابحة وصارمة فقد اكتفت بعبور جدار السطح وقضاء ساعات على السطح مع جارها المراهق .وسرقت بعض النقود من امها ثلاث مرات وتشاجرت سبعين مرة , من تعلوها تمسك برجليها وتطيح بها اما الاخريات فالعض والشتم وتمشيع الشعور .. تقرأ اثار تلك الجولات على جسدها ..وقت تجلس امام دكانها تتصيد الشائعات والحكايا وتمارس لعبة الحسد ..غير مدركة بان زوجها يبيع حبوب الكبسلة ويظهر اعضاءه منتشيا للصغار فيما كان بائع الحلوى يترصد منزلهم ثلاث مرات في اليوم .وهو يصدح بصوته المجلجل (حلي يا ولد حلي ).. قبل عاشوراء بايام علقت لوحة من القماش لفارس وقربة (يا ساقي عطاشى كربلاء ).. ورفعت في اعلى المنزل راية سوداء بقصبة (لبيك يا حسين )..وكانت جارتها البيضاء تستقطب المارة وتستعرض اشارات الجسد وقد سودت بالقماش جسمها والمنزل ..
لقد وجدته في قفر يغذ الخطى تائها مخدوعا بالسراب .. فاقدا جواده ورمحه وقربته وروحه .. ويستحيل عليه العودة لخمسة اطفال وزوجة عصرها الفقر وانهكها ..كانت الشمس بجنون لبوة لحظة الافتراس .. تنزف الجمر على الرمال والصبير والقبرات .. وتم الاتفاق بينهما في لحظة .. وكما العشق من اول نظرة يندلع الزواج من اول جملة.. كلاهما ارمل يعوي من الاملاق وصفعات الزمن .. واختصرا الاشهار بان تزوجا في كربلاء .. في فندق متهالك يعج بالعجم..
الناس تستعد لمراسم الاربعينية .. يرفعون الرايات ويتلفعون بالسواد و ويحملون حقائبهم الخفيفة .. ملايين ستغادر من الفاو حتى ارض الطف .. من ساحة سعد حتى الكرمة مسافة كيلوين تمتد مائدة من الدجاج والسمك على طول طريق شارع بغداد باسم <سفرة ام البنين >.. وقد نصبت على الرصيف السرادق المصدرة باسماء المواكب .. كان اغرب اسم هو <موكب مجزرة سبايكر ).. وتصدح مكبرات الصوت على طول الطريق حتى لا تكاد تسمع قول صاحبك ..وقد تعددت مقامات الاداء للمرثيات الحسينية واتسعت رئة الشعر فيها (قومن بنات النبي ، خيطن خيمجن عبي
هاي الزلم ما تظل ، باجر وراجن سبي

يالله أستعدن لباجر هالليلة كلش قصيرة
باجر زلمنا تسافر كلمن يروح إلمصيره
إنسن دلال الهواشم وإنسن صفات الأميرة
كل وحده تلزم طفلها ولوذن أسيرة بأسيرة
وبسرعة كون المشي ، إحنا نسا ونختشي
لا يبقى عدجن أمل ، باجر وراجن سبي
الجميع يحلق خياله في تلك الجمال والصحارى وسبايا بنات النبي .. بعد مجزرة الطف ومقتل الامام الحسين واهل بيته واصحابه .. الجميع يتخيل محرقة الخيام وفزع الحرائر وخطبة زينب المدوية في مجلس يزيد ..وسواء كان ايمانه راسخا او هامشيا فهو يرتدي السواد وييشقق الظهر بالزنجيل ويحضر المجالس الحسينية .. الجميع يحفظ قصيدة يزيد بن معاوية ويرددها بغضب <لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل ).. الجميع يتمنى ان تعود الطف ليساند امامه الحسين ولن يتكرر تخاذل اهل الكوفة ..لكن جارة سميرة البيضاء قالت كلمتها (سنمضي مشايو ونديح هناك ) وهي تبتسم كأنها ملتذة بنعمة الحرية والتحرر ..متخيلة ذلك الزاد المنوع وهو يوزع مجانا ويكفي لاشباع الملايين .. انه ما تشتهي الانفس وتلذ العيون وربما تطلب حاجة < مرادا > من امامها فتتحق .. ولا ندري هل ستطلب خلاصا من زوج او اخضاعا له .. او موت شامتة اوهمزة لمزة ..او تطلب المغفرة لكل الاعمال الوسخة التي صحبتها من عمر مبكر ..او ثروة تدعم بها في طريق مهجور ..لكن سميرة لن تمضي معها فقد حدث الشجار ظهر يوم الخامس والعشرين من شهر عاشوراء ..اول ما سمع اصوات اوان تتكسر وتبادل شتم وسب وكلمات قبح تراما بها .. لقد اعوجت الاواني وتطشر الفلفل الاسود وسال الكاري متطايرا من الاكياس المعلقة .. وامتزجت سلع الصيدلة بسلع السحر والعلب الجاهزة كانت الاصوات تصل متنوعة .. رنة القدور وصفعات الاجساد المتبادلة .. صوت ارتطام الشاشة بالارض ثم بدات الاشياء ترمى خارج المنزل فطفح الشارع بعلب السجائر واقلام الرصاص والمشبكات الصدئة والمثلجات والوان القناني وتخلت السلع عن اماكنها فتحولت يسارا من اليمين وتخلف المتصدر منها وولت الفئران فزعة وتسارعت الى الشارع ...وطرق باب الجار واذا هي بدشداشة سوداء فزعة العيون محمرة الوجه من الغضب ولم تتمكن من ترتيب حجابها فظهر شيب مصبوغ في خصلات لم يروضها مشط ولا حناء ..(ام تحرير اريد عباءة )
ــ ادخلي وصلي على محمد
وادخلتها واغلقت الباب وهي تعوي سبا وحنقا .. وكانت قد ضخمت قاموس الشتم (ابن القحبة لو رجال انت امسك اخواتك ).. فتناول حجرا ثقيلا واجهز على برميل الماء فاغرق الشارع وتجمهر الجيران.. وواصل تحطيم ما يسمى اثاثا ..حتى صندوق التوفير قطعه نصفين وتطايرت خمسة الاف ورقية منه وحملتها الريح بعيدا وكسر المبايلات .. كان يسحقها بقدمه بعد ان رمى بها الارض كانه يمنع التواصل مع العالم وهو في وجه شاحب ..وجلست مقابل الباب المغلق تقابل جارتها التي تعاطفت معها وتحاول تهدئتها .. خلف الباب تتواصل معركة التكسير والتحطيم وكلما سمعت صوتا اجابته (اعوضها وانت ابحث لك عن جحر يأويك ) (لو رجل لما اريت اعضاءك للصغار )(اذهب وابحث عن اخواتك باي تكسي <يعملنها> ) .. وبعد ان بردت الحرب تواصلت المناوشات الكلامية وتبادل السب واستعراض العار والعيوب .. وجلس يقابل الباب قرب المزبلة على بعد امتار.. كلمة لكلمة وتهمة لتهمة .. (خلصت عمري اكدح لتأكل ) ويجيبها <بسواي تاكلك الكلاب )
ــ ترى نفسك رجال
ــ انظري لخلقتك الزفرة في المرآة ..
ــ كل يوم يجمهر علينا الناس
ـــ كل يوم لها طبلة وعرس لم تحمد الله وتشكره
ــ بعد قليل ستصلك الشرطة
ــ فقط من الله اخاف ... روحي .. انا ادليك مكان المركز .. استأجر لك تكسي لتاتي بهم ..
قليلا قليلا اختصرت الكلمات فانهمرت منها الدموع .. وبدأ هو يكتب على التراب كلمة (وتاليها ) بشظية خشبة..كانت جارتها قد اطرقت غريقا بحزن حقيقي .. انهما تتقابلان :
ــ يا اختي تتعوض الامور لا احد لك غيره وليس له احد
ـــ لم اقل له شيئا .. قلت له لا تغسل الستوتة اليوم وبعد خمسة ايام .. مرة واحدة تكفي لان التراب يخربها .. وانت تريد ان تصل بها لكربلاء في الاربعينية .. هل في كلامي خطأ ؟.. كان يسمع كل كلمة فاجابها بصوت خفيض كمن ذل : ( وما يدعوك لمنعي انه ماء )
ــ قلت لك الشارع يفيض
ــ الشارع تنشفه الشمس
خفت حدة اللهجة .. وبدءا يفكران بمخرج وطريقة اسرع للصلح ..فتحول الهجوم الى عتب .
ــ ادري انت طيبة ولم تقصدي لكنه الالحاح
ـــ وما بك لا تتحمل كلمة مني
وكلما لامست الاعصاب برودة اشد اختصر احدهما و وفاض الاخر ..
ـــ انت تدري الناس تتصيد عيوب .. تبحث عن زلات .. سيقولون اغرق الشارع .. وهي ليست عروس وكل يوم حمام .. انا ما قلت شيئا , لاجلك منعتك .. اهكذا احسن .. ناس تتجمع لتتفرج ..متى تعقل يا رجل ظهر شيب بلحيتك وما زلت تراك صغيرا .. لا واحدة غيري تتحملك ..تتحمل بطالتك .. انا اكدح من الصبح للتاسعة ليلا . وانت مشغول بالتفاهات ... للبيت لا.. ولهم تعمل بكل اندفاع حقا من قالوا < بيت النجار خراب ).. ثم خاطبت جارتها التي ما تزال تقابلها جالسة وتصغي كانها في محاضرة مقدسة
ــ خية صح هو طيب لكن العصبية ..
ــ صلي على محمد واذكروا الله .. كل شيء يعوض
ــ وحقك اعوض أي شيء , هو لا يقدر..
لكنه تركها تفرغ احشاءها تماما .. فقال (تعاي تغدي ).كان وجهه يعكس الحزن ونشوة اقتراب ابرام الصلح ..يعرفان بعضهما تماما ... سورة الغضب لا تطول .. ما عادت لهما طاقة على الحروب الطويلة لقد تمكن منهما التعب بمرور الايام ..
وشوهدا بعد ساعة يتناولان الغداء ويتبادلان القهقهات .. وحين اتت جارتهم التي تقابل منزلهم لتشتري .. خاطبتها
ــ انت شامتة .. تقولين له فيضت الشارع وانت تبتسمين
..
لم تشهد جارتها البيضاء تلك المعركة والا لحدث احتكاك فسميرة عدائية بطبعها وفي موجة الغضب تحرف وتصحف الكلمات ..
بعد خمسة ايام وقد سبقها زوجها .. بدات المسير من النجف الى كربلاء ومعها جارتها البيضاء التي تدفع طفلتها بعربة صغيرة ..وكل واحدة متشحة بالسواد وترفع راية حسينية ..

الخفاجية
حشدت ايران الفرقة 92 المدرعة او الفرقة الذهبية ومجاميع كبيرة من الحرس الثوري وشرعت بالهجوم على قاطع الخفاجية في ليله 6 كانون ثاني 1981 ، بعد تمهيد نيراني قوي، استمر طوال الليل ، لاستعادة مدينة سوزنجارد < الخفاجية >, كانت من اكبر معارك الدبابات الطاحنة .. وهزجت النادبة في احد ازقة حي الحسين في البصرة (هجمتي بيوت بسج يا الخفاجية ).. وعاد منصور من معركة الخفاجية بعين واحدة ..وقد قدر حجم الكارثة التي تنتظره بعد ان رأى وجهه في المرآة لاول مرة وهو يرقد في مشفى البصرة العسكرى ..قبلته زوجا جارته سمية فهي يتيمة وكانت تتمنى ان ينظر اليها بوله كلما عاد بملا بسه العسكرية المرقطة ..ورث عن ابيه دكانا للبقالة في حي البجاري في العشار بين بيوت الشناشيل .. مهند يكبره بعشر سنوات هو جاره القديم قبل ان ينتقل منصور الى منزل اشتراه قرب محله .. كلاهما خماران مولعان بالجمال الانثوي وحب الحياة ..كلاهما كان يخبيء قنينة العرق .. بعد الغروب بين ظل شجيرات الياس التي تسور فلكة قرب منزليهما .. الا ان منصور يقضم الكثير من اوراق الياس ويعلس كمية من الهيل لتفتيت رائحة العرق القوية خشية من ابيه فيما لا يحتاج لذلك مهند فقد كان ابوه يكرع الخمر الثقيل ..اثناء الزيارة قال مهند (لم اجد رغم السنوات مثل جمال بيداء .. تلك التي تزوجها رجل خامل يعمل في ماكنة السوس) واشرق وجه منصور.. كانت تاتي الى الدكان القديم وكنت احرك الاصابع بين فخذيها ..وهي تقهقه كمن مستها دغدغة .. وتذكر منصور وتخيل حال صاحبه مهند حين عاد مخمورا قبل عامين فعبر ساقية نتنة على بعد امتار من باب منزله فتهاوى عليها وغرق وابتلت ملابسه بالماء النتن فحمله رجلان جاران وادخلاه البيت وبعد ساعات استدعت زوجته عمه فاشبعه صفعا ..
(اوصينا القواد في شارع بشار ان ياتي لنا بفتاتين صغيرتين مميزتين واعطيناه بخشيشا .. وانطلقت بنا سيارة صاحبي الى البرجسية وبين اشجار الاثل افترشنا البسط ونصبنا قناني المسكرات وملانا صحون الفرفوري المنقشة بالمكسرات خاصة اللوز والفستق .. وبحب الرمان والجاجيك ..لنا عرق المسيح ولهما البيرة ... وبعد ساعة من الاشتباك اقترب فجأة خيال على جواده فاصبنا بالرعب وشحبت الفتاتان فسلم وطلب سجائر فقدمنا له علبتي روثمن وغادرنا .) فاجابه مهند (كان زمنا جميلا رغم مرارته.. لكل عالمه ولا احد يهتم بحياة احد ).. وقطع الحديث صغير مهذب واخته التي تكبره بعامين تربط نهاية ضفيرتها فراشة بنفسجية وطلبا علبة شاي وكيلو سكر .. فاكمل مهند ..(تصور مرة واحدة فقط دخلت الى منزل للمومسات ..تحذيرات ابي منعت واحساسي بان المرأة عليها ان لا تكون مبتذلة ولا سلعة كان جدارا .. كنت طيلة عمري لا ادخل تلك البيوت .. وفي مرة عدت وصديق من مشرب وقد لعبت الخمرة بالمخ .. فدخلنا منزلا كانت الساعة تقترب من المنتصف ..وكان المنزل مراقبا فلم نجد فتاة بل رجلا املس ابيض بدينا يشد جبهته بقطعة بقطعة حمراء قال
ــ تفضلا اهلا
ــ اين النساء
ــ خرجن لاداء عمل .. استريحا
وقرأنا لهم بعض الشعربلهجة دارجة (ابوذيات ) فقال الا تشتهون .. انا مستعد .. فضحكت وقلت له (انت ؟ ) لكن صاحبي اختلى به وعملها ثم استدعاني وخلع دشداشته ..كانت خلفية بيضاء كبيرة (قال ذلك مهند وهو يدمع من الضحك ومنصور يطلق القهقهات صائحا (هلوو.. احسن فلم ).. (ومد اصابعه فلم يتحرك في شيء وحاول لنصف ساعة ..واستعرض مهارات فلم يفلح .. بعدها غادرنا دون ان ندفع فلسا..
نشات سمية في بيت تحكمه امها .. كان ابوها جبانا بالوراثة .. يظهر منه سلوك عنين ..وكانت امها شهباء خضراء العينين رشاقة وروح محلقة لا يرويها شيء ..ابدا تطلق الطرائف الجنسية وتروي حكايا العشاق وتقول اشاعات بانها احبت اكثر من سبعة اشخاص ولها قصص منهم ترويها وهي تنسب الحكايا لامراة تسميها (ام مسلم )..ولم تكن تدرك بان سمية اصبحت تعي ما يجري وهي في العاشرة .. لم تغلق الباب ..ادخلت احدهم لغرفة نومها فيما كان زوجها في دائرة الموانيء .. في الساعة العاشرة من يوم تموز جهنمي ..فقرأت سمية اسرار النساء مبكرا لكنها استغربت من تأوهات امها وصرخاتها فاقتربت من ثقب ستارة الباب وتهجت القضية .بعد اشهر من تلك الواقعة امسك ابوها مكان قلبه وصرخ وفارق الحياة قبل وصوله المستشفى ..لكنها حافظت على عفتها ولم تعرف الوسخ الا بعد عامين من اصابة زوجها ..تترسخ سلوك الام في ذاكرة الطفلة .. في وجدانها .. يغذي خيالها فتختلط مفردات الوعظ مع المترشحات من سلوك الام ..الامهات الاشد حرصا من يسترن الاوساخ عن صغيراتهن بكل حذر ..منذ اللحظات الاولى لمراهقة سمية حتى بلغت امها <ام مسلم >الستين وادركها العمى وهي تستدل على الحكايا وتعلم بان امها نسابة فاشلة ..
السمكة الاولى التي اصطادها منصور بصنارة وقصبة تحت الجسر وقت الظهيرة القاسية التجمر .. محاولاته الاولى لقيادة دراجة هوائية اليوم الاول لدخوله الصف وتدريباته على الامساك بقلم الرصاص , التفاحة الحمراء التي اتى بها المعلم في درس الانكليزي وهو يرفعها مرددا بصوت واضح (ابل .. ابل )... ارتعاش اصابعه امام الحلمة الاولى لصبية جارة سمراء في يوم من رمضان حيث الاهل جميعا ينامون حتى الظهر ..انتظاره لموكب المطبرين في عاشوراء فجرا ..فرحته امام قرد يدخن في سيرك خيم على بعد عشر كيلوات واختفى لنصف قرن بعدما سرقوا منه الجياد الثمينة المدربة .. وحين اخذه صاحبه لدار مومسات في المشراك .. قالت له ساخرة (الا تعرف .. وهل انت لاول مرة ؟) وكان يرتعش ويتصبب عرقا فصيرته رجلا في لحظات ..كل تلك الذكريات تنتهي بصوت المزمجرات في معركة الخفاجية ..في الساعات التي واجه قلبه الطفل انصهار الحديد وتشظيه حمما في عاصفة من الرصاص واصوات المدافع حيث يتخلى الانسان عن انسانيته ويعود لغرائزه الاولى ,ويتحول قتالا بالضرورة ,ويتكلس الضمير والمثل ويتشوه الجمال ..وتتكفل الجرافات بقبر الجثث..وفي ظلمة تبرقها المتفجرات ..عصفت بهم الدبابات العدوة ..تذكر امه التي ماتت ايام مراهقته .. تذكرها وهي تحتضنه في الفراش لانه تصور ام الارجل المسحاة تريد خطفه ومعها سراقة الصبيان ..(لا احد ينال منك يا ولدي ..تعال اشمك ).. فيزول رعبه ..( الان ..الان اين انت يا امي فانا اموت قبل الموت )..حملوه مضرجا بالدم الى اقرب وحدة طبية ..لم يتوقع ان الحرب ستتعب بعد سبع سنوات وسيعودون ليبذروا وتزدهر السنابل وسينسى الناس الخفاجية ..لكن بعض الاطفال يسخرون منه وهو يمر في بعض الازقة ويسمعهم يهزجون لانه فقد عينه فيقرر من ساعتها ان يقتني نظارات سوداء ليغلق افواههم ..
(زوج خامل لا فائدة منه كنت غبية فاخطأت الاختيار .. وهو لا يحمد الله ويشكره ولا يركع لاني رضيت به وهو بعين واحدة وربما يصاب بالعمى فقد بدا الضرر ينتقل للعين الاخرى ..تافه .. حتى لو كنت مريضة لا يعذر فكل ليلة يحتاج عرسا ويمردني ..انه الحظ .. صديقتي ام الاء فحمة وسخة .. صيرت زوجها المقاول محبسا تديره كيف تشاء .. وانا التي حين اظهر يخاطبوني ب (ست ) لانهم يتوقعونني مدرسة رغم اني لم اكمل السادس الابتدائي .. ابتلاني الله بمنصور .. بعائلته كاني خادمة لهم ..اخبز ثلاثين خبزة في اليوم واشطف ثلاث طستات حتى ذبلت يداي وتغضنت وخالط بياضي الدخان ..) واخبرت امها بمأساتها وانها تفكر بالخلع .. فقالت لها (اختاري عشيقا جيبه ثقيل ,الضباط اغنياء ويبحثون في اجازاتهم عن الارامل والمتزوجات اراهم يجوبون طوال اليوم يبحثون .. لا تخطئي مرة اخرى فقد كبرتي ولك طفلة وولد فمن يقترن بك؟! احتفظي بمنصور عن وحشة الليل واستمتعي في غفلته ..احمدي الله انه لا يشك ويثق بك .. تاركا لك الحبل طويلا ).
وفيما كان يلتقط حبات الحمص واحدة واحدة ليزيل عنه الاوساخ وكريات الحجر.. كانت سمية تتلفن له .. لاول صاحب مطعم في ام البروم تعرفت عليه ..الثعلب الذي غدرها يوما فهجرته حانقة ..قالت لمنصور (درس الفتاة الزوايا في الرياضيات ونظف البيت جيدا ولا تترك صفيحة الزبل واملا البرميل بالماء وان مر بائع الغاز نحتاج قنينة .. مع كل امر يجيبها ب (صار ) وحاولت غلق الباب لكنها عادت اليه باخر امر (انشر البطانيات على السطح لتعقمها الشمس ) وتنفس الصعداء بعد ان اغلقت الباب فمضى شاعرا بنسمة حرية وادار المذياع.. كان مهتما بنشرة الاخبار من لندن ..وكل يوم يتوقع انتهاء الحصار الاقتصادي على العراق ..سيستغرق تسع سنوات قبل ان يتحقق حلمه ..
غادرت في اناقة ملكة وقلب عاشقة .. انها تدري ان العشق كذبة انتحر زمانها .. انها تمارس اللعبة وكسب المال والمقتنيات .. قرط او قنينة عطر او ثوبا تحلم به او حذاء حسدت عليه صديقتها (ام جنان ).كان حسام صاحب مكتب للعقارات رجلا في الاربعين يملك بستانا صغيرا في منطقة حمدان يطل على نهر وله باب عريض ينفتح على درب ترابي في غابة من النخيل واتفقا ان ينتظرها قرب تمثال العامل الذي نجا من مجزرة الفؤووس ايام الفرهود في ساحة ام البروم ..منصور في تلك اللحظات انهى اعماله المنزلية باقصى سرعة كانها في ساحة حرب .. كان ساعات الخفاجية قد تكررت .. ثم استقل تكسي واتى بقنينتي بيرة تركية .. وقشر الخيار كما ايام زمان وخلط الثوم بالروبة في كاسة انيقة ووضع اوراق الخس وليمونة في الصينية .. واحكم اغلاق الباب واضعا كيس بلاستك للاحتياط فلو عادت قبل موعدها بعد الغروب سيحشر الاشياء بسرعة ويخفيها ثم قام واتى بشريط اباحي وشغله وبدا يتسلطن ..وعبثت بمخيلته الخمرة فتذكر نجوى اول حلمة يمرر اصبعه عليها خلف تل السعف المتيبس .. وتذكر حمد حين اتاه طالبا منه الانضمام للحزب .. وحمد شاب رشيق جميل في العشرين تزوج امراة تبلغ مائة وعشرين كيلو بكت بدموع حمر حين طلقها بعد سنة حين صار برتبة رفيق وبدأت له الابواب تفتح بالترحيب وجملة <اهلا استاذ >والاموال تتدفق اليه ويعدون له الكرسي في الصف الاول تتقدمه طبلة الاصص وكأس العصير في المناسبات التي لا تتوقف يوما والاناشيد الوطنية ..لم يكن قبل احد يشتريه بفلس ..فتصور كل من لا ينتسب للحزب هو خائن او بن زنا وتحول الى قسوة مضرب الامثال واصبح يمشي على اطراف الاصابع ..في نفس اللحظة التي كانت سمية تتعرى لحسام منتشية بكأس بيرة واحد فقط وسيجارة .. في احدى غرف البستان ..حين عادت رات المنزل كما امرت والفتاة قد اتقنت الدرس فقالت له وهي بالطف مزاج (لا حيل لي لاطبخ ارسل ابنك لياتي لنا بالكباب )..وقبل ان يدخل كل منهما غرفته لينام مبكرا ,منتشيا وبسرعة .. شعرا بنعمة الحرية وبيوم زاخر بالسعادة .كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر وقد تحدث كل خميس فتغادره بعد الظهر وتعود بعد الغروب بساعة او ساعتين فيسالها (كيف صاحبتك ام جنان ) .. وتجيبه خالقة حكايا من الخيال او تختصر الجواب .
الامر تطورفقد نضجت البنت وتوثب صدرها وصحبتها امها ذات يوم الى الصابئي صانع المصوغات الذهبية وكان غنيا في الخمسين .. تعرفت عليه في السيارة ..اخبرته بان لها ابنا معاقا وانه يتيم فاعطاها رقم التلفون وقصدته بعد اسبوع في منطقة العباسية ومعها الفتاة ..بعد شهرين اصيب بالملل منها فقال لها
ــ احتاج البنت
ـــ انها صغيرة
ــ بل تحفة فراش
كان مصيبا فلا رجل رأى العينين الخضراوين والرمانتين المكورتين والخصر الذي يكاد يتقطع على ردفين متقنين الا واشتهاها .. ولفتاتها نظرات اباحية وغمزة بيلوجية ولا شعورية ..وقد اتقنت الرقص الشرقي على المرآة...
وسلمته البنت ظهر الجمعة بين يديه (ساعود بعد ساعتين ) .. واضافت <احذر .. لا تفتحها سيقتلونك >
الشاي و منديل ابو الحيلين
كان يستقر على بساط برتقالي مزخرف من الصوف ينحني جسده مستندا بعكس يده اليسرى على وسادتين بلونين مختلفين .. وهو يرتدي دشداشة رصاصية بلون سترته .. ويغطي راسه بكوفية بيضاء زخرفت بمثلثات من خيوط سود تتلاصق من اضلعها ويتوج راسه بعقال مكورا عباءته الجوزية خلف ظهره ...خمسة ازرار على طرف ردنه .. كانت البشرة عميقة السمرة الا ان انفه الافطس ينسبه الى جذر زنجي ..صلبت وجهه الالام والفاقة والخيبات .. انه يمسك قدح الشاي ..يقربه لفمه ويطيل فيه النظر قبل ان يرتشف ملتذا متسلطنا .. ثم يبعده قليلا ويرتشف ثانية مطلقا صوتا مع كل رشفة .. فيما يسند كفه الايسر ساعده الايمن المشعر , نابضة عروقه .. ما الذي يرى في القدح .. ام انها نشوة الشعور بطعم الشاي .. ربما عملوه على حطب او فحم وخدر على مهل ..انه ينتسب لتلك الايام الخوالي قبل ان يستبدلوا الاستكانة بكوب الشاي الزجاج الذي عودهم عليه المصريون وربما لمكعبات السكر الصغيرة.. ربما رأى صورة الزعيم عبد الكريم قاسم عليها او على قدحها الفرفوري .. او ان الاهزوجة ترن باعماق ذاكرته ( يا محله الشاي لو رنت الخاشوكة ).. كان جواره قرب ركبته باكيت سجائر <سومر >.. يظهر انه حلق ذقنه بعناية دون ان يصبغ شاربيه فظهر شيب بين شعرات سود .. حين افرغ القدح رمى بقاياه في القعر لحظتها صدم كأس زجاج فأطار قطعة من اعلاه .. فرن .. نظره بوجوم ثم القى نظرة حزينة محدقا بمن او بما امامه .. عيونه الصغيرة العميقة توحي بطرافته .. بشيء من المكر البسيط ..وقد تهيؤك للضحك قبل اية كلمة او حركة منه .
(لـئـن كــان غـيــري بالـمـدامـة مـولـعـاً
فـقــد ولـعــت نـفـسـي بـشــاي مـعـطـرٍ
إذا صـب فـي كـأس الـزجـاج حسبـتـه
مذاب عقيـق صـب فـي كـأس جوهـرِ
بـــه أحـتـسـي شـهــداً وراحـــاً وســكــراً
وأنـشـق مـنــه عـبــق مـســك وعـنـبـرِ
يغيب شعور المـرء فـي كُـؤُسِ الطـلا
ويصحو بكأس الشـاي عقـل المفكـر
كأني إذا ما أسفر الصبح ميتٌ..
وإن أرتشف كأساً من الشاي احشر
)..
ربما انتهى الان من اكل سمك مشوي على حطب وثلاثة رؤوس بصل ..او تذكر لحظات العيد ايام مراهقته : يتخلى عن جلته وينضم الى ثلاثة من الشبان السود , ويمسك طبلته وهو يدير الدولاب هازجا :( يا بو الماطور خرّبت النساوين ) وهو يهز عجيزته بمهارة ..
ما حطن شكر من اشرب الشاي
يمر رسمك عليه وكلشي يحله!
طالما تقلد منديل خنجره المعقوف متلثما بكوفية متنقلا بين اشباح النخيل والقناطر والانهار الغاصة بالسمك غير ملتفت لضجة الكلاب خلفه ..(بيك ونيك ) كان شعاره الاوحد ..يثمله نقر الدفوف ونكهة الطبول ..
تعرف منديل على مرهون الاسود ..وعمره سبعة عشر عاما ..كلاهما حمال في سوق الخضارة حتى الظهر.. دشداشة وجلة وحفاة . .. بعدها معا امسيات الخمرة .. العرق اللاذع يشربانه بعلب السمن وقصعات الجيش , مزتهم حبوب الرمان او اوراق السدر .. حفلات الغجر في الاعراس...زار القمار في ظل خصاص القصب , الخدمة العسكرية في ربايا الشمال .. شارع بشار لذبح الشهوة ..
دفعهم السكر في ليلة كالحة الى بستان جوهرقرب مرقد ابو الجوزي ..استقلا زورقا تركه صاحبه جوار ضفة نهر .. وجذفا وعادا بجلتين من رطب البرحي ..
