أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الرحمان النوضة - الرَّأْسَمَالِيَة هِي اِنْتِحَار جَماعِي بَطِيء















المزيد.....


الرَّأْسَمَالِيَة هِي اِنْتِحَار جَماعِي بَطِيء


عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)


الحوار المتمدن-العدد: 8025 - 2024 / 7 / 1 - 15:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


العُنوان الـقصير للمقال : الرَّأْسَمَالِيَة هِي اِنْـتِحَار جَماعِي بَطِيء
العُنوان الطويل للمقال : أَلَمْ يَتَّضِحْ بعدُ أن الاستمرار في الرأسمالية هو انتحار جماعي بَطِيء ؟
[ هذا المقال هو فَصْل من كتاب رحمان النوضة، المُعَنْوَن بِـ : "هَل مَا زَالت المَاركسية صَالحة بعد اِنْهِيَّار الاتحاد السُّوفْيَاتِي، نشر سنة 2015، الصفحات 212، الصيغة رقم 20 ].

منذ نهاية "الحرب العالمية الثانية" (في سنة 1945) إلى اليوم في عام 2018، نُلَاحظ ظاهرة تتكرّر في كثير من البلدان. وهي أن مُجمل الأحزاب السياسية التي فازت في الانتخابات الرئاسية، أو البرلمانية، في الدول الرأسمالية الغربية، كانت قد فازت على أساس وَعْد بِتَحْسِين الرأسمالية. وفي الانتخابات اَلْلَّاحِقَة (أي بَعْدَ أَجَل انتخابي، أو إِثْنَيْن)، يَرْفُضُ الناخِبُون هذه الأحزاب السياسية السَّابقة، ويُصوّتون لصالح مُنَافِسِيها، لأن هذه الأحزاب السّابقة فَشِلت في تحسين الرأسمالية. وعند كل أَجَل انتخابي، يُلَاحظ الناخبون من جديد، أن المشاكل الرئيسية في الرأسمالية (مثل تَشَدُّد الْاِسْتِغْلَال الرَّأْسَمَالِي، والبِطالة، والتَـفْـقِير، وتَدَهْوُر أوضاع المَأْجُورِين، وتَعَمُّـق الفوارق الطَبَـقِيَة، والظُّلْم الضَرِيبِي، وتَلَوُّث البِيئَة، وتدمير الطبيعة، وَانْقِرَاض الأَنْوَاع، وهَشَاشَة السِّلْم في العالم، إلى آخره)، مَا تزال قائمة، بل تَتـفَاقَم من فترة إلى أخرى. وتِكْرَار هذا الفَشَل في محاولات تحسين الرأسمالية، هو الذي يـقودنا اليوم إلى الاستنتاج التَالِي: إن الرأسمالية وَصَلَت إلى ذِرْوَةِ إمكاناتها، وأنها غير قَابِلَة لِلتَّحْسِين، أو للإصلاح. بل إصلاح أوضاع البشرية (وَطَنِيًّا، وعَالَمِيًّا) يقتضي تجاوز الرأسمالية هي نـفسها.
وَنُلاحظ منذ قرابة سنوات 2000، أن مجموعات مُتَوَالية من العُلماء أَخَذَت تَنْشُرُ بَيَانَات جماعية تَحْذِيرِيَة، تُنَبِّه فيها السياسيين، والمواطنين، إلى أننا، نحن البشر، نُدَمِّر أو نُبِيدُ أَصْنَاف الحياة بسرعة كبيرة، وبدون إمكانية العودة إلى الأوضاع القديمة. ويُهَدِّد تَسَارُعُ هذا التَّدْمِير استمراريةَ حياة البشرية هي نـفسها. حيث أدّى نَمَطُ عَيْشِ البشر الرأسمالي إلى اسْتِئْصَال وإبَادَة قرابة 60 % من الثَدْيِيَات، والطُّيُور، والأسماك، والزَوَاحِف، خلال الـ 50 عامًا الماضية فقط. ويُدَمِّرُ البشر بِشكل أعمى نُظُمًا بِيئِيَّةً مُتَرَابِطَة. ويَـتَّـجِهُ هذا التَدْمِير مباشرة إلى نـقَاط الْلَّاعَوْدَة (points de non-retour). وَتَدْمِير هذه التوازنات الهَشَّة لكوكب الأرض، سَيَجعل حياة البشر فوقه مُتَعذِّرَة، ثم غير مُمكنة.
