ممدوح رزق
الحوار المتمدن-العدد: 1724 - 2006 / 11 / 4 - 06:46
المحور:
الادب والفن
طائرة وطنية تعبر فوق منزلي .. رغم أنها لن تكون سببا لعبوري نحو نشرة أخبار ( قانا ) .. إلا أن صوتها أصاب معدتي كالمعتاد بتقلص عنيف يصاحبه خفقات قلب قوية وكثير من الدوار .. الطائرة الوطنية لا تحتاج لهدم المنزل فوق جسدي بقذيفة ليس مهما أن تكون مستوردة أو محلية الصنع .. هي تعبر فحسب .. ربما على سبيل قتل الملل .. وربما لأن حكمة الطيران العسكري تستوعب جيدا أن الاحتضار قد يكون أكثر قسوة من الموت ذاته .. الوطن يرسل إليك طائراته إذن ليثبت انتماءك .. انتماءك المشروط بفهمك للقيمة المجازية للأنقاض .. حيث العالم الذي أصبح قرية صغيرة قد غافلك بمهارة قناص محترف وزرع بداخلك مخيلة مدربة تماما على التوحد .. إذن .. ليس غريبا أن تتاح لعينيك القدرة على التمعن من خلال الثقوب الفضائية المتعددة في جثتك المدفونة تحت الأسقف والجدران المنهارة .. لكنها ليست أكثر من حالة تجسيدية للأمر فحسب .. هي ذاتها نفس الأنقاض .. الفرق .. أن عدسات التصوير والكاميرات التليفزيونية لن تتجول في صدرك بعد غياب صوت الطائرة .
* * *
( مساء الخير لكل الحاضرين .. فداك نفسي وأبي وأمي يا رسول الله .. الأهلي فوق الجميع .. ممكن فتاة رومانسية للتعارف والصداقة ؟ .. الحاج فرج ابراهيم وأولاده يحيون سيد المقاومة حسن نصر الله .. وحشتيني يا منى .. كيف لا أسبحك والكون كله يسبحك ؟ .. الفوز للزمالك غدا بإذن الله .. ممكن شاب محترم للارتباط الجاد ؟ .. النصر للبنان .. ادعوا بالشفاء لوالدتي .. مبروك النجاح يا علاء .. تحية من صابر السيد عيد بطنطا لشهداء المقاومة الفلسطينية .. إلى المطلقة الحزينة : معك شوقي من القاهرة عرفيني بنفسك أكثر .. اذكر الله ) .
هكذا لا تبدو الدنيا بمثل القسوة التي نتصورها أحيانا .. حتى الموتى لديهم فرصة مثالية للعودة بواسطة الـ sms ويكونوا على قيد الحياة .. ما الذي ينقصنا حقا طالما أن وجودنا الذي اكتسب بريقه الإعلامي أصبح يتحرك واضحا بأمان فوق شاشة فضائية ؟! .. وجودنا القادر على استيعاب الزمن والعالم في رسالة قصيرة .. حيث أسوأ ما يمكن أن يصيبنا في تلك اللحظة هو نفاذ الرصيد أو انقطاع التيار الكهربائي .
* * *
لم يعد لديه أحد يتحدث معه عن الأساطير ، ولا ألف ليلة وليلة ، ولا كوميديا الأبيض والأسود .. الحياة لم تعد تسمح لأصدقائه أن يخصصوا وقتا من أجله ليساعدوه على استعادة طفولته بشكل ما .. هو الذي يمتلك أسبابا قوية لجعل استعادة الطفولة بحاجة إلى الآخرين .. الغريب أنها أيضا نفس الأسباب التي تؤكد على ضرورة أن يحاول استعادتها بمفرده .. في جميع الأحوال يشعر أن قدرته على الاحتمال تتناقص تدريجيا .. هو الذي أدرك أنه لم يعد بإمكانه الحصول ذات يوم على فرصة أن يعيش في منزل ( بطوط ) ويجلس معه في حديقته ويستقل معه سيارته رقم 313 للقيام بنزهة في شوارع مدينة ( البط ) ، أو أن يكون صديقا لـ ( اسماعيل ياسين ) ومشاركا له في حجرة فقيرة فوق سطح منزل شعبي مثلا كعاطلين عن العمل وعن الحياة كما يريدها الآخرون ويمضيان أوقاتهما في الضحك والاحتفاء بالذكريات والانتظار بتفاؤل حزين .. لن يصبح عضوا سادسا في ( المغامرون الخمسة ) أو يمنحه ( تشارلز ديكنز ) مدينة قديمة تحمل شوارعها وبيوتها رائحة أنفاس ( ديفيد كوبر فيلد ) و ( أوليفر تويست ) .. لن تعود ( الثمانينات ) إليه ، ولا أوقات العصر التي كان يقضيها وأسرته نائمة في الوقوف داخل الشرفة والتطلع بشغف أبيض نحو امتداد السماء وراء البيوت البعيدة وهو يردد بينه وبين نفسه أن الدنيا الواسعة موجودة هناك .. بعيدا .. حيث يمكن لغناء الطيور الحميم أن يحتضنها والذي كان يبدو كل يوم كأنه يقصد روحه المحلقة بنشوة تحديدا .. لم يكن لحظتها هو الطفل الوحيد .. كان كل شيء طفلا .. العالم بأكمله كان طفلا .. حيث لا وجود لحجرة مغلقة ذات ضوء خافت ، ولا نافذة يتحرك ورائها ليل عجوز .. حيث لا وجود لرأس ثقيل .. ثقيل جدا وممزق يحاول التوصل لهدنة ما مع الدوار ومع عقربي ساعة نشيطين تماما .