عرفه مرهون على ابو فارع الوسخ الخمار في احد الارياف ..وقضوا ليالي خمرية في منزله القمامة تحت السعف في اللحظات المقمرة ورأى مرهون ان زوجة ابو فارع لا تتحرج منهم , تقدم لهم رمانا ولبنا ممزوجا بثوم او ليمون.. وهي تبتسم و تفر الردفين مستعرضة ..بشرتها اقرب للسواد الفاتح وشفتاها غليضتان ...امراة يلفضها الفراش وتصد الشهية .. وضعوا مع العرق حبوبا تضاعف السكر لابو فارع حتى انه لو اشتعل لا يحس بعد ان يسكر .. واستدعاها مرهون .. واخذ كل ليلة بعد غيبوبة ابو فارع يتبادل الادوار عليها مع منديل .. يسمع الجيران الاقرب صراخها المدوي وهي تحتهما .
في صباحات الجمعة يجمع من قمامات البيت ما تيسر .. ويبيعها بسوق الجمعة ..وان شح طعام فاسماك من نهر العشار بصنارة وربع عرق ..
بعد زواجه نسفت له امرأته كل رغبة بامرأة اخرى فهي تعصف به كل ليلة حتى كاد يفر .. انها تحطم ثلاثة رجال لو تزوجوها معا الا ان طاقة منديل الجسدية انقذته فملأوا الحي باولاد سود وسمر صاخبين .. حطب للحروب رغم نصفهم الذي نجا ورافد للملاعب ..مع كل بطولة سجلها اولادهما بهجة ومع كل تابوت مرارة فقد ..حتى لم يعودا مباليين بحزن او اسى .
بعد الاقتران اشتغل بنحر العجول والجاموس وتمرس بتقطيع الاوداج ..يستدعى في المآتم والاعراس لينحر لهم متقدما بهيبة مقتدر , سكينته القاسية بقراب معلقة في حزامه الجلدي يسارا والمبرد المجرب على يمينه ..
انه الان شيخ عشيرته .. رجل في الثامنة والخمسين .. مشدود الجسم ..انيقا .. رغم لكنة لافتة في لهجته وروح الطرفة التي لا تفارقه وحركته الراقصة وهزة كتفه وخلفيته النابضة كلما انفرد مع مقربيه او ابتعد عن الانظار.. يتقدم الاولاد والاحفاد يحملون العصي والمرا دي والمجارف ان نشب شجار .. اتقن لعبة الدية وقوانين العشيرة .. وحين تطورت اساليب الصراع تزودوا بالبنادق الرشاشة والمسدسات ..وصنعوا لهم راية مميزة رسموا عليها سيفين متقاطعين واسم القبيلة ..وانشأوا لهم موكب طف يرتدون لاجله زيا موحد ا ...وصار منديل يسمى ابو الحيلين . وليس بعيدا ان يكون قد انخرط في حزب ليحمي نفسه في المرحلة التي تتكاثر وتنشطر الاحزاب فيها كالاعشاب الضارة .
كان منديل يعود وهو في العشرين الى منزله في حي البجاري من القرى النائية , ثملا.. وقد انعشته بستات الخشابة وطبولهم ..مرددا : (كسرى بزمانه حكم ....).. لكنه ضل طريقه في الصحراء حين عاد من حفلة في الزبير وقد لعبت الخمرة بجمجمته .. اذا به امام خيمة منفردة ... قربها فصيل ماعز وخراف وكلبان .... كان الظلام مهيمنا .. فصاح: (اهل الداار ) ...
ــ نعم .. شو تريد ؟
ــ لقد تهت .. وقلت لو تضيفوني حتى الصبح ..
فحدجته امراة طويلة تلف راسها بعصابة سوداء وقد تلفعت بعباءة رجالية رمادية مشربة بصفرة ... وتشد وسطها بقطعة قماش مبرومة ..ازدحم وجهها بالوشم .. ثقيلة الجثة .. لها صوت صارم مهيب
ــ اين كنت ؟
ــ في سمر وتهت ..
فحدجته بنظرة متفحصة ..قرات فيه جبنا وليونة .. سهمت قليلا فقالت له .
ــ لا رجل معي .. ستدخل مطيعا ..اقول فتنفذ ...
ومشى وراءها .. نحيلا بقامته المتعالية وسمرته المعمقة .. فاجلسته في اقصى الخيمة وشدت حبلا في الاعلى تدلت منه ستارة من بسط الصوف ترتفع قليلا عن الارض , فقسمت المكان الضيق قسمين . رمت اليه الغطاء من تحت الستارة وكوز ماء و حساء في انجانة نحاسية وحليب ماعز .. مع قطع رغيف .. واتت بحطب من اغصان الغضا في طست تفحم فوضعته بينهما على الارض ... كل ذلك وهي صامتة ... اعولت الريح فامطرت ...لقد رأى تعملق الردفين جيدا تحت ضوء القمر والخصر يتكسر يكاد يمزق القطعة المفتولة على وسطها ومشيتها الواثقة .. ولم يكن معتادا على الصمت ولا على البرد القارص .. يسمع سعلة خفيفة منها .. توقعها تناديه ..فاشتد به الاشتهاء .. لكنه كان جبانا .. فقال كمن في حلم :
ــ اااخ ,, لو هي قربي فاحضنها ..
اصغت اليه صامتة وقد تقلص ما بين حاجبيها وجحظت عيناها وغلى فيها الدم .. فقربت العصا الغليضة اليها ..
وبعد صمت قال :
ــ اااه.... احاه , لو بكلتا يدي امسكت الصدر وشربت .... ادفيها كما تشتهي واشمها حتى تتفتت .. ااه .
ــ انها حضن للشتاء , مهرة اصيلة.. اوووف .
لا يصمت الا ليعود متفجرا رغبة راعدة ..كان يتلوى تحت الغطاء .. يتوتر .. يشتعل .. احس بان خيوطا من النار تقفز من جوفه خلال فمه .. ولم يدرك بانها بعد ست ساعات من عروضه قد اشتهت .. تمنت ان تلتهمه .. تضمه بين ركبتيها حتى يتكسر ظهره ..تغليه ببركانها الذي شرع بالتدفق .. تذيبه بحممها .. وتريه طاقة نسائية لم يسمع بها ولن يعود بعدها بعقل ..لقد رحل زوجها بمهمة تهريب منذ شهر وكوتها الرغبة ..وكم تعذر عليها مرور ليلة واحدة بلا ارتواء ..لكنه الان في الفيافي التي تقود للمحمرة .. وربما في بساتين الاهواز وحيدا متخفيا يواجه الذئاب والعطش والدوريات والغربة ..
لكن ضيفها جبان ... وهي تحسب اللحظات قرونا وتناجي نفسها (الان يخطو .. ااه ... انتظر قليلا .. سيهم ..).. وتنتظر ... وتنتظر, تتضرى اشتهاء وهو يواصل الاغراء ولا يتحرك .
بزغ الصبح فصحا يسعل .. فغادرت المكان ووقفت قرب باب الخيمة ونادت عليه فلما خطا قربها اذا بضربة عصا غليضة على قفاه .. واردفت ..واتت الضربة الثالثة على ظهره.. كاد يتهاوى حاسرا وهو يهرب .. وهي تصيح به : (ايها الكلب العنين .. لا انت اتيت ولا صمت ).
( اللنجات والطيار)
بعد ان اصبح عمر صغيرتها ثماني سنوات تأكد لها بان زوجها قد تم ترويضه تماما فقد اصبح زوج شفق مثل محبس في يدها وانعم من الطحين .. لقد كان لحاما ماهرا حين تزوجته وقد توفيت امه مبكرا وغادر اخوه المنزل قبل ثلاثين سنة .ودهست عجلة اباه وفرت فلاقى حتفه. شاب اشقر بسيط وحيد.. طموح اية فتاة ان تتزوجه .. طفلتهم انيقة بيضاء خضراء العينين وشعر كثيف ذهبي .. مرت مراهقة كرار بهدوء .ولم يحفظ الحي اية حكاية غريبة او جاذبة عنه في تلك السنوات التي ندر ان ينجو مراهق من جنوحه فيها .. كان قليل الكلام ..يحلم بصمت وله صديق واحد متكتم مثله . بعد زواج كرار من شفق قيل (انها ام بيت فقد لمته ورممت المنزل واغلقت الباب ).
في تقرير رسمي سري تضمن 48 صفحة صادر عن مكتب المفتش العام لوزارة النفط العراقية بلغت قيمة النفط ومشتقاته المهربة في 2005 مليار دولار من الموانيء الجنوبية مع الكويت وايران ومن المنافذ الحدودية الشمالية..
سبق هذه الحوادث كرار حين كان يعمل في ورشة تصنيع اللنجات المحورة المعدة للتهريب ..كان النظام قبل سقوطه يشجع تهريب النفط بعدما فرض على العراق حصار خانق امتد لعدة سنوات.. لقد منع عن استيراد بعض انواع الحلوى لان فيها موادا يمكن استعمالها في تصنيع اسلحة التدمير الشامل وحتى اقلام الرصاص منعت لان لها نسبا من بعيد مع السيد اليورانيوم ..وحرم من استيراد الخشب لظنهم بان العراق يصنع منها رماحا عابرة للقارات وقد يصنعها مسممة .. وكانت فرق التفتيش الاممية تدخل في الدورة الدموية قبل ان تعلن الحقائق ويبررون بانه كان خطأ في التقديرات الاستخباراتية وان العراق خلو من اية اسلحة كارثية ..وكان الدينار كنزا على العوائل اخفاؤه بكل حذر وقد يتبرأ الاخ من اخيه بسببه ..ولم يكن يملك قاص بصري الا كتبا فاختار اثمنها واحبها الى روحه ..وطاف بها من مكتبة لاخرى فلما عجز عن بيعها ومر على الجسر اتته رغبة مجنونة برميها في نهر العشار ..اما اهالي البصرة المجانين بشرب الشاي فقد شربوه مرا وطعموا فمهم بالحلوى والتمر لان السكر متوفر في القواميس فقط .
في ضحى حرارته ناقمة ..اتت مكتنزة الجسم متوسطة الطول محمرة الخدين من حر وغضب ومع الخطوة الاولى في السوق استقبلها بائع صغير, رافعا يده : (خالة : كيس بلاستيكي أتشترين ؟).. فقابلتة بصرخة جمعت فيها جوع صغارها وصفع زوجها وحيرتها (وماذا اضع فيها ؟)..لقد تحول الناس الى قطيع ينقب عن اللقمة وان من يملك كيس طحين يعد من الطبقة المترفة ..كانت قطعان الماعز تقضم اكياس النايلون في المزابل وبقايا الاوراق والكتب المدرسية وربما ادخلت بحثا عن الطعام بوزها في صفيحة زبل وتعذر افلاته .. كان الناس ينشرون الغسيل على السطوح ويحرسونها حتى تجف فاللصوص بحاجة لاية سلعة .. وخاطبت متسوقة صاحبتها متفكهة (حتى ملابس داخلية لا تتوفر لنا ).
كانت ورش صناعة وتحوير اللنجات مزدهرة في الحي الصناعي جنوب البصرة .هناك في ورشة ابو نيسان عمل كرار بسعر زهيد رغم مهارته لكن مرتبه يعادل مرتبات عشر موظفين في الدوائر الحكومية ..ويروي حكاية حمدان الغريبة : فقد عمل منظفا وصباغا وحدادا ومشرفا على العمل وحارسا بنفس الوقت ومستودعا لاموال ابو نيسان .. وقد خطب اكثر من امرأة لكنه لم يقترن .. قال (اهلي جميعا هلكوا اثر قصف صاروخي سقط على المنزل .. ودفنوا بنفس المكان وانا ازورهم كل خميس )..وكان كرار يصحبه كل خميس بعد انتهاء العمل في الثانية ظهرا فيودعه في ساحة ام البروم او قرب زقاق البجاري .. ليدعه يزور قبور عائلته في التنومة حيث اجهز الصاروخ على كل شيء ..سيبكي ويقرأ الفاتحة على مجموعة احجار ضخمة متراصة لم تكتب عليها اسماء الموتى , غرزت جوار كل صخرة سعفات تتجدد وضمت ارواح الاب والام والاخوان والاخوات في عرصة قفر .. وقال كرار في نفسه (انه وحيد..مسكين).. سيلتقيان السبت ..
حين يعود كرار من العمل يعمل سائق تكسي حتى ساعة متاخرة من الليل قد يمر على المنزل ليسلمهم سلعا طلبوها للحظات.. ويمازح صغيرته ويغادر.. انه آلة بشرية لتوفير النقود التي لا يعلم اين تمضي .. فان فتح فمه مستفسرا عنها تحول يومه الى جحيم ومضى يداوي الكدمات .. روضته باتقان .. برشاقتها وعينيها الصفراوين بقوة شخصيتها والمكر الانثوي .. ولانه لم يجتمع قبل شفق مع امرأة .انه رجل وحيد لم يزره يوما احد من اقربائه ...استغرب منه احد معارفه حين طلب منه ان يلحم له شباكا انكسر منه جناح .. لقد تلفن له مرات فلم يجب .. وطرق مرات و لم يكن موجودا .. فقرر ان يطرق بابهم فجرا بعد ثلاثة ايام واتفقا وبعد ان اكمل له الشباك طلب مبلغا مرتفعا وخاطبه (لو غيرك طرق في تلك الساعة كنت طردته )..انه ينكر كل شيء ولا يرى الاصدقاء والناس الا من منظور الدينار ..ما عدا ازدهار النحيلة الغبية حبه الاول بالنظرات سليلة عائلة فالتة ..فقد ظلت تطوف في ذاكرته تغطس وتعوم حتى تزوجت وانجبت فتناساها في زحمة العمل وضرورات المعيشة ..كانت في الخامسة عشرة وهو يكبرها بسنة .. منعه الخجل وشغلته شفق عنها ..
حمدان قرر الاقتران ببنت مدير الورشة ابو نيسان التي تأخرت عن الزواج وتعدى عمرها الثلاثين ولم تكن جميلة .. وتم الاتفاق بسرعة البرق .. (يا ولدي لدي زوجة لك فانت رجل امين مكافح مؤمن ) , هكذا صرح ابو نيسان .. وقبل يومين من ليلة الزفاف قصد حمدان طبيبا فوضع يده في الجبس وعاد يسندها بقطعة قماش بيضاء ..ولم تكن يمناه تعرضت لكسر .. انها احدى حيله التي لا يكشفها حتى اصحاب الفراسة ..بعد شهر قصد ابو نيسان مركز الشرطة واخبرهم ان حمدان سرقه عشرين مليونا اودعهم بحوزته ..وكشف التنقيب بانه كان متزوجا وله طفلان وان الصاروخ على منزلهم كذبة .. وانه يزدهر مع عائلته من ظهر الخميس حتى صباح السبت ..( من يضحك اخيرا ).. ولم يعثر على اثر له .
لقد تطور التهريب بعد سقوط النظام .. فهؤلاء اصحاب زوارق الصيد في الفاو يتزودون من الدولة بالوقود ويبعونه للكويتيين ويعودون بلا سمكة انهم يبيعونها هناك على ساحل البحر للغرباء ..فمنع عنهم الوقود فتظاهروا هاتفين (البصرة مليانة نفط .الصياد حقه وينه )..وهم يحملون لافتات بيضاء كتب عليها بخط احمر <اما الوقود او لا نعود >..على بعد كيلومترات قليلة من زوارقهم كانت شركة <<فرهودتك >> قد تقاولت مع الحكومة المحلية على شراء النفط المتسرب الذي تحول الى برك في المساحات المقفرة قرب السيبة ..الا انها ظلت تنقل حوضيات النفط من الفجر للفجر في اتجاه مرفأ ابو فلوس القريب .. حتى كشفها تحقيق صحفي وتأكد بان الشركة قد احدث ثقبا خفيا في انبوب النفط تتحكم به وتسحب بالخراطيم منه . ولم تكن الدولة تملك مقياسا لكمية النفط فتزود به البواخر باسلوب بدائي.واشتركت احزاب مهيمنة في التهريب ..حينما قابل صحفي وكيل وزارة الداخلية في مكان سري (كان القتل والاستهداف في كل مكان ).. واخبره عن هول حجم التهريب اجابه (النفط ونعرف سعره ما رأيك بتهريب الحصى .) واضاف ( لاتخبر احدا بمكاني واذهب غدا لمنفذ سفوان الحدودي )..وقد شاهد ذلك الصحفي ارتالا من اللوريات محملة بالحصى متوجهة الى دول الخليج .. فاستغرب متسائلا <هل تحتاج تلك الدول الصحراوية الى حصى ؟>..بعد اشهر اعلمه مطلع بانه حصى نادر وكانت قبل نصف قرن تنقله شركة المانية باكياس حينما كانت تبني احدى المنشآات في البصرة ..
كان كرار يعود من العمل متورم العينين مجهدا بملابس تشققت وطليت بدهان اسود انه عمل شبيه بساحة حرب ..طرق بابهم ذات يوم رجل غريب وخاطب شفق بلهجة مشددة غاضبة ومضى ..وانتظرت في غليان الساعة الثالثة ومع الخطوات الاولى قذفته بالمس ثم بقدور الطبخ ومنفضة السجائر كان يشجب بيديه فاقتربت وامسكته من ياقته وانشبت برقبته الاظافر ..(مليوط .. قواد ..) تكسرت سلع ثمينة وتدفق قاموس سباب وشتم ..ضربته غفلة من الخلف بركلة في الساق فتهاوى على بركة من المرق فحطمت لحظتها قربة فخارية على ظهره .. صغيرتها تعوّل فزعة والشاشة الحية تعرض عاشقين لحظة عناق ...لم يخنها مع ازهار النحيلة الغبية وحسب بل كان قد استلف مبلغا تاخر عن تسديده لاشهر..
لا يظهر على شفق جاذبية على بعد ..حتى يقترب منها رجل .. ويلتقط بحة الصوت والابتسامة التي تتفتح ببطيء .. فتشع الصفرة الهادئة في العينين الواسعتين ..كل ذلك ممزوج بخجل متزن وهي تتقن التحديق الجريء والاطراق ..لكنها محصنة.. لها موهبة باغلاق الابواب فلا يمكن لرجل ان يجرأ او يدنو او يفكر حتى ..باب مغلق وبيت مبهم.. ولان كرار فتح عليه مرزاب اموال ..كانت شفق موضع الحسد .. حين سال معاوية مجالسيه (من الاسعد ؟ ) واجابوه (انت يا امير المؤمنين ) قال : < اخطاتم انه الصياد الذي يعود غروبا لكوخ واطفال وزوجة تقلي له السمك لا يعرفنا ولا نعرفه >.
انها لهزة عظيمة وجرح لن تغفره له ..(< انا التي انتشلته من وحشة الوحدة والضياع وجعلت منه رجلا وقلت <سيعزلني عن العالم .. عن عائلتي الصراعية وعنف اخوتي .. قلت ليلة الزفاف ,, وداعا ايها الحزن والقلق لم اصدق ان بدلة الزفاف الحلم ستحتويني >)..تناجي نفسها وتمسح الدموع <ماذا ينقصني ليخون مع قصبة البردي المتسخة الغبية العاهرة .. هذا الخالس الجبان التافه الحقير >.. سيكون الزاد مالحا او ماسخا او محروقا وسيمر الوسخ في الملابس ويعلو الغبار الاثاث وصور الزفاف وتلك التي التقطت باعمق اللحظات بهجة ..
اغرقها بالمجوهرات لتسكت ..امتلأت الدولايب بارقى الازياء .. اتى لها ببغاء افريقية تقلد الف صوت واحواض اسماك واستدعى مهندسا زراعيا فصمم لها اجمل حديقة ..كان في الصبح يسجد على قدميها قبل المغادرة ..اصبح علكا تتسلى به .. لكن غليانها لم يهدأ..لبوة مثارة يقترب نمر لجرائها..انتشت عصر الاحد وقد رأته حزينا (لقد احترقت زهراء وماتت ).. قالها بلهجة حزن وتاكدت ..ولم تنطق الا مفردة <عاهرة >.. فاجابها (تذكروا محاسن موتاكم ).. قالت (نعم من محاسنها ترفع ساقيها لرجل متزوج .. تلك المزبلة الرعناء .. استغرب ما الذي اعجبك من رائحتها النتنة كاني كنت مقصرة معك ولم تشبع ) ..سأل ابو محمد سائق حوضية لتهريب النفط .. (لماذا تتاخر ؟ ) اجابه (لابد ان ينسق الملّاك مع السيطرات فان كان الطريق سالكا يتلفن لي .. غالبا اقود في الليل )...اتوا بمشرع دولة اسلامية فعجزوا .. ورأوا ثروة النفط فتسلحوا واقتنوا مسدسات كاتم الصوت ..منابرهم وعظ وحوضياتهم النفطية متخمة ..انها دولة فرهدة النفط , فاتقنوا لعبة التخدير للعجزة المتملقين ..ينسون الف موعظة ان اهتز خصر لغجرية ..او حضر الدولار المقدس ..
في لحظة غير متوقعة تذكرت شفق الشاب ابراهيم .. احرقته الشمس واشحبه الانتظار ولاحقها حتى ملت اقدامه الازقة .. لم تلتفت اليه .. انه الان ضابط طيار ..فيما يشيخ زوجها مبكرا .. بعض انحناء في الظهر وبداية شيب مبكر وجسد غير متماسك وغضون ..
وتساءل ياسين الشاب المنعزل وهو يستغرب من التحولات في المجتمع .. كيف تخترق النسوة الخطوط الحمراء والابواب مغلقة طيلة النهار ..وقرر ان يتجول ويستقصي فهاله ما سمع : (زوجة احد الحراس الليليين تترك الباب مفتوحا بعد العاشرة لحظة اختفاء المتجولين من الطرقات فيغادر منزلها عاشق قبيل الفجر .. ياسمينة لحظة الفجر تقدم له الافطار وهي تغويه .. وبعد ذهابه بلحظات تصحي صغارها وتقدم لهم الحليب مع مطحون المنومات وتتعرى لصاحبها ..غيداء تمضي في زيارة و هناك تختلي بشاب في بيت خالتها بعد تواطيء واتفاق .. فلانة مع اخ زوجها .. البدينة ام حمد مع بن خالتها كلما زار منزلها ..زهرية زورت عقد زواج لبنتها المتزوجة .. ).. واجابه صديق قديم (تعال اريك كيف تخترق الابواب المغلقة ابدا ) .. وقفا في نقطة على الرصيف وقال له <انظر تلك المرأة ..ستمر تكسيات فلا تستاجرها > واطال النظر فانكشفت له ملامح (شفق ) .. ومرت خمس عجلات تبوّق فلم تؤشر لاحد ..(انظر سيتوقف هذا ).. ومر بها فاشارات وترجل منها ابراهيم الطيار..وضعت اكياس المخضرات وبعض السلع في الصندوق وقد ساعدها هو .. واستقرت في المقعد الخلفي واختفت العجلة في الساعة التاسعة صباحا .
-------------
. المدرس.. لا يصمد سر
انتشر بسرعة البرق ولم يبق احد الا وتعاطف وتأسف .. ــ منزل الاستاذ يوسف تهاوى بعد منتصف الليل ومرت بلا خسائر , فلم يصب احد منهم ....ــ
ولكنها لا تنتهي ... تلك ايام سجائر المزبن ..الاردأ والارخص ..قوت المفلسين من فلاحين وبقالين وضائعين وسجناء .. لم يتوقع احد انها ستعود رغم نبوءة الشاعر النواب : <ايام المزبن كضن ــ دكضن يا ايام اللف > ..استدعاه صاحبه هاني الى محله ليتفهم منه ما يستطيع من نظرية انشتاين النسبية .. (اعذرني ان تلكأت فقد مر يوم لم ادخن .. الجيب مصفر ).. وكانت تنتشر امامه على منضدة خشبية شبه عرجاء انواع من علب السجائر منها المزبن .. تجاور مواد عطاريات صبت بعضها بانجانات واخرى بكراتين او صفائح صغيرة ..كان باب المحل من قضبان متوازية يعبث بها الجرذان ليلا وكان هاني يستر السلع ويضع الزرنيخ .. لكنه ستر لا يمنع وسم لا ينفع ..
كن يتجمهرن امام المرايا ولا يبيع واحدة منها حتى فضح السر صديق له متمرس مبتسما ( هن فقط ينظرن , او يعدلن زينتهن )..
ــ امامك ولك علب السجائر .. انه محلك يا استاذ
ــ لالا .. فليس معي نقود
ــ هدية لك فلا تهم ..
ـــ لالا ... لا اقدر على ذلك
ـــ اعتبرها دينا
ــ لالا يصعب علي التسديد
ــ سجائر المزبن رخيصة.. فخذ شدة
ــ لالالا...
مرت مراهقة جميلة يبين من تحت عباءتها شعر خفيف اسود ناعم..وقالت لهاني بروح محطمة : (صبغ الشعر الذي اشتريته منك قبل ايام زاد من تساقط شعري )
< عددان الفرق بينهما واحد ومجموع مربعيهما 13 >...اكمل محاضرته وودعه ....
تعبر جسر السراجي فتقطع دربا ترابيا طويلا متعرجا على اليسار ..من لم يتمرس مثل اهالي ابي الخصيب يرى بان الشارع لا نهاية له ..يضيق ويتسع يتعرج ويستقيم ..وتصادف شجرة احترقت تنحني على نهر وقد تبرعمت من جديد .. صغارا عراة يلعبون لعبة الحرب او السباق .. وقد يتسلقون النخل بحثا عن الاعشاش ..رجالا اشداء يحملون كارات السعف المتيبسة , بيوت قصب وطين وطابوق , اسيجة لا تستر من اغصان اشجار وطين, قناطر من جذوع نخل او خشب , نساء يحملن شدات الحشيش او جللا على الرؤوس يتلفعن بالعباءات ..عشرات على دراجات هوائية .. اسماكا مجففة معلقة ,ابلاما تتكدس قرب ضفة نهر .. صبايا يغطسن في الانهار باثوابهن .. دافعي عربات باعة او عتالين , اقفاص بلابل علقت على جذوع النخيل تحت ظل عثوق الذهب .. ظلالا وافرة تدعوك لتستريح من مطاردة الشمس اللاهبة .. وتمشي وتمشي حتى تصادف منزلا من الطين منزويا من ثلاثة غرف يظهر من الشقوق بعض القش واثار طلع التلقيح والزواحف وقطع الرغيف المتيبس ..سدرتان تتصدران وشجرة رمان احيطت بفلكة من التراب ..ىفي ذات المكان الذي كانت ام يوسف تضع فيه مهدا من جريد النخيل وتهزه بحبل علق به في الايام الشتوية المشمسة.. (عدوك عليل وساكن الجول ) .. كأنها تحذر ولدها البكر يوسف من عدو محتمل .. وهي تصنع الحصران والزبلان والمكانس من الخوص ..او تحوك ليف الحمام ..فيما يسقي زوجها الزرع بالمنزاح ..وقد تبقى هناك حتى أذان الظهر ..في الاعدادية كتب يوسف مئات الرسائل التي لم تصل لجمانة .. كان خجله جدارا يتضخم ليلة بعد اخرى ... يرسم الاف المشاريع ليبوح لها وتمحوها اشعة الشمس ..
ــ كيف هم الطلاب ؟
ــ الغريب هم ليس مهملين وحسب بل ارى انهم لا يستوعبون ايضا ..وهم ليس طلابا مثل ايام زمان ... انهم لون من القردة الوقحين .. ادرسهم ليكونوا لصوصا في الاسواق .اما ارخميدس فلا احد يشتريه بفلس ..يتكلم الان مرتديا دشداشة قرب صاحبة دكان صغير ...ونظر الى عينيه الزرقاوين وبياض بشرته ووجهه المستدير وشعره المجعد ..كان طلبة المتوسطة يستمتعون وهم يطلقون لقبا الصقوه به <الاستاذ بيوتفل >..وفسر احدهم سبب التسمية (لانه يشبه الرجل الانكليزي )..انها كارثة ان تعيش الزمنين : ازدهار التربية والتعليم وعهد تهالكهما ..بعد سقوط النظام تحسن الراتب وازيل المعلم عن عرشه واناقته وايمانه بالاجيال ...لم يعد مهتما كما مدرس العلوم الاقدم البدين حين قال <كنا قبل عقود نرى ان بناء الوطن يمر على اكتافنا ) بل كما قال المدرس الاخر المعتق وهو يسخر (ان نصف لصوص الاسواق هم من طلابي )..قال لهاني يوما (المنهج بحاجة لعشر سنوات ليستقر وهم كل عام يضعون منهجا جديدا ) واضاف <تصور في نصف السنة يسألني طالب ,, ما هي نظرية فيثاغورس ... وقد شرحتها لهم مدة اسبوعين ...ان البعض لا يعرف من الكتاب الا العنوان )..
يتحسر متذكرا ايام الجامعة .. يوم تخرجه ..يوم اول محاضرة له في اعدادية اوراس .. معطرا , برباط منسجم مع لون القاط والحذاء الذي لمعه بعناية .. وقد حمل قطعة قماش ليزيل منه الاتربة بعدما تخطى دربهم التراب الاطول ووصل الشارع الرئيس ..لم تكن اكتافه قد تهدلت ولا انحنى ظهره ولا اطرق .. ولم يضعف بصره ..كان قد تلقى ردا من جمانة قبل يومين في رسالة كتبت بقلم جاف ..وجدها في عش طير مهاجر .. خطفها قبل ان يعبث بها المطر .. عصر الجمعة .. قرأها وهو يدخن خلسة تحت شجرة البمبر .. مرت على تلك السطور ثلاثون سنة .. انجبت جمانة اربعة اولاد وثلاث بنات وبدات تهرم ... لكنها لم تشخ بذاكرته ..ولم يتزوج .. رغم انهما لم ينفردا لحظة واحدة ..
بعد عودته من الدوام ساله هاني وقد لمحه في السوق :
ــ اراك تعود ؟
ــ لاشتري سندويش فهم لم يتركوا لي طعاما ..
ــ كيف يومك
ــ أي يوم .. لقد نشبت برقبتي
كان ثلاثة من الطلاب بعدما طردهم من الصف .. عثروا على قطة رضيعة ورموها عليه من الشباك ..وهم يصيحون <كيتي .. بيوتفل >..
ــ ( وبعد ان تخلصت منها اخذ الطلاب في الرحلات الخلفية يئنون دون ان يفتحوا افواههم ,وحين وصلت لهم اخذ الطلاب من خلفي يئنون وانتهى درس (كيف تطفو السفن ) بالانين والمسخرة .. انهم حقا قردة ..) .
