أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفاء بوالجداد - داخل القصبة














المزيد.....

داخل القصبة


صفاء بوالجداد

الحوار المتمدن-العدد: 8058 - 2024 / 8 / 3 - 20:44
المحور: الادب والفن
    


      وجدت نفسها داخل قصبة تعوم فوق موج أزرق هادئ .. امتد بصرها عبر أبراجها إلى ما تكنزه آفاق البحر.. بعد لحظات اختفى قرص الشمس بعدما رسم في صفحات تلك الآفاق قطعا تحاكي تناثر ذهب خالص.
  أعتمت السماء بسرعة ، ودخلت هذه القصبة في ظلمات بعضها فوق بعض.. أشعلت الشموع ، فصار ما يخرج منها ذرات ضوئية لا قيمة لها وسط امتداد أسود، فقد ألفت زرقة الماء وتحولت إلى سواد داكن.

لم تدر كيف ومتى دخلت القصبة..  بشعرها المموج وخصلاته القاتمة كموج هذا البحر الهادئ .. فرت هاربة  من سلطة زوج لطالما غلفها بأثواب سوداء غطت كل شبر من جسدها فحرمته من معانقة الشمس وكممت ابتسامتها العذبة وحركاتها الطفولية حتى الهواء كانت تتنفسه بصعوبة  .لم تعد قادرة على السجن و العنف .. فقررت أن تغير مصيرها نحو الحرية و الانعتاق.. هربت من ذلك القفص الصدئ لتعانق الشمس كما لم تفعل يوما .. أخذت نفسا عميقا حسسها بأنها مازالت على قيد الحياة.. وفي سعة من هدوء الموج وسكون الليل ، شرع أحد الكناويين ينشد بصوت خافت وحزين: " بابا موسى .. يا البحراوي .. بابا موسى ، يابواب المرسى.."..

تتحسس بياض جدران سيدي موسى الدكالي المشرف مرقده على صخور البحر . و نسمات هذه الليلة الصيفية تداعب جسمها مجددا كسجين جاءه العفو أخيرا.. فبدأت تحرك رأسها بشكل بطيء.. عزف المنشد على آلة الهجهوج بقوة انفعاله وبقوة حجب الظلام بينه وبين الضريح .. انقلب الموج من هدوء إلى اضطراب خفيف كذلك زادت سرعة حركة رأسها وهي " تتحير" كأنهما يداعبان درجة انفعال العازف .. سمعت خلالها أصوات  شبحية  تنفلت  من أرحام أمواج متصارعة .. أصوات مسموعة مبهمة ، وأخرى تكاد  لا تسمع .. تغيرت وتيرة أوتارالهجهوج  متآلفة مع لحن تلك الأصوات الشبحية ، فتسرب إلى آذانهم أنين حاد بلحن كئيب ، ثم أنشدوا جميعهم :

" سكنات عيشة البحور ..للا عيشة الكناوية.." . اختفى الأنين العذب الرخيم  ، فشعروا بوحدة رهيبة ..
كل من اجتمع هنا في هذه القصبة بئيس جاء ليتداوى بالعزف كلهم يتساءلون إلى أين المصير؟! هذه عجوز هرمة لم يعد لها مأوى . وهذا حاله كناوي لا يرتاح إلا بجلسات السمر.. وغيرهم مجهولي الهوية والقصة.. هدأت الأمواج بغثة فأتيح لهم أن يطمئنوا ،
فأنشد بعضهم : " يارب السلامة ، يارب داوينا ، صلوا على نبينا " .
  انبرى عازف آخر ، وعزف على آلته الوترية المختلف شكلها عن شكل أصحابه .. تفنن في تزيينها بالأصداف البحرية ، وكسا جوانبها بخيوط جلدية متنوعة الألوان .. مزج عزفه على آلته بكلمات لا تفصح عن نفسها بالقدر المطلوب .. تساقط  الكثير من أسنانه بتقدم عمره المجاوز للسبعين .. ألحق رغم ذلك في دواخلهم حزنا مستعذبا ينسجم مع تلاعب أمواج القصبة .. تصفيقات العجوز و حركات شعر الجميلة.. تتالت الكلمات ونغمات العزف ، فأتيح لحاملي" القراقب" أن يوقعوا بضرباتهم المتتالية اصطكاكات لذيذة أذهبت الحزن وأشاعت اطمئنانا لروح كناوية جماعية عالية في السراء والضراء ، واثناء رقصهم كانت ضربات أرجلهم على الأرض تصدر وقعا كوقع على أرض خشبية.. تواصل العزف والرقص دون انشاد إلى اقتراب السحر ، فأدركوا أن القصبة تزحف بهم إلى آفاق مجهولة . لو كان الأمر يخص أجسادهم بشحمها ولحمها لسهل عليهم أن يرتموا من القصبة الى الماء ،فهم بحراويون يتقنون السباحة ، ولهان عليهم أن يتركوا القصبة وشأنها تعوم كيفما تقلبها الأمواج ، لكنها محراب أرواحهم المجبولة  على الموسيقى الكناوية ، فهم نفخوا فيها من أرواح عزفهم ، وايقاعات " قراقبهم" وضربات طبولهم ، فخلدوا في القصبة إبداعهم وميراث آبائهم ، صارت منهم كما صاروا منها ..ظل كل واحد منهم يستذكر ما عاشه من بؤس قبل أن يجد القصبة ملجأ، فتزايد أسفهم ، وعلى مرارة الأسف تعالت أصواتهم متوحدة على صعيد حرقة واحدة ولحن واحد ، وإنشاد متكرر.
أذعنوا لما تفعله الأمواج ، فتركوا كبيرهم يعزف عزفا خاصا وخالصا بطريقته التي يبرع بها حتى انجلى السحر .. أحسوا وهم على ذهاب السحر بأن القصبة ترجع بهم الى مستقرها .. انطفأت الشموع داخلها ، فبرز للحظة قصيرة خيط الفجر الأبيض من خيط السحر الأسود ، فهللوا ، وكبروا ، وحدثوا بنعمة نجاة القصبة ونجاتهم .