ومجمل الدول الرأسمالية، و«المُؤَسَّـسَات العالمية»، تعجز على التعامل بِجِدِّيَة مع هذه التَحْذِيرَات التي نَشَرَها العُلَمَاء. وبمنطق جَشَع الرِّبْح، تُؤَثِّر مثلًا أعداد هامّة من شركات صناعة الأدوية على الأطباء، وتحثّهم على كتابة وصفات أدوية، ولو أن هذه الأدوية لَا تُدَاوِي شيءً. ولكي تستمر شركات صناعات كيماوية في جَنْيِ أرباح مُثْمِرَة، مثل شركة "مُونْسَانْتُو" الأمريكية، تُروج مَوَادَّ مثل "مُبِيدَات الأعشاب" (glyphosate)، رغم أن هذه المواد تتسبّب في السَّرطان، وفي أمراض أخرى. بل تلجأ هذه الشركات إلى شراء ضَمَائِر بعض الحُكَّام أو السياسيين لكي لَا يمنعوا استعمال هذه المواد. أو تـقوم هذه الشركات بِإِرْشَاء بعض العُلماء مُنعدمي الضَّمير، لكي يَنشروا تَـقارير علمية مزوّرة، تَزعم مثلًا أن "مبيدات الأعشاب" لَا تتسبّب في أيّ مرض، أو لكي يُكذِّبُوا عُلماء آخرين نَاقِدِين، يَقُولون عَكْسَ تلك التصريحات(1). وكون مُعظم شُعوب العالم غَارِقَة في الجهل، والفقر، والخُضُوع، والاِسْتِلَاب (aliénation)، يجعلها عاجزة عن إدراك خُطورة مجمل هذه التطوّرات الرأسمالية، وعاجزة على الانتـفاض ضِدَّهَا. ومعنى ذلك، هو أن الاستمرار في نمط الإنتاج الرأسمالي المُعَوْلَم (mondialisé) يتحوّل بشكل مُتَسَارِع إلى انتحار جماعي بَطِيء لِمُجْمَل البشرية، السّاكنة فوق كوكب الأرض.
وجزء هام وَمُتَنَام من البشرية، يريد اليوم التَحَرُّر من النَتَائِج الكَارِثِيَة لِلرأسمالية. لكن البشرية لا تعرف بديلًا آخر عن الرأسمالية غَيْرَ الاشتراكية.
وفي سنوات 1970، كُنَّا في "تنظيمات الحركات المَارْكِسية اللِّينِينِيَة" بالمغرب، نَظُنّ أن موضوع “الاشتراكية" (ولو نظريًا) غير مطروح ضِمْن جَدول مَهام الوَضع الرّاهن. لأننا كُنَّا نَعْتَـقِد أنه لا يحقّ الكلام عن "الاشتراكية" في مُجتمع مُحدَّد، إلَّا إذا بلغ نُمُوُّه الرأسمالي مُسْتَوًى مُتـقَدِّمًا. وكُنَّا نـقول: «إن شروط بناء الاشتراكية لم تنضج بعد بما فيه الكفاية بالمغرب». أمَّا اليوم، فَأعتـقد أنه يجب دراسة موضوع "الاشتراكية"، وَاكْتِسَاب قَدر كبير، ومُرْضٍ، من الوضوح حولها. وَلَوْ أن مُجتمعنَا لم يَبْلُغ (أو بالتَّدْقِيق، لَا يقدر على بُلُوغ) مُسْتَوًى متـقدّمًا من النُمُوّ الرأسمالي. وذلك لِعِدَّة اعتبارات جديدة، أبرزها ما يلي: 1) يفرض جِدَالنا وصِرَاعنا مع أنصار الرأسمالية أن يتوفَّر لدينا تصوّر متـقدِّم حول نمط الإنتاج البديل، أي حول مَضمون الاشتراكية، وحول طُرق بنائها، وحول مُبَرِّرَاتها. 2) في مُعظم مناطق العالم، يحدث اليوم تَسَارُع في انْدِلَاع كَوَارِث تُؤَدي إليها الرأسمالية المُعَوْلَمَة (في مجالات: تخريب البِـيـئَـة، والانـقراض المُتَسَارِع للأنواع النَبَاتِيَة والحَيَوَانِيَة، وانتشار البطالة البِنْيَوِيَة والدَّائِمَة، وتعميق الفوارق الطبقية، وانتشار الفقر المُدْقِع، وتعميم الجَهْل، وتنامي الحركات اليَمِينِيَة المُتَطَرِّفَة، وتَجَدُّد حُرُوب بالوَكَالَة، تُدَمِّرُ كلّ شيء، إلى آخره)، الشيء الذي يَـفْرِضُ علينا، منذ الآن، أن نأخذ في الحُسْبَان، احتمال حُدُوث ثورات ضد الرأسمالية قبل الآجَال التي كُنَّا نَتَخَيَّلُهَا من قَبْل. وأن إنـقاذ البشرية من هذا الانتحار الرأسمالي الجماعي البَطِيء ، سَيَفِرِض، في العديد من بلدان العالم، تَسْرِيعًا نِسبيًا في صَيْرُورَة التَحَرُّرِ من الرأسمالية. وسَيُعَجِّل بالحاجة إلى الشُرُوع في بناء الاشتراكية، أو إلى استعمال مَزِيجٍ من الرأسمالية والاشتـراكية (تحت قِيّادة اِشتراكية)، قبل التَوَارِيخ التي كُنَّا نتصوّرها سَابِقًا.