كان المدرس يوسف يهم بالذهاب فقد ختم محاضرته وقت دخول صاحبه الاستاذ هاني بيت ابو شافي .. واتت فتاتهم الوحيدة هبة ترتدي حجابا ونفنوفا اسودين بكتاب قواعد اللغة العربية للصف الثاني المتوسط ..الغرفة دافئة وانيقة ومعطرة .. لملمت كتاب الفيزياء والملزمة والدفتر واغلقت على قوانين الجاذبية وتهيأت للمفعول المطلق وجمع المذكر السالم .. امها تتشح بشال ابيض .. قرب سجادة رسمت عليها الكعبة ومسبحة سوداء وقران..ولانها بيضاء فقد شعت تحت الضوء الساطع ..الام تدرك ان هاني لا يستفز فكانت تغرز كلمات جارحة بودية عالية ..وتقول <لو حكم العلماء لعم الفساد > .. ربما كانت تشير الى حكام ايران وشيوخهم .. فلقد انخرط زوجها في الحزب وآمن باطروحاته.. وكانت الحرب العراقية الايرانية قد مضى عليها سنوات وتحولت اشد ضراوة حتى قال هرم فاسق :(تذكر كتب التاريخ بان سيمر يوم يكون فيه النائم اكثر من القائم ) .. تناست ام هبة او تحاول ان تتناسى بانها استدعت في عمر الاربعين والخمسين مراهقين مزودين بالغباء والجمال والتفاهة ليعبثوا بها .. وكانت تتقن اللعبة .. فتعاشرهم بسرية محكمة .. الا ان الاحياء الشعبية لا يصمد فيها سر ...
ــ هل يدرسونك كما الان ؟
ــ لا
ــ ان الاستاذ هاني مدرس قدير ومن عائلة نظيفة .. قال ابوها :
ربما يتناسى هو الاخر ذلك اليوم .. فقد خاطبه (من لا يؤمن بمباديء الحزب فهو بن زنا .. لان الحزب اعطى هباته للجميع )... سيمسك بصورة الامام علي مرتعشا يوم الانتفاضة التي شملت اغلب المحافظات قبل ان تسحق .. ورن الرصاص بكل شارع (وين وين .. وين تروح ــ والشعب الثائر مجروح ).. كان ابو هبة يستغيث امام باب منزله (دخيلك يا علي ).. وتم استهداف اعضاء الحزب .. فقد مر محمود وزمرته من زقاق لاخر يمسكون الرشاشات والمسدسات هاتفين (طللعوا.. طلللعوا .. اين انتم يا رفاق .. اليوم نقتص منكم )..وقد اجهز احد المتحمسين على ضابط تجنيد بريء برتبة مقدم لحظة مر يحمل رتبته في عجلته الخاصة ..لقد زحف البعض للتصفية والاستيلاء على التقارير السرية في دوائر الحزب والامن في صراخ وهتافات وتجمهروا يحملون العصي والقاذفات والسيوف والرشاشات , فيما هجم البعض ليحطموا ابواب المدارس ليجعلوها حطبا .. ويفرهدون ما صادفهم ..حتى ان جيران الاستاذ يوسف الوسخين الحفاة استولوا على كيسين كبيرين من النقود من احد البنوك .
تبرع الناس واستدعوا بنّشاء وساهموا في اعادة تاهيل المنزل .. واستاجروا للاستاذ منزلا مكث فيه شهرين ..
من يكشف السر ..اين كان يتسرب راتبه .. اختان مرتجتان مرضتا فزهقتا والاخرى مصابة بكآبة , تقطع الشارع تكلم نفسها بهذيان وصوت مرتفع ..فتاة في الثلاثين بلا روح ولا وجه ولا حياة , عباءة سوداء احمرت مغبرة من الشمس والوسخ تجوب الازقة , وجودها لون من الابتلاء , وعقوبة لاخيها ,تطارد القطط طيلة الليل وقد تصرخ بلا سبب ..او تقضي النهار تحاور الاشباح .. او تتعشى معهم ..حتى قال يوسف يوما لصاحبه هاني : (اتمنى ان اكون في طائرة مروحية واقصد غابة وارى مفترسات جائعة وارمي عائلتي لها , فردا فردا )..
هناك قرب بيتهم في اقصى السراجي .. يقضي ثلاث مرات في الشهر لمدة ساعات مع ارملة جارة قديمة .. فتكت بها الفواجع ...في محيط معمق من السرية والحذر ..... على بعد مئتي متر من مهد الجريد والرمانة والسدرتين حيث قضى طفولته يتسلق الى بساتين العنب ويصطاد بالصنارة الاسماك الوفيرة ..حافيا في دشداشة رقعت بقطعة من غير لونها ..هناك حيث ينزوي مع كتابه ايام الاعدادية تحت ظلال السعف على ضفة النهر ..حيث نجا من الحصبة بعد اصابة وتخطته الكوليرا ..واستغرق عشر سنين حتى امسكت انامل جمانة برسالته واجابته بعد خمسة اشهر في العش ..هناك ..قتل لصوص اباه وماتت امه كمدا بعده بعامين .. وقد بح صوتها وهي تتوسل (يوسف تزوج وانجب ودعنا نفرح بك ونرى طفلك )..
بعد ان تهدم منزله في ليلة عاصفة واعيد بناؤه اختفى من الطرقات يوسف .. انه حجر متصلب مر في الحياة , تناساه الجميع .. من يتشجع ليطرق بيت مدرس متقاعد مفلس مصاب بخمسة امراض , لا يتقن التاقلم ولا النفاق ..


الملّاك .. بستان لاجل قبلة
هل كان متضايقا من السترة والكوفية والعقال .. او داهمته الحمى ..المجذاف ينغرز في الموج والبلم يتقدم وسط شط واسع وهو متكيء على وسادة بلون الجلنار .. متجهما .. وقد نبضت الغضون وتقلص فمه ..فتح علبة السجائر اللوكس وامتص نفس دخان عميق .. البلام صامت والشمس تهوي بمطارقها المتوهجة على قمة راسه ..ورفع لا اراديا كتفه كانه يؤكد قوة جسدية وروحية فيه دب فيهما الوهن ..ولمس بثلاثة اصابع مقدمة راسه من تحت الكوفية البيضاء المزخرفة بالاسود .. قفز البلام المسن وربط البلم وسبقه ليمسك يده ..وحين خطا مرهقا وراى ان الضفة خالية ولا احد يراه صفق يدا بيد متاسفا على ثروة اضاعها بغفلة شاطر واحس بان مصهورا من النحاس يغلي في جوفه .. وحاول ان يمشي باستقامة رافعا انفه محاولا ان يتبختر ..ونظر الى اربعة طيور هدهد تطير على بعد خطوات منه كانها اصيبت بالفزع ونظر الى اعالي النخيل والى السياج الطيني المتحجر المرتفع الذي يسور بستانه .. وتذكر امراة الفلاح ابو هادي البيضاء القصيرة بعيونها الواسعة السوداء وهي تشد حزاما من قطعة قماش وتقود العجل بحبل ..وتذكر زوجته .. المرتعدة في حضوره ... سوف تسال وتسال بصمت ولا تجرؤ على الكلمات ..
بعد ثلاثة اشهر زاره صديقه من اهالي الموصل .. وبعد ان رنت ملعقة الشاي قال له
ـــ سلامتك ابو ارزق..
كان ممدودا على فراشه وقربه جرة ماء فخارية .. وقد ارتدى دشداشة بيضاء ..
ـــ ما الذي جرى لك ؟
ــ خسرت كل ثروتي ..
ــ تهون .. ساعطيك مبلغا تعيد به نفسك
ــ لالا ... ادامك الله .. انت سيف مجرب ادري ..
ـــ انا جاد.. كم تمنيت ارد لك بعض فضلك
ــ لا منة بين الاخوة
ــ اذن هاك تقبلها ان كنت تعني ما تقول ..
بعد يومين تمشى ابو رزق .. وعادت له حيويته ورفعة الكتف وشموخ الانف واستقامة القامة وهيبته التي تسبقه وردد :
(تعود ان يغبر في السرايا ــ وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ في قَتَامِ.. ).
وتمشى مستطلعا الى مخازن الاخشاب فوجد تلا من الخشب بانواع مختلفة واشتراها .. وذهب بعد الظهر واستاجر عرصة ونقلها هناك.وباعها باربع امثال سعرها ...
يعود.. تحييه بوجه مشع وابتسامة اصفى من اللؤلؤ وصوت يحرك الحجر لرقته.. <اهلا حاج > فيستقر على كرسي الخيزران وتاتي بطست النحاس وابريق نحاسي ثقيل وتضع رجليه في الماء وتسكبه عليهما وتدلك وتعصر وتخرط العروق في الساقين
حتى يخف توتر عروق الجبهة وفي الشتاء تضعهما بماء ساخن تعده قبل عودته .. وحين تغسل لباسه الداخلي تشعر بلذة او رعشة وتبقى تغسله لوقت اطول .. وفي الليل تنشب فيه مهارتها حتى تتركه في شلل كلي فينام بعمق .. وتتنبا بمعدته قبل ان ينطق فتعد له الشهي وما يتمنى بالضبط او يرغب .. غالبا السمك البني قليا وشواء في تنور الطين ..وتخدر له الشاي بقوري الفرفوري على نار هادئة وتهيّله.. وهي لا تعلم بما يجري ولماذ يغيب ليلة او ليلتين بحجة سفر للناصرية لاجل العمل .. او غيرها من الاعذار ولم يخامرها شك لقوة الثقة ...
ومر احمد وهو شاب في العشرين مجنونا بهواية صيد الاسماك بالبلد والشص على رجال يفترشون الحصران قرب جامع المصطفي في دربوبة ترابية ضيقة وسلم فاتى جواب بارد من واحد منهم فقال سانظر كيف يحييونه وكمن خلف نخله وقبيل مرور الحاج ابو رزق قام الجميع مرحبين بحرارة رافعين ايديهم ويضعونها على الصدور.. كانوا مبتهجين لانه مر او لانه حياهم ..وتخطاهم ودلف لزقاق متعرج وبذل جهدا وهو يفك نعاله الزبيري عن الطين ونظر الى شباك من بيت شناشيل كان ايضا مغلقا ....ووقف يتامل العما ل ينزلون الحمولة .. كانوا يمدون الكلّاب من فوق اكتافهم ليمسك باكياس الجنفاص المملوءة بالرز حيث ينتهي نهر صغير وتتنفس السفن الصغيرة من عبئها ...قريبا من سكة حديد تنطلق غربا للاهواز ..وتقدم خطوات وقرا للمرة الف (المغيسل ).. كانت التوابيت مكدسة سوداء وبلون البن بعضها فوق بعض وجوار بعض تترشح منها رائحة الفقد والموت .. وقال <هنا ذات يوم سيلقوني على دكة اسمنتية بلا سمع ولا نظرة ولا صوت ويغسلوني بالماء حيث لا اشم رائحة الكافور ولا اتوهج رغبة تحت الشباك المغلق ابدا .) وتخيلها <فم صغير عقيق توهج الشمس لمسات الديرم على الشفتين .. رغد ارملة التنديل الذي هوى من اعلى الباخرة ولم تظهر جثته الا بعد اسبوعين ..كان يفرح وهو يرى في عيونه ذلة الجوع (حاج ابو رزق ننتظر العربون -الاجرة مسبقا-... الم تصل الحمولة ؟!)..
واستغرب ان تكون ام رغد الجميلة زوجة لرجل بلون طين اسود...رقبته داخلة بكتفيه..ويتكلم بلغة التمتمة .. وتخيله يفترس تلك الجوهرة الرقيقة في الليالي المثلجة الماطرة ويمتص الرحيق من وهج العقيق وتمر اصابعه على خصر بحجم انية فخار صغيرة يتكسر على ردف مكتنز لولا العباءة لازهق الجميع ..في مرة كلفوه ان ينقل جلة التمر لمكان فاوصلها فارغة .. كان يرفع يده ويتناول قبضة تمر زهدي حتى افرغها.
بعد ان تعبت من شط الدموع .. وزهقت روحها من اللون الاسود ونهشت بما يكفي من غربان الروح بعد فقدها ابو رغد وملت من استرجاع الذكريات .. اشترت بطة وفحلها ودجاجة وديكها وانشغلت بالفراخ وصنع الليفات والحصران من خوص النخيل والزبلان .. كل اسبوعين ترتدي الثوب الماروني وتضع زينة معتدلة على الوجه وكحلا .. وتحمل بضاعتها الى السوق وتبيعها جملة لبقال كهل .. وتعود يكاد تراب الازقة ان يئن من مشيتها المرقصة وخصرها المتكسر .. وصادفها مرة الملاك ابو رزق وتفتت قلبه فاوقفها
ــ انا اشتريها بضعف السعر
ــ طيب يا حاج
هكذا اتفقا وكانت رغد تنقل الزبلان له وليف الحمام وبدلات الدمى وثياب الصغيرات المطرزة بعناية .
جسور من الخشب ابواب من الخشب سقوف من الخشب مهود من السعف والخشب ووصل الامرحتى الارواح ,فارواحهم تخشبت .
لكن مرزوق الاسمر النحيل القصير عيناه تذكرك بثعلب .. يجلس صامتا اخر القوم .. يسبح بمسبحة بلون العقيق سارحا بعالم اخر .. كانت الحسينية من الطين , لبخت بالجص وعلقوا عليه لوحات تجسد ثورة كربلاء اسند سقفها بجذوع النخيل المنقعة بالانهار والمدهونة بمادة سوداء درءا للارضة تصدرت اعلى جدارها صورة لعلامة جليل كتب تحتها < زعيم الحوزة العلمية ..> خلف كرسي صبغ بالاسود يستقر عليه الملا علي في ايام عاشوراء وليالي رمضان ..لم يكن يصغي لاي شيء حتى انتبه مرزوق الى صوت الملا يتلو (ان الله يحب المحسنين ) فصاح صارخا <صدقت واحسنت ملا ).. فانتبه اليه الجميع .. واستدعاه الحاج بعد ذلك وهمسا معا وابتسما معا (والله يا حجي هناك ارملة وحيدة امر عليها كل خميس واعفسها ... خطية لا زوج لها .. وترغب ..وانت تدري ...) فقال الحاج وهو يبتسم <لعنك الله >..<وهل تراك بهذا من المحسنين> ...وضحكا ..
ــ غدا مر علي في المكتب لدي امر معك
ــ انا خادم لك يا حاج ..
ــ يا امي هذا مرزوق في الباب
ــ ماذا يريد
وعدلت حجابها والتفت تماما بالعباءة وفتحت الباب مقدار اظفر
ــ نعم
ــ مساك الله بالخير ام رغد .. هذا من ابو رزق
ــ ماذا به
ــ لا ادري
ـ لحظة مرزوق
وفضته واعادته ...
ــ ابلغه سلامي وهاك .. فامسك ثانية بالمظروف ...واغلقت الباب ..
(يظن كل كرة جوزا .. لالا يا حاج .. نحن الشرف .. انا بنت ابو البنات المستورات ..علمتني امي ان الرجل الغريب كلب ان راى امراة يسيل اللعاب وان سبح وصلى واستغفر وتعلى..)..(احذري الرجل ) حكمة امي التي حفظتها بدقة وترسخت .. <لا تقبلي منة احد ولا هدية من رجل >.. < يطمع الرجل بالمراة التي تقدم له الزبيل.. الرجال يهابون النساء المحصنات .. اللواتي لا فم يبتسم ولا صوت في شارع ولا اشارة بريئة في مجمع .. ولا اصباغ مبالغة على الوجه >.. تذكرت امها فبكت ومرت ذكرى زوجها فشهقت .. وقالت في نفسها (ان بقيت وحيدة ساكون رجلا .. ولو تجرا قرد فنعالي يلعب على رأسه .. انا ام رغد)..
بعد ان علم بموقفها مرض ابو رزق مرضا مرهقا .. كانت زوجته تبلل قطع القماش وتضعها على جبهته .. وتعد له المشويات وتقدم له عصير الليمون والتين والتمر بالراشي واللبن الخالص وتصنع له الاشهى ومعدته مغلقه وحلم بان ام رغد قد اعتلت الباخرة ومن وراء ظهره دفعته لعمق البحر بعد ان هشمت رأسه بقازوق حديد.. وصحا لاهثا صارخا حتى اطمأن بانه حي على فراشه وزوجته تعصر رجليه وتضغط برفق على جبهته وهي بحالة مزرية .. بعد اسبوع تمكن من الوقوف وتمشى نحوهم : كان الفلاحون وقت الضحى يتناولون ثريدا في ماعون نحاسي كبير وينهشون البصل ويتذوقون الدقوز والفلفل الاحمر اللاذع.. اكلة اسموها محليا (محروك اصبعه ): ماء مع عصير طماطم وبعض السمن ومثروم البصل ويستوي على النار في قدر من الالمنيوم .. ويثرد فيه الرغيف .. انهم ياكلون بشهية عالية من الجوع والفاقة .. فقلما يتناولون اللحم .. لكن ابو رزق توقع ان الاكلة شهية ونادرة لهذا هم في معركة البلع والقضم .. فقال اريد ان تعدوا طبقا منه ومعكم غدا اتغدى ..
في يوم مثلج تراهن الحاج ابو رزق مع زميل ملّاك .. فاكل فجرا خمسة ارغفة خبز وخمس بيضات .. ونزلا العشار وجلسا في مقهى التجار ..واقترح صاحبه الملّاك مهدي ..(..الى الباجة وسنرى )..وبعد ماعونين كبيرين احس بالتخمة لكن ابو رزق واصل بنهم فاكل عشرين خبزة وثلاثة مواعين من الباجة ..وفي المنتصف دخلا الى جامع للصلاة (الى الكباب ..وساهزمك) هكذا قال مهدي فابتسم الحاج (ساهزمك واكسب الرهان ستخسر سعر الخروف )..ثلاثون شيشا واربعة عشر قرصا وانتفخ .. اما الحاج فواصل بجدارة كانت معدته اشبه بقزان عملاق ..فتناول ابو رزق خمسين شيش كباب وعشرين قرصا .. فاعلن الملاك مهدي الهزيمة ونظر اليه مستغربا (اشك ان لك معدة .. انه كيس جنفاص يتمدد..).
وقدم لهما الشاي باقداح صغيرة وصحون فرفوري رسمت عليها ازهار حمراء .. ورنت الملاعق واخرج الحاج سجائر الغازي وقدم واحدة لصاحبه واشعلهما .. وسحب نفسا ضبب المقهى .. وبين رنات صايات الدومنا.. قال لصاحبه
ــ والله محتار .. هي لا تستجيب
ــ خمس سنوات وانت تحاول وتحدثني عنها يا حاج اتركها ..هي متمسكة بشرفها والوفاء لزوجها ..
ــ لن اموت حتى اذوقها ولو خسرت كل املاكي ..
ــ الكثير من نساء الحي تحت امرك .. فطومة اجمل ..وشباب ..
ــ لن تملك حواء كخصرها والردفين وصفاء الوجه والفم .. اه من رقة شفتيها .. اوووف لو ..
ــ ستنالها يوما
ــ اكيد ..
ـ لدي ثعلب نساء ساناقشه بالامر لعله يحلها.. فيفكك الطلسم ويرى المفتاح .
ــ اتمنى ..وله هدية مغرية مني .
ـ (ولك واوي ).. هكذا يصف الفلاح او العامل .. ويخاطبه :(طرطور ).وكان اذا اعطى العامل اجره وبقيت فكة قدر درهم يسجله حتى اذا مر اسبوع يستقطعها جميعا فيمضي الاجير بلا اجر .. مفلسا ..قست عليه خسارته السابقة واصبح لا يترشح فلس منه ولا درهم يفر ..وصار ينظر للحياة بمجهر درهمي ..
لكن رغده جرحه الغائر .. ازمته الوجودية ومعركته التي لن تبرد واتاه ذات يوم مهدي
ــ يقترح ثعلبي الذي حدثتك عنه< اعمل ماتما نسائيا عند ام عبد الله الحفافة .. وستاتي ام رغد وهناك سيتم ترويضها..>.
كانا يتحاوران وقت الغروب في زقاق معبد متعرج ضيق حيث تستعد محال العطارين وبائعي الحبال والصابون الحلبي للغروب وتهبّ ضجة الخفافيش من شقوق الشناشيسل .. وفيما بدات برحلة القنص اشار الحاج ابو رزق لصاحب المقهى ( اثنين جاي من راس القوري ..سنكين )..واتى يحملهما بيمناه و يرنن الصحنين المطرزين ..يتقدمه من الوسط كيس الدارهم القماش المثبت بحزام جلدي عريض ..
ــ انا سازودك بخيوط الغزل ادوات الخياطة بربع السعر .. انت غالية ام رغد
قالت لها بعد ان غادرت الملاية وفض المجلس .. وصاحت على صغيرتها
ــــ فنجانان من النومي
ــ الله يوفقك انت بنت حلال وتعلمين انا ام ووحيدة .. ولا الذ من لقمة بعرق الجبين
ــ الم يمر بك خاطب .. انت جمال وطفولة وشرف ومن بيوت
ــ تدرين هي قسمة وحظوظ
ــ ذكرتيني ابو رزق الحاج ...
ــ اتركي موضوعه.. عينه وسخة
ــ لكن ام رغد انا اعرف الحاج طيب القلب وحنين كريم .
ــ تدرين في مرة ارسل لي مبلغا بمظروف فلم اتقبله
ــ هو لا يقصد سوءا هو يحب مساعدة المحتاجين
ــ الله اعلم .. اخاف من الرجل الغريب
ـ اصابعك غير متساوية وهو بن اصول
ــ الله اعلم خيّة .
ـ له عشرون بستان ومعملان .
ــ هو في الخمسين
ــ بعده قوي
ــ صحيح .. من الخير
ــ تدرين يشتري خاطرج ورضاك ..اشارة من اصبعك وتغرقين بالذهب ..
وحين عادت وغمرتها برودة الفراش الناصع على سرر الجريد .. صفنت .. وتناولت من الطبلة الخشبية قطعة الديرم ..وكلما كوى لعقت شفتها باللسان ..ودخلت حماما يشبه صندوقا مستطيلا من الصفيح المتآكل واصابتها رعشة من طاسة الماء الاولى , فقبضت على رمانة الصدر المتوهجة .. ومر الماء على التقوسات والتضاريس المرنة والمتصلبة فقطع بمساره اغصان القداح والعقيق المشتعل , وتشكل في تموجات ولامس ظلال الجسد .فجلست على كتلة خشبية وتناولت قطعة طابوق نحتت ودلكت اسفل القدمين .. وخرجت متلفعة بمنشف حليبي طويل وقد سترت رأسها بقطعة قماش صفراء فيما كانت الخصلات المسودة الكثيقة تقطر قريبا من الردفين . وتمددت على السرير وقالت :
ـ (ماذا يريد مني الحاج ... معقولة يتزوجني .. وهل ارضى بضرة .. انه واهم .. لالا.. مستحيل ).. وسمعت طرقا على الباب وارسلت البنت لترى وارتدت ثوبها وتحجبت لكن الوقت لم يسمح لتضع حمالة الرمانتين
ــ ام امجد بالباب
........
ــ تدرين ما حدث
ــ لا
ــ زلزال
ــ ماذا ؟؟
ــ الحاجة ام رزق كشفت الحقيقة .. ظهر متزوجا وله طفلان
ــ مصيبة
بعدما وشت لها جارة اختلفت مع الحاج واقسمت ان له طفلين منها .. وتاكدت ام رزق.. استقبلته بعد صلاة المغرب .. متجهمة دامعة محمرة الاجفان وقد شققت الخدود وشقت النفنوف من موقع القلادة وهي تصرخ :
ــ هاي تاليها .. بعد العشرة والوفاء واضطراب الصحة لاجلك .. بعد اربعين عاما من الحلو والمر ..تتزوج !!اين الموت ولماذا لا تنشق الارض فتحتويني .. سازهق حرقا وكانت قد هيات النفط في قنينة قرب اعواد الثقاب ..وسبقته بتحطيم صورهما وصوره .. مزقت الاواني وكسرت المرايا ...
للحاج سطوته وقوة هيبته .. لا نفس ان ظهر ظله .. ويتوقف نبضهم ان سعل او جحظت عيناه .. انه الان يراها تعوي وهو مطرق .. وحين قال واثقا (الله حلل اربعة )... قابلته بعيون جادحة وبتصميم لا تراجع منه
ــ اسمع .. ساظل معك شرط ان تعزل فراشك ... او طلقني ..
بعد عشر سنين لم يتمكن أي منهما ان ينقض الاتفاق ..مضت السنوات وهما يتبادلان مختصر الكلام .. لا ظل لبسمة او كلمة مليّنة او تراجع في قرارة الارواح .. حل سكون ابدي في ذلك المنزل الذي زخر بالبهجة لعقود .. ماتت فيه الاشياء ماتت..وفقدت الوانها وتهرأت.. كانت الحياة تجري برتابة تديمها ضرورات .وبعد شهر على كشف زواجه الثاني وتمكن الملل منه استدعى الحاج ابو رزق الحفافة ام عبد الله في بيت معزول في احد بساتينه واعد لها السمك المشوي واشهى انواع الطرشي والشاي المهيل والكرزات وكيس نقود متضخم ..
ــ طالت ؟؟!!
ــ بل اقتربت يا حاج ...
اخبرتها وفكرت لايام وقالت اريد ان ارى البستان .. اخبرتها انه 700 مترا يقع على النهر وسياجه مرتفع وفيه سدر ورمان ونخيل وبيت شيد من الطابوق وانه سيكون لها ملك صرف واخبرتني (فقط قبلة .. بوسة ولا غير.. لا يطمع بغير ذلك )..
كانت ام عبد الله الحفافة تحكي لها قصص الموروثات وان الحياة فرصة وقد تمر ولا تتكرر وان الحاج يكتم السر .. ولم تلن ام رغد بيسر واستغرق الامر اشهرا .. كانت تقدم لها الهدايا والوان الاطعمة والمبالغ وتشتري الطف الملابس لرغد وتزودها بالعطور ومبيض الوجه ومحمر الخدود .. ولم تعلم بانها من اموال الحاج .. وان ما يجري مؤامرة .. كانت تستيقظ في الليالي المطيرة الراعدة وهي فزعة تتخيله بعد القبلة الوحيدة يجهز عليها ويهم باغتصابها .. تصحو غرقى بالعرق فزعة ..
ويمر الحاج على شباكها مرارا ينتظر ان تطل تحرقه الشمس وتغرقه الامطار .. وقد خبر الوان الذل .. ذل التوسل والانتظار .. يركع له الجميع وتخشاه الرجال وتنحني له الانوف التي شمخت والبيوت التي سترت الا ام رغد .. فقد وافقت لكنها ترددت واصبح التاجيل قانون حياتها (نعم ام عبد الله انا اثق بك ستكتمين القصة ولكن بعد اسبوع .. اسبوعين .. راس الشهر.. اريد اهيؤ نفسي .. سيكون يوم الكرصة وساعة الكسلة .. بعيد الفطر بعيد الاضحى في فرحة الزهرة .. بدوران السنة ..بنتي مريضة فلينتظر لتشفى .. )
وتقول لنفسها <انها قبلة واحدة .. واحدة فقط مقابل بستان وسنقهر القحط فقد تعبت يداي من الغزل وصناعة الليفات .. المسعدات بلا جمال ورجالهن لهن خدم وانا .. ااه يا رب رحمتك وعفوك وحكمك ومقدراتك يا علام الغيوب ... وكانت تتلو دعاء الفرج وايات الوحشة وتضع محبسا لمنع الضعف وتثبيت العفة .. وقررت زيارة الامام في كربلاء ليعصمها من المقدر .. فقد بدأ الضعف يدب وطمعت بالبستان .. وتخيلت نفسها ملّاكة .. وتسمى ام البستان وتضحك في سرها على الكنية وترددها <ام البستان>.
في صباح جمعة قصدت حي يوسفان , ان ام سجى صديقة الطفولة ولها حكمة .. طرقت بابا خشبيا ثقيلا وتعانقا
ــ والله لا مشكلة .. هي قبلة واحدة .. ومن يدري وان علم احد لا يصدقه الاخرون فانت يا ام رغد عفة وكمال سيقولون عمن يبث انه < همزة لمزة >
فقالت ام رغد (تبت يدا ابي لهب .. )..
وغادرتها وقررت ان تستسلم ..
وبعد ان ارتها الحفافة ورقة الطابو مسجلا باسمها قالت ام رغد
(قولي للحاج ابو رزق ان يقبل لداري مساء الثلاثاء بعد صلاة المغرب .).
ام نسرين
ـــــــــــــــــــــــــــ
باباب من الصاج اللامع متقابلان تحت الارض تفصلهما مساحة مترين من البلاط,احدهما ملطخ بالحناء وتعلوه الاية (من شر حاسد اذا حسد ) مخرمة بلون نيلي .. شديد الزرقة كتبت بخط النسخ .. يتصدر جدار احدى الغرفتين صندوق مفتوح من الامام من خشب الخيزران يعلوه قرآن كبير , ملفوف بقطعة خضراء, جواره قارورة من الزعفران .. واخرى بلون احمر فاتح واقلام حبر ومسبحة زرقاء .قريبا من الصندوق صفطت كتب بعناية (السحر العجيب في جلب الحبيب و شمس المعارف الكبرى وكشف المكتوم بالطالع والرمل بالنجوم ..)..وكتيبات صغيرة غلافها اسود واوراقها مصفرة من القدم ملئت بطلاسم ورسوم ملغزة .. قوارير مسك وحرمل ودهون هندية ومجسمات مزرقة لطرد الحسد والوان من الاحجار والحصى الملونة .. وانواع من البخور السائلة والصلبة ..وصور لمعركة كربلاء .. رضيع انغرز بنحره الرمح .. وفارس بلا كفوف ..وخيام اضرمت فيها النار ...رمال وقربة وعطش ..غرفة لها هيبة الطقوس الروحية , تدخلها النسوة بوجل ,بخوف من المصير وامل لا يذوي ..هنا مختبر لاعماق الارواح والوصفات الادق للمفاتيح المستعصية , وهنا الاحتمالات المفتوحة .. وكشف الغيب والدليل الذي لا يخون للخروج من المتاهات الغيبية ..يدخلن حائرات ويغادرن زاخرات , هنا للوهم سلطة الحقيقة . الحاجة ام نسرين بلغت الخامسة والاربعين..تحتفظ بالبياض وجسد مروى بالعافية والحيوية وروح لا تقهرها السنوات او هكذا تبدو ..وجهها المستدير وعيناها الواسعتان التي نادرا ما ترمشان وسيماء سجود نقش وسط جبينها وكلامها الهاديء ونبرتها الواثقة وصوتها الدافيء اشارات مطمئنة للنساء .. تلتف بعباءة وحجاب اسود فيترشح منها الاغراء ..