  خرجوا من القصبة التي توقفت محاذية لضريح سيدي موسى، ثم تلاشت بالقرب من الضريح في شكل بخور زكي الرائحة نفذ عبر جدرانه .

  هدر البحر مليا .. سكن هديره ، فسمعوا صوت المؤذن للفجر ينادي للفريضة من مأذنة غير بعيدة عنهم . أنهى المؤذن الأذان بغنة صوته المؤثرة ، فاطمأنت القلوب .. تلاها صمت كان يسبق صخب الأمواج..
تتلاطم متكسرة على الصخور. كان رذاذها يصل كالبلسم إلى الضريح فيندي جدرانه المصبوغة بالجير الأبيض . ظلت الأمواج على حالة واحدة ، فاندفعت أمواج أشد صخبا  ،كادت تسقطهم من على الصخرة التي اعتصموا بها وقت نجاتهم وحين دهشتهم بنفاذها عبر جدران مرقد الولي الصالح.
مشهد اشرافها على السقوط معهم من فوق الصخرة هو آخر عهد لها بهذه المشاهد ، فقد استيقظت من نومها لتدرك بأن كل هذه المشاهد المدهشة تتعلق بحلم اختلطت فيه الحقيقة بالخيال والرمز بالوضوح .. دخلت في حالة قلق .. فبعد أن فتحت عينيها صرخ الوحش في وجهها (بغيت نفطر ..نوضي ). لعنت حياتها معه وعادت للدور التراجيدي الذي كانت تعيشه قبل الحلم  لكنها صارت تؤنس وحشتها بالغناء .. تدندن طوال اليوم " بابا موسى ..بواب المرسى.." و كلها رغبة في أن ينتهي  يومها كي تعود على صهوة الحلم إلى القصبة حيث ترقص ، تغني ، تتمتع بالإيقاعات الكناوية و الشطحات العذبة و تتحرر من كل قيد لعين..



#صفاء_بوالجداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع أسايس للنهوض بالثقافة الأمازيغية
- الكونتيسة
- خطيئة كاملة
- عاشق ثمل


المزيد.....




- نادي الترجمة في اتحاد الأدباء يخرج بتوصيات لتفعيل نشاطه
- درنة بين البحر والسدين.. حكايا ذاكرة مبللة لمدينة رماها الما ...
- لِمَ العرف يقضي بارتداء الكوميديات أزياء محتشمة على خشبة الم ...
- بالاسم ورقم الجلوس …رابط نتائج الثانوية العامة في اليمن العل ...
- مؤشرات تنسيق الثانوية الازهرية لكليات العلمي والأدبي 2024
- -البيوت الروسية- حول العالم تبدأ بعرض فيلم -التاريخ المختصر ...
- من العاصمة الأولمبية.. تعرف على المتحف الأولمبي في لوزان الس ...
- فنانون يحتجون ضد تهديد الذكاء الاصطناعي في استوديوهات وارنر ...
- -العهد الآتي في ظل الثورة الصناعية الرابعة-.. مستقبل الحياة ...
- مغني الراب الأمريكي فلافور يساعد لاعبة -فقيرة- في المشاركة ب ...


المزيد.....

- البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد / عبدالجواد سيد
- Diary Book كتاب المفكرة / محمد عبد الكريم يوسف
- مختارات هنري دي رينييه الشعرية / أكد الجبوري
- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفاء بوالجداد - داخل القصبة