لِذَا نحتاج اليوم إلى اكتساب أكبر وضوح ممكن حول تصوّرنا لمشروع المجتمع البديل الذي نطمح إليه (هل هو الرأسمالية؟ أم هو مزيج من الرأسمالية والاشتـراكية [تحت قـيّادة اِشتراكية]؟ أم صنـف جديد من الاشتراكية؟).
ويشمل مَشروع المجتمع البَدِيل مُهمّة تَعْوِيض ”الرأسمالية“ بشيء آخر، ولو أننا لَا ندرك اليوم جَيِّدًا كلّ تـفَاصِيل هذا الشَّيء البديل، الذي نُسميه «الاشتراكية»، أو «الاشتراكية الانتـقالية».
ومن ضِمن العوامل الجديدة التي تَجعل الدِّفَاع عن الاشتراكية أكثر صعوبةً مِمَّا كان في الماضي، أن الدول العربية النـفطية (السعودية، وقطر، والإمارات، إلى آخره) تَخْلُقُ، وتُدَعِّم، سلسلة مُتَجَدِّدة من "الحركات والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية"؛ وأن مُجمل هذه الحركات هي مُحَافظة، أو رِجعية، أو عنيفة، أو مُمْتَثِلَة للعادات، أو مُتعاوِنَة مع الإمبرياليَّات الغربية ومع إسرائيل؛ وأن هذه الحركات الإسلامية تَسْتَـغِلّ جَهل غالبية الشّعب؛ وأنها لَا تتوفّر على مشروع مُجتمعي وَاعِ أو عَـقْلَاني؛ وأن البرنامج الوحيد لدى هذه "الحركات الإسلامية" هو الرأسمالية المتوحِّشَة (رغم كلّ ما إِتَّضَح فيها من فظاعات مُجتمعية وبيئية). وَتَنْحُو هذه "الحركات الإسلامية الأصولية" بسهولة مُذْهِلَة نحو التَسَلُّح، والعُنـف، والحرب الأهلية التي تُخرّب كل شيء، وَبِسُرْعَة فَائِقَة.
وقد عَلَّمَتْنَا تجارب التاريخ الحديث، أن مجمل القِوَى الإمبريالية في العالم سيتحالفون ضِدَّنَا، وضِدَّ كُل من هو اشتراكي مثلنا، وسَيَخُوضُون حربا شاملة ضِدَّنَا، بهدف منعنا من اِتِّبَاع طريق بناء الاشتراكية داخل بلادنا. ونحن نُدْرِكُ أن كلّ الأفراد، والجماعات، والمؤسّـسات، الذين يستـفيدون من نَمَط الانتاج الرأسمالي، سَيَتَوَاطَؤُون فيما بينهم، وسيقولون لنا: «لا يمكن أن ينجح سوى النظام الرأسمالي وحده. وإن الاشتراكية هي وهم مستحيل التحقيق»! مثلما كان مَلَّاك العَبِيد يقولون: «إن العُبودية (esclavagisme) هي النظام الوحيد المعقول»! ومثلما كان الإِقْطَاعِيُّون يقولون: «إن التخلي عن الاقطاعية (féodalité) هو مَعْصِيَة لِلْـإِلَـه، وسيؤدي إلى الفوضى والخراب التَّام»!