وكان تبارك يبيع السجائر وعلب الكبريت على رصيف امام منزلهم , منعزلا كتوما هادئا يتكلم بصوت منخفض ,مع صوت المؤذن يكدس سلعه في صندوق حديدي ويغلقه ويعود بعد ساعتين ..كان يرصد نساء وفتيات مترفات وجميلات يدخلن منزل ام نسرين ويخرجن مزدهرات ..وقدر ان غالبيتهن من عوائل ميسورة ومن خلال الزي واللهجة علم بان بعضهن من دول خليجية ,.
واثار استغرابه ان ام نسرين تاتي اليه وتشتري علبة كبريت وبعد ساعة تعود تشتري اخرى وهي تكرر ذلك مرات عدة في اليوم ,وسالها مرة ماذا تفعل بعلب الكبريت ولماذا لا تشتري عددا منها مرة واحدة فكانت تبتسم ولا تجيب .. مرة قالت له :(انت على باب الله )..فاخرسته ..
كان يدخن كثيرا ويستمتع بالحديث مع اصدقائه الخلص ..لكنه الان يواجه محرقة شمس تموز بسقف من اوراق المقوى وبعض اكياس الجنفاص الفارغة .. وكان عليه ان ينتظر ساعة ليدخن سيجارة .. ساعة يقضيها بجزع وترقب في انتظار الدخان .. لا يسمح له الربح باكثر من ذلك .. وعليه ان يمتنع عن الحديث مع الغرباء .. ليبقى لغزا ولا يسمح للمتطفلين بالاختراق .
في ذلك المساء المدهش , المساء الذي لا يتكرر اتت ام نسرين كان الظلام مهيمنا الا من ضوء باهت يتقطر من مصباح يتدلى من قمة عمود اسطواني وقد فرغ الشارع تقريبا من المارة .. فقط عباءتها اللامعة وعطرها المثير .. وحيته وتناولت علبتين من الكبريت ونظرت اليه فاغضى فقالت :
ــ (كيف تراني ؟)
ــ انسانة طيبة
ـ (لا قصدت الخدود اهي موردة او مترعة ؟)
ولمست خديها .. كانها تهديه لباب مهم لم ينتبه اليه .. فتملكه الخجل او تمثيل حالة الحياء ..
قال :(طيبة )
فضحكت بخفوت ومضت تردد <طيبة .. طيبة>, وهزت يدها بحركة تشير الى عدم الرضا .
وحين استدارت لمح ارتجاج الارداف وخصرا ضيقا ربما لان ضوء سيارة القى بثقله عليهما او لانها لمحت لشيء غفل عنه ..وقال في نفسه : (ماذا تخطط هذه المراة اللغز الاربعينية ولماذا لم يهدا بابها من طرقهن )...
الغرفة الاخرى ابدا مغلقة تعلوها سلسلة ربطت بسلسلة وقفل .. تظهر منها همهمات غير مفهومة .. النبرات تشير على وجود فتاة او اكثر ورجل.. وصوت يشبه بث التلفاز .. لكن اميرة لم تهتم هبطت السلالم وفتح الباب الصاجي ودخلت فغمرها بخور هندي وجو روحي ..تلك الشقراء بعيونها الزرق وخصرها وشعرها الممتد بلا نهاية غامرا جسدا موهوبا بالتقوسات المنسقة والاهتزازات الراقصة .. وشامة قرب الزاوية السفلى .. الا ان بعض اسوداد قد نقش تحت الاجفان وعلامات على ادمان الارق ..
تناولت الحاجة ام نسرين ورقة من دفتر مدرسي واحرقتها ثم ابرزت ورقة بيضاء بلا خطوط ونشرت عليها الرماد ثم فتحتها واشارت اليها ان تنظر .. فثغر فم اميرة وصاحت انه هو بالضبط من شلع قلبي واوصلني للدمار .. انه هو ..فتبسمت الحاجة وقالت (ساجره اليك كما الخروف )..سيركع متوسلا لتقبلي به ..وجمعت اعشابا غريبة من قنان واكياس عدة ومزجتها ..
ــ اسمعي بنتي في ليلة الجمعة عليك ان تغلي هذه الاعشاب وتشربيها ساخنة في الساعة السابعة بالضبط لحظتها اكون اتلو فلا تتقدمي بالوقت ولا تتاخري .. السابعة بالضبط بعد ان تصلي ركعتين وتتطهري بالاستحمام والاستغفار .. قرطان من الذهب بصورة قلب ..وثلاثمائة دولار وحقائب من الملابس الفاخرة .. لقد طلق زوجته بعد اسبوعين وتزوج اميرة .كانت تضحك في سرها عليهن وتقول <هو رزق من الله ..المسكينات >. وهي تتفحص الاقراط .
ــ انا لا اثق لكني اتيت .. لانه جفاء في الفراش .. شخير ونوم عميق .. واظل مفكرة اجلس القرفصاء انظر لجثته وابكي طيلة الليل .. في الصباح يتناول الافطار بصمت ويترك لي نقدا ويمضي حتى الغروب وحين اساله يجيب <اوفر كل شيء لك وعملي اجهاد >.. من ستة اشهر روحي تذبل وتتهالك وجسدي يغطس في حفرة الخمول ..
فقامت الحاجة وهي في ثوب عشبي تزينه ازهار حمراء مخصر معطرة بالمسك وماء الورد .. فلحظت ملاك لمعة الديرم على الفم الصغير والخدود المترفة المحمرة وقالت في نفسها (كيف تتمكن وهي بوزن سبعين ان تسحب ثقل الارداف برشاقة وحيوية وهي تقترب من الخمسين .. ).. وتناولت ام نسرين عود مسواك وجلست قبالتها وقالت اسمعي
ـــ ساشذب العود بالمسواك بعدها تجيبين في أي عضو منك حدث شيء ..
مضت عشر دقائق وهي تقشر العود بسكين صغيرة وتتلو كلمات مبهمة بخفوت واسماء لها وقع غريب .. وقالت: (ها ؟ )
ــــــ خدر حدث في خنصري ...
ــ انا من وجهت للخنصر .. للخنصر بالضبط .
مضى شهران لم تتحرك جثة ابو احمد في الليل وظلت قرفصاء ودموع ..فعادت اليها .. فاخرجت ام نسرين منديلا ابيض وعقدته وتلت ايات واصدرت اصوات لا تفهم ثم تناولت قلم حبر وملاته من قارورة الزعفران وكتبت على المنديل ورسمت طلسما يشبه السلحفاة ومررت عليها ريشة من جناح هدهد..ثم امرتها ان تنام على بطنها واتت بعصا الخيزران وضربتها بها ثلاثا وهي تصرخ جاحظة متعرقة فصرخت ام احمد مرتجفة تشهق ثم داست على قفاها حتى تعرقت المرأة ..وخنقها الخوف واللهاث ..وازالت ستارة في الغرفة فتصدر باب صغير من الزجاج الملون وادخلتها الحمام هناك ..اجلستها على طبلة من المرمر اسطوانية وعرتها واخذت تصب عليها الماء .. كان ماء اخضر وضع في سطل نحاسي ..وفتحت ساقيها عنوة ومدت لسانها هناك ومررت الاصابع المتمرسة .. بدات ام احمد بالارتعاش ثم خمدت بعد تقلصات وشهقات ..
ــ ضعي المنديل داخل وسادته .. وعودي لاطمئن .
مضى عامان على زواجها , ام احمد . مخصرة وحوض جاذب وصدر منتفض.. ان اطبقت الشفتان تتداخلان كان صمغا يلصقهما ..لشفتها السفلى نضوج وسحر مرطبة ابدا ..
كانت ظهيرة تموز تصب مصهوراتها على الاجساد المنقعة بالعرق ..الناس تتوارى تحت أي ظل, منهم من يحمل مهافا يدوية او يبلل منديلا ويضعه على راسه .. في ذلك الجحيم اقتربت منه الحاجة وحدقت بعينيه بقوة واشارت اليه بالسبابة:
ــ <انت قادر>
ـ لم افهم ام نسرين
ــ اسمع ..لدي مشكلة في محكمة وانت القادر على انقاذي
ــ كيف
ــ اعمل لي سحرا او تميمة ..
فتبسم ..(يا حاجة من قال انا اعمل هذا ؟)
ــ فغرزت فيه نظرة مصممة واجابت <تستطيع >.. ومضت .. لم تكن تمزح .. كانت جادة وواثقة ..
فراى بعدما دخلت منزلها واختفت فتاة في العشرين تحمل اسطوانة ثقيلة وطويلة من الحديد.. اول ما لفته لمعان العباءة وجمال الفتاة ...كان رجل في الخمسين ضخم يغطي راسه بكوفية وعقال ويتبختر بدشداشة زبدة ساطعة ..رافعا رأسه بشموخ متكرش الوجه مشرب بحمرة .. وعبرا الشارع وهي تنقل الاسطوانة خلفة بمهارة وصبر وبلا تذمر..
واتت قبل ان يحزم علب السجائر والاقلام وعلب الكبريت .. بعد الغروب
ـــ ستفعل
ـــ نعم بعد ثلاثة ايام ليلة الجمعة ...
متنبئة بالمستقبل تحتاج متنبئا لا يتقن وليس عمله.. (كشاف فأل اخر العمر) قال في ضميره وهو يسخر .
لكنه عشية الجمعة اغتسل وصلى ركعتين ثم استقر وقرأ مقطعا من دعاء الافتتاح وقال (بعزتك وجلالك تكشف لي ) ... ثم فتح القران فقرأ :
(ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا ).فقال < استغفر الله> ... وحين سالته بعد يومين اجابها <انتظري الى يوم الخميس القادم >..وكرر التكليف في الخميس الثاني.. اذا ذات الاية تظهر له .. فاستغرب .
ما الذي يجري خلف الباب الصاجي المحكم بسلسلة وقفل ثقيل ..تحتاج سنوات لتعرف بعض اسرار البيوت والابواب الصامتة المغلقة غالبا ..
ظهرت بعد شهر ام احمد.. لقد فعل وكرر زوجها .. لكنها شعرت بالاشمئزاز وشجعته بالاهمال على النسيان فقد عزلت فراشها للابد عنه .. واتت بلهفة وحنين ورغبة جامحة للحاجة التي تمكنت من اكتشاف المفتاح ..طبختها على نار هادئة .. مضرمة فيها رغبات نارية .. وحدست ام نسرين ذلك وقراته بمهارة (ستقدمين الذهب وانت خاضعة بذل وراكعة ايتها الساقطة )..
ــ اسمعي ام احمد , افهميني بوضوح
خاطبتها وهي تداعب الخصلات .. واضعة راسها على الصدر كمن يهديء طفلا فزعا ..
ــ خالتك ثرية .. اذهبي واسرقي مصوغاتها الذهب وخبئيها بمكان .. واخبريني عنه .. واتركيها تلطم وتدمي الخدود .. بعدها قوديها هنا لنكشف لها مكان الذهب .. الان مع السلامة .. حصتك بامان وساسليك حتى تشبعي .
لم يكن تبارك يعرف سلمان .. لم يلتق به يوما ولم ير احدا يشبهه .. متعملق الطول, ضخم ’ بدشداشة رصاصية وحين تتامل وجهه تخمن بان فيه مسا من الجان ..
رد عليه التحية وصافحه .. تردد قليلا وقال لتبارك
ــ اناس متقون ارسلوني اليك ...هناك دعاء اريدك ان تلقنني اياه حتى احفظه فانا امي ..من الثامنة صباحا حتى التاسعة ثم اعيدك هنا بمركبتي ..وانا بخدمتك لاي مبلغ تطلبه ..
ـــ كم يتطلب ذلك ؟
ــ ربما اسبوع او اسبوعان ...
تناول قدح الشاي واخرج كيس التبغ .. وباصابع غير مدربة حاول لف السيجارة .. كانت امراة اربعينية متشحة بالسواد ملتفة بعباءة محجبة بشيلة تغطي راسها .. وهي تحمل رضيعا ذابلا ووضعته في حجر تبارك <مولاي طيلة الليل لم ينم فاقرا عليه دخيل جدك >...فذهل واصابته الحيرة .. لم يكن سيدا..ونظر الى سليمان فاشار اليه بحركات من رأسه على الموافقة .. لم يبتسم سلمان ..ولم يستغرب لانه خبر طبع امه فهي تؤمن بشفاعة السادة وقضائهم الحوائج لقربهم من الله .. وتتشرف بخدمتهم .. وقد علمتها امها بان بصاقا من ريقهم يكفي للعلاج من اشد الامراض فتكا .. وتمتم تبارك بصوت واضح وخافت وتمتمة (لم يلد ولم يولد ... صدق الله العلي العظيم ).. في اليوم الاخر استقر تبارك يقلب الطرف بلوحات حفظت بالواح جام ..نساء وصبيات فزعات على وجوههم احجبة بيضاء يهرعن من خيام مضرمة .. الامام العباس يحمل قربة على فرسه يدنو من نهر الفرات في عاصفة من الرماح ..اية الكرسي .. وسور قصار من القران مستوردة من ايران .لوحة تمثل اصحاب الكساء ..واتت ام سليمان ووضعت كيسا كبيرا قربه <مولاي يدك شفاء >..لم يعلم بان الطفل اصبح معافى ..وحين تحركت عجلة سليمان فتح الكيس قبل ان يشهر بسطته .. لم تفرحه الحلوى ولا البخور ولا السكر ـ رغم انه بسبب الافتقار له يمزج الشاي بالحلوى .. انه مدمن شاي ـ لقد فرح بعلب السجائر الوفيرة .وسحب نفسا عميقا من الدخان وتساءل ماذا خلف الباب المختوم بسلسلة .
ونظر الى الجهة الاخرى من الشارع على بعد ثلاثة بيوت من بيت الحاجة توقف شاب رشيق .. ورصد حركاته .. كان يقف واثقا يشبه لاعبي الجودو..جسده صنم الا راسه وعيناه فهو ينظر لحظات للامام ثم يمينا ويسارا واخذ تبارك يعد الارقام كحركات عقارب الساعة وكلما وصل الى الرقم خمسة تتحرك عينا الشاب .. يمينا.. يسارا.. والى الامام .. هل كان يرقبه او يرصد شخصا اخر كان يقف واثقا تحت ظل شجرة ..
ووضعتها في طست نحاسي مملوؤ بالماء ووضعت جوارها هاونا من النحاس وهي بثوبها الرماني ..قيل ان سفانة داست على عظم موبوء ليلا وقيل تعرضت لرؤية قط اسود ضخم ليلة الجمعة وقيل مسحورة .. واخذت تسكب عليها الماء وهي تتلو كلمات مطلسمة ..فجاة تعرقت ام نسرين وجحظت عيناها ونبضت عروق في جبهتها وتغيرت نبرتها واخذت تصرخ (اخرج .. اخرج ..ايتها القذارة اخرج )تصرخ وهي تسوطها بعصا الخيزران فاتخذت الفتاة وضعا جنينيا ثم بدا جسمها بتقلصات ونفثت زفرات وشهقات ثم احولت عيناها وبانت كمن تتقيأ..ولاح كأن ثعبانا نزل من جوفها في الطست ثم اخرجتها وممددتها على الفراش .
ادمنت ام احمد مداعبات الحاجة ام نسرين حتى عشقتها وخضعت لها ملبية أي امر منها .. كانت مرة في الاسبوع تعريها ..وتسحقها حتى درجة الانصهار وتتركها انثى في خدر وسكر واشباع ..وارتها اوضاعا جسدية اقرب للخيال حتى انها وضعتها في دولاب الملابس واغلقته عليهما ومرة علقتها من يديها في مروحة واغلقت فمها بشريط لاصق ..مسندة رجليها على طبلة صغيرة تزيلها عنها لحظات الذروة وتعيدها وتمرر ضمة من الشوك على الجسد الغض حتى يدمى ..ذات مرت اخذت تلسع فخذيها بجمرة سيجارة ..وفي كل مرة تغادر زاخرة بالرضا والارتواء تسح جسدا مثخنا باثار المعركة ..
ــ هل انت متزوج
ــ لا
عليك ان تاتي غدا في الفجر سترى الباب مفتوحا فادخل ...
تمكنت ام احمد ان تصطاد عددا من المراهقات والارامل ومن فقدن البكارة ويعشن عاصفة الرعب ..وتؤسرهن بيد ام نسرين الحديدية فتختبر قيمتهن الجسدية ومنسوب الاثارة والاستعداد للغطس عميقا في الدمن.. وتدخلهن دورة لشهر او شهرين ثم يتم تصديرهن عبر شبكة خفية لدولة خليجية ..ودفع الباب مع الضوء الاول .. الشارع سكون مطبق الا من قطط عابثة وكلاب جائعة..ومع الصحوة الاولى لاصوات الطيور على شجرة السدر دفع الباب ودخل واغلقه باحكام وهبط السلالم وراى الحناء والكتابات بخط بدائي قرب باب الصاج وتحرك يسارا فراى الباب الاخر بلا قفل وبلا سلسلة ..فهمست <ادخل >..تردد لحظة .. راى سريرا معلقا بسلاسل ذهبية مثبتتة بالسقف محجوبا بكلة زهرية وصاحت <اصعد> فصعد اربع سلالم فراها عارية تماما تنتظره من ساعة , ممدودة على البطن على بساط منثور من ازهار الجوري الحقيقية تؤطرة بعرض شبر ورود الياسمين الحية .وكلما ضربها بعصا الخيزران انت وصاحت <اقوى > بصوت مضمخ بالرغبة ..وراى طبلة من خشب الابنوس تنتصب على اربع قوائم اسطوانية مزخرفة وصورا اباحية تملا الجدران وبقايا خصلات بالوان عدة..والوانا لا تحصى من العطور وفي وسط الغرفة طبلة تراثية عليها قنينة خمر خضراء وكاسان ورمان يمني واناء لوز وفستق .. وكرسي بني قديم ...وقالت قبل ان ترتوي (لا تستغرب .. لقد وثقت بك وقراتك من اول نظرة ..انها الغرفة المختبر ..هنا يتم الترويض ومن هنا يتم التصدير .. اما انت فلي وحدي .. انا الجمال والمراة التي سحقوها فامتهنت الخدعة وتكسير الانوف الشامخة .. اذيقهن الذل واسقيهن بماء العبودية ..ستكون علب الكبريت وبسطتك قناعا فقط ..)





اياد في صفيحة الجص
(امي على البير .. ها ها.. وامك على البير ).. كان يصدح بتلك الاغنية الشهيرة الهابطة .. وهو يسوط الحمار في عربة شاخ بدنها وادمنت العويل ... في شوارع الريف المتعرجة.. انه في طور التدريب على قيادة العربة .. الحمار يشعر بذلك فيتوقف .. يتحمل السياط ولا يتحرك .. تمشى قبيل عصر تموز وخلفه مراهقتان وشابان في الريف الذي بدا يستعد للتصحر .. وفي بقعة من العاقول احس بشيء تحت القميص .. يشبه الدبيب على ساعدة فصير من سبابته وابهامه شبه دائرة وخرط قميصه بقوة للاسفل فسقط منه عقرب اصفر< كاد يقتلك> قالت سلمى .. اما امجد البشوش فقد سارع لنعاله واجهز عليه وهو يضحك ..
على مساحة مرتفعة تقدر بثلاثمائة متر سيبنون منزلا من الطوب .. يقع على بعد عشرة امتار من نهير صغير ..منذ الثامنة صباحا حتى اذان الظهر يعجنون الوحول ويصنعون كتلا طينية بقوالب واسعة .. يساعدهم اربع فتيات من الاقرباء .. مراهقتان وصغيرتان ..وقبيل صلاة الظهر او في وقتها يتقدمون موحلين ساخرين ويغطسون جميعا في النهر بملابسهم .كانوا يهرسون الجص في صفائح صدئة ربما تشترك ستة ايد بذلك ,, تتشابك الايدي اسفل الصفيح تحت حجاب الجص ويمر تيار في الاجساد .. كانت <سهيلة> حنطية معتدلة القامة وقد بدا صدرها يثور على التسطح ويتكور بنضوج متسارع .. لكن مازن يكلس التيار.
ومر بهم وهم يعملون شاب اسمر في العشرين ,خانس, واخذ يساعدهم فقال اكرم < لا بد ان يكون الاساس قويا ليستقيم البناء > فنظر الشاب وهو يجلس القرفصاء ويداه تعبثان بالقش .. نظر الى مراهق جميل توقف قربهم (نعم لابد من اساس قوي ) قالها وهو يحدج الشاب الذي ابتسم فاضاف (لازم خلفة متمرس يصنع اساس متين ..)وابتسم للشاب الذي اغضى في لمسة خجل لا تبين .. وتخيلهما اكرم يندسان في ظلمة النخيل في قاع السواقي المتيبسة ويخرجان معرقين يلهثان ..
ـــ (لو انهم فتيات لكانت فضيحة ..) تخاطب العجوز ام ازدهار بنتها وقد لحظت اربعة من صغارها عراة , تماما ,على جرف النهر يعبثون فرحين ,اشهرا تهجرهم احتجاجا على ام زوجها ..( رغم الجوع والسقف الذي يقطر المطر منه رغم .. ولا شيء الا قدران من الفافون وطاوة مفحمات وبطانية وشبه اغطية مشققة مبقعة بالبعوض وبول الصغار وعباءة صمدت منذ زواجهما قبل عشر سنين .. لاتكف امه عن اللوم والصياح والشجار كأنها تحتاج رجل .. والله اتمنى يخطبونها ..فتتذوق الصفع فجرا وظهرا وعند صلاة المغرب .. لترتاح فارتاح ...) تناجي نفسها ازدهار وكلما زعلت ياتي ليلا متسللا بين النخيل زوجها الرعديد بناء على موعد محدد ويترك جسدها النحيل خاويا في تلك الظلمة قرب فرع من النهر مخضر تحتله الطحالب.. دون ان يتذوق قوة البياض على الجسد النابض وجمال العينين الناطقتين ابدا ,وجمال الابتسامة ..هكذا انجبت ثلاثة اولاد اثر لهاثه الصاهر على صدرها المكور . تمر بهم صباحا وهم يدوسون اكوام الطين .. تهمس بطرائف جنسية فتنفجر الصبيات بموجة من الضحك حتى تسيل الدموع من بعضهن ..
الدكان الوحيد يتوسط الطريق المعبد الطويل .. طريق حفرته العجلات العسكرية والمزمجرات والشاحنات الثقلى .. على جانبيه تستقر البساتين المكشوفة او المسيجة بالقصب والاسلاك او بالسعف المتيبس او بالجدران من البلوك الاسمنتي او المحمية بجدران من الطين الذي قاوم جنون المطر لسنوات حتى ان احدى اعمدة الكهرباء اتكأت عليه واستقرت اثر عاصفة . بساتين في موسم التصحر او الذبول هي ربما اخر البساتين التي تذكرنا بالريف .. حتى انهارها المسودة من السمك ايام زمان والتى كانت تصاد بالدشاديش قد فرت او انقرضت .
الدكان وصفة للتنوع ومختصر لاختصاصات متنوعة وحّدت بمكان واحد : المنجل والازرار, المثلجات والديرم ,طب الاعشاب والتمور الفحم وجلود الصوف الملابس للصغار والداخلية للمتزوجات.. القصب والجت .. ايات عن الحسد وصور لراقصات .. المكسّرات وجمار النخيل... صاحب المحل شبه احدب قصير اسمر عيناه واسعتان تحدقان بقوة وتنعسان فجأة .. انه ابو لؤي المخروطي .. رجل في الثلاثين .. في البداية استأجر محلا مشيدا من الطين ثم اشترى بيتا من الطابوق اوسع واقتطع منه قطعة للدكان ... ورغم لوحة كتبت بخط بدائي (الدين ممنوع ) فقد كان يبيع لاكرم بالدين ولا يساله التسديد مهما طالت المدة .. في ايام القحط تلك حدث ابو لؤي وهو يتبسم مسبقا مكورا اصابعه كمن يمسك كرة معدلا من ازرار دشداشته وعيونه تشع لانه يعرف مسبقا تأثير طرفته وحتما سيسيل دمع اكرم .. <بيت ابو امجد تعرفهم > ..
ـــ أي.. امهم تاخذ الخيرة بالقران وتكشف المستقبل بالمسبحة حتى انها كشفت موقع ذهب يقدر بكيلو قد سرق لجارة لها .
ــ امس الظهر ..ابنها المراهق امجد رأى ديكا وقت الضحى دخل بيتهم .. فاغلق عليه الباب وطارده وحصره في زاوية الصريفة وامسك به وذبحه .. ومن اشهر ولاول مرة يذوقون طعم اللحم .. ههههه .. اليوم .. صباح اليوم بحثت عائلة ابو رامز عن البطة ولم يجدوها فاخذوا يجوبون الدرابين صائحين : ( من رأى بطة تائهة رصاصية انها منذورة للامام .. امهم تجوب وهي تسح صغيرا متسخ الانف وتعدل من حجابها وهي تنادي ولا احد يجيب حتى مرت باحد البيوت هههه فرات ريش بطتها متكوما قرب سطل القمامة فلطمت الخدود وطرقت عليهم الباب بعنف وهي تصرخ بهم (عدكم البطة .. ).
لم يتمالك امجد نفسه وغرق بصوت مرتفع...
ـ بالمناسبة ابو لؤي اشتريت بلبلا بريا يغرد بنغمة واحدة فكيف الون لسانه ؟
ــ اكثر من طريقة :انت اشتربلبلا يغرد بنغمة او نغمات اخرى ولا تجعله يراه .. سيحاول ان يستدعيه فيغرد او يحاول ان يغرد بنغمة جديدة او يحاول التغريد مثله ليجذبه له خاصة ان كانت انثى .. انها شغلة تحتاج ممارسة وتكرار .. ابعدهما عن بعض لفترات ..
وقطع حديثه فقد اتى الدرويش ابو اسماعيل ليساله بمفردات انكليزية مصحفة (كرومن ريد ) اجابه <لا افهم مولاي > فاشار اليه ان اقترب وهمس مبتسما<لباس احمر نساء > في اذنه ووضعه في كيس له ومضى .. وكان هذا الدرويش قد استلف مبلغا بسيطا ليطعم عياله من صديق له قبل ساعات..
(ابن الزمال .. وضربه بسوطه الصوندة البلاستيكية الخضراء .. ثلاث ضربات عميقا تغلغلتللغت بظهره وتدفقت قطرات حمر فهرول باقصى قوته ساحبا عربة تئن مهتزة على الطريق الترابي ).. احس الحمار بان الامر جدي ومن يسوطه ليس اكرم بل القسوة انها كف صيهود الذي لا يفهم الشفقة ..
في ذلك اليوم عاد صيهود ثقيل الجيب فقد اكرموه .. عمل طريف الاكتشاف .. فقد استاجره سائق شاحنه .. وفيما كان يغني مع نفسه (مالي صحت يمه احااه جا وين اهلنه ) تحت نخلة الديري صلبة الثمار .. قرب ساقية مخضرة في الظهيرة .. كان العمال يستعينون بعربته لينزلوا الاشياء الثقيلة من الشاحنة للارض ..فيما ربط الحمار بويل العجلة تحت شمس لاترحم تصب حمما على الحمار حتى انه اظهر سلاحه العملاق المسود فرمقه صيهود منتشيا وقال في نفسه (دوا لام كريمة .. ).. واضاف (لم تتركه حسرة بنفس احد وامتنعت عني .. اكسر ظهرها تكسر ذات يوم .. لوتطير ).. وحين افرغوا الاحمال ساط حماره لبائع الشعير (تستاهل ابو صابر اليوم تاكل شعير اعرفك ميت من الجوع ).. وتذوق الحمار لذة الشعير ... وفيما يجر العربة رفس صيهود وكاد يحطم فكه... فنزل على ظهره بخشبه غليضة حتى تحول الشعير الى تيزاب في بطنه ..(حلفت لا افعل خيرا ) كان صيهود يزمجر وهو يهوي على ظهر الحمار ..
سلمان ثلاثون عاما سيتوجه غدا مع عامل يساعده .. بشرة بيضاء ولحية خفيفة تكسب وجهه وسامة .. رغم غضون وعيون انهكها الجوع .. تفوح رائحة القوة الجسدية من سلمان على بعدعشرات الامتار ..فقط ثلاث نجوم على كتفه وزاد وراتب ليتحول الى هيبة قاهرة ..الفقر كفر بالحياة .. سيجعل المعول يرن .. ويبعث الدم الفوار بالمسحاة ..في فجر اليوم الثاني توجه لبقعة مرتفعة وحفر حفرة بعرض ثلاثة وطول اربعة امتار وعمق مترين ..اغرقاها بماء نقلاه من النهر بصفائح .. ثم اعاد التراب مخلوطا بالقش واغرقوا الحفرة بالماء ثانية وحين سمعا صوت المؤذن (حي على الصلاة ) .. عادا بسيقان موحلة ووجهين مرقطين بالطين يحملان مسحة ومجرفة ..
كل فجر سيتوجه سلمان الى تلك الحفرة ويدوس الطين برجليه ,, يهرسه هرسا ,لمدة ساعة ويعود .. بعد خمسة ايام ..حفر الاساس الى عمق متر واعاد التراب الممزوج واغرقه بالماء ومضى .. كان يعشق فتاة لم يصرح لها ..يمر على بستانها فيراها من سياج مقصب تنحني لحش الكرفس وجني ثمار الباذنجان او ربما تطارد خروفا فلت من الحبل ..عميقة الانوثة مرشقة ..مرقصة حين تجري او تمشي ...وقد شرعت الكرتان في الصدر تتهجى ..في ثياب زاخر بازهار خضر او جلنار..يمر ولا يتوقف وهو يشوى من نبرتها تصيح على صبي وقح (ولك تعاااال).انها <جلنار> التي فقدت امها مبكرا وظلت في رعاية اب حنون .
ذات ضحى ناولته باقة الريحان المربوطة بشعرة خوص وحين ناولها النقد المعدني ضغط على يدها فولت هاربة..
