|
نشوة التجزؤ .. قراءة في حالات الروح
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 1754 - 2006 / 12 / 4 - 11:09
المحور:
الادب والفن
ينحرف النص عن ما يمكن أن يحتويه من مقولات الجنس الأدبي ، ليؤسس لحالة من التداخل المفتوح ضمن اختلاطه بتأويلاته المحتملة ، و لو تعمد الخطاب إثبات انتمائه إلى الرواية أو الشعر أو الكتابة الأدبية بحد ذاتها ؛ تلك التي صارت الآن في توسع يفوق أي حدود منذ اختلطت نوازع الأداء التمثيلي بأبسط الحوادث اليومية ، و أبسط العلامات اللغوية . تكمن إذا أشباح الأجناس المختلطة في تعاقب الوحدات الصغيرة و لو أعلنت انتماءها لكل زائف ، كما تنزع بعض النصوص إلى التوافق مع حالة التجزؤ رغم ما تحمله من تقنيات تنتمي إلى أجناس مختلفة ؛ مثل نص " حالات الروح " للكاتب زكريا عبد الغني – مركز الحضارة العربية بمصر 2006 – و قد كتب أسفل العنوان لا رواية ، و هو هنا يربط النص بالسرد الروائي في الوقت الذي يبعد فيه الوحدات و الوظائف عن الاتصال الكلي ؛ إنه يسخر منه من داخل أدواته المجزأة في اتجاهات و مسارات تشكل الوجود / الأداء خارج الكتابة ككتابة سردية خارج نطاق الكتاب ؛ إنها حالات للروح للشبح الذي يمارس إغواء النزعة التمثيلية كمرادف لوجوده في العالم . و طبقا لجيرار جينيت يمكن السباحة في التعالي النصي الجامع ، أو النسيج الجامع الذي يقع في مكان ما وراء النص دون اللجوء للتقسيمات السابقة ( راجع / جينيت / مدخل إلى النص الجامع / ت / عبد العزيز شبيل / المجلس الأعلى للثقافة ) . و لكن هذه المرحلة من تجاوز الحدود بين السردي و الغنائي و الدرامي ، تخرج الآن من ماوراء النص / الجمل الشارحة لتداخل الأجناس ، إلى الوجود كتأويل قصصي للقدرة للشروع في أي عمل يمكن رده للهوية ؛ و من ثم تنهار شكول السارد بوصفه ساردا له بنية إلى تفرع الأداء في مسارات قوية ، تقبل الانشطار و التنافر . لقد صار السرد انتشارا للواقع ، للخرائط عند إيهاب حسن ؛ إذ لا يمكن تحديد الخريطة ؛ لأن أحلامها و أخيلتها و أساطيرها القصصية لن تنتهي أبدا ( راجع / إيهاب حسن / Maps Stories A Brief Meditation 2005 ) . هكذا يمكننا تأويل طاقة السرد العبثية في حالات الروح ، وفق سخريتها من الفاعلية و الانتماء لمنطق الاتصال النصي و الوجودي على حد سواء . إنها تنتج ضمير المتكلم وفق اتحاده بالطاقة السردية الأقوى من اختزال الهوية في تكوين محدد و لكن في تناثر هذا الضمير في قوة الأداء المناهض للرواية من داخل وحداتها المنقسمة في لذة لعبية بمفاهيم الذات و الواقع و العدم و الوجود . في النص (3) يرصد السارد / الطفل أحلامه و مخاوفه المولدة عن رؤيته للجدة العجوز التي تعيش مع حفيدتها الجميلة ، و كانت الجدة تقوم بتغسيل موتى النساء من أهل البلدة ، و لما ماتت حزن المتكلم ثم علم أن الفتاة تعيش مع عجوز أخرى في درب مجاور . لقد شك السارد في معرفته بالعجوز عقب موتها ؛ إذ جسد حزنه علاقة متوترة بسرديات الموت الكامنة في وظيفة العجوز و قدرتها على التنامي في الآخر دون أن تنتهي قصصها المجازية ، فخيالاتها مازالت تعمل بداخله ، كما ظهرت بديلة لها يتنامى فيها موت الأولى بامتدادها التأويلي في الأخرى التي تستأنف الطاقة الأولى و تكملها من خلال الفتاة . هل كانت العجوز الأولى مشبعة بالحضور ؟ أم بالموت ؟ لقد استشرفها السارد في آخرية الشبيه ؛ فانتفى عنها التحقق المرجعي الأول في اتجاه النسخ المخيلة التي انتشرت من خلال صورة الموت بداخله مؤولة بالعجوز و حكايتها المتنامية من خلال الأخرى ، و قد انتقلت إليها الفتاة / علامة الحياة ، و البهجة المزدوجة بذكرى الموت كقصة تخيل الواقع ، و تنتج المفاهيم من خلال صيرورة الصورة لا من خلال أصالة المفهوم . و في النص (4) ينصت الطفل إلى صوت جميل يتجسد بداخله دون أن يعرف مصدره ، و لكنه يبعده عن ضجيج السيارات اليومي ، و عندما تتبعه رأى طائرا كبيرا له وجه قمر أو طفل تتصاعد منه الموسيقى ، ثم طار به إلى السماء . الصوت يجمع بين الداخل ، و الخارج دون حدود كلية ، فقد تطور في النص من كونه موسيقى شبحية تغوي الطفل بالاختفاء ، إلى ضخامة متعالية في هيئة طفل آخر ؛ و كأن الكائن يناهض هويته في اتجاه جذب الطفل الأول إلى تكوينه الاستعاري في الفضاء ، و قد صار مشكلا للوجود ، و اكتشافا للمحو الكامن في ضخامة المادة الأسطورية . الصعود في القصة ذوبان في الصوت ككتابة تفسيرية تتعالى على المادة من داخلها ؛ هل هو انفجار الجسد من خلال ذكريات التدمير الصاخب اللاواعية ؟ أم أنه انجذاب نحو عملقة أسطورية غير مرئية تناهض واقعية التهميش من خلال المحو الزائف ؟ و في النص (9) يعاين السارد وجها يعرفه ، و يناديه في الشوارع ، و يؤيده أحيانا دون أن يتذكر اسمه حتى يكتشف أنه يحمل اسمه ، و يسكن شقته ، من دون أن ينفي عنه سمة المغايرة . و يبدو السارد في بداية النص حريصا على المعرفة ، و التحديد الموضوعي للشخص ، كما يبدو متحمسا بشدة لهويته التي جلبت – على مستوى الأداء – عدوها الساخر ، الذي يمارس لذة التجزؤ حاملا ملامح الهوية دون أن يثبت وجودها أو يحددها . إنه يفتتها من خلال حماسها للتطابق الذي صار مغايرة داخل المغامرة السردية متعددة الخطوط باسم مشترك يفجر الكلية الزائفة . و في النص (13) ينفصل رأس السارد عن جسده ، مع احتفاظ الرأس بالقدرة على الكلام ، و احتفاظ الجسد بالإرادة و العمل ، فهو يحمل الرأس ثم يقع من يده وسط زحام السيارات في الشارع ؛ فيساعده الناس على حمله ، ثم يغيب الرأس و يعود جمجمة بلا حياة و يختفي الناس من الشوارع ثم يحمل السارد جمجمته على العصا. هل صار الموت نسخة لاعبة تسخر من مفهومه الأول ، و تؤجله من خلال تطور الحكاية في الزمن ؟ أهو تطور للموت أيضا من خلال القدرة على السرد و الموت معا؟ هل هي أفراح التفتيت و استعادة الحياة من خلال استرجاع غير واع لأدونيس ، و أوزوريس ؟ إن السرد في هذا النص يسخر من الفاعل ، ومن ثم فلا مجال للحديث عن وجهة نظر أو تحديد لراو يتمتع بالحضور . هو الحكي وحده المؤول للمعرفة بطاقة الموت / الجمجمة في المشهد . و في النص (15) يعاين السارد سوقا كبيرا تتوسع فيه أجساد الأقوياء بصورة غير واعية من خلال إضافة أعضاء جديدة تباع نتيجة الفقر ، و قد اضطر السارد لبيع أصابعه أولا ليحصل على النقود ؛ ليأكل ثم فقأ عينه ، و أخيرا باع رأسه حتى صار شبحا . إن قدرة السارد على الحكي عقب تحوله في اتجاه الفقد مقابل الزيادة التوسعية اللاواعية ، يسخر من مركزية السوق ، أو يفجرها من خلال لعب الصورة خارج آليات السوق المركزية و لكن من خلال مفاهيمها الأولى التي تسخر من مركزيتها ؛ فهي خريطة حلمية تؤدي لانتشار الأطياف و استمرار الحكي المناهض لحتمية السوق و ما يصاحبه من عنف أيديولوجي كلي يسقط في استمرارية التحول . و في النص (26) يختل إيقاع المشي المنتظم لدى البطل فيبدو متنافرا ، مع حركة رأسه في اتجاهات كثيرة لا علاقة لها بما يقول ، و قد وجد أصدقاءه يعانون من الأعراض نفسها فيرقصون رقصة جماعية تبدو كشجار دون فرقة موسيقية فقد كانت الآلات تتولد من داخلهم . لقد بدا الرقص المتنافر حتميا في بداية النص ، و لكنه جسد ثورة الميكانيكية الجسدية على الانتظام و التناسق في اتجاه نشوة الرقص مع الألم ، و التدمير كمصدر نيتشوي للقوة من خلال التجزؤ الفرح . و في النص (40) يرصد السارد من الخارج حالة رجل توقف حياته و تأويلات وجوده على فعل الحفر ، فقد كان يجمع عظاما متناثرة ، حتى وجد الجمجمة فركبها على العظام في منزله ، ثم اختفى و لم يجده الناس في اليوم التالى ، و لكن وجدوا الهيكل وحيدا . هل ازدوجت الهوية بالموت ؟ هل كان يبحث الرجل عما يجعله يمارس لذة الاختفاء بوصفها هوية تمثيلية لوجود لم يكتمل ؟ أو هل نقول لم يوجد ابتداء ؟ إن طاقة الهيكل تحمل حياة قد بدأت للتو في العمل حين استلبت الباحث ، و حولته لطيف ينطق باسم الموت ، دون أن يتطابق معه . محمد سمير عبد السلام [email protected]
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتابة أورهان باموك .. و خروج الهامشي من هامشيته
-
أولية التحول في الفوتوغرافيا و الشعر ... قراءة في شجن ل .. ع
...
-
جماليات الغياب .. قراءة في رشحات الحمراء ل .. جمال الغيطاني
-
نجيب محفوظ ... وهج بدء متكرر
-
تناثر المرآة و اللعب بالقصيدة .. قراءة في ديوان فوق كف امرأة
...
-
طفرة الخروج ... التجاوز و التجديد في قصيدة النثر المعاصرة
-
نهاية النموذج .. قراءة في كسبان حتة ل .. فؤاد قنديل
-
الاستباق و التحول - التفاعل المعاصر بين التراث الثقافي و الع
...
-
أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي
-
مقاومة الهامش في ديوان المدخل إلى علم الإهانة ل ..مهدي بندق
-
العقل يتجاوز إطاره
-
ارتباك الواقع في مجموعة هشاشة عقول ل نبيل عبد الحميد
-
جماليات الاندماج الكوني.. قراءة في الغزلان تطير ل محمد المخز
...
-
هارولد بنتر .. و الاستعادة المقدسة لتموز
-
فرح التفكيك .. قراءة في ديوان لك صفة الينابيع ل .. علاء عبد
...
-
التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه
-
الأدب يفجر أسئلة العمل و العمل الافتراضي
-
عبد الرحمن منيف ... الوجه الجمالي للشخصية العربية
-
ما بعد الحداثة... و جماليات التناقض..قراءة في الأشياء الفريد
...
-
مطاردة الفراغ... قراءة في ما بعد الحداثة و ما بعدها و الملام
...
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|