ويَهْجُمُ كثير من أنصار الرأسمالية على الماركسية، وعلى الاشتراكية، وعلى برنامجها، وعلى طُمُوحَاتها المُجْتَمَعِيَة. ويَنْسَون أن الرأسمالية، لَا تتوفّر حتّى على نظرية مُدَقَّـقَة، أو واضحة، أو صريحة، فبالأحرى أن تـقدر الرأسمالية على مُقَارَعَة الماركسية بِحُجَج عَقْلَانية، أو عِلْمِيَة. بل الكثير من الأطروحات المُؤَسِّـسَة للرأسمالية هي إمَّا خاطئة، وإِمَّا كاذبة، وإمَّا ظَالِمَة. ومنها مثلًا الأطروحات الزَّائـفة التي تـقُول: إن «الرأسمالية تُوَفِّر وتَضْمَن حُرِّيَة المُبَادَرَة الاقتصادية»، أو إن «السُّوق هي التي تُحدِّد الأثمان»، أو إن «السوق تضمن تِلْقَائِيًّا حُرِّيَة وَنَزَاهَة المُنافسة»، أو إن «الرأسمالية تُغْنِي جميع الطبقات، وتـقَلِّصُ الفوارق الطبقية»، إلى آخره)!
ومثلًا في مجال النـقطة الأخيرة (المتعلّقة بِزَعْمِ تـقْلِيص الفوارق الطبقية)، اِسْتَعْمَلَ مُؤَخَّرًا الاقتصادي طُومَاسْ بِيكُوتِي (Thomas Piketty)، في كتابه الحديث، الصادر في سنة 2013، تحت عنوان «الرأسمال في القرن 21»، اِستعمل الإحصائيّات الرّسمية (في الولايات المتّحدة الأمريكية، وفي أوروبّا الغربية)، وبَيَّنَ أنه يُمكن للفوارق في الثَرَوَات أن تتـقلص، خلال فترات تاريخية محدّدة (مثلًا أثناء فترة «الحرب العالمية الثانية»، ثم خلال فترة «الحرب الباردة»، تحت ضغط وتأثير المنافسة فيما بين المُعَسْكَرَين الاشتراكي والرأسمالي). لكن هذه الفوارق الطبقية سُرْعَان مَا عَادت إلى مُستواها القديم، منذ سنوات 2000 تـقريبًا (بعدما توقّـفت تلك المنافسة). وتؤدّي طبيعة الدِّينَامِيَة التي تُحرّك الرأسمالية إلى تـفَاقُم أو تَعْمِيق الفَوَارِق في المداخيل، وفي الثروات، وفي الأجور، وفي التعليم، وفي الثـقافة، وفي المعارف، وفي العلاج الطبي، وفي حُظُوظ مُدَّة العيش، إلى آخره. الشيء الذي يُكَذِّبُ الأطروحة التي تزعمُ أن الرأسمالية تتطوّر من حسن إلى أحسن، وأنها تـقَلِّصُ الفوارق بين الطبقات، وأنها تُغني جميع الطبقات.
ومنذ عُـقُود، تَزْعُم أجْيَال مُتَوَالِيَة من السياسيين والاقتصاديين الرأسماليين، أن «مظاهر الفقر، والجهل، والتخلّف، والفساد، والاستبداد، الموجودة في ”بلدان العالم الثالث“، هي مُجَرَّد مَظاهر عَابِرَة، أو مؤقّتة». ويدَّعِي أولَئك السياسيين الرأسماليين (وكذلك المؤسّـسات البنكية العالمية المُقْرِضَة) أنه «إذا طَبَّـقَت ”بلدان العالم الثالث“ قَوَاعِدَ الرأسمالية بِدِقّة، سَتَلْتَحِقُ في مُستـقبل قريب، بِمُسْتَوَى تـقَدُّمِ البلدان الغربية الأكثر تـقَدُّمًا في العالم»! وهذه كذبة مُخَادِعَة، ومستحيلة الإنجاز. وقد سبق لِعُلَمَاء مرموقين في علم الاقتصاد السياسي، ومن ضمنهم الاقتصادي سَمِير أَمِين، أن طَرَحُوا أن «تـقدّم البلدان الغربية، وتخلّف بلدان العالم الثالث، هُمَا وَجْهَان لظاهرة واحدة. ويستحيل تغيير الجانب الثاني دون تغيير الجانب الأول». لأن المسألة هي مسألة بِنْيَوِيَة، في إطار تَبَادُل غير مُتَكَافِئ، وفي شبكة من الأنظمة الرأسمالية المُتَرَابِطة، والمُعَوْلَمَة.