جاره كان يترصده ويحصي تحركاته نحو الفتاة يغلي منه .. سلمان لا يدري .. انه مهتم بحقله .. يخلط الروث بحوض الماء حيث يصب خرطوم المنصة ليسقي الخل وشتلات الفلفل وشجيرات السدر المحسنة ومستطيلات المخضرات .. هناك في غرفة من الطوب صغيرة .. يحتفظ بادواته <المرود والمناجل والمجارف والمسحاة وقطع قماش بالية ورسائل غرام لن تصل في الشقوق والمعاول وقطع الدلو ودراجته الهوائية وبعض الحبال ...)..
باياد معولية يصفون الطين لارتفاع مسطرة ويتوقفون اياما حتى تجفف الشمس وتحجر الطين .. فلما اكتمل اخر ساف من الطين وعاد ظهرا خرج اليه جاره الراصد وغريمه اللدود من وراء نخلة وشج رأسه بخشبة غليضة ومضى راكضا ..
في ريف شط العرب وفي مثل تلك الايام كان الشجار يسوى باقل مفردات من المفاوضات والعتاب واقتصاد بالخسائر ..بعد شهر جف الجرح وتماثل للشفاء سلمان لكنه سيقرر الرحيل من ذلك الريف وسيتجول بمجرفته في مقبرة الحسن البصري ..مودعا المسحاة والمعول وتلقيح النخيل بلا دمعة على جلنار ولا حقد فائر على جار غادر..
يقف هادي لساعات تحت شمس تموز احيانا في درجة حرارة تتجاوز الخمسين وقد يستظل بسعفات نخلة او يجوب ذهابا وايابا وعينه على الشباك .. هو ليس بشباك .. انه زوايا حديد لحمت وصيرت بيتا مستطيلا للمكيف وليس هناك مكيف .. خرب من سنوات وثبتت قطعة حاجبة من الورق المقوى على فتحته ..حتى ساعة متاخرة من الليل يحدق هادي لعل القطعة تزال ولو للحظات ...تشعله الرغبة والغيض ويسنده الاصرار..سينال من غادة سيجعلها تتضرى وتدفع ثمن معاول الشمس على رأسه..مع المطرة الثانية , اقتنعت غادة به .. بعد العاشرة ينطلق شخيرهم جميعا .. هكذا كل يوم كانت تغلق باب الغرفة ويتسلل هادي اليها عبر فتحة المكيف ..ويغرقان في انات خافتة واظافر ناشبة ... وغيوم من التراب ..وبالاكف القادرة على لي الحديد يكسر العظام ويورم الجسد الانثوي شديد السمرة ويتركها جثة خامدة ويقفز من فتحة المكيف ..(اليس دليلا على الحب .. انه يقف تحت حمم الشمس طيلة اليوم ) كانت تحدث اكرم عنه .. قبل ان تذرف دموع الاسف .. فقد عاد الصيف مرة اخرى وتوارى هادي .. وان مر صدفة لا يخسر نظرة على حفرة المكيف في جدار الطين . لقد نقش في اعماقها الكفر بالوفاء وشعورها بان الحب اكبر وهم تمر به الفتاة .. لقد اجهز على روحها تماما .
بعد سنتين من اكتمال البيت من الجص والطين مر اكرم بفرع ضيق بين البساتين المنكمشة على شارع ترابي وفي يده كرة من العجين المفور وقصبة يتصل بها خيط من النايلون وكرية من الفلين على بعد متر من الصنارة <الشص > وهو يحمل كيسا من التبغ واوراق البافرا يلف بها التبغ ليصنع السيجارة وعلبة الكبريت ذات النجوم الثلاث تنفخ جيب قميصه وراى على بعد سهيلة تجر اخاها الصغير .. ومرت رياح متسارعة فابرزت الخصر الدقيق واستدارة الارداف وقوة الاكتاف ..العباءة السوداء عليها تنتفخ وتجنح وتلتصق وتضيق فتذكر :
(أَبتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقُمْصِها
مسَّ البطون، وأنْ تمسّ ظهورا
وإذا الرياحُ معَ العشيّ تناوحتْ
نَبَّهْنَ حَاسِدَة وَهِجْنَ غَيورا).
لقد نضجت ولم تعد صاحبة اليدين التي تتشابك بعفوية داخل صفيحة الجص المعجون .. انها تهتز للهمسات والاشارات .. ثقلى برغبات صاعقة نابضة الجسد .. خلال سنتين تزوجت اخوات ثلاث لها وبقيت واحدة صغرى .. تزوجن عبر امها دكان الدلالة .. لا عنوان يدل عليه ولا مقر له .. العملية ببساطة تصحب بناتها من سوق لسوق ومن شارع لشارع ومن ماتم لاخر ..وفي الاعراس ..يتدربن على المرآة في المنزل ويتلقين التشجيع من الام فتهتز الخصور في الاعراس وتتطاير الشعور الطويلة السوداء .. وفي المآتم يتقن ردحا مع شد حزام من قطعة قماش بنية ..
زارهم مرات متقطعة لم يتلق اشارة واحدة من سهيلة لرفض او رضا , لتحجر او سيولة ..
ضيافة طيبة استقبال لائق وهو يرى لاصابع الجص نضوجا لا يجارى .. انوثة تسيل ..ولا اشارة .. يتناول لديهم طعام العشاء ويطلقون بعض القهقهات وينتهي كل شيء .
عشر سنوات مرت على اياد في الصفيح لم تترسخ ظلال الاصابع الخفية الا في بئر الذاكرة .. لم تشعل القلق.. لكن بعض الاشارات لا تمحى .. طرق على باب خشبي ثقيل ودخل وقت الضحى في يوم ماطر ليراها ناضجة الانوثة .. خدود مثل تفاح حنطي تلمع قطرات من الحمرة فيها وتتوسط احدها شامة واضحة .. لم يكن سواها في الدار وبعض الصبية .. الجو مثلج والشمس اقصى امنية للجسد لقد نضج كلاهما بما يكفي .. لم يعد اسلوب الجري الطويل نافعا ولا الصبر كافيا والشباك محكمة التصميم ولم تمض نصف ساعة حتى اتفقا على زواج المتعة فقال وتلت سطورا مسطرة ولم يكن المهر سوى بلبل دربه باتقان فقد نجحت نصائح لؤي .. واطبقوا الباب عليهما دون ان يغلقوه .. ومضت نصف عليهما .. وقام ليتاكد من الصغار لكن الباب لم يفتح.. حاول وحاول فعاد يداعبها ونهضت يغزوها عرق وارتعاش وانهاك .. فعصى عليها الباب .. تعاونا معا باقصى قوة ممكنة فلم يفتح فجلسا متعانقين وقال لها (قدرة ربانية .. ليكتمل الزواج )..فاجابته مبتسمة (نحن من نبتكر المصائب والخرافات وننسبها للسماء ).. ومضت ساعة والباب عصي .. ودفعها برفق امامه لجهة القفل وحاول ملتصقا بها وامرا - وهما يحاولان ان يفتحا الباب الفاضح ..- ان يدفعوا فعجزوا فاشارا اليهم ان ياتوا بمعول او انابيب حديد ويجهزوا على الباب ..
<<<<<< >>>>>>
،ـــــ اهلا اهلا ها انت هنا
ــــ عليكم السلام اكرم الطيب
وتعانقا ..
ــ لم اتوقعك.. وتامل طوله ورشاقته .. بياضه ولحيته .وهو يرتدي دشداشة رصاصية في سوق الزبير .
ــــ اعمل هنا دفانا في المقبرة ..قال وهو يبتسم كمن يزف نصرا حياتيا لصاحبه ..
المقبرة سميت باسم الفقيه الزاهد الحسن البصري , ومرت عليها اربعة عشر قرنا ..والمرقد يحتوي على قبرهِ وتعلوه منارة مخروطية زخرفت بزخارف وعمارة إسلامية قديمة، تتكون من ستة أقطار دائرية..
كيف يسعد في مقبرة شاب حسبه بسيط الروح وربما سالت منه رقة رغم حجرية يديه وصلابة ساقيه ..
ــ مرتاح هنا ولن اعود للريف .. جيب متروس وعمل بسيط ..
بسوس حول طير شارد
ضاقت به الجدران وطال جلوسه امام الحاسوب ... انه يتسلى وليستكشف وربما ليصطاد ..هكذا دخل عالم الفيس بعد ان كان ساخرا منه مستخفا من المدمنين عليه .. الدروب تتضخم بالمسوخ ..الاطفال اشد قردية من القرد واعلى حميرة من الحمار .. تلفظهم البيوت لضيقها ولضيقهم .. تعبوا حتى اصبح عبث الصغار واصواتهم تزكمهم وتوترهم .. ينتظرون قارب الارواح فيما اغرقت العاصفة جميع الزوارق وتهاوت الجسور ..المنقذ وهم يتمسكون به .. ادركوا انهم ايام متشابهة تجري عبر مشهد من الانين والانصهار .. يقابلونك بملابس براقة وكلمات مزينة ويشتمونك بعد خطوات من المغادرة .. لقد تمكن منه الملل ففكر باقتناء بلبل ..
انه اليوم الثاني من عيد الاضحى الناس منكفئة الشوارع شبه مقفرة وحين يصافح احد احدا مهنئا يطلق الكلمات كمن يعلك ضفدعة .. سوق البصرة قبيل الغروب زاخر بالظل والروائح التي تستدعي الغثيان....الشمس استنزفت طاقتها وشرعت بلعبة الوداع ..جلود الخراف المدماة تجاور الخراف الحية .. السلال تحتضن اخر المخضرات وسواد الباذنجان .. الاضواء تسطع وتخفت .. الازقة الضيقة تقفر من تقوسات العباءات .. قلت لصاحبي: < وجوه الباعة الشيوخ موبوءة بالجزع >..واضفت (اين يمضون فقد ودعهم الحماس وما عادوا يحتملون صخب احفادهم .. اما هؤلاء الشباب ؟) فاجابني (الم يشبع الشبان ..من الصبح وهم يصيحون الم يدركوا جمالا للحياة .. ).. كانت ازقة السوق طافحة بالفجيعة ... تكلس صامت للحياة الا من باعة ينادون حين نمر بهم ... اجساد يخامرها الملل .. كساد مستقر ..
وتجول بسام في سوق الطيور .. وصاح بصاحبه <انظر انه طير القطا .. >.. وسألا عن سعره وغادرا الاقفاص .. وكان ينشده شعرا عن القطا بالفصحى واللهجة الدارجة ..ويخبره عن طرائق صيده في البراري اللاهبة ..وكلما مرا على محل طيور يتوقف بسام ويطيل النظر حتى جزع صاحبه اسعد فقال بعيون ضجرة (ان بقيت هكذا تتوقف امام كل قفص فلا اصحبك للسوق .. السوق مزهر بالف شيء .. وفي اخر زقاق توقف بسام امام بائع طيور واراد صبي ان يختار له فقال له (انت في أي صف ... انا اريد صاحب المحل يختار لي .. كان صاحب المحل مشغولا مع زبون في في اخر المحل فنهض رجل مبتسما كان يشبه الصبي واختار له ووضعه بكيس وثقبه ثم احكمه ..وبقي في غرفته صامتا لايام حزينا حتى جزع بسام ...كان يحسه يقول <فك اسري فانا لا اصلح للعشق ولا اغرد في الاسر .. ) .واسمعه نغمات فلم يحرك لسانه وبدا كشيخ هرم يلقي النظرات الاخيرة ويحاول اقتناص ما ترسخ من منثور الذكريات .. وقال له خبير اشتر له انثى وسيغرد ...لم ينفع معه حمص طحنه ولا الخيار ولا المخضرات واتى له بالوان من الفاكهة ولم يغرد .. حزن عميق كدولة ازالها برابرة وصمت يستفز بسام وهو في عزلته الكهوفية ..
بعد خمسة ايام اشترى انثى بلبل صغيرة .. وقفص من الخشب كبير ..ولانه وصاحبه تناول بعد ان اشتراه كبابا ومعلاك فقد اسموه <معلاك >.
كانت بقعة واسعة تتوسط محال اغلقت وبدات الشمس تلم الظلال وهويات الاشياء حتى القمامة ستختفي .. باستثناء الروائح سيتساوى الجمال والقبح بعد ساعة .. كان مراهقا رث الثياب اشعث عيناه كلص في طور التدريب قد علق طيرا في قفص من الجريد ملطخ بالتمر وكوب ماء : (هذا يصيح صيحات طوال ).. ابتسم اسعد وعدل من ياقة دشداشته السماوية وحدق بدراسة للشاب وتشكك وسخرية واجابه (طوال ... ههه اثبت ذلك فهو صامت كارملة لحظة شعور بالوحشة .. ) فقفز المراهق وعلقه بسقف من الصفيح المضلع الصديء وقال (سترون .. انه صيد من بساتين ابي الخصيب ).. ومضت عشر دقائق واعلنت الشمس بدء الحداد واستعد موج الغربان ليشمل الاشياء جميعا الا بقع تسلط ضوء عليها ...لكن البلبل لم يغرد .. انه في لحظة تحد.. بامكانك ان تاسر طيرا وقد تعجز عن استنطاقه .. وكان رجل في الخمسين يرقب المشهد فلما اعطينا لصاحب النغمات الطوال ظهرنا .. اقترب منا واشار لطيره في القفص المعلق على الحائط (انه لي وهو مجرب .. ينغم حتى تترحموا لي ).. وطلب سعرا مرتفعا ..
ــ لماذا انه غالي الثمن
ـــ لان موسم الصيد قد ولى والسلعة نادرة ..
ومرا على اقفاص بلابل اخرى .. التي يمينا سعرها مرتفع .. فاشار بسام لطيور جهة اليسار وبعد مساومة وتثعلب من الطرفين وضعه له في كيس وثقبه ..هكذا تم اقتناء <معلاك >.. وكان يصدر صوتا وهو يتحرك داخل الكيس ,قلقا ..فمرا على مكتبة وطلبا ن من صاحبها ان يحكم الكيس بكابسة ..(والله دوختنا بهذا البلبول ).. قال اسعد في حال بين المزاح والسأم ...كانت المحال تغلق ابوابها واصحاب المخضرات يصيحون باعلى اصواتهم (خياار .. باذنجان .. مخضرات خمسة بالف .. خمسة بالف .. عرنوص..)..
ــ تصور من الفجر للان لم يخفض صوته فاي طاقة .. قال اسعد ..وضحكا ...
كانت شابة من المعدان بياض شمس وجسم رشيق مختصر ..تشد جبهتها بعصابة سوداء وتلتف بعباء ة تنزل من كتفيها .. تجلس خلف صينية القيمر .. عيناها نابضتان .. سال بسام عن السعر وساوم لحظة التقط اسعد عشرات العيون مسلطة عليهما .. وناولته القيمر في علبة بلاستك شفافة وضعتها بكيس نايلون ..
ــ الو ... تدري طار البلبل
ــ لا انك تمزحين
فاجابت بجد وفزع (لقد طار ) .. اسقطوا عليه من الاعلى قطعة صفيح تعود لموكب عاشوراء .. وهو الان باعلى البرج
ـــ لحظتها كان في بيت احد اقاربه .. قالت المراة .. (زوجي سيعود شامتا محتفلا وانت تفقد طيرك ).. واتى ورقص من الفرح وهو يصيح ..<عافيات .. ظل صافن .. طار طار هههههههههه ..) وكانت زوجته مشغولة ببث الخبر عبر النت .. وقطع النبأ عشرات الكيلوات وتم تناقل وتحليل الحدث والتعليق عليه .. والاستفسار .... هكذا علم الجميع بيتا بيتا وتحمس الجميع وتصدر الموقف وطغى على كل الطارئات .. لم يهتموا بساعات قبيل تحرير الموصل قدر اهتمامهم بطير تكسر قفصه وتنفس الحرية .
وفكر: (هناك لحظات قدرية ..في اية لحظة قد يبلغ الانسان والحيوان الحرية او المرض الخبيث او الشفاء .. قد ينال غبي كسول الثروة وقد يصاب عبقري بالاملاق ..التاجر بعد خسارة لا تفنى وانثى محصنة تفقد عفتها غدرا وقد يذل شجاع ويقهر طاغية ويتسلط جبان ويتبختر..لم يستطع العلم الا تفسير ذرات من المجريات .. والعلم تعملق بالنفخ .. ما نزال في اول البحث عن الحقائق )..(ماذا لو امتلك الانسان اجنحة .. وملك طاقية الاخفاء .. ماذا سيكشف في مخابيء الملوك .. وخرائط الغزاة .. وما وراء الابواب .. وفي الغرف السرية ؟ ).
قبل اربعين عاما وكان بسام طفلا يستقر على دكة خشبية طويلة في ساحة ام البروم
وجواره يحتشد العشرات .. في انتظار سيوف على الهامات سياتون متلفعين ببياض الكفن يسبقهم دمام وصنوج ويعلو الهتاف الذي يخلف القشعريرة (حيدر .. حيدر .. حيدر ) ستسيل الدماء ويتخيل المتابعون مجزرة الطف .. مع الضوء الاول سيصل المطبرون .. غروبا وفيما كان ساهما لفته صوت ساخر .. شاب متوسط الطول يرتدي دشداشة جوزية يمسك بسلاحه ويهزه مبتسما مرددا < حيدر حيدر >.. مثل هذا كان حالة نادرة ..لكنه رأى مناسبة الطف بعد اربعين عاما وقد تنوعت الطقوس حتى تحول بعضها الى لون من السفاهة.. ابعد ما تكون عن الذكرى الاشد الما ..
بعد ذكرى الدفن في اليوم الثالث عشر من عاشوراء حيث تقام التشابيه ويتم تمثيل مشهد المجزرة وحرق الخيام والسبي في الساحات ويجتمع جمع حاشد .. غروبا سيرفعون السرادق التي اصبحت تقام على كل شبر.. وتسكن مكبرات صوت تكاد ان تصيب بالصمم .. وتختفي المناضد التي تستقر عليها اقداح الشاي والنومي والمناقل المتجمرة ويختفي دخان الحطب المشتعل حيث تعد القهوة ..سيعود الجمع لبيوتهم يبحثون عن مغذيات روحية لا يجدونها فيغمرهم الفراغ ويهاجمهم الملل.. في مثل هذا اليوم .. فككت اجزاء موكب حسيني ونقلوا الصفائح وقطع الحديد التي تسند الخيام والسرادق وصعدوا الى السطح يحملونها .. فجاة هوت قطعة صفيح على القفص اول الليل فتكسر القفص وفر العصفور وطار بعيدا على برج شاهق يتوسط اعلى السطح وظل هناك ..القى <معلاك >نظرة شاملة على البيوت ونظر بعيدا في الافق .. نظر الى امواج الظلام ..تصعق الشواخص .. ورغم الصدمة التي حلت به وهو يتهاوى من اعلى الجدار فانه لم يغادر المنزل .. هل كان حائرا اين يمضي .. هل انتظر الدليل ..ام فرح بحريته ..بخفة اجنحته ..الانسان يغمره فرح فريد ان اقترب او دخل حافة الموت ونجا .. كخلاص الفرد بعد صعقة كهرباء ..لا ندري ما يخامر ظبي ان تصارع نمران بعد سقوطه بينهما وتمكن من الهرب ..لا ندري بنملة غرقت وصادفها عود واهن وانقذت .. وحاول اصحاب الموكب مع البلبل الشبان وفشلوا فنزل شاب من الاعلى وتناول النعال وخلف بقعا في وجه من اسقط قطعة الحديد على القفص في موجة من الضحك والسخرية اطلقها اصحابه وهم يحثون <اقوى .. على رأسه ..اقوى )..بعد ساعة تلقى بسام مكالمة من منزله ( بعد جهد ومحاولات وحيل واجتهادات تمكنوا بعون من الله ان يقبضوا على العصفور ..) تلفنه بن اخيه وهو يطلق القهقهات .. وصعق زوج البنت الشامت ولم يصدق فناوله المبايل فتغيرت ملامحه واختفت البهجة وقال لبسام <قضية حظ >..لقد اتوا بفقص صياد ذي بابين : ثابت وقانص .. يتوسطه بلبل وفتحوا بالنقال نغمة غريدة .. فتطاير من اعلى البرج ونزل بحذر ثم اقترب للقفص ودخل الباب الخادع فتحركت عتلة واغلقت عليه ..
(ثانية في قفص
زهيرة في الاصص).
--------------------------
تكسي الطلاق
:<< انه الان في منزلكم يا دكتور>> قال البقال هاتفا وهو ينحني مرحبا ..
بعدما فر السائق قالت له انه لص فاجابها الدكتور رامز (هل سرق مالا او مجوهرات ؟) اجابته <لا .. الحمد لله وصلت بوقت مناسب > .
بعد الغداء عانقها بحنان وحين اتت باقداح الشاي قال لها< انظري > واحضر سبورة بيضاء ورسم دمية في احدى زواياها).. قالت : <ما هذا؟ > فقال (تمنيت ان يكون لنا طفلة فارسم لها دمية ) ...

الدكتور محمد عقبة وتعبر سبعة امتار فتقرأ الدكتور نوري مهدي ..علقوا اسماء الاطباء الاستشاريين على الحائط بورق مقوى ابيض .
مر في الردهة الساعة التاسعة وتوقف امام مريض يتغطى بشرشف ابيض وقدماه بارزتان قال (دكتور مضى شهران وانا راقد .. ارجوك ابتروه لارتاح )..(ابني ذلك حرام لا يجوز بتر ابهام قدمك مع وجود امكانية لمعالجته ..)اجاب الدكتور اسوار خالد بهدوء وتصميم وعيناه تحملقان في المريض الذي اتى من شمال البصرة حيث يسكن احد الارياف ..
بعد عودته من المانيا متوجا بشهادة دكتوراه ,افتتح مستشفى خاصا به ..كان ذلك في العصر الذي سبق الكتابات القبلية على دور الاطباء بخط بدائي احمر (مطلوب دم ).. قبل خطف الاطباء للمساومة .. كانت الناس تردد جملة (الطبيب رب ثاني )..قبل ان يتواطأ الدكتور مع صيدليات فيكتب للمريض كيلو من العلاجات الزائدة .. او ينسى الجراحون المقصات في احشاء المرضى ..قبل ان تخلو المستشفيات من اجهزة الاشعة .. كان الاعتقاد قويا بان الطب مهنة انسانية ..
حادثة نادرة سجلت هي اغرب ما يمكن في ذلك الزمان .. فيما كان الدكتور اسوار حامد يتفقد مرضاه في الاسرّة المخصصة له .. سمع ضجة لرجال بملابس قروية ونساء معممات يصحن صارخات ,وكادوا يكسرون زجاج القاعة المغلقة .. فعاد د. رامز لاول القاعة وتناول التلفون الزيتوني وادار القرص وخاطب شرطة المستشفى (رغم ما بذلناه والتعب انهم يعتدون .. الاعمار بيد الله .. لا ذنب لنا )..لاول مرة تظهر عصبية في صوته وتوتر في حركات يديه .. بعد عشر دقائق تواجد رجال الشرطة وحسم الامر.
افلت امبراطوريته وخسر سمعته كمقاول , افتتح له محلا منزويا في شارع الوطن, واستقطب زمرة من الادباء والرسامين .. ولم يستطع احتمال الواقع الا بتعاطي حبوب الفاليوم..قبل خمس سنين من اعدامه .. بعدما الصقوا به تهمة الانتماء لحزب سري ..ستبقى تلك اللوحات التي ابدعها ازهر, الفنان العظيم, في قبضة السر ..تستغيث ليكشف عنها النقاب في منزله العصري ..كلقى تراكم عليها تراب التاريخ .. لقد حشرت هناك ايام القصف الشديد على البصرة ..سيتذكره نعمان الشاعر المعتزل ..فقد قلص شفتيه يوما واستدار له وقد رأى صاحبه المقاول يقتني ديوانا لرامبو (انه يتقن الخسارة , الشعر لن يعيد له تفوقه في حقل المقاولات ) وخطف غصنا من فلكة اسد بابل<قبل نسفه بعقود > واضاف <لولا حاجتي لبعض المال لغادرت المحل الكئيب )..(لقد تراكمت الالوان بحجم سنتمترات على لوحة المرأة )..تذكره نعمان في صباح الثلاثاء في الساعة العاشرة .. كانت الشمس تتغلغل في العظام بعد ثلاثة ايام من المطر والبرد المرعش .. كان يمسك بفرشاة كبيرة ويعمق شفافية اللون الفاضح على اعلى صدر المرأة .. فكّر بشبه العري بعد ان مل من طلب التغييرات التي يطالب بها المقاول الشاب على اللوحة .. وانتقاداته المسممة (لونك وسخ ... )كان ثملا فصرخ به صاحبه المقاول النحيل (ويلك انها زوجة الدكتور اسوار خالد .. استر تلك الوقاحة ).. وقال نعمان وهو يتأملها (يا له من جمال وحسن اختيار )
بعد ايام صحبه صديقه المقاول المتوتر النحيل وهو يشكو من وجع التهاب في الاثني عشر ورأى الدكتور اسوار بوجهه المدور ونظرته المركزة وعينيه الواسعتين وجسمه المكتنز.. وبشرته البيضاء ,كان هادئا بصورة مقنعة, يتمكن بكلامه المركز المختصر وهدوئه السحري وقوة الايحاء ان ينجو من جيش من الثرثارين وان يبث الطمأنينة في مرضى العناية المركزة .. انه يراقب المريض بعد اجراء العملية لساعات بلا كلل .. قال له <سازيل منك الالم النفسي والجسمي شرط ان تقرأ لنا شعرا )..وانشده بالقاء مؤثر ابياتا للجواهري وتدفق معاونوه وموظفوه ليصغوا.. كانت الممرضات يتراكضن الى الصوت ببدلات فيروزية وهن مبتسمات يتقلدن قفازان بيضا على ايديهن ..
<جربيني من قبل ان تزدريني
واذا ما ذممتني فاهجريني
ويَقيناً ستندمينَ على أنَّكِ
من قبلُ كنتِ لمْ تعرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي
وتقاطيعِه جميعَ شؤوني
أنا لي في الحياةِ طبعٌ رقيقٌ
يتنافى ولونَ وجهي الحزين
أنجِديني في عالمٍ تَنهشُ الذُئبانُ
لحمي فيه .. ولا تُسلِميني)
فطلب منه ان يتمدد على الاريكة ووضع راحته على بطنه واخذ يضرب بسبابته على ظاهر يده .. ثم عاد الى طبلة ليكتب العلاج له .وهبطا السلالم ..
في الليالي التي تتجمد فيها الانهار الصغيرة ..وقد تحتاج مسخنا ليصب الصنبور ..كانت اصفهان تقضي الليالي ساهرة واجمة تتذكر صديقاتها في كلية العلوم او شيئا من طفولتها وقد تطرز او تتابع مسلسلا مصريا في شاشة بلا الوان .. فقد كان الدكتور اسوار بعد عودته من مستشفاه يعود صامتا متعبا , يبتسم لها باقتضاب ويفلت الجمل المختصرة .. يتناول العشاء , وقد يقرأ قليلا في كتاب (تطور علم الجراحة ) وينام بسكينة ورضا .. وقد عزلها عن الدنيا :(مفتاح البيوت السنة نسائها .. فلتكن علاقاتك مختزلة وسوّري نفسك عن الجميع ..لقد وفرت لك كل ما تتمناه امراة ).. تغادر السرير زوجته اصفهان وتضع على شفتيها وتتعطر .. وتمر عيناها على جسد خلق ليعاني الظما الابدي .. تنظر لجثته بحسرة وتعود لتجلس القرفصاء مسندة الحنك بيدها .. او تعود للمرآة ...
عاد بعد الظهر فقال له بقال يستأجر دكانا في ركن الزقاق (مرحبا دكتور .. للاسف الان غادركم صاحب التكسي اقاربكم ..).. يعلم الدكتور جيدا ان لا قريب له يعمل بمركبات الاجرة لكنه كتم الامر ..
عاد الى منزله وابتسم لها, فاستقبلته تدلك اكتافه وتقبله ..
ــ (أي طعام تريد اعددت الوانا )..ولاول مرة رآها تبالغ بالعطر والتبرج ..
ــ لا فقط اريد ان اقرا فاتركيني وحدي ...
وتناول من المكتبة كتاب <اخبار النساء >وقرا :
(كان القيطنون متملكا على أهل المدينة. وكان قد سامهم خسفا، وشرط عليهم أنه لا تدخل امرأة على زوجها حتى يبدأ بها. فزوج مالك بن عجلان الخزرجي أخته. فلما جهزها وأراد إهداءها إلى زوجها، وهو قاعد في مجلس الخزرج، إذا خرجت أخته على الحي سافرة. فغضب مالك، ووثب إليها ليتناولها بالسيف، وقال لها: فضحتني، ونكست رأسي، وأغضضت بصري. فقالت له: الذي تريد بي أنت شر من هذا وأقبح وأفضح. إن كنت تهديني إلى غير بعلي فيصيبني، فهذا شر من خروجي سافرة حاسرة! فقال مالك: صدقت، وأبيك.
وسكت عنها، فلما رجعت إلى خدرها دخل إليها، فقال لها: هل فيك من خير؟ فقالت: أي خير عند امرأة إلا أن تناك؟ فقال لها اكتمي ما أريده. قالت: نعم. فشرح لها ما عزم عليه. فلما أمست أتتها رسل القيطنون ليأتوه بها، فلبست وتعطرت وتحلت، ولبس معها وتعطر واشتمل على السيف ومضى معها في جملة نسائها إلى قصر القيطنون. فلما خلا بها ودنا منها , تنحى نساؤها عنها إلا مالك وحده، فقال القيطنون: بحق التوراة ألا أمهلتني ساعة حتى ترجع نفسي فيها إلي، وتركت أختي هذه تؤانسني عندك، فإني ألفتها من بين أهلي؟ فقال: نعم. فلما هدأت ساعة. قال: تقدمي إلى فراشك حتى ألحقك. فقام القيطنون إلى باب فأغلقه، وأتى فراشه. وكشف مالك عن السيف ثم ضربه به حتى برد. فاجتمع الحيان من الأوس والخزرج فسودوه على أنفسهم، وملكوه، إذ أراحهم من عار الدهر. وذلت اليهود بعد ذلك فلم ترفع رأسا.) وغفى الطبيب والكتاب بين يديه ..