* * *
لديه أمنية قوية وسرية جدا .. هي واحدة من أجمل أمنياته وأكثرها تعايشا واحتواء لذاته .. أن يقم بزيارة مدرسته الابتدائية ويتجول في فنائها وفصولها وحجراتها .. أن يسير في ممراتها ويستند بذراعيه على سور كل طابق من طوابقها ويحتضن هواءها بعينيه وداخل صدره .. يتمنى أيضا أن يصور بكاميرته الرقمية فيلما يوثق به هذه الزيارة ويضيف إليه فيما بعد أغنيات لـ ( فرانك سيناترا ) و ( دين مارتن ) و ( بيلي هوليداي ) و ( لويس أرمسترونج ) أو موسيقى ( الراعي الوحيد ) .. هو الذي منذ أن غادرها مع انتهاء دراسته لم يعد إليها ثانية .. الآن .. وبعد أن اقترب من الثلاثين تكتسب هذه الأمنية قوة متزايدة وحميمة .. تزداد إلحاحا وتصميما .. كأنما صارت ضرورة بديهية لم تعد موضع شك أو نقاش وأن تنفيذها معطل ومؤجل إلى حين ولكنها في جميع الأحوال ليست خاضعة للاحتمال أو الصدفة .. أصبحت قدرا تمت رعايته وتثبيته في غيب ما يحتفظ فحسب بموعد تحقيقه فعليا .. مع ذلك يشعر بارتباك وفزع شديد كلما تخيل نفسه يفعل ذلك .. لا يدري لماذا يوجد شيء غامض في أعماقه يربط بين قيامه بزيارة مدرسته الابتدائية وبين موته كأنما ستكون هذه الزيارة هي حقا آخر ما سيفعله في حياته .. ربما يشعر أنه لن يتمكن أبدا من تحمل المواجهة المباشرة مع البراءة القديمة .. المواجهة الأشبه بالسقوط المدمر في الهاوية السحيقة لجحيم حقيقي للغاية .. التي ستنتزع من الخراب طبيعته المجازية المختصة بالمحافظة على انتمائه لحياة التصورات والاحتمالات والأفكار والمشاعر القابلة للتفاوض والجدل والتغير والاستبدال والتراجع لتجعله واضحا وصادما وعاريا بأقصى قسوة ممكنة .. لن يكن لحظتها للتشوه والقبح والفساد الذي آلت إليه نفسي وأصاب روح العالم أية خصائص نسبية .. سيكون مكتملا وشاملا وفعليا بطريقة مرعبة وفي حالته الواقعية القصوى .. هنا وجها لوجه .. أمام جثة الفردوس الطفولي الذي لم يعد بإمكاني سوى الإقرار بيقين محسوم على فنائه وغيابه النهائي .
أشعر بتأكد هائل أنني لن أستطع تحمل تلك اللحظة .. أنها ستكون موعدا لتوقف جسدي تماما عن العمل .. ربما يكون التصور الأقرب للمنطق والمرتبط بهذه الزيارة هو أن تحدث بينما أكون مصابا بمرض خطير كالسرطان مثلا وعلى وشك الموت خلال أيام أو شهور قليلة .. دائما تلازمني هذه الفكرة وهذا الاحتمال الشبه مؤكد لتحققها كأنما الأمر يلزم لتنفيذه معادلة متزنه كهذه تفترض أن الاستمتاع الحقيقي بالحنين والاستعادة الرائعة لأجمل الذكريات تحتاج حسابات تم تصفيتها مسبقا مع الموت .. أن تتعايش بطريقة مثالية لوقت استثنائي مع الماضي وفي أعماقك سكينة راسخة ناجمة عن اعتراف ذاتي وأخير بأنه لم يعد هناك ما يستحق الخوف من أجله .
* * *
فقط .. كل ما أراده .. أن تنتهي المضاجعة في وضع ما .. مشكلة هذا الوضع .. أن معه تقل احتمالات التلقيح .. كل ما أرادته .. أن تنتهي المضاجعة في وضع آخر يجعلها أما .. حسنا .. ماذا لدينا في هذه الحجرة ؟! .. رجل حزين عار .. امرأة حزينة عارية .. صمت .. برواز معلق لآية قرآنية تتحدث عن يوم القيامة .
#ممدوح_رزق (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