ويَزْعُمُ بعض الرأسماليين النَيُولِيبِيرَالِيِّين (néolibéraux)، أن «نَمَط الْإِنْتَاج الرأسمالي يَصلح لِكُلّ زمان، ولكلّ مكان». وَيَدَّعُون أنه هو «قَدَرُ البشرية الحَتْمِي، والنِهَائِي، والأَبَدِي». ويَدَّعُون أن «أَيَّ بَلد في العالم، إذا طَبَّـقَ قَواعد الرّأسمالية (التي تُرَوِّجُها مُؤَسَّـسات "البنك العالمي"، و"صندوق النـقد الدُّوَلِي"، و"المنظّمة العالمية للتِّجارة"، إلى آخره)، فإنه سَيَلْتَحِقُ بمستوى تـقدم البلدان الأكثر تـقدُّمًا في العَالَم»! وعلى خلاف هذه الأطروحات الْـلَّاتَارِيخِيَة، والْـلَّاجَدَلِيَة، نُلاحظ، خلال الفترة المُمْتَدَّة من نهاية «الحرب العالمية الثانية» إلى اليوم (في سنة 2018)، أن بلدان العالم الوحيدة التي استطاعت الخُرُوج من التخلّف المجتمعي الشامل صِنـفَان: الصِّنـف الأول هو البلدان التي خاضت ثورة وطنية تَحَرُّرِيَة ديموقراطية، تحت قيادة أحزاب شِيُوعية، أو اشتراكية، وطبّقت مناهج تَنْمَوِيَة اشْتِرَاكية، أو مناهج «رَأْسَمَالِيَة دَوْلَة وَطَنِيَة شَعْبِيَة»، (مثلما حدث في رُوسْيَا، والصِّين، وفِيتْنَام، وكُوبَا، وكُورْيَا الشمالية، وبدرجة أقل الهِنْد، إلى آخره). والصِّنـف الثاني هو بلدان حَظِيَتْ بِدَعْم شَامِل، واستثنائي، من طرف المراكز الإمبريالية الغَرْبِيَة، وذلك في إطار الاستراتيجية العالمية التي تخوضها هذه المراكز الإمبريالية، لِمُحَاصَرَة، ومُحَارَبَة، كُلّ الأنظمة الشيوعية، أو الاشتراكية. ومنها مثلا: كُوريَا الجنوبية، وتَايْوَان، وَسَنْغَافُورَا، [وإسرائيل]، إلى آخره. ولو لم تُدَعِّم الإمبرياليات هذه البلدان المذكورة لَمَا وَصَلَت إلى ما هي عليه من التنمية الاقتصادية. والبَلَدَان الوَحِيدَان في العالم اللَّذَان يَقْدِرَان اليومَ على مُعارضة، أو مُقاومة، أو منافسة، المراكز الإمبريالية الغَربيّة، هما الصِّين وروسيا، اللذين قَادَهُمَا حزبان شيوعيان، خلال قُرابة سَبْعِينَ عامًا، وأَخْرَجَاهُمَا من تخلّف مُجتمعي قُورُونْ وُسْطَوِي (moyenâgeux).
والمُـفَارَقَة (paradoxe) العجيبة، هي أن خِطاب الرأسمالية عن نـفسها هو، في معظم الحالات، مُخَالِف، أو مُنَاقِض، لواقع هذه الرأسمالية. ويتكلّم مثلًا بعض الرأسماليين، في إطار رأسمالية مُعَوْلَمَة، عن «التَنْمِيَة المُسْتَدَامَة». وفي الواقع، فإن هذه «الاستدامة» المزعومة لِحَجْم التَنْمِيَة، مُستحيلة. لأن المَوَارِد الطبيعية الموجودة على سطح كوكب الأرض محدودة، وحاجيات البشر ”الرأسمالية“ تَتَـزايَد باستمرار. وأكّد بعض العلماء أنه، في حالة افتراض أن جميع بلدان العالم سَتَعِيش بنـفس النَمَط الرأسمالي القائم في البلدان الأكثر تـقدّمًا، وبنـفس المُستوى في الاستهلاك الرأسمالي، فإن البشرية ستحتاج إلى المواد الخَام الموجودة في ثَلاثة كَواكب مِن صِنْـف كَوْكَب الأرض!