كل ثلاثة ايام او خمسة يعترض البقال الدكتور اسوار خالد :(دكتور للاسف الان غادر السائق)..كانت مستقبلاته للالم والكوارث والفرح تصهر اقوى المؤثرات ..لكنه الان يشعر بغصة ..لابد ان رائحة خيانة في الجو . . انه يتنفسها بوضوح .قال في ضميره (انها ليست ابنة عمي ولا قريبة وهي لم تنجب ..الخلع حل جذري ).
لحظها تبالغ بالتبرج بعد كل يوم من ايام التكسي ,وتظهر امامه اشد حنانا وارق وداعة ..
واظهر لاهلها ـ حين دعاهم لغداء بعد شهر من التكسي ــ سبورة بيضاء رسمت دمية في احدى زواياها بخط ماجك مؤطرة بمستطيل خط بلون اخضر.. انها دائرة غير منتظمة تنتصب على خط شبه عمودي ينتهي بخطين صغيرين منفرجين .. فلما رات الدمية سقطت من يدها صينية اقداح الشاي وكادت تهوي فقال لها موسعا حدقتيه (اسم الله .. ).. فكنست الزجاج المتشظي وتوتر جبينها وانكسرت عيناها وفغر فمها ولمست ارنبة الانف .. وداهمها دوار ..ولم تنجح الا في المرة الثالثة بتقديم الشاي ...وحين غادر اهلها حزمت حقائبها وتمنت ان يكون الموت بشرب كاس ماء بلا احتضار.. وناجت نفسها بصمت وقد شعرت بانها ضاعت وان البيت يتهدم : (ماذا فعلت بنفسي )..
رسالة مرمزة
في بقعة معزولة في ابي الخصيب ..قنطرة من جذوع النخيل ثبت عليها تراب تصلب على بارية من القصب .. يعبرها علاء رازي الى منزله وهو شاب قوي السمرة بدين .. يجذبك في وجهه انف منتفخ مثل كرة كبة وعينان جاحظتان وتعرق لا ينقطع ولهاث .. وله كرش يتهدل .. لا عائلة له .. وحيدا يجابه مطر الشدائد في بيت يتكون من غرفة طينية تقطر عليه كلما مطرت السماء .. وحمام من خصاص قصب وتواليت من الصفيح اسندت بعضها باسلاك وخيوط وتخرج الفضلات منه الى النهر عبر صفيحة كميزاب تنحدر..وهو كل ضحى جمعة يمضي الى سوق البصرة في الباص الخشبي مرتديا دشداشة رصاصية اللون ونعالا جلديا, حاملا كيسا ابيض صنع من اكياس الطحين النايلون ...ويستلم النقد ويتسوق ويعود ..لكن الغموض يثير شهوة الدوائر الامنية ورجال الحزب الرفاق الاشد حرصا على الامن ..فقد اودع اسمه في سجلاتهم الاشد خطورة وتحته خط احمر واعطي الرقم 5698 م. خ ,وربما يفسر الرمز بانه مشتبه فيه خطير ..وربما يقصدون به شيئا اخر , الله اعلم ..لقد اغروه بكل الوسائل ورفض الانتماء للحزب .. السبب بسيط .. انه لا يرغب باي صداع ..لكن هذا العذر لا يقنع تلك الجهات وبدات القصة مع اول تقرير كتب عنه .. فقد كان جاره الرفيق ابو رسول قد فقد احدى عينيه بفعل حجر نزل من السماء وكانت زوجته لا تطاق .. فحول حقده الى الاخرين ورأى ان اخلاصه للحزب يعطيه قوة .. كان يعمل في دائرة الكهرباء ..ولا يتمكن هارب من الجيش ان ينجو من قبضته ولا احد يتخلف عن الالتحاق بالجيش الشعبي وهو حي بجواره حتى انه اخرج هاربا في مهمة تفتيش من بالوعة جافة .. وطالما تلقف هارب من احضان زوجته واقتاده بلباسه الداخلي .. كان شعاره (لا ينجو احد حتى ثعلب قريش )..فكتب ذات يوم تقريرا الى الحزب (علاء رازي شخص غامض وقد يكون جاسوسا او منضما لحزب عميل ).. تهمة قد تقطع الرأس ..لم يكن علاء يدري بما يجري ..كان مهتما بالحفر على الخشب والتخريم والاسمتاع لاغاني ناظم الغزالي والخشابة ..فرصدته العيون والاشباح .. يمر بلم كل ساعتين في النهر حيث شيد منزله فيما كان اخر يرقبه قرب موقف الباص.. ودربت حمامتا زاجل مزودتا بكامرا على المرور فوق منزلهم كل ثلاثة ايام ..وعلى تلة يتسمر رجلان اسودان مزودان بمنظور ليلي ..لكنهم لم يتمكنوا من اثبات شيء ضده .. فارسلوا اليه امراة باثواب المعدان .. عبرت القنطرة وطرقت وسألت علاء ان يشتري السمك فاقتنى منها كيلوين من اسماك البني ,فالتفتت اليه طالبة الماء فلما مضى تمكنت من التقاط ورقة دستها في صدرها وشربت الماء وعادت ..سلمتها الى رسول فقرأ (ه. م ــ شجب ,جنح.. علاء ).. وقد كتبت بخط متعثر على ورق دفتر مدرسي مخطط ..وسرعان ما تم نسخها وارسالها الى احدى عشرة جهة امنية .. لفك رموزها ..عندها فقط ادركت الجهات الامنية الخطر الحقيقي .. فهي رسالة مرمزة همشت بتوقيعه وباسمه الصريح ..مرت الورقة بتعرجات ووديان وتنقلت بين ظلال وسراديب خفية.. عبرت جسورا وعرصات وانهارا وظلمات.. وضعت على لوحة عرض بصورة مكبرة حتى ان احصائيا رصد خمسين نوعا من طبع الاصابع مر عليها ..حلل نوع الخط وجهة تصنيع الورق والعمر الافتراضي لتاريخ الكتابة ..واتوا بعالم لغوي وعصبوا عينيه وانزلوه عبر سلالم وحملوه على جمال ومر بمتاهات وفيافي .. حتى اجلسوه امام محمد الصقر في بغداد وهو رجل متحجر الوجه شديد التوتر يتكلم بصوت صارم مرتفع .. وضع نظارات سوداء على عينيه واتوا له بكأس عصير..وساله عن معنى كلمة< شجب> كان العالم مرعوبا لكنه اجاب :
ــ ( شَجَبَ الغُرَابُ شَجِيبٌ : نَعَقَ بِالبَيْنِ ، بِالفِرَاقِ
شَجَبَ الوَلَدَ : أحْزَنَهُ ، غَمَّهُ أوْ أَهْلَكَهُ
شَجَبَ الصَّيْدَ : رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَهُ فَتَعَطَّلَ عَنِ الحَرَكَةِ
شَجَبَ مَوْقِفَهُ : اِسْتَنْكَرَهُ شَجَبَ العُدْوَانَ
شَجَبَ القِنِّينَةَ بِالشِّجابِ : سَدَّهَا ، أَحْكَمَ سَدَّهَا)..
سجل الصقر في دفتر جيب صغير(شَجَبَ القِنِّينَةَ بِالشِّجابِ : سَدَّهَا) وقال في نفسه :< ربما تعني قنبلة محلية الصنع > .. واحتار بمفردة جنح فهل هي بمعنى (الحيوانُ في سيره : مَال بِعُنُقِه إلى الأمامِ لشدَّة عَدْوِه واندفاعِه
جَنَحَ على الشيء : أقبَل عليه يَعْمَلُهُ بيدَيْه وقد حَنَى عليه صدْره
وجَنَح أن يأكل كذا : رَأى في أكْله جُناحاً
جَنَحَ الطائرَ وغيرَهُ ، جَنْحاً : ضَرَبَ جَنَاحَه أو جانِحَتَه .. او هي بمعنى جناح الطير اوهي الجريمة التي يُعاقِب عليها القانون ) بعدها انتشر مخبرون في الدرب الترابي المفضي لمنزل الرازي :بائعو حلوى وراكبو دراجات هوائية و مصلحو الطباخات المعطلة يجوبون حاملين سلكا علقت فيه قطع غيار.. جباة قوائم الكهرباء وانتشرت في قاع النهر سلاحف عملاقة تم تدريبها بعناية .. ووضعت مجسات الصوت في الكلاب التي زرعت في الزقاق ..ثم ارسلوا فتاة جميلة لتستطلع فطرقت واخبرته بانها علمت بقوة تخريمه وحفره على خشب الابنوس و الجوز و البلوط و خشب الحور.. وانها فنانة من كلية الفنون ولها تعاملات تجارية بالتحف واتت لتنشيء تعاونا بينهما ..
ولم يكن معمل القنابل المحلية التي ارسلوها لتستكشفه الا انية من فخار لتبريد الماء وضعت على مرفع ذي ثلاثة ارجل خشبية وغرفة طين تسرب المطر . فرشت بحصران مصنوعة من الخوص ومخدتان من ريش الطيور وفأرتان تتطاردان وقطة خاملة وقد نشرت على طبلة قطع خشبية متنوعة و مبارد وازاميل وادوات تخريم اخرى واداة مقاسات .. وقرآن ملفوف بقطعة خضراء وضعت داخله ريشة من جناح طاووس جوار كتب ادعية وكتاب <مفتاح الجنان > و<الصحيفة السجادية >..لا قنابل ولا هم يحزنون لا كتب لماركس ولينين ولا كتاب <فلسفتنا >.. شجيرة صفصاف وتينتان وسدرة واربع دجاجات وفراخ يعبثن في الحوش الترابي.. وصندوق توفير صغير .وما خلفه جده من مسحاة ومناجل وفروند وصورة للامام العباس واخرى لابيه في الاسود والابيض بعباءته وكوفية وعقال ..وآثار موقد وقدر كبير مسود كانت جدته تستخدمه لطبخ الثواب..
لقد مر عام منذ كتب تقرير عنه ولم يجدوا خيطا يقود لتنظيم ولا أي اثر يكشف شبكة سرية ..
ــ غدا نحتاجك تاتي الى مديرية الامن ..هناك استفسار لخمس دقائق وتعود..
قضى الرازي ليلة في غرفة منفردة بلا فراش .. كان يسمع الصراخ وصيحات الاستغاثة فلم ينم ..ومن فجوة اعلى الجدار علم ببزوغ الفجر فتيمم وصلى ..ونقلوه مقيدا في الصبح من محافظة الى محافظة في عجلة مظللة ..مغلولا وجائعا ..بعد يومين سأل الحرس فعلم انه في محافظة الرمادي ..لقد قطعوا به 652 كيلومتر..عاد بعد سنة لغرفة الطين ..لم يتوقع ان جهنما تقام في الارض ..وان القسوة لا حدود لها .. لم يتعرف على روحه فقد خربت ..ولا على جسده فقد شوهوه ..وحين نزل الى سوق البصرة في الباص الخشبي ..حاول ان يكبت افكاره وان يتخلى عن روحه .. فربما وضعوا في الباص مسجلات صوت او ان خلايا الخشب تتصل باسلاك خفية في غرف الرمادي الامنية او الى الصقر في بغداد ورأى في المارة مئات الرجال المخبرين ..لم تعد البرهانة العملاقة مجرد شجرة وعلامة على الوصول الى مهيجران لم تعد الطيور التي تندس فيها بريئة .. كل شيء يفوح بظل المخبرين .. تحولت احلامه لساعات وساحات رعب ..وفكر (من يقول ان زوجتي لا تكون مخبرة واطفالي القادمين ..)..كان جسده ثقيلا كأنه يحمل ثلاثة اكياس ملح 150 كيلو ..وحركة ابهامه ثقيلة لانهم علقوه طويلا في سلسلة ثبتت بمروحة السقف ..نزل قرب ثانوية العشار والتفت هامسا (لمن تدرسون ؟).. كان جسده يئن من كل مكان .. وعبر الجسر فاستقل مركبة الى سوق البصرة..وجلس في زاوية المقهى على تخت خشبي وضعت عليه حصيرة من البردي .. وتذكر وهو يدير الملعقة بقدح الشاي تلك اللحظة المزلزلة حين قدموا له ورقة مستنسخة وقد كتب فيها <(ه. م ــ شجب ,جنح.. علاء ).. وامروه بفك رموزها .. في عاصفة من الشتم والهراوات .. والاسلاك المكهربة والضحكات ..لقد عقدوا عورته بخيط وامروه بشرب كمية كبيرة من الماء وابقوه يتلوى لساعات ..طالما ايقظوه قبيل الفجر واجلسوه في طست مملوء بالماء في الشتاء .. وكهربوه ثم جلدوه حتى يفقد الوعي .. خمسة من الغلاظ يتعاونون عليه بعصا خشبية وصوندات وسياط وكتل اسمنتية ..علقوه على الشبابيك والاشجار..حجزوه في صناديق الكلاب البوليسية .. معصوبا غالبا .. خلعوا اظافره ..
مر قرب بيته المسيج باخصاص طفل في الرابع الابتدائي وكتب بقلم الرصاص ه.م ــ ثم كتب حرف الشين فتكونت اول مفردة مرمزة .. بعدها مر طير فكتب <جنح >وقصد بها جناحا الا انه تعود ان ينسى حرف الاليف .. جلس في ظل غرفة علاء الطينية .. محتميا بظلها من شرار الحر ..وحين تذكر ان معلمه حذرهم من الشخابيط في دفتر العلوم خلع الورقة من الدفتر وتركها للرياح التي ستودعها قرب الباب الصفيح في الداخل قبل يوم من وصول بنت المعدان وهي تنزل عباءتها من الاكتاف لتشد به وسطها فيما كانت القطط تموء بالقرب منها .
صياد الصبور
في احد الايام من شهر شباط لم يتمكنوا من صيد سمكة واحدة.. مضت سبع ساعات والشباك ساكنة .. السماء زاخرة بالغيوم السود .. البروق تنذر وتغوص في رماد الافق .. انه موسم صيد اسماك الصبور المهاجرة التي تنطلق من شبه القارة الهندية الى الخليج العربي..فجاة تعوي السماء وتتفجر شلالاتها .. فيقرر جبار ومعاونه ان يلوذا بزورقهما في احد انهار الفاو حتى الساعة الثالثة بعد الظهرحيث تركا النهر.. بعد ها عقلت السماء وكفت .. كانت العشرات من زوارق الصيد تنتشر في شط العرب .. لم يتمكن احد من صيد سمكة واحدة .. الا ان جبار ومعاونه كانا قبيل المغيب ينوءان من الشباك الثقلى بالصبور فقال لصاحبه <الم اقل لك انه رزق >..يتذكر ذلك جبار وهو ينحر ايامه في المعتقل المرجل يغص بالاف الرجال يصهرهم الجوع والتعذيب في قاعة تختنق بالانفاس والاصوات التي لا تسمع والروائح النتنة والظهور المحفورة بالسياط واثار الدم .. ينامون على بسط مقملة .. وقد تم تقسيمهم الى مجاميع تتألف من خمسة اشخاص تجمعهم القصعة وتفرقهم الذكريات ..يحدثهم عن ايام شواء الصبور في ايام الجمعة في تنور الطين ويذكرهم بالمثل البصري (الصبورة طيبة تؤكل ومذمومة ..).. يتذكر الطفلين الشقراوين احمد ولؤي فينتشي قبل ان تبادره الكآبة فيطرق ..وحين تتصارع مجموعته على ندرة الطعام يقول لهم <خلصانة ولكن لا احد يفكر انها تنتهي .. ازمة وتزول >.. وكان احد هم يملأ كفه حتى يفيض بالرز القليل وينتفخ خداه ويبلع الطعام بلا مضغ ..وكان في مجموعته حمدان وهو جاره القديم .. باغته يوما حين حدثه بانه اتقن اللغة الفارسية في ايران التي مكث فيها سنتين ابان الحرب .. وانه وصل الرمادي قاطعا مئات الكيلوات وعمل صباغ سيارات حيث تم القاء القبض عليه بتهمة تهريب الناس لايران ..
كانت الجدران تسود بلافتات الشهداء .. وصناع التوابيت يعملون باقصى طاقة والمقابر تنتفخ ..لكن جبار الذي عمل بحرف لا تحصى حتى اشترى الزورق .. كان مشغولا بالطفلين ينتظر الصبح على نار ..كان الطفل لؤي يكبر اخاه احمد بعام في الصف الرابع الابتدائي , انيقا محمر الوجنات بشعر اصفر وعينين سوداوين لامعتين .. وقد لمحه يوما يمضي الى المدرسة فعشقه .....واعترضه يوما (اكيد شاطر ) فابتسم .. ( جيد بالدروس الا الرياضيات )... كان يضع حقيبته الجلدية الثمينة على ظهره ويرتدي قميصا ابيض ناصعا وقد ثبت رباط كمثلثين اسودين يلتقي رأساهما .. وبنطالا اسود وحذاء مصبوغا بعناية .. كان يتمشي معه من باب المدرسة حتى الزقاق المقابل لمنزله..<تعال عصرا ادرسك الحساب ) ..جبار منفردا يهندس لنحر شهوته ولا يشبه تلك العصابات التي توزع عليها المهام بدقة في الحي المكتظ , فان توفر طفل جميل في عائلة سكنت حديثا سجلوا اسمه في دفترهم وارسلوا احدا يستقصي واخر يصادق وثالثا يغري ورابعا يفتتح القلعة ان تمكن ..ولا يتفاخر مثلهم بعد الاحتلال في العرصات المتربة اقصى البيوت وهم ينتشون بالخمر المر ليلا مثقلين بسكاكين الشجار تحت ملابسهم .جبار صامت غامض منعزل .
حين افرج عن حمدان اتت عائلة جبار تسال عنه فاخبرها (انهم حلقوا ذقنه واستحم وزودوه بكمية من الصمون مع اثنين اخرين واخبروه انه سيفرج عنه وكان يقف خارج الزنزانة قرب القضبان المتوازية العالية .. وهو فرح وقد شبع .. بعدها لا نعرف مصيره ).. اعتاد الحرس في تلك الايام ان يخبروا من ينقلون الى سجن الناصرية لتنفيذ حكم الاعدام بهم .. بانهم سيفرج عنهم ..
..هكذا اخبروا رجلا في السبعين اتوا به مع شاب ابيض واسع العيون كثيف الشعر شبه بدين اطلقوا الرصاصة على فخذه لانه رفض ان يزج بعجلة رجال الامن لحظة اعتقاله .. وكان احد الحراس يخاطب صاحبه المسن (لحيتك بيضاء وما كفاك تزوير العملة في البصرة والناصرية حتى زورت بالعمارة ايها الكلب ..رجلاك بالقبر وانت شره ).. كان فخذ الشاب الملفوف ينزف لكنه صلب ودائم الضحك .. اخبرهما الحرس بانهما سينقلان لذي قار ومن هناك سيتم الافراج عنهما .. وبعد اسبوع من المغادرة وصلت معلومات دقيقة بانهما قد اعدما في سجن الناصرية .. لكن عائلة جبارا عادت تسأل مرات عدة وتسمع الحكاية نفسها .. كان غليانهم لا يسكن ..
كان يمشط شعرلؤي ويعدل هندامه ويمرر برفق اصابعه على خده وشفتيه .. ويطعمه الفستق والحلوى ويقدم له انواعا من الفواكه . .. في مرة اتى له بجوزة هند وثقبها بسكين واشربه من حليبها ثم مزق غلافها الصلب واذاقه جمارها الابيض ..وفي الايام اللاحقة اخذ يضع سبابته بفمه .. وادرك ان الطفل لؤي يستمتع بلعق الاصبع ..(اسخن وقت تلمسني ).. بهذا نطق لؤي .. فتيقن جبار بان الارض بدأت تتشقق وبحاجة لوقت قصير ..
ولم يدرك جبار ما كان يجري فوق السطح .. فقد طرق الباب في اول الصبح جارهم اسعد منزل حمدان واخبره بانه وقع في مصيدة ...وانها لحظة قفزت الى منزلها لمحها اخوها جبار فاتاه ليلا مهددا ولكن دون ضجة (صباحا ساخبر عشيرتي بذلك )..فقال له حمدان (شغلة بسيطة .. ان اتاك او اتوك فاحمل عليهم مطالبا بثمن لكرامتك فقد عرف الناس انك مؤمن وهاديء وطالب جامعي .. كن غاضبا باقصى ما تستطيع كأنك حقا تحمل صك البراءة )..
كانت الفتاة المراهقة شمس الضحى في الليالي المثلجة تغلق الباب بعدها وتتسلل الى اسعد عبر سياج السطح .. ويقضيان ساعة يلتفان ببعضهما تحت بطانية مخططة ..لم يحدث بينهما سوى اللمس والقبل .. وشعرت بان باب السطح يفتح فقفزت .. حين رآها جبار كانت تتمشى والظلام يستر الهلع وصفرة الوجه :
ــ ما تعملين هنا
ــ كنت اجمع الغسيل من الحبل
ــ حسبتك لصا .. كيف تصعدين في ساعة متاخرة ؟
ـــ نسيتها ورعدت فخفت المطر..
عاد اسعد بعد ساعة ليخبر صاحبه بانهم اعدوا البنادق وسيهجمون وطلب مساعدته .. فصحبه حمدان حتى رأس الزقاق وهناك استدار له وقبله وقال (اتى جبار معتذرا وطلب العفو .. وانتهت القضية ..) وابتسما معا ..
شهران من الغليان والتخطيط ..والمحاولات والاغراء ..الاصعب هو الخطوة الاولى ... ان مرت بلا عاصفة ..كان عليه ان يتأكد تماما فالخطأ كارثة ..اتاه مبللا عصر يوم الاحد .. في الساعة الرابعة ..كانت السماء تزمجر ..تزفر رمادها المتوهج بالبروق .. اتاه لؤي متلهفا .. فقد بدأ يستجيب للترويض ..نشفه من البلل .. واطعمه بالعرنوص الساخن .. وتغطى معه تحت بطانية حمراء موردة خفيفة ..وظل يمسد قفاه وظهره والخصلات برفق وهو يضع راسه على يده .. حتى كاد يغفو .. كانا وحدهما في المنزل ..بعد يومين ستعود عائلة جبار ..
كان جبار شابا قد تدرب على حمل الاثقال .. اسمر عيناه صغيرتان ..امسك بيد الطفل الناعمة ووضعها بين فخذيه فلم يسحبها فتجرأ وادخلها له..ليصدمها شيء صلب منتصب ..وتذكر الشاب الفراري خميس حين رآه في اول يوم التحاقه بوحدة الكمندوز .. فقد خلع ملابسه تماما امام الجميع .. وهو بوزن تسعين كيلو واخذ يصيح ساخرا في منطقة الشعيبة (ايها الجنود من ياتي ليعرس علي .. تعالوا .. انها الفقرة القانونية الوحيدة التي تخلصني من الجيش .. كان يصيح ساخرا ويحك خلفيته الضخمة براحته )..لكن خميس لم يعش طويلا بعد استحمامه في حوض اسمنتي صغير مكشوف امام الجنود .. فقد قتله بطلقات مسدس اخو الطفل الذي اغتصبه في عرصة خارج الحي ..
كل صباح يطرقان منزله لحظة يقصدان المدرسة .. .. يتسابقان للدخول....فيصعدهما واحدا بعد الاخر.. لؤي واخوه ..
مرت ام لؤي ــ وهي شابة انيقة جميلة تزوجت من عامل في مطعم يعود بعد الغروب ــ في الصباح لتتبضع ورأت جبار يقف في الباب .. فحيته مبتسمة وقالت (اشكرك يا اخي فان لؤي اصبح يتحسن بالرياضيات واحمد قوي خطه ونشط بالاملاء )..(انتم اعزاء ام لؤي وهي ابسط خدمة )..


طلسم اعجز المفسرين
عشرون عاما مضت .. في منتصف الليل حين ايقظها ... لقد مرعقدان على لون الجعفري .. في الغرفة الاقرب على بعد خطوات كانت امها تعزف الشخير المرتفع والسكون يفوح من كل شيء حتى عقارب الساعة .. وقد انخفضت الحرارة بعد يوم حر كافر .. الدموع بلغت الجفاف فقد قضمت الحرب اخاها واصبح النحيب وتخميش الخدود ذكرى ..اختفت قناني الطرشي المعلقة بالشبابيك, المعتق المصنوع بعناية وشهية .. لا احد يترجى السماء لانقاذ سالم او يعتب شاهقا لان الحرب التهمته .. وقد تفتت عروق المذياع... سنتان يصغون اليه لعله اسير فيحييهم..لم يعد باب احدى الغرف يطرق لوحده في اول الغروب فيذكرهم بروحه التى تطوف في ارجاء المنزل وقد تناست الام وصية جارتها (افحصيه لعل شامة او اثر جرح يدلك عليه ان عاد متفحما .. تاكدي حتى من اسنانه )..وكان حلم الفتاة بتكوين اسرة وفارس مهتم بالخصلات قد تحول الى طقس رتيب ..عمل مخ يتكرر ببلادة .. وقد سلمت الامال لمزاج القدر ..في تلك الليلة منتصف الليل تحركت اصابعه لنهد ناضج الاستدارة خمري فزع ..يحتويه جسد متكلس ..انها مشغولة بالاصغاء لدرس الاصابع الاول .. ولا علامة على ردة فعل ..الحلمة المتجمرة تستدير باصابعه يسارا ويمينا..يفرها بمهارة .. انها بليونة تينة لصيقة بالغصن.. متوهجة ,وعيون الفتاة متخشبة تصغي بلا ادراك للدرس الجسدي الاول .. تتهجى ولا تعي ..قال في نفسه, بعد نصف: (برود ..)..التكلس يزدحم والاصابع تزداد مهارة ..ولا شيء ينبض فيها .كان يخشى توقف الشخير وصحوة العجوز .وكانت طبقات الثلج تتراكم في الجسد الخمري .لا شيء الا عيون متخشبة.
هي وامها في اعمق لحظات النوم ... المطر يستعرض الغضب ..لم ينم .. اغلق باب الغرفة الاخرى واستقطبها في الخيال .. ربطها على الشباك حتى تعرق وتعالى لهاثه ..احس بوجع في الظهر وتورم في< هناك.>. ثم خمد جسده ... سحب مديته وحكمها بحذر في الصندوق الصغير المزخرف الابنوسي .. قلع عين الفيل الصغير ثم شق احشاءه وحرك الصندوق .. خبأ قطع المصوغات في جيب دشداشته وعدل شعر راسه المجعد ... ترك الباب مفتوحا ومضى يقاوم الوحول .
تذكر وهو يصب طاسة العرق الثانية في احشائه ان صانع المصوغات قد حدجه بنظرة المجرب واشترى منه بسعر زهيد.. كان طير قد نقش ذرقه على التجعد لحظة اهتزت سعفة برحي قرب ساقية ساكنة قبيل الغروب .على ضفة نهر تم كريه من سنتين فتحول الى شبه سلسلة جبلية من الطين المتيبس .
ــ قلت لك يا بنتي ان بن خالتك محمود مثل امه ,متفسخ ونذل .
ــ لم اتوقع ...<اهبطت راسها ..وقطر ندى لؤلؤي .. وندم خفي >
ــ كلما حذرتك تقولين <يتيم وخطية >
ــ الذهب خلاص .. والكلام لا ينفع يا امي .
بعد شهرين وقد نفذ كل درهم يملكون ,جمعت الام دفاتر الفتاة المدرسية القديمة وبعض الكتب وقصدت البائع ... لم تدرك بان اعظم رسائل العشاق ستلف بها الحلوى لقد كان العطر فيها ينحب بين السطور : (حبيبي والله لا اشتهي الزاد ولا اعرف النوم .....).
عاد محمود بعد شهر وسخا اشعث يرتدي سروالا نيليا وقميصا رصاصيا وقد ثبت الخنجر على الحزام تحت ملابسه.. منتصف الليل... فوضع قطرات من التيزاب على القفل فتفكك ودخل ..كانت وحدها ممدودة على البطن .. تامل الافخاذ الناصعة الراوية ولعق شفته باللسان واطبق عليها .. صرخت .. كان الضجيج يصادر الصرخات.. والمطر ينهمر كريات بيضاء.. تمكنت اخيرا من الوصول لمفك فطعنته على فروة الرأس فصرخ مضرجا وهرب كالبرق .. بسرعة خيط متوتر مقطوع ..
ــ امي انها فضيحة لو بلغنا الشرطة ...
ــ ربما يكررها
ــ اظنه سيموت لان المفك نزل عميقا وفي المطر لا يجد مسعفا ولا عجلة تقله ..نتركه لله ان ظل حيا ..
ــ؟؟
ــ لالا : فقط تمددعلى ظهري ولم يستطع .. جابهته بضراوة .
ــ المهم تعدت بسلام يا بنتي .. كنت اخشى ....
ــ لا لم يستطع
كانت ترد والدموع تنهمر والجبين يتغضن .. والام تمطرها بنظرات اشفاق ....
كان سالم قد نزل باجازة بملابسه المرقطة في سكون ومطر وفي زاوية غامضة تلقت بطنه خنجر محمود فتهاوى ... وكرر الطعنات العشر .. وانبت الخنجر في القلب باخر طعنة .. وبلا رفة جفن سحب سالم قرب الضفة وحفر له ودفنه.
بعد ولادة محمود بسنة انفصلت امه .. الخمرة والبحث عن صغار حلوين كان عالمه .. محله قد فتح من غرفة في الدار .. يقضي الليل بترويض الصغار في محله بين جلات التمر والقصب ومسجل مستطيل يصدح باغان هندية .. تحملته سميرة طويلا .. نبهته فصفعها وانبته فادماها .. حزمت صرة قماشها لمنزل امها الوحيدة الضريرة فاعادها سحا من الشعر ...حاملة محمود في سلة خوص فرشت ارضيتها بالقش ...لم تنفع معه الرموش المكحلة ولا صبغة الديرم على شفة بحجم زيتونة ولا قوة البياض على جسد مشدود ولا المشي بغنج شبه عارية ولا كلمات العشق التي حفظتها من اغاني الخشابة ولا الدموع .. كان حجريا معها .. سيالا كنهر مخضر صغير مع صغاره .كان يجثم على الظهور الغضة بقوة ثور حتى يتعالى صراخهم ..ويخرسهم بصفعات حجرية على القفا , مزمجرا .(ابن الكلب : ارفعها )..
في دكان التمر وفي ظهيرة تموز اوقف نبضها بمنشار ثلج ودفنها في مزبلة نائية .. عميقا في الارض .قبل سنتين من مشاجرة انهته بضربة قنينة زجاج مثلومة .
البيوت اسراب تتنقل في اللوريات .. الاحياء تقفر الا من اصر على البقاء تاركا المصير للقدر .. الفاو تحولت فارسية وتغربت الحناء وتهاوت بساتين النخل تحت نار الحديد وقسوة المجارف .. شمالا ينتقلون .. يتوزعون على المحافظات ..اسودت الانهاربالسمك بعدما هجر الصيادون والشباك ..القطط وحدها تجوب الازقة كان ذلك منذ عقدين ..حينما كتبت له نوار بخط قلق (تعال ..اشتقنا لك ) بعد ساعات وجد نفسه بين خطوط السكة الحديدية طاردا وحشة غمرته وهو يدنو من المحطة وطرق عليهم الباب عصرا . العجوز تشخر والفتاة تتخشب واصابعه تحاول فك الطلاسم المثلجة ..وفك اسر كرتها اليسرى بلون الثلج .. واحس بتعرق خفيف على التقوس اللؤلؤي .. ونزل باصابعه وبلغ الهملايا فانت ثلاث انات فصحبها لغرفة مظلمة وفقد صبره فتهاوت مزهرية اصحت العجوز
ــ اين انت .. نوار!!
ـ هنا ... اتيتك امي .
خلافا لما توقع وجدها في اليوم الاخر في انكسار غرقى في خجل .. وقالت له خفيضة العيون وباحساس فاجع : (لن نكررها ..لا استطيع ).
عشرون عاما مضت..لقد تناست محمود .. صغيرا يزورهم مجعدا صامتا يصنع الزوارق الصبية من بقايا الورق والدفاتر لم ينطق يوما ..ولم يرفع بصرا الى بشر ..دشداشة مخططة وقلب ضائع .. الخيال وحده ينسج عالمه ..
بعد طلاقها نسيت الخصلات الكثيفة .. الملابس تتكور مدفوعة من الخزنة الى الارض ..الجرذان تعبث لا تطاردها صفعة مكنسة ولا زرنيخ خفي في قطعة رغيف مدهنة ..تخيط وتاكل ..بدات تعاني الغثيان منهن كلما عزفن سمفونية (الله كريم .. ستفرج )..المطر يتقطر من السقف .. تذرف دمعا مختصرا وتقرأ الفاتحة على ام اجهزت عليها .. كلما اتى خطيب مناسب رفضته .. فقط تريدها معها تساندها في شيخوخة ترفض الخضوع لها..بذلت كل المحاولات معها لتقر بالمبادلة (افخاذ من اجل المال).. لم تنجح الام بهندسة الفتاة ..انها الان ادعية وماكنة خياطة ..شاهدة على سرية البيوت ..على صراع لا يتثلج لحظة ..انهن افخاذ ليلا وطبخ وصفع في الصباح ..ينسجن احلاما من خيوط العنكبوت ويصهرها فرن الواقع ..
استشار اشد الثعالب مكرا .. وخبراء الانفس..ارسل العينات لادق المختبرات .. لم ينجح ..الزمن يطوي السنوات وزهرة الجعفري عصية ..وكلما دنا ابتعد ..تمركزت في الذاكرة كوباء لا ينال منه الاستئصال ,او طلسم اعجز المفسرين وقراء الفنجان ..عشرون سنة وهو ينقب عن المفتاح في محيط من القش في ثورة العاصفة .
ــــ تعال فجرا قبل ان يندلع ضجيجهم .. سترى الباب مفتوحا ..اخبرته بذلك في السوق قرب بائعة ادوات الخياطة .. لم ينظر اليها ..فقط ابتسم محدقا باشرطة بلون زهرة الجعفري .. هو لون الحمالة نفسها قبل عشرين عاما , حين كان الشخير يتواصل وعيونها تتخشب لمهارة اصابعه .
ليس هو ...
بعد ان استقرت وسكنت عاصفة الخراب وتخبأت الغربان, نسيت او تناست وجوده .. وبدأت تنسى ملامحه حتى انها تساءلت يوما مخاطبة صغيرتها ياسمينة (هل كان لون عيني ابيك زرقاء ام سودا ..) .. فاجابتها وهي تعقد ضفيرة شقراء (انت تعلمين يا امي انني ما رايته وصوره بالاسود والابيض )..وحاولت ان تتذكر لون العينين فلم تستطع فقصدت الثلاجة وتناولت شيئا كطبعها كلما داهمها توتر او لحظة قلق وحيرة ..كانت ام نجوى تقول لها بعد ان شبت
ــ ستكونين كناقة شقراء بعيون زرقاء وشعر ذهبي غجري ..
واحيانا تحدق امها متفحصة التخصر وثقل الارداف التي تتزايد تكورا وامتلاء كل يوم والصدر الواثب .. وتنظر لصقرية العيون فتقول لنفسها (قريبا سيكثر الطارقون والمتملقون لاجلك يا بنتي )
ولان اباها يعمل بحارا فهو نادرا ما يتوفر في المنزل يعود كشخص زائر ويمضي مصارعا جنون الامواج..كان بن خالتها يكبرها بسنوات.. يرقب تطورها الجسدي وينقب فيه.. في المنجم الاثمن عن بعد .. وكانت له موهبة بتمييز رائحة الاجساد .. لكنها كلما ركضت وعبث شعرها ذيل الحصان يشم رائحة منها لا يعرف تصنيفها تغور عميقا في روحه وتختفي ..وان صادف وجودها مع عودتها من المدرسة : قميص ابيض ناصع وحذاء نفطي ومرح وتورد خدين وحقيبة ترميها على سجادة فارسية وخصلات مذهبة لم يتمكن التقافز على الرحلات الخشبية والصراع الودي في المدرسة ان يعكر نظامها .. ورائحة جسد خفية يصعب عليه تمييزها.. يشعر بالارتياح ورغبة باحتضانها ويداهمه احساس غامض هو ليس رغبة ولا حماسا لمهرجان الطفولة.. ولا شهية لاشياء وسخة ..حتى عادت ظهيرة يوم ساخن يحرق الجدران .. كان البيت خاليا الا من صوت طير اخضر في قفص وعزف رتيب لمروحة هندية بريشاتها الصدئة الثقيلة , وقالت له مبتسمة (اتعلم مهند .. اليوم قرانا قصة <الحلاق الثرثار ... جميلة جدا )..فاجابها (من الطف القصص )
ــ هههه <خطية .. لقد شج الحلاق رأس الزبون وهو يصف له معركة محددا المواقع الحربية بشفرة على راسه ).ونظر الى جسد يزحف للنضوج .. يستعد للاستقطاب مبكرا ويتهجى صنع الشباك ..فحملها بغتتة من خصرها ورفعها حتى تقابلت عيناه الخضراوان بزرقة عينيها .. كان اطول منها ,ثم انزلها وتقافزت في شيء من الحياء الاولي نحو الثلاجة وتناولت قطعة من الحلوى ..
ــ تاخرت امي
ــ ستعود قريبا
فانشدت (حتى ومن حمامة منقارها من ذهب ..) والتفتت اليه تخاطبه بانكليزية مبعثرة (كان يو آسوم ) فضحك ..كان لصوت نجوى بحة ودفؤ وتعثر بحرف الراء ..
كان ابو نجوى يوم خطبها نجارا ماهرا واعتاد ان ينحت سفنا صغيرة تحفا من الخشب كلما تاخر زبائنه او انجز لهم طلباتهم .. استاجر محلا من الصفيح في منطقة شعبية في ركن فرع قريب من السوق ..ولم يتبق من عائلته سوى امه في بيت صغير شيد من الطابوق ورثته من ابيها ..يتوسطه شجرة سدر مفتوح حوشه للفضاء .
كانت بعد الفقد والفاجعة تشتري العطور وتنسى مكانها والاقراط والاساور المذهبة فتجهل اين وضعتها .. وحين تخلت عن الثياب السوداء اقتنت اثوابا زهرية وقرمزية ومخضرة وقانية لكنها لم ترتديها .. وظلت تتزيا بثوب من النيل الخالص وحجاب اسود وعباءة وتذكرت وهي تفتح دولاب الملابس وتشيح عن الالوان ...تذكرت يوما مدرسيا انتعلت فيه حذاء بنيا يشد بشريط بيجي مزخرف .. كانت في الثالث المتوسط وتوقعت ان تحترق قلوب الطالبات وهن ينظرن جمال الربلتين .. تبدا عيونهن تتهاوى على الشريط واللمعة وشكله فلم تنتبه واحدة لذلك فاعتلت رحلة ومدت ساقيها متوازيين على رحلة خشبية اخرى ,مبتسمة وقالت (انظرن حذائي ) عندها شمت رائحة الحسد ولمست لهفتهن وقرات بعض القلوب التي مر فيها الجمر .الان لا تستقطبها الالوان المشعة من دولاب تكدست فيه الثياب المصنوعة في دول عدة ولا علب المصوغات ولا رفوف قوارير العطر ..انها بحاجة لجملة او كلمة تعيد لها مطر الحماس .
وفيما شطفت بياض الوجه وقابلتها زرقة عينين ضجرتين تذكرت بن خالتها مهند .. بعد يومين من نجاحها من الصف الخامس طرق في الساعة الحادية عشرة ودخل مبتسما ..(اهلا مهند .. نجحت ..) قالتها بوجه متورد مطرزة بسمة صافية على فم صغير كحبة كرم حمراء ..(مبروك نجوى ) .. قال لها وهو يحترق لهفة وقد غرز فكرة جريئة في ذهنه ... وجلست على الكرسي قربه ماسكة بيديها فيلا من العاج .. ونظر لذهب لامع في ذيل الحصان ..وغنى لها وهو يداعب الشعر : ( وركبنا ع الحصان .. نتفسح سوى .. اوعدته بالحنان .. اوعدني بالهوى ).. صوته جميل واتقن الاداء الا انه رقص النغمة قليلا ..فرقصت كتفها الايمن لحظة وهي تبتسم.. فتناولها من خصرها ووضعها في حجره مداعبا الخصلات .. فاحست بشيء يتحرك تحتها .. فسالت باسمة مشيرة باصبعها : (ما هذا ؟ )
ــ سمكة بحيرة حين يمسها الدفيء تتحرك وتنتفخ ..
ــ السمكة لها زعانف .. والوان
ـــ هل تحبين رؤيتها .. وابعدها عن حجره .. فمضت لحبل واخذت تتقافز والحبل يجري من تحت قدميها ليتهاوى اليهما من فوق راسها .. نجوى زاخرة بالمرح .
عمل ولداها : موسى صباغا في باخرة .. وسليم نجارا في ورشة في الميناء .. ينحت الزوارق كابيه .. لكنها زوارق حقيقية متقنة الصنع ..كانت امهما نجوى لا تتبرم امامهما تفرغ دموعها في غرفة منزوية .. وتغسل الوجه بماء وتظهر.. وهي ابدا ترسم لوحة طيبة للاب .. واحيانا تحدثهم عن ابيها, جدهم <ابو نجوى >بهذا كان يكنيه الناس .. وتخبرهم بانه تمكن من اقتناء كيس ذهب ايام الفرهود .. فقد مر باحد الازقة ورأى رجلين يقتتلان .. حتى ازهق احدهما الاخر .. الاول طعن خصمه بخنجر معقوف والاخر افرغ في صدره اطلاقات مسدس .. وتساقطا يئنان مضرجين فاقتنى كيس الذهب ومضى .. وتحدثهم عن امها مخزن الامثال ..كانت تستغرق ساعة في تمشيط الشعر ووضع الديرم حتى يبرق شهيا على رقة الشفتين وتتباهى بلا غرور بغمازة وشامة على الخد الرمان .. كانت تقول لها (نجوى الخيانة للمراة بيع للشرف بسعر التراب .. لا تدخلي البيوت ولا تفضحي سرا منك فيأسرك الاخرون به ويستعبدونك , هؤلاء الناس بريق معدنهم جذاب وحين يدلك تظهر حقيقته .. الدرهم الابيض لليوم الاسود ..نفذي رغبات الزوج الواضحة والخبيئة .. واهتمي بجمالك فالرجال سرعان ما يصيبهم الملل حتى من اجمل النساء فيجنحون .. الضغط المكبوس بقوة على الفتاة يدفعها لابتكار طرق للخراب .. تربية الانثى هي الاصعب ..).
احست بفاجعة الوحدة فقد زفت بنتها لضابط برتبة نقيب في الجيش ومضت لبيت بعيد عنها ..ولم تكن الحياكة والخياطة وعمل ليفات الحمام من الخيوط المغزولة تكفي لاشغالها وطالت عليها الليالي ..رآها جارها قبيل العصر بعد ان بدات الشمس تتحرك فيها شعرة من انسانية مختصرة وخيط من الرحمة ..وخف جمر مصهورها .. مرت على باب منزله وقد دب التقوس في ظهرها فخاطبها
ــ اين ؟ الجمر قائم في السماء ..
فاجابت مبتسمة على مرارة :( والله ولداي اغلقا بابي غرفتيهما .. كل مشغول بزوجته .. قلت ازور ام ابراهيم .. ماذا اعمل غير هذا .. اضوج وحدي .) .
في الليالي المطيرة تتذكر مهند .. لقد حاول وكرر وابتكر حتى قرات اللعبة .. واعجزته بالصد دون ان تجرحه .. كانت ودودة معه لكنها ابتكرت جدرانا حصينة حتى تزوج من امراة فارسية .
في الاربعين وقد استنفذت كل وسائلها لمقاومة الوحشة وفلت اخر خيط من المقاومة واختلطت في ذاكرتها الازمات وتشابهت مذاقات الزاد واصبحت الايام صورة مستنسخة ..فجاة بعد زرقة السماء الساكنة .. اغبرت الاشياء وهبت عواصف ترابية وامتلات الافاق بالدخان .. كان حريقا كونيا قد نشب فاحست برعدة ودلفت غرفتها .. ورات البروق تنسج لوحات خاطفة في الافق كانت ترقبها خلل الزجاج .. وهبت موجة من البرد ارعشت اطرافها والاصابع ودوى رعب فاتك في كيانها ,, احست بانها ارملة منسية خائفة معزولة ... وسمعت ضحكات تتدفق من غرفتي ولديها وحياة ممتعة تجري هناك ... فتعمق فيها الاحساس بالغربة .. وظهرت لتلم ملابس الغسيل وتغطي بعض الاشياء ونظرت لتتأكد بان المزاريب تصب .. وعادت لتطمئن على غلق عتلة قنينة الغاز..كان شعرها يقطر فقابلت المرآة واخذت تجففه بمنشفة مخططة بلون الفستق وافزعها ذبول في الزرقة وبكت لبيض الخصلات .. لقد تخلى الذهب عن سحره وخان .. وشغلت التلفاز الصغير وجلست متربعة تتابع فلما عربيا .. ثم نهضت وصاحت بابنها (موسى ابني هل تحتاجون شيء ) فاجاب <لا.. امي >, فيما علقت زوجته (كم تحب الفضول ) فاطرق .. لقد نادت من خوفها وطردا لوحدة سفاكة مريرة او ربما لتشعر بانها حية ..فجأة تذكرت مهند واشفقت عليه وتذكرت كيف كانت تشعله وهي تصده بمودة ... لقد تعودت ان تحكي لاول شخص تقابله : طفلا , مراهقة , شابا , عجوزا , امراة , او كلبا . او قطة سائبة ..
في العطلة وكانت في الصف الاول المتوسط .. ظهرت انوثتها بوضوح وبرز الورد من كل مكان ..وسمعت امها تقول ( خالة مهند .. قد اتاخر.. درسها فهي ضعيفة بالرياضيات .. ساعود بعد ساعة )..وغادرت .. كان ذلك في التاسعة من ضحى يوم السبت ..كانت تمسك بالكتاب وهي مرحة .. تتعثر بفهم المعادلات وتضحك كلما ذكر <سين تربيع > وتعلق (اربعة ربعوني في البحر انزلوني ) .. تهزج وسماء عينيها تبرق في مرح طفولي ..وكان صدرها يسبق عمرها ..وحاول .. لكنها الان تنظر بصفاء للامر .. فتركت الكتاب واخبرته بان صداعا فاجأها وستمضي للنوم ..
<ليس هو > .. قالت نجوى وقد اجتمع جمع غفير ..وكررت لنسوة نادبات صارخات <ليس هو > وقد احمرت عيناها من الدمع ..وكان اخوته واقرباؤه قد فتشوا جميع المستشفيات حتى تعرفوا عليه وقد اخترقت رصاصة قناص موضع القلب ..
وحين دفنوه وعادوا من النجف سالتهم: كم شامة على صدره ؟ فاجابوها لم نر واحدة .. فقالت وهي تمزق الخدود <ليس هو >..< ان ثلاثة شامات على صدره جهة القلب واضحة .>.لم تزر قبره يوما وبعدما يئست من عودته حيا بعد سنوات .. ترسخت في ذهنها اسطورة انه ربما قتل واكلته الذئاب .. لكن من في قبره ليس هو ..
قالت لابنها سليم (سابات في بيت مهند ..ابنته مريضة .. ولا واحدة من خالاتها تراعيها )
مضى عامان على وفاة زوجته بحادث دهس .. كانت تسمع بمعاناته وتحس بوحدته .. كان قلبها ينزف له ..وتلاطمت ذكرياتها عنه وارسلت اليه ذات يوم قميصين فاخرين .. وفي مرة سمكتين بنيتين.. واثناء تطوافها بالاسواق رات محبسا بفص عقيق فاشترته لاجله ..
وطرقت الباب وهرعت فتاة بعد ان قبلتها صائحة (اتت خالة نجوى >..
لم يكن مرض الفتاة الا ذريعة خلقتها ..كان مهند في الغرفة الاخرى يحشد الذكريات ويقشر منه السنين ويرش العطر على الفراش .. وعاوده الحماس الاولي يوم كانت نجوى تسخر من المعادلات .. وتذكر يوم نزلت هاربة من انتفاضة السمكة وامسكت الحبل.. ازاح من ذاكرته الاشرطة الفائضة ..وقبيل منتصف الليل خطا للغرفة الاخرى وسعل فانتبهت فاشار اليها فقالت متبسمة .. مشيرة لاخر اليقظين (يحتاج ربع ساعة ليغزوه النوم )..
وتورد خداها..ومدت يديها كجناحين وفي عينيها رغبة متفجرة ..

عمائم التوبة
تعبت من الرجال ..استعمروها من زمن المراهقة..تعبت من اصباغ الزينة من القهقهات والابتسامات التي ترتسم كانها ملصوقة بدنبوس..تافهون ومشردون .. جائعون ومرضى .. فاشلون في الزواج .. لم تبق مساحة في جسدها الخمري الا بقعت .. كمدات لا تحصى .. اثار صفع وقرص وعض واعقاب سجائر .. تصلبت ركبتاها وهم يعتلون ..اعتادت على مزبلة روحها التي تتضخم كل يوم واعتادت الروائح النتنة ..تمنت ان تملك كامرات لتسجيل افلاما لهم لتهزم سخريتهم المبطنة (من انتم ايها الساخرون ..شوارب تسجدعلى اقدامي ووجوه ادوسوها بنعلي في ليالي شهواتكم .. ياتون مثقلين بالتذلل لارضائي ..يخضعون لاغرب نزواتي ..اضع اصبعي في دبر بعضهم ونعالي بفم البعض فيلعقه متلذذا او مكرها ..احولهم الى مسخرة اشد حزامي واركعهم ثم ادفع بعملاق صناعي وانا اكفخ قفاهم .. البعض ختمت مؤخراتهم بختم العبودية .. تبختروا امام زوجاتكم كما تشتهون لانكم اجبن من ان تديروا مؤخراتكم لهن ..ومن انتم ايتها المحصنات طالما اتيتكن بقوة الخدعة حتى ادمنتن الخيانة .. اراقب من ثقب غرفتي منتشية وانتن تحت الافخاذ النتنة تخض اجسادكن الاكف الصلبة القاسية .. طالما بين ركبتي تركتكن تتفجرن خنوعا وذلة ).قبل اشهر من اول حيض وكان نهداي يستعدان للتفجر .. اخبرتني امي وهي تمشط الشعر الكثيف المزعج , الصعب الترويض .. اخبرتني بان امهر البنات هي من تخضع الرجال لان جسد الفتاة كنزها وسلعة لا تبور وقالت (خلقت المرأة للاحضان )..وهي من اتت بصديق تاجر لها ليفض بكارتي في الثانية عشرة من عمري .. فغادرتي طفولتي مبكرا وقد سبقها نضوج جسدي المبكر ..فما عدت احتمل ليلة بلا عصرات رجل ..لا يسكن جمري حتى افيض فاسترخي وانام سعيدة ..لم يكن يشغلني الا تنور بين فخذي ..اتذكر حين كنت في السابعة كنت العق بشهية كاني اتذوق معسلات مثلجة .. لم تكن وصايا امي وراء جنوحي انه بركان الجسد..الان ادركني الملل والشعور بلا جدوى الاوساخ .. التوبة حل ..ليس آذان الفجر ولا الايات البينات ولا الملالي وهم يصبون الفضيلة انه الاحساس بتفاهة المجرى .. اصبحت اشم نتانة تفاهتي ومستنقعي ..لقد تحولت بمرور الايام الى بالوعة .. قمامة تتغذى وتسعى وتنام .. لم اعد انتظر مسرة ولا حلم ولا اطمئن لصداقة ولا وعد .. تهرأت الاقنعة عن كل شيء .. التوبة حل ..رحمة الله التي وسعت كل شيء ستنشلني .. ستغمرني بنعيم روحي .. ساتخلص من كل اثوابي المتسخة .. تعبت من التصنع .. من تهدئة انين التجار وشكواهم وتبرم المعوزين وحفيفهم على صدري ..من تساقط الرتب العسكرية على صرتي من اصحاب الاستغفار وهم يمزقون دينهم على خصري من المربين وهم يعبدون اردافي ليلا ويمسكون بالمساطر للراحات الرقيقة صبحا قبل ان يدق الجرس .. من المتبخترين المتعالين يتحولون قردة على بظري ..من كلمات وهم الحب المتكلسة .. آآآآآه تعبت من كل شيء ..خمسة وعشرون قتلوا وقتي واشبعوني بالاحلام .. ومضوا ليتزوجوا فتيات لا يعرفونهن .. بواكر لم تمسهم شمس ولم يشاهدن ما خلف ابوابهم ..وعود الرجال كذبة كبيرة والوفاء كلمة ليل يمحوها النهار ..السفلة يفعلون المستحيل ويبلغون الاذلال حتى اذا قطفوا حبات الرمان من نهدي مضوا ساخرين يبثون انتصاراتهم على طيبتي في مقاهي البطالة وتجمعات التافهين .. من انا سوى دراجة هوائية وبغلة ليعبروا بها انفجار شهواتهم ..فاشلة : اقبل بهذا اللقب شرط ان تجدوا القابا لسقوطكم في غرفتي النتة .. من انتم ؟)
كانت تغلي شجبا لحياة بلا صفة وتخيلت روحها تلا من المزابل تجمعت في روح ..جفت الخضرة في عيونها الخضراء انها الان في الاربعين .. توقف تكسي في احد شوارع اصفهان وصعدت .. في الطريق رأى السائق شيخا معتما بعمامة بيضاء على الرصيف فقال لها (هل ننقله معنا فالشمس حارقة ..خطية وهو يظهر بعمر السبعين ).. اجابته (لا تقف .. لو املك نعلا صلبا لاشبعت به رأسه ).. فغر السائق فمه وصاح بصوت يشبه صرخة
ــــ (لماذا؟ )
ــ ساحدثك
قيل لي يوما بان هناك شيخا فاضلا وقد قررت التوبة على يديه .. رايت جبهته كويت من اثر السجود ويتكلم بهدوء .. يتوقف بين جملة واخرى ولا ينظر نحوي ..عيناه تتسمران في البساط الفارسي المطرز بورد الجلنار وقد وضع طاقية بيضاء على راسه واستطالت لحيته .. كان بيتا بسيطا وقد رايت كتاب الله بحجم كبير على سجادة صلاة .. ومسبحة سوداء وكتيبات مصفوفة على بعض قرأت العنوان الاعلى (طريق النجاة )..وكان شرشف ابيض يتدلى طرفه الى الارض من سرير صغير ..البخور يشع ..
ــ الله غفار الذنوب يا اختي بارك الله فيك
كنت ابكي وانا اشرح له آثامي وامسح بعباءتي المسودة الدموع ..
ــ (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )..( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ)( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ )(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)..كان يقرأ تلك الايات ولاول مرة كانت تمس روحي واهتز لها
ــ ونعم بالله
هكذا بدات توتبتي .. فقال لي تعالي كل يوم عصرا لاعلمك اصول دينك والتعاليم ولتحفظي السور القصار ..لتستقر روحك وتكوني على بينة وهدى عظيم .
في اليوم السادس قال لي (انت وحيدة وان امراة بلا زواج لا يصح لان الشيطان يغوي .. فهل تتزوجيني بالمتعة ) .. ورضيت بالامر فقال (تعالي غدا بعد الظهر لنتزوج )..
جئت عروسا اتقنت التبرج ومهارة الفراش وبعد ان جرى بيننا(صيغة زواج المتعة) قال لم ار بمثل جمالك واتى لي بعصير مثلج .. ورايته قد حسن مظهره وتعطر ولاول مرة ارى جرأة عينين واسعتين ويدين حسبتهما من قبل ذابلتين ومحابس من عقيق ..الساعة الثانية بعد الظهر .. الجو ربيعي والغرفة معطرة ... ولم تستغرق المداعبة الا بضع دقائق ثم بدأ بصعقي .. كنت احسني في زلزال فتحملت كرها وقلت في نفسي (علي ان اصمد )... ورغم اني اكثر من رأت احجام والوان واشكال الاسلحة الفراشية لكني اصبت بالفزع منه ..مضت ساعة وهو فوقي .. شعرت بان احجارا تمزق الكلى .. وتورم جسدي .. كنت استغيث فلا يبالي واصرخ فيزداد عنفا .. كان قد وضع قربه طاسة ثلج يمرر فيها سلاحه كلما هم ان.. ويعود يصهرني ويطلق صرخات وحوشية وصفعات تهدم عافيتي ...ومع الغروب شعرت بانهيار كنت اترجاه فلا يتوقف .. خلعت اكتافي وتكسرت اضلعي وادمى الركبتين .. ثم تركني لحظات وقال (قومي ) .. واسندني بقبضته واوقفني ومشى بي الى باب مغلق ودفعه ونزلنا مدرجات.. اذا غرفة مختصرة تحت الارض باضاءة باهتة وسلمني ليد رجل شبه معتوه جسده عضلي عيناه مرعبتان ولا ينطق ربما اخرس ..لحيته تتعدى صرته ولقوة النتانة توقعته من اشهر لم يغتسل .. كانه مقاتل جبال افغاني وربما هو كذلك ..فاسندني هذا حتى خر جسدي على سرير قذر ..لم استطع النطق او التفكير لكنه ربط يدي على السرير باحكام بسلك كهرباء عتيق..وزمجر كنت ممدودة على بطني واتى بسكين وقص بها النفنوف كمن ينحر من القفا حتى شقه نصفين ..ثم وضع كتلة حجر مرتفعة غير منتظمة تحت بطني وافترس ..كنت منهكة لم استطع الصراخ ولا الحركة ..بعد ساعة فقدت الوعي .
كنت وحيدة تماما حين صحوت فجرا كان السكون عميقا ..لم ار ضوء الشمس لكني من صياح ديكة علمت بفجري ..لاول مرة احس بمثل هذا الشلل .. وهاج الالم من كل خلية في جسدي ..فتذكرت امي ولا ادري لو التقيتها هل اشبعها شتما ام ابكي على صدرها .. ورفعت رأسي الى السقف الى الافق (ربي اتيتك طائعة )... وسمعت صوتا متخيلا يناجيني (تكفير عن ذنب وثمن لنجاة ) فقرات (اعوذ برب الناس .. من شر الوسواس الخناس ) واغرقت الوسادة بدموع حمر حتى التهب جفناي ..
لم يكن احد في المنزل سوى قطة سوداء تموء بوجهي فغادرت كمن احرقت بكل جزء .. كنت امشي مترنحة ..وبعد ايام حين سالت لاقودهم للشرطة قيل لي (انهم استاجروا المنزل واخبرونا انهم مغادرون ).
فتاة السويداء
(فضاؤك البيت فقط يا مها )..هكذا قالت لها امها بعد اسبوع من اجتيازها الصف التاسع .. وزوجوها لمهندس معماري بعمر السابعة عشر , قبل عقد من نشر داعش حواجز عسكرية قرب قرية الأصفر الواقعة شمال شرق السويداء على بعد 65 كم منها ، والتي لجأ إليها آلاف النازحيين السوريين من درعا والقنيطرة ودمشق وغيرها بسبب العمليات العسكرية في مناطقهم.
شاهدتهم يضعون الناس في اقفاص ويزهقونهم غرقا او يحرقونهم احياء ..راقبتهم وهم يقربون السكين من النحر ويطلبون الخيار : الموت ذبحا او بطلقة .. ورأت سبي النساء يعود ونهب الاثار وتحطيم الصلبان ونسف المراقد ولاحظت اعداءهم الاخرين ايضا تحت السياط والعصي يطلب منهم تقبيل اقدام الرئيس طلبا للصفح والمغفرة ..الجميع يتوحشون ..
لكنها حبست مبكرا فلم تستمتع بقمم السلاسل الجبلية البركانية الخامدة ولا بغابات العنب والزيتون واللوز ولا بالا ثار الرومانية او المناطق ألاثرية صامدة من العصور القديمة او العصر الحجري..ولا تعرف عن تاريخ اجدادها الدروز الذين هزموا الفرنسيين والعثمانيين .. ولا عن اسرار عقيدتها الا حكايا مختزلة ..كانت المسافة بين طفولتها ونضجها لحظات .. هي لا تعرف كيف تحولت امرأة .. وربما لم تتحول ..دخل عليها زوجها لحظة الزفاف ولم يترك لها زمنا لتسترد انفاسها .. لقد التهمها مرتين وافترسها ثلاث مرات خلال خمس ساعات .. فلما اسيقظت بعد الظهر شعرت بانها لا تنتسب لذاتها .. وانها لابد قد قطعت عشرات الفيافي والوديان ومرت بمعارك رماح بلا عدد, وتخلصت من هجوم كلاب ورعب ذئاب ..وان كل جزء من جسدها الغض قد تخلى عن الجزء الاخر في مؤامرة غادرة ..