وَيَرفض السِيَّاسِيُّون اِسْتِيعَاب أنّ التَخَلُّف عَن إعادة زَرع الأشجار المَقْطُوعَة، يُحدث حَتْمِيًّا، وَبِشَكْل لَا رِجْعَة فيه، تَآكُلَ الأراضي الصالحة للزراعة.
وأصبحت أغلبية عُلماء العالم يَتَّـفِـقُون على أنّ نَمَط الإنتاج الرأسمالي، ونَمَط الاستهلاك الرأسمالي، (بما فيه الإِفْرَاطُ، منذ أكثر من قرن، في استعمال الهِيدْرُوكَارْبُونَات [hydrocarbures])، أَدَّيَا إلى ظاهرة ”الاحتباس الحراري“ (réchauffement climatique)، في عُمُوم كَوْكَب الأرض. وَيَتَّـفِـق العُلماء على أنّ ارتـفاع مُعَدَّل درجة الحَرارة على كَوكب الأرض بِـ 2 أو 3 درجات سِيلْسْيُوسْ (Celsius)، في قرابة نهاية القرن 21، سَيُؤَدِّي إلى ذَوَبَان الجَلِيد في الـقُطْبَيْن الشّمالي والجنوبي (calottes glacières, banquise)، وإلى ذَوَبَان "الأراضي الدَّائِمَة التَجَمُّد" (permafrost). وَسَيُحْدِثُ ذَوَبَان هذا الجَلِيد كَوَارِثَ طبيعية مُتنوِّعة، وغير مَسْبُوقَة. وَتَـعْجِز البشرية على مُقَاوَمَة هذه الكَوَارِث.
وَنُكْرَان هذه الأطروحات العِلْمِيَة السّابقة، من طرف بعض السِيَاسِيِّين الجُهَّال، أو الْاِنْتِهَازِيِّين، أو المُنْتَمِين للحركات الإسلامية الأصولية، أو لِلْيَمِين المُتطرّف الجديد، (مثل الرئيس الأمريكي دُونَالْدْ تْرَامْبْ، ومثل الحركات السياسية اليَمِينِيَّة المُتَطَرِّفَة في أَوْرُوبَّا)، سَيُعَرِّضُ البشرية لِكَوَارِث قَاتِلَة.
وقد أَدَّى نَمَط الإنتاج الرأسمالي المُعَمَّم، إلى كَوَارِثَ أخرى. نَذْكُر مِن بَيْنِهَا تَعْمِيم استعمال المُبِيدَات الْكِيمِيَّائِيَّة لِلْحَشَرِات في الـفلاحة (insecticides). وَيَنْسَى الـفَلَّاحون أنّ كلّ ما يَضُرّ الحشرات، سَيَضُرُّ حَتْمِيًّا البَشَر. وَنَجد مِن بين الكَوارث أيضًا، استخدام مَوَادَّ كِيمَاوية أخرى، تُحْدِثُ اضطرابات في الغُدَد الصَّمَاء (perturbateurs endocriniens)، سواءً لَدَى الْبَشَر، أم لَدَى الْحَيوانات الأليفة. ونذكر من بين الكَوَارِث، الْاِفْرَازَات الكِيمِيَّائِيَة (الصّلْبَة، والسَّائِلَة، والغَازِيَة)، التي تُنْتَج بِكَمِّيَات ضخمة، وَتَتَسَبَّبُ في تَضَاعُف حالات السَّرَطَان. ونذكر أيضًا من بين الكَوارث، إفْقَار الأراضي الفلاحية. ونذكر تَعْمِيمِ إِزَالة الغابات، وتَلْوِيث الهواء في المدن، وتَلْوِيث الأراضي، والأنهار، والمحيطات، بمواد كيماوية مُتعدّدة، ومُضِرَّة. ويستحيل التَخَلُّص من هذه المواد الكِيمِيَّائِيَة المُلَوِّثَة، لَا بسرعة، ولَا بشكل كامل. ونذكر مِن بين الكَارث، رَفض التحكّم العَقْلَاني في النَّسْل البَشَرِي، والتَزَايُد المُفْرِط في عدد سُكّان كوكب الأرض.
والسّبب في عجز الرَّأْسَـمَالية عن مُعالجة هذه المشاكل المُجتمعية، أو العَالَمِيَة، هو أن الرَّأْسَمَالِيَة مَبْنِيَّة على أساس مُحَفِّز وحيد، هو الرِّبْح الخُصُوصِي. فَلَا يَقْبَل المُقَاوِل الرَّأْسَمَالِيّ تَحَمُّل كُلْفَة أَشْغَال تُـفِيد عُمُوم المُجتمع. وَيَرْفُض المُقاول الرّأسمالي تَمْوِيل الأَعْمَال التي لَا تَقْتَصِر على خِدمة مصالحه الخُصُوصِيَة. وَمُعظم الحُكَّام، والسِيَاسِيِّين، والسَّائِدِين، في المُجتمعات الرَّأْسَمَالِيَة، يُرَكِّزُون على خِدْمَة مَصالحهم الشَّخْصِيَة الأَنَانِيَة، وَيَتَحَايَلُون لِتَلَافِي خِدْمة مصالح عامّة الشعب.
ومن مِيزات الرَّأْسَمَالِيَة، والْإِمْبِرْيَالِيَة، أنهما يحتاجان، وبشكل مُتجدّد، إلى اِفْتِـعَال حُروب عُدْوَانِيَة، وَمُدَمِّرَة. وتـكون هذه الحروب تارةً مُباشرة، وتـكون تارةً أخرى غير مُباشرة، أو بِالوَكَالة. ولا تَعبأ الرَّأْسَمَالِيَة والْإِمبريالية بِضَاحَايَا هذه الحُروب العُدوانية.
وفد ساقتنا الرأسمالية إلى إِقَامَة تَوَازُنَات الرُّعْب العالمية، وإلى صُنْع، ومُرَاكَمة، وتخزين، تَرْسَانَات هَائلة من أسلحة الدَّمَار الشَّامل، التَـقْلِيدِيَة، وَالنَوَوِيَة، والهِدْرُوجِنِيَة، والكيماوية، والبيولوجية. وتكفي هذه الأسلحة المُرَاكَمَة إلى إبادة البشرية كلّها عدّة مرات. ولكي تُصْبِح هذه المغامرة الحمقاء مُحتملة، يكفي أن يَصِلَ، في نـفس الوقت، إلى مسؤوليات الرِّئَاسَة في بضعة بلدان غربية، أشخاص جُهَّال، أو يمينيون متطرّفون، أمثال الرئيس الأمريكي الحالي دُونَالْد اتْرَامْبْ. هكذا سَتُصْبِحُ المُقَامَرَة بالسِّلم العالمي ممكنة. وسَتَغْدُو المُغَامَرَة بتجريب حرب شاملة جديدة، واردة جدًّا بين الدول القوية. ومن الممكن أن تكون هذه الحرب كافية لإبادة معظم البشرية أو كلها. وما دَامَت الرأسمالية موجودة، فإن هذا الاحتمال سيبقى وَارِدًا.
وَلِكُلِّ هذه الاعتبارات، نُؤَكِّد أن استمرار البشرية في نَمَط الانتاج الرأسمالي، وفي نمط الاستهلاك الرأسمالي، هو انتحار جماعي بَطِيء. ويمكن لهذا الانتحار الجماعي البَطِيء أن يتحوّل إلى إبادة شاملة وسريعة، لِجُزْء هَامّ مِن البشرية، نَتيجة لاستعمال أسلحة الدَّمَار الشَّامل، المُرَاكَمَة، أو المخزُونَة. ومجمل البشرية تحتاج اليوم، وبسرعة، إلى تحصيل أكبر وضوح ممكن، حول نمط الإنتاج البديل، الذي سَنُعَوِّض به نَمَط الإنتاج الرأسمالي. لأن نَمَط الإنـتاج الرَّأْسَمَالِي لَا يقبل الخُضُوع، لَا للعقل، ولَا للشعب.

واليوم، توجد مُجمل البشرية في أزمة(2) لم يسبق لها مثيل. وتَدْفَعُ أكثر فأكثر الرأسماليةُ المُعَوْلَمَةُ مجمل البشرية نحو نوع من الانتحار الجماعي، الذي يُمكن أن يكون بَطِيئًا، كما يمكن أن يكون فائق السُّرْعَة. ورغم الطّابع المَفْضُوح لهذا الانتحار الرأسمالي الجماعي للبشرية، يظهر كأنه غير مَشْعُور به، أو غَيْرَ وَاعِ، من طرف معظم شعوب العالم. والطبقات السَّائدة، أو المُسْتَغِلَّة، التي تحتكر سلطات القَرَار، تُعْمِيهَا أنَانِيَتُهَا، فَتَـتَمَادى كعادتها في تغليب مصالحها الخَاصّة الضَيِّـقَة، أو القصيرة المَدَى، على مصالح شُعُوبها، وعلى مصالح البشرية جمعاء. وإن انْحِبَاس الكثير من الحركات المناضلة الصَّادِقَة، في الحدود الضَيِّـقَة للمطالبة بقليل من الديمقراطية هُنَا، وبقليل من حقوق الإنسان هُنَاك، دون إعادة النظر في نَمَط الإنتاج الرأسمالي في شُمُولِيَّته، سَيكون بِمَثَابَة اِنْخِدَاع غير مسؤول، وغير مقبول.
والماركسية هي من بين المَدارس الفكرية النّادرة جِدًّا، التي تنتـقد الرأسمالية، وتـفْضَح آلِيَّاتِهَا المُسْتَلَبَة (aliéné)، وتَحُثُّ على التحرّر منها. فهل سَتـقْبَل الشعوب فَنَائَهَا، دون مقاومة، ولَا انتـفاض، ولَا ثورة شَامِلَة؟ وهل سنكون، كبشر، في مستوى رفع هذه التَحَدِّيَات، قبل فَوَات الأَوَان الحَاسِم؟

رحمان النوضة، شهر يونيو 2015.

الـــــــهــــــــوامـــــــــش :
(1) Émission de télévision "Complément d enquête" sur le canal "France 2", le 15/02/2019, sur l interdiction avortée du Glyphosate en France.
(2) أنظر على الأنترنيت نـقدا حديثا ومُهِمًّا للرأسمالية، لِيُوهَانَسْ فُوجَلْ (Johannes Vogele): (http://www.krisis.org/2000/essai-d-une-autocritique-de-la-gauche-politique-economique-et-alternative/).



#عبد_الرحمان_النوضة (هاشتاغ)       Rahman_Nouda#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نَظَرِيَة «الْأَنَا»، و«الْأَنَانِيَة»
- مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 3/3
- مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 2/3
- مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 1/3
- هِجرة الأدمغة المُمْتَازَة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
- الحَلّ الجَذْرِي لِمُشْكِل الجِنْس خارج الزَّواج
- لِمَاذَا اِنْهِيَّار إِسْرَائِيل حَتْمِيٌّ
- فَلْسْطِين وَانْهِيَّار أَمْرِيكَا
- لِمَاذَا القَضَاء على إسرائيل
- دُرُوس زِلْزَال المغرب
- دَوْلَة الجَوَاسِيس
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة
- أُطْرُوحَات حَوْل الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة
- هَلْ نَـقْد اسْطَالِين تَآمُر ؟
- فَنُّ النَقْد السِيَاسِي 3/3
- فَنُّ النَقْد السِيَاسِي 2/3
- فَنُّ النَقْد السِيَاسِي (1/2)
- بَنْ سَلْمَان مُقَابِل محمد السَّادِس


المزيد.....




- حافلة تقل سائحين من روسيا وبيلاروس تتعرض لحادث في أنطاليا ال ...
- موسكو تطرد موظفا في السفارة الرومانية ردا على إجراءات بوخارس ...
- بوتين يؤكد إمكانية توسيع التعاون مع منغوليا في قطاع الطاقة
- باقري متوعدا: -لبنان سيكون جحيما للصهاينة-
- مجلسا الاتحاد والدوما يعتمدان تعليق مشاركة وفد روسيا في الجم ...
- أنقرة: الادعاءات المتعلقة بسياستنا حول الشرق الأوسط تفتقر إل ...
- في ألمانيا والسويد.. توقيف أشخاص بتهمة ارتكاب -جرائم ضد الإن ...
- ما الذي يعنيه حصول ترامب على حكم الحصانة؟
- ألمانيا ـ تحقيق في هتافات عنصرية محتملة من مشجعين نمساويين
- روسيا تطلق صواريخها الفضائية الجديدة من مطار -فوستوتشني-


المزيد.....

- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب
- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الرحمان النوضة - الرَّأْسَمَالِيَة هِي اِنْتِحَار جَماعِي بَطِيء