منذ تلك اللحظة وهي تنوء باحساس جنائزي ,واخذت حكايا الموت تستقطبها وتغذي خيالها...ولانها قبرت في المنزل .. تلاشى عنها مجرى الحياة خارج الجدران .. فاستبدلته بعالم الدمى والقطط والطيور ..ان اتاهم ضيوف او اصدقاء اوت للحبس في غرفتها حتى انها نسيت عادة الكلام ..لقد منحت اجازات من رعبها من فراش الليل بعد ستة اشهر من زواجها ..فقد سافر زوجها ليعمل في دبي .. يعود مرتين في السنة .. ولا يعاودها الرعب الا مع اقتراب عودته فتحشر ما تبقى لها من حماس عابر في التابوت ..وتستعد لافتراسه المميت ..
حلمت مرة بعشرات التوابيت السود يتكدس بعضها على بعض جوار جرف ساقية نتنة قريبا من جسر خشبي .. كانت بعض ايادي وارجل الجثامين متخشبة بارزة منها ,صحت وهي تلهث محشورة بالفزع غرقى بالعرق ..قصدت المرآة ..قابلتها عينان فيروزيتان وحمرة تتشرب في بشرة نقية البياض..وانتفضت بوجهها كرتان مثل مخروطين من ثلج فألقت عليهما الاصابع : (اهو كنز لا يقهر ولا يقاوم كما يقولون .. هاتان الطينتان المكورتان الثقيلتان ... تنغرز عيونهم فيها بلا رحمة حتى يغسلني العرق واصاب بالدوار.. كم تمنيت ابترهما ! ) ونظرت للون القرمزي الشفاف ينصب حتى خصرها ووشم ولادي اعلى زندها مشكلا جوزة هند بزغب اشهب ...وقالت (المغفرة والاطمئنان يا رب ).. ومضت للماء ترشه على حمرة الوجنتين .. وعادت بفنجان قهوة ...واستقرت محاولة بتمشيط الدمى واكسائها ان تزيل صورة التوابيت وتحاول نسيان الكتابة عليها ...نادتها ام زوجها
ــ مها
ركضت اليها واجلستها على مقعد من الستيل , ذي اربعة ارجل, حفرت دائرة في وسطه ودفعتها الى الحمام ...
وقادها ضجرها وقوة البرد الى ان تمضي لصندوق حديدي مزخرف ,وفكت قفله .. ونظرت حائرة
ــ (ما كنت اريد ؟)
تناولت كتاب قصص ودفترا من زمن الدراسة وعادت لقهوتها ..تصفحت الدفتر وانقبض صدرها , احست برغبة بالتقيء ...لكنها قاومت كل شيء وقرأت رموزا في اخر سطور لا يتهجاها سواها ..رأت رسما لأرجوحة متعرجة وصورة طفلة مجردة بلا عينين ولا ملامح لصقت بالحبل , دائرة بلون الموز الصقت بها خطوطا بقلم رصاص وماجك تمثل الساقين واليدين .. وتذكرت :
(انه زمن الصف الثامن .. حين بدأ بن عمتها ادهم يقص لها حكايا الاشباح والمغامرين .. يكبرها بعشرة اعوام .. كانت تستمتع معه ..تتخيل جرأة الرجال شبه العراة المفتولين.. بعضلاتهم النابضة .. وهم يهاجمون النمور في الغابات المطيرة .. او يعتلون اشجار الجوز بمهارة القردة ..وفيما كان يطلعها على صورهم في الغابات من كراس ملون .. اصبح خلف ظهرها وهو يشير ثم بدأ جسده يحتك بجلدها .. بعدها امتدت يدان الى الكرتين وضغطتا برفق ..فتقدمت عنه ..). و حين غادر رسمت دائرة الموز ..
شعرت بامتعاض .. وغامت روحها ...وتذكرت حكاية اخرى : جثة على طبلة تشريح .. يذوب عنها الثلج .. فجأة يدخل عامل .. يراها.. فيجري راكضا , فزعا ,والناس خلفه .. توقعوه فارا من ردهة الامراض العقلية .. ببجامة بازة برتقالية مخططة وشعر اشعث حسير وسمرة جسد وطول مع نحول .. كان يجري مشمرا ذراعيه يعتلي السلالم ... رآه الطبيب فاستوقفه :((انها جثة تخلى عنها الثلج.. ما بك اجريت الناس خلفك ؟! )).. قالها الطبيب وهو يبتسم .وتخيلت خمسين جثة على ساحل مغطاة بالثلج , تنهض واحدة تلو الاخرى بنسق يتقدم نحوها فجفلت حتى نادتها ام زوجها : <مهااا> فهرعت اليها .
في اقاصي الليل تسمع الانفجارات من بعيد ... تكبر الاشاعات <انهم يقتربون >...تتخيل نفسها وقد بتروها من قبضة العائلة وضموها لصبايا اسيرات لتشهد ملحمة السبي مقيدة بالحبال وتجري, متعثرة , تحت جمر السياط .. تتخيل فاجعة الاغتصاب ..<هل اتمكن ان لا استسلم > تحدث نفسها في اعلى مراحل الرعب ..<ساقاوم >.. <كيف سيستقبل نحري السكين ..>..تشعر بالبرد ترتعش تتهاوى على الفراش ..تضم اليها دمية طويلة الشعر شقراء .يمر في اعلى الغرفة تابوت كتب عليه بخط عريض (مها ) ..تفزع تضم وجهها بالوسادة .
سيعود زوجها بعد شهر .. تحن اليه تتمناه يقشر خوفها , يضمها , وفجأة تتذكر الافتراس في الفراش فتزداد هلعا .. وتنبض شرايين جبهتها .. تداهمها الحمى والتعرق والخواء ..
ايمكن للمنزل ان يكون محمية عن الجمال الفاتك ؟..والخوف عليها بسبب اسطورة الجمال الذي ابتليت به ..ان يكون مبررا للأسر بين جدران بيت يختنق ؟..هل تكون الدمى والطيور بديلا .. وانتظار زوج يمر ضيفا كل ستة اشهر عزاء؟؟..وان احتملت كل ذلك فكيف تحتمي من خوفها وسبيها المحتمل .. < انهم يقتربون >..
عبر الاثير .. تعرفت على نديم .. انه درزي من جبال لبنان.. يدرس الان علم النفس .. واستغرب من حالتها ... حين رأى انثى ممدودة ,ثلث جسمها حجبته الخصلات .. تغري جيشا من الزهاد بذلك الوضع السفاح .. شبه عارية ..اخبرته بفزعها من ليالي زوجها وانه بعد شهرين سيصل , وستندلع حرب الافتراس .. سيتركها بلا ارتواء .. كلما حاولت ان تتضرى معه , تذكرت ليلة العرس وانغلقت رغباتها واستبدلت بالخوف ..
سالها عن اصعب مشهد عاشته مع ادهم فاجابت : (دخل بغتتة وسحبني لحضنه , كنت في الثالثة عشرة ..واجلسني هناك .. وشعرت بان شيئا تحتي يكاد يرفعني ... فهربت صارخة )..
ــ انهم قربي فلا استطيع الارسال .
ــ اذهبي لغرفتك .
ــ لنا مدفأة واحدة توحد العائلة كلها .. غرفتي ثلج ..
ــ ......
ــ ان وصول زوجي قريب وانت خانك المفتاح وعجزت عن حل ازمتي ..لقد وعدتني ..
ــ قال ابي تعالي معنا حتى يصل زوجك فيوفر لك مدفأة .. انا الان في بيت اهلي ..
في احدى الليالي ارسلت اليه راغبة بالدفيء, كتبت :
ــ انا قرب زوجي ولو شعر سيذبحني .
وتمكنت لاول مرة ان تتفهم النشوة.. لم تشعر خلالها بالرعب .. ولم تمر بخاطرها الجثامين ..
في اليوم الثاني اغلق حسابها ولم تظهر علامة تشير اليها ..
بحث عنها نديم في مشاهد سبي الفتيات الصغيرات تسوطهن القذارة .. في احياء نسفت , في سجل العوائل التي انقرضت ..في تلال الحجر الذي افترشته جثامين الاطفال .. في الرحلات المدرسية المتخشبة .. تحت ركام الجسور المتهاوية .. في رماد الازقة .. في لقى المتاحف التي ابتلعها البحر .. في السماء الدهان .. في الاطراف التي انتشرت بديلا لأزهار القرنفل ..في الاف التوابيت ..في الاسماء المشابهة .. في البساتين المجرفة .... في الاثار المنسوفة .....لكنه لم يعثر لها على اثر ..
في عاصفة الخراب .. حين تعوّل السماء بمصهور الحديد ملفعا بغابة من الرماد عبثا يبحث الانسان عن الانسان .. لقد مسخ الجمال ..وضاع .
التوابيت والفزع وحدهما يتصدران .


(الاستخفاف بالمصهرة )
لقد تمكن رجل نحيل لا يزيد وزنه على سبعة وخمسين كيلو ان يركع اقوى جهة امنية .. ويفرض عليها شروطه .. انه شعلان البصري المتمرس بضرب القامات وتعزيل الاسواق ان اشتبك مع احد.
انهم يضعون الرجل في تابوت ويسمرونه ثم ينجرونه من الوسط ويقسمونه قسمين ..وياتي مديرهم ضحى لغرفة ثلاثة بثلاثة امتار تختنق بالمئات ويطلق عليهم كل ضحى طلقة قاتلة ويمضي ضاحكا ..انهم يضعون مجساتهم وعيونهم بين الزوج وزوجته ..في جزيئات الماء وبين طابوق الحائط وفجواتها ..سخروا الطيور والعاهرات وبائعي الحلوى المتجولين ..تزيوا بالعمائم وتوغلوا بين السطور حتى تمكنوا من اتقان شبكة لا مرئية تحيط بالجميع تتصل ببرج مراقبة لا يصاب بسنة ولا نوم .انها آلة الرعب التي تسند الكروش المتعملقة .
في ممر طويل تتقابل الزنزانات الانفرادية ..هي لا تشبه تلك التي سيراها ويحتجزونه فيها بعد خمسة عشر عاما ..ثلاث مرات في اليوم يرفع غطاء حديدي عن فتحة قدر كفين ويدفع منها ماعون من البلاستيك..فتحل وحشة وعزلة عميقة وصمت وضوء باهت ...ويظهر العالم بعيدا بعيدا جدا الا من مشاهد تترشح من ذاكرة مضببة .. هنا واجهات لزنزانات من قضبان حديدية متوازية بقياس ثلاثة بثلاثة امتار وقال صديقه لا يمكن الوصول اليه حيث يجلس سجانان في بوابة الزنزانات .. وقامر .. فخطا خطى عسكرية رافعا راسه وتخطاهما ومر .. ورآه ..رفع يده يحييه فاجابه باشارة من يده ان ارجع.. كان وجها متعبا وربما لمح اثار كدمات .. كان يمسك بمدية صغيرة من تلك التي تستخدم لتقطيع المخضرات .. وفمه خيط بخيط قطني .
ــ صاحبك اضرب عن الطعام وعلق قطعة من الورق المقوى الابيض كتب عليها (اما النقل الى سجن البصرة او الموت ).. وقد خاط شفتيه بالابرة وبخيط ابريسم .
ولما قصد مكانه اكدوا الحدث وقالوا من خمسة ايام بدأ اضرابه وفي الصباح اعلن عنه بصمت ولافتة.
في الساعة التاسعة من صباح السبت نزل من المدرجات خمسة من الحرس وامروا من كانوا يجلسون جهة اليسار ان يتحولوا ورفعوا الافرشة الموبوءة بالقمل.. ووجدوا علبا صغيرة وصعدوا .. بعد لحظات هبطوا واشاروا لكبير القوم ان يمضي معهم ..كان ابو خالد ضخم الجثة مترعا بالعافية لطيف النظرات.. كان يتزعم التيار الناصري .. ومعه تسعة من رفاقه ..عاد واجما بعد تحقيق مختصر .. كان الشيخ قد نقل منذ ظهر امس .. قال ابو خالد :
ـــ سالني الضابط < من تتوقع قد وشي بكم وكشف عن علب المخدرات ..قلت :<لا اعلم >... فسألني : من اخر من صعد هنا .. اجبته <الشيخ >...كانت زوجته تسلم الشرطي النحيل الاسمر القصير تلك العلب ... وبعد ساعات وضعوه في زنزانة اخرى .. فلم يتحمل وظل يصرخ كالمجنون لمدة ثلاثة ايام يصرخ ويقلع شعر رأسه الخفيف وهو في بزته العسكرية.
وهمسوا (ابو احمد ينهار وسنستدعيه لنرفع من معنوياته وروحه النضالية )
وتحلقوا حول رجل ضخم الجثة قصير بلون حنطي وعينين واسعتين وبكرشه المتضخم وصلعته وهو في لباس ابيض مسمر قصير وفانيلة بيضاء اصيبت بسواد مبقع
وبادر ابو خالد (حيااك ابو احمد انت رجل شهم وصلب ونحن نعتز بك وباخلاصك للمباديء التي رسخها الاخ جمال عبد الناصر ..) كان يصغي مطرقا وتوتر الاصابع يزداد .. وظهرت قطرات عرق على جبينه ونبضت عروقها (وانت يا ابو احمد تدري بان القضية الفلسطينية ..) فرفع له عينين تجدحان جاحظتين كانه اصيب بعمود حديد على رأسه وقاطع : <والله انعل ابوكم والقضية الفلسطينية .. حطمت عائلتي ويتمتم اطفالي .. وهجمتم بيتي) ونهض يغلي وغادرهم لزاوية اخرى ..
ولان الملابس الداخلية قد تهرأت بسبب جحيم الغرفة .. كانوا يخيطونها بتثقيبها بمسمار ثم يمررون خيطا يستلونه من الفراش ...وحين غضب منهم ناجي المتهم بقذف السلطة وكان عمره واحدا وعشرين سنة بحث في جدران الزنزانة عن مسمار ووجده مغروزا في الحائط فاعتلى قطعة الصفيح واخذ يفك اللاصق .. حتى اصيب بصعقة كهربائية رمته على الارض ..
دفعوه واغلقوا الباب المشبك فسلم ابو نوال .. رجل في الخمسين معتدل القامة .. وجلس .. وبعد دقائق سألوه (ما هي تهمتك )
ــ والتين والزيتون
فعبئت اعينهم بالقلق والدهشة
ــ (اين سكنك )
ـ ونفسك فز بها ان خفت ضيما وخلي الدار تنعى من بناها ..
فازدادوا حيرة .. وتركوا الاسئلة .. عيونهم وحدها اكملت الفحص والتنقيب في لونه الاشهب وبقايا لحية بيضاء وبطن تكرشت قليلا وتحاورت العيون مع العيون وطغى الصمت ..وكان في احدى الزوايا رجل طويل القامة يوحي مظهره وحركاته بالجنون يخفض راسه ابدا وعيناه في نعاس متواصل وشفتاه تتحركان بلا توقف كانه يسبح او يتلو آيات بضميره ...(على الحدود امسكوني .. قطعت المسافة الى الامام الرضا مشيا متخفيا بين البساتين وان اصبت بجوع اغلي سعف النخيل واشرب ماءه .. انا درويش ...).
ابو نوال شاعر شعبي فنان ...يتمكن من نسج الشعر (الابوذية ) باللهجة العراقية والفارسية والانكليزية .. وله تنسب عدد من اكثر الاغاني رسوخا في الروح العراقية ..وبزمن قياسي توثقت علاقته بناجي وترسخت الثقة .. وبعد اربعة ايام من اعتقاله قصد <الناصريين > وحاورهم لساعة وعاد يخبر ناجي (جماعتك فارغون )... كان متهما بانتمائه للحزب الاجتماعي السوري.. ومن أهداف الحزب الأساسية النهوض بسوريا الطبيعية بكل المجالات وتوحيدها لأنها تشكل وحدة جغرافية واحدة "ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق. ويعبر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص.. وحين ساله ناجي ما عقيدة حزبكم اجابه انها مقلوب حزبكم في العراق ..وفي تحقيق جرى مع ناجي سئل ان كان منتميا او لا للحزب الاجتماعي السوري فاستغرب واجاب : <لاول مرة اسمع به ..>.. ولم يعلم بان احد المترددين على مقهى شارع الوطن هو من اعضاء هذا الحزب وقد جرت بينهما حوارات ادبية ..كان شابا نحيلا طويل القامة يميل للصمت هادئا انيقا وقد تم اعدامه .
كان النزلاء يرحلون الى مكان وسخ مكتض يسمى التسفيرات قبل ترحيلهم الى محكمة الثورة في بغداد..<سانفذ كشعرة من عجين > قال ابو نوال واثقا ..<لدي من يساندني > .. ورحلوه .علم ناجي انهم يزودون النزلاء بالتمر وبعض الطعام الاضافي ان وجد صائمون .. فصام مع رجل حلبي وشخص ثالث نقلوه بعد اسبوع .. بعد عشرة ايام فطر صاحبه الحلبي .. واصر ناجي على الصيام ليس من ايمان بل لاجل زاد اضافي للنزلاء ..
غير مسموح للنزلاء ان يريقوا المائية بعد الظهر .. وربما تكون مشكلة التواليت من اخطر معاناة السجين الامني ...وكان الشيخ ان اراد التفريغ غروبا يجلس على علبة الصفيح الكبيرة الصدئة ويخرج ريحا بصوت مضحك .. فيجيبه محسن اورزدي (اقرا يا شيخ )..وحين يعلو الصوت من فتحة العلبة المخصصة اصلا للسمن ..يصرخ محسن منفجرا من الضحك (حياااك ... اقوى ... اقوى ) ويصفق .. فيما يمسك رجلان بطانية ويحركانها لحجب مؤخرة الشيخ .. كشف المتمرسون هوية الشيخ من الايام الاولى .. فهو ضابط امن .. وكان محسن يعمل في اورزدي واختلس يوما قنينة ويسكي وسيحكم لمدة عام ..الا انه رجل خشابة متمرس فكان ان تسلطن يتناول علبة صغيرة ويقسم عليها بالحان شهيرة لفرق الخشابة صادحا (يا نصارى اشصار بيكم .. ما تضيفون اليجيكم ).. وكلما حذر المتمرسون نزيلا مستجدا من الشيخ وجدوه بعد ساعات يدلي له بمعلومات خطيرة ..وقد صنعوا من هذا الضابط روزخونا قوي الحجة والاقناع .. فقد حدث يوما <ان هناك فرقا بين مادتي السب والشتم ــ وهي تهمة الصقت بمئات السجناء ــ تصوروا الدقة لدى العرب.. ).. وصمت قليلا ليهيئ اذهان المستمعين من المعتقلين واضاف : (تزود سيبويه بطعام بسيط , تمر وما شابه وقربة ماء وقصد الصحراء فرأى اثنتين تقول احداهما للأخرى < يا اختاه لولا العرجون لغسقني الغاسق > فاستفسر منها فاجابته ( نحن نسمي كل مستدير عرجونا ولان الخلخال كذلك فقد قلت لها لولاه للسعتني الافعى )..
اشهب نحيل تعلو وجهه صفرة .. كان غاضبا متوتر الكيان لكنه يحافظ على توازنه حتى لتخاله في وضع سكون .. شعلان البصري شقي غير متهور ميدانه الخمر المركز ودور الغجر ينتمي الى الفقر المتكبر ويوحي جسمه بلاعبي الكراتيه ...جلس مطرقا ماسكا رأسه بيديه ..(السب والشتم ) جملته الجواب التي لن يلفظ غيرها .. ظهر كانه جاء او ينتمي لعالم اخر ... في الصباح قال لناجي : < انا مضرب من اربعة ايام فراكم الزاد قربي ..ساواصل اضرابي ..لست سياسيا .. في صراع مع نذل نطقت الكلمات .. شتمته وشتمت حكومته >
ــ هل تعلم كيف سيعذبونك ان علموا ؟
ــ ساريك ما انجبت الامهات ..
قالها وقلص قبضته كانه يستعد لشجار ..
لم ينطق بعدها وظل ممدودا لايام .
في اليوم الرابع من وصوله بدأ الاضراب ينحت في جسمه ويدفعه للذبول هو اذن في اليوم الرابع من اضرابه ..لو كان افعى لهلك .. كيف يحتمل ذلك الجسم النحيل جوعا وعطشا كل هذه الايام .. تشرب وجهه بالصفرة .. وتوقع ناجي انه يمكن ان يزهق فقد وضع اذنه على نبضه فلم يشعر بحركة النبض...فنهض منه وتوجه الى الناصريين (سيموت وقد ندان ... ساصيح فساندوني ) فصاح بصوت مرتفع (يا حراس .. يا حرس .. سيموت رجل هنا سيموت سجين ) وصاحوا جميعا معه ..
واتى ثلاثة منهم ونظروه فقال حرس طويل القامة (تضرب عن الطعام ايها الكلب ) اجابه (انت بن الكلب ) ولم يتوقعوا احدا في الكون يأتي هنا فيشتمهم .. فصعدوا ونزلوا ومعهم اربعة اخرون .. واصعدوه وهم يحملونه في بطانية ...بعد نصف ساعة استدعوا ناجي لانه كان بورق مقوى يدفع اليه الهواء .. ورجلا معلما ناصريا (ذلك الرجل الذي يبكي واقفا كل غروب ناظرا للبعيد )..كان شعلان البصري ممدودا على الارض , وجهه يواجه مكتب النقيب ومرر بصره في سجلات سرية ودواليب ورفوف وقرا جملة خطت بعناية على ورقة مقوى بيضاء <انت اهل للثقة ولكن لكل منا واجبه >..
وباغته الضابط وهو بزي مدني : (وانت ما ذا تقول )
اجاب ناجي < حرسكم شتمه فرد بمثلها )..
ـ <انزلا >
ـ ( ثلاثة اشهر هنا ولا اعرف تهمتي )
ــ الذي كتب عنك التقرير في سفر ..
واعادوا شعلان يحملونه ببطانية واجاب وهو ممدد بصوت واهن متقطع ..
ـ (قال لي <بشرفي المدني والعسكري .. سالبي طلبك غدا ان تخليت عن الاضراب >.. اجبته <اتركنا من الشرفين .. اضراب حتى الموت ..او نقلي من هنا وبامكانك ارسالي الى المستشفى فان كشفوا قطرة ما ء او ذرة زاد فاعدمني وان ضربتني الان ستتورط ..فانفعل وصرخ (يا كلب ) اجبته (الكلب انت .. وان كررت شتمك ساجر كيبل الكهرباء واعدمك واعدمني )
شعلان صنف من اولئك الذين اجاب احدهم حين اخبره ضابط الامن بان مشاكله كتبت بورق بحجم كيلو فاجابه ساخرا (دعها تكون كيلو ونصف ).. صنف يسمى (يدي مكفولة) ... او <احذر يدي لانك ستصحو من صفعتها بعد يومين >.. لون من الرجال الذين تثقل احزمتهم بالطبرات الخفية حتى وهم نائمون ).. انه يرى ضابط الامن رجلا لا غير ..والنزال من يحدد الرجولة والشرف .. ضرب السكاكين هو الحكم والمقياس ..اما دائرة الامن التي اتقنت اللعبة وتمكنت من ترويض السياسيين بعد ثماني سنوات من انشائها وبعد ربع قرن من تطوير آلة الرعب فلا تساوي فلسا لدى شعلان البصري ..
قبيل خط السواد نقلوه محمولا الى التسفيرات في البصرة .. سيرى هناك الشيخ الذي اجهز من اول يوم لوصوله على الدجاج المشوي لحظة انطفاء الكهرباء غير مبال بصرخات محسن اورزدي الساخرة : <ما اوصيك شيخنا .. اضرب >...في ذلك المعتقل الذي احتوى المهربين والنشالة والسياسيين والارمن والمصريين .. الاكراد والمشردين ..الهنود والبلوش .. الابرياء وعتاة الاشقياء . القطط والفئران . الجميع في مدخنة السجائر في انتظار محكمة الثورة او المحاكم الجنائية الاخرى ..على بعد امتار من بيوت رافعات الافخاذ للسكارى والمحرومين ..
قال بهجت لناجي هنا :
(ان افرج عنك قبلي فاذهب الى ملهى السندباد في ساحة ام البروم , سترى شابة تسمى رندة ’ هي زوجتي الراقصة انها تشبه المطربة وردة الجزائرية )..لكنه سبقه بالمغادرة فقد انهى الحرس زيارة زوجته .. فبلع موسى واجريت له عمليات عدة .. وظهر مشافى ولانه في السنة الثالثة من كلية القانون فقد كان يزور النزلاء في التسفيرات بعد شفائه ويوضح لهم الاحكام التي تنتظرهم حسب تهمهم... بعد اسبوعين فر بهجت وزوجته من البصرة ..
في سجن ابو غريب سمع ناجي ذات يوم حيث قامر .. فخطا خطى عسكرية رافعا راسه وتخطى الحارسين ...وراى فم شعلان مخاطا وبيده مدية فاكهة صغيرة .. في ممر طويل حيث تتقابل الزنزانات الانفرادية..
< سيدمرونه > قال ناجي مناجيا نفسه .. لانه رأى اثنين تخطيا قوانين السجن الصارمة فايقظ بعض الحراس السجناء فجرا في القاعة رقم 13.. وصحوا على سجينين من نفس القاعة يظهران بلا وجه لشدة التعذيب .. طول الليل يسحلونهما ويسوطونهما ويركلون ... ويرشونهما بماء ساخن وبارد وملح ..
وحين صحا المعتقلون , امرهما سجان ان يضع كل حذاءه بفمه ففعلا ورددا وراءه (نحن مخنثان وجبناء واولاد عاهرة ومليوطون ...).<سيكون لك نفس المصير يا شعلان >.
ولم يعرف ناجي بمصير شعلان الا بعد سنوات من مغادرته السجن .. في جلسة خمرية حين ذكر القصة فقال احد جلاسه <انا ساكملها >..وانتظر حتى تشد له الاذهان ..
(ذهبت لمدير السجن وترجيته واخبرته بان شعلان شقي لا سياسي ولا يشكل خطرا او تهديدا لامن الدولة ولا احد له غير ام عجوز مريضة ,يصعب عليها ان تزوره في بغداد.. وتم استدعاء شعلان البصري .. وخاطبه مدير السجن بروح طمانته وكان فمه مخيطا وبيده سكين صغيرة .. وكان يقف بصعوبة فسمح له بالجلوس ..<انت تعلم نحن محكومون بقوانين واوامر صارمة وان نقلك الى سجن البصرة يستغرق بضعة ايام .. اقسم لك بشرفي سارحلك لاني شخصيا تعاطفت معك وان اخلفت وعدي لك حرية القرار ..المدير تكلم بروح وقلب حتى تخلى شعلان البصري عن اضرابه..)
فقال له ناجي < وما حدث له اخيرا؟ >
ــ (تشاجر شعلان البصري في سجن البصرة مع سجين فخلع سدادة البالوعة الكونكريتية في ليلة ماطرة وهوى بها على راسه وهو نائم وهشمه تماما .. ومضى بعدها ليستقر جوار غرفة المشنقة .).


2 مشاريع الرجل الاعمى
16 الجمعيات بعد السقوط
24 الحي العشوائي
38 الخفاجية
48الشاي ومنديل ابو الحيلين
56 اللنجات والطيار
67 المدرس .. لا يصمد سر
76 الملّاك .. بستان لاجل قبلة
94 ام نسرين
109 اياد في صفيحة الجص
123 بسوس حول طير شارد
131 تكسي الطلاق
139 رسالة مرمزة
141 صياد الصبور
154 طلسم اعجز المفسرين
161 ليس هو
171 عمائم التوبة
186 الاستخفاف بالمصهرة
-----------------------------------------



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزواج من المتزوجة
- التصويت على الدستور لا يمنحه شرعية ان لم يكن عن وعي.
- كتابي البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة ورقيا
- المعاجم لا تضيء دلالة المفردات
- كتاب المعرب للجواليقي معجم رائد
- بعد اكثر من ستين عاما قانون الاحوال الشخصية يصاب بنكسة .
- اعز من الابلق العقوق
- دور الكلمة في اللغة لاولمان
- كتاب الوجوه والنظائرفي القران الكريم
- تحقيق ديوان بن الاسلت
- العلامة السنهوري واضع الدساتير لدول عربية عدة
- الكاودائية ديانة تجمع الاديان
- تاريخ الضرائب العراقية
- البصرة عهد المغول الاليخانيين ج1
- كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة
- كتاب القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم .
- مقاومة المجاعة بغزة بالشتلات
- بلا كهرباء ولا تكنولوجيا طائفة الاميش بامريكا
- لغة الجسد النفسية لجوزيف ميسنجر
- مؤسسة تكوين الفكر العربي وصكوك الغفران


المزيد.....




- مقتبسا كلمات الفنانة فيروز.. ماكرون يحيي الذكرى الرابعة لانف ...
- كيف أرخ الشعر لحقبة الجاهلية ووقائعها وحركة المجتمع فيها؟
- -لا شيء أسود بالكامل-.. رواية الموت والحرب والاختبارات الفني ...
- متاحف قطر تفتتح معرض -الفكر الأولمبي: قيَمٌ وقمَم-
- بعد غياب 6 سنوات.. كاظم الساهر يشعل مسرح قرطاج
- ما مستقبل العلاقة بين الغرب الإمبريالي والثقافة الدينية؟
- “لينك فعال” نتيجة الثانوية العامة قسمي العلمي والأدبي 2024 ف ...
- نادي الترجمة في اتحاد الأدباء يخرج بتوصيات لتفعيل نشاطه
- درنة بين البحر والسدين.. حكايا ذاكرة مبللة لمدينة رماها الما ...
- لِمَ العرف يقضي بارتداء الكوميديات أزياء محتشمة على خشبة الم ...


المزيد.....

- ديوان قصَائدُ لَهُنَّ / ياسر يونس
- مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية / كاظم حسن سعيد
- البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد / عبدالجواد سيد
- Diary Book كتاب المفكرة / محمد عبد الكريم يوسف
- مختارات هنري دي رينييه الشعرية / أكد الجبوري
- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية