|
*كحل العين!
لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 7460 - 2022 / 12 / 12 - 20:34
المحور:
الادب والفن
-إضاءة سردية من سيرة ذاتية : لخضر خلفاوي* —— * … لمّا تمّ مناداتي من خلال القائمة الإسمية التي جاء بها عسكري من القوات الخاصة التي تحرس المعتقل ، تقدّمت نحو الممرّ باتجاه الساحة المؤدية إلى "البارلوار - parloir “ .. هي قاعة كبيرة مؤمّنة و مدججة بالعساكر و رجال الدرك مجهزين بالسلاح الرشّاش و المُسدّسات و الأصفاد. القاعة هي فضاء خُصّص لزوار المساجين من العوائل و الرفقة القادمين من كل جهات الوطن إلى معتقلنا هذا في الجنوب.. كان يفصل الزُّوّار من العوائل و المعتقلين سياج كبير ينطلق من أرضية القاعة الكبيرة على كامل طولها إلى غاية السقف …لما خرجت لملاقاة والدي كنتُ لم انتبه وقتها بأني انطلقتُ جريا ، لاهثا من منطقة مخيمات الاعتقال باتجاه مباني إدارة المعتقل و أنا في كامل زينتي و لأوّل مرّة مُكحّل العينين ؛ هو ليس بيوم عادٍ بعد شهر أو يزيد من الانتظار يفصل كل زيارة مسموحة من قبل إدارة المعتقل العسكرية … مثلتُ واقفا وراء سياج قاعة الزيارات المؤمَّنة للمعتقل*1 ، أبحث عن والدي كمن يبحث عن إبرة في كومة للتّبن و ذلك لصعوبة الرؤية بحكم اكتظاظ الزوار و المزارين من المعتقلين الذين كتب لهم أن يحضر إليهم أهاليهم و عوائلهم لزيارتهم و الاطمئنان عليهم و تزويدهم بالمؤن و ما يحتاجونه من أساسيات في حياتهم اليومية .. ضجيج المكان المهول صعّب علي مهمّة العثور على شبح يشبه أبي ، فثقوب السّياج الحديدي يشوّش عليّ الرؤية مع أهوال النداءات و الصراخ و البكاء و حتّى النحيب. لكن سمعي استرق صوت والدي و هو يناديني ، كنتُ أقول ربما هو صوت أبي الذي اصطحبني إلى المُعتقل مذ وهلة الاعتقال الأولى و كان نائما بداخلي أو هيّئ إليّ بأنه استيقظ .. لقد أصابني نظر والدي قبل أن يصيبه نظري أنا ؛ ألم يخبروني في هذا المعتقل بأن ( الكَحل معروف عنه بتحسين رؤية العيون و يعمل على علاجها من أمراض كثيرة منها الرّمد بالإضافة إلى مفعول الزينة!؟)، يبدو في تلك الأثناء و اللحظات الدرامية أنّ عين الوالد كانت أبلغ و أثقب و أجحظ من أسطورة "مكاحيل المعتقل" و ما حكته لي أفواه بعضهم من السلفيين و المتديّنين و من كل المشارب و التيارات ! نعم .. كان يبدو قلب والدي أنّه استبق الرؤية و رآني قبل أن يُفتح له طرف عين .. في هكذا مكان عند كل زيارة تجهش القلوب ألما فتفضحها دموع العوائل و الأطفال و الزوجات القادمين للزيارة. -تزحزحت منتشيا ، مضطربا ، مرتبكاً من بين الصفوف المزاحمة لي من زملائي المعتقلين و كأنه يوم الحشر و انحشرتُ في الزاوية الضيقة التي فُزتُ بعد جهد جهيد في التسللّ بين الاجساد المنهكة بالفقد و الحيف و الظلم .. قادني إليها صوت أبي : ( فيصل ! فيصل !فيصل ! من هنا ، من هنا اقترب من هنا يا ولدي !!!)… كنّت فاقدا للصوت للمرة الثانية مندهشا رغم أنّي أعلمُ بأنّي أُختِرتُ لأكون صوتا مُسكَتاً بلغة الحديد و الإبعاد ضمن العشرات من الآلاف من الأصوات الأخرى في الصحراء الكبرى للجزائر التي كانت تُزعج السلطة العسكرية الانقلابية أنذاك .. كانت لا تسعني الفرحة فأحزاني وقتها كانت أكبر بكثير ، بل تعادل مساحة الجزائر مع السودان و ليبيا ؛ فللحزن عندي جغرافيته أيضا .. كنتُ أمثُلُ واقفا خلف ذلك السياج اللّعين الذي يستحق الرّجم بِكل حصيّات رمل بلادي ، ذلك الفاصل العازل أقابل فيه انتصابة أبي المتشبّث به بكلتا يديه المرتعشتين و هو يحمل لي تلك الابتسامة و اشتمّ من خلالها ريح الحرية التي اغتصبوها مني و أنا أشارف العشرين من العمر ! كان والدي مشدوها ، فرحا و هو يكلمني و لا يكاد أن يسدي لطرف عينيه ذرة واحدة ، كان يحدثني دون أن يرمش للحظات مثبتا نظره في بشغف و قلق و انفعال و بانبهار و هو يراني مكحّل العينين .. ( هل أخضعوكم للتعذيب و الإهانة ، هل يسيئون معاملتكم و لا يتوقفون على قهركم يوميا كما وصلنا بالخارج من أخبار مرعبة و مقلقة !؟؟).. كان والدي و هو لا يتوقّف عن التحديق في يمطرني بوابل من الأسئلة مُبدياً قلقه الشّديد عليّ ! -لكنّي فهمت دون أن يسأل أو يشيرَ هو بذلك كأن يسألني لائما أو موبّخا: ( مالي أراك يا ولدي كحريمنا هناك تتزيّن بوضع الكحل على عينيك ، ما الذي أصابكَ !) .. كان الأمر بالنسبة له سابقة في تقاليد قبيلتي و جهتي المحافظة .. طامة اعتقالي الظالم جعلته يتجاوز تفصيل ( تكحيل عيوني ) فتواصل و واصل معي اللقاء و الزّمن كان يهرول من عمر الزيارة … دون أن انتبه اختفى أبي مع ( الساعة الرّملية ) التي انقلبت في دقائق إلى عقبها و الحاجز السلكي المعدني يضَبِّبُ لي مجددا أخيلة الشخوص المقابلة في الضفة الأخرى من ( الجدار أو السياج العازل بين الأرحام !) ، عدت خائبا و قلبي به رَمدُ المشاعر و نزف كبير ، كأنّ مجيء أبي لزيارتي في هذا الْيَوْم لم يكن إلا "أضغاث لئام الوطن" الذين انتزعوا مني حُرّيتي و حربتي ( قلمي الحرّ!) بسبب ( كلمة ) كتبت و قيلت في زمن فاسد بدأ يتعفّن ! . أضغاث جثمت على أغلى أحلام شاب كان طموحا يتفحّر إبداعًا في كل الاتجاهات !.. -عدت أدراج المخيّم و خطان أسودان متوازيان منحدران من حواف عينيّ ، كل خط له عين رأت ما لم يرَ في حياة المعتقل بكل حيف الدّنيا .. و بجانبه أذنٌ سمعت كل موبقات الهمّ الجزائري و له منخار ، و نصيب من شفتين غائرتين متشققتين بسبب جفاف الحب في زمن الاعتقال و الانقلابات و مصادرة الحرّيات الفردية الدستورية و له نصيب من ذقن يصلُ إلى نهاية منحدره سيلا من الحبر الأسود ينهمر دون توقّف! هال المشهد زملائي المساجين المعتقلين في المخيم و أنا أدخل عليهم بسيلين أسودين ينحدران بغزارة القهر و الأسى من عيني .. لقد جمّل ذلك الكحل عيني قبل زيارة أبي و أخذ فديتهُ سريعا عند مغادرته بدقائق و أنا ما زلت أسمح حثيث نعاله المنصرفة .. كانت دموعي تشبه دموعَ نبيٍّ تخلّى عنه قومه و غدروا به أو كأنها دموع إله إغريقي أخفق في تأليف أسطورة تؤسر المؤمنين به .. كنّت أمسح دموعي من على وجهي بذات اليمين و ذات الشّمال كما الأطفال الأيتام عند باب ( ملجأ الأيتام ) في القرون الماضية و كلما مسحتها انتشرَ أكثر ذلك السواد المالح الحار على سمرة بشرتي فيجوب مُطلى باقي تفاصيل سحنتي حينها يضحكُ زملائي من مشهد يومٍ كَحيل عظيم انعكسَ على وجهي الذي سوّده الحزن و هو قبل لحظات من الزّيارة كان مشرقا بأمل لقاء "أصلي" القادم من الحرية بتخوم الأوراس .. كان والدي الذي عاد من حيث جاء ، تاركا الجنوب و الرمال ليطوي عائدا مئات الكيلومترات طيا نحو التّل و أنا على أمل أن يأتيني لزيارتي بعد شهر أو شهرين؛ لكني كنتُ أعي يقينا أنه لن يستطيع طي صفحة سوداء من صفحات الجزائر السوداء في فترة سوداء و مخزية ، حزني و حزن أبي شقيقان لا يمحيان بالتقادم …"). ******************** —-باريس الكُبرى جنوبا (11/12/22) *1: معتقل ( سعيد عتبة ، ولاية ورقلة - الجزائر 1992) - مقتبس من فصل من فصول رواية سردية توثيقية ( شاهدة على العصر ) كتبت في القرن الماضي و مازالت تثير الإرباك و الحرج و التخوف لدى معظم دور النشر التقليدية المعروفة عربيا و كذاك الدور الجديدة المتكاثرة في كل وادٍ و تُجابه إما بالصمت أو بالرفض !.
#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)
Lakhdar_Khelfaoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-قراءة نقدية فنية: *أنتَ فنّان لا يكفي! .. كن مبدعا أو توقّف
...
-
-قطَريّات ساخرة : أُمّة -قَحْبَشَريفَة- بامتياز !
-
أمير- تاج - السرد العربي .. في زمن انتكاسة الأدب !
-
* قراءة بحثية في ملف أفظع و أخطر الأوبئة عبر التاريخ : الإنس
...
-
-كوفيّة الدُّبر العريان -!
-
*العريقُ العَرّاقْ
-
*في التربية و الثقافة الجنسية : -الرعشة الجنسية- و البحث عن
...
-
سرديات أيلولية : أخيلة - سفوح - هوى العرش- المحراب- نظارات م
...
-
أفكار -Pensées -أخشى أن يُخوّن سُكّان الأوراس يوما !
-
**سردية واقعية: -وحيد البنغلاديش - ( récit réaliste) Le soli
...
-
- حول الراهن ( الأدب ، النقد و الجوائز )؛ ماذا تبقى للإبداع
...
-
*في فلسفة قراءة الماضي و الحاضر معا: غُلام الله و -بزّولة ال
...
-
-محيض القصائد- و نصوص أيلولية قصيرة أخرى …
-
تأمّلات فكرية: السّلخ و المسلوخ- القرض الحسن- النبض-
-
فسحة الخواطر : المنحَدر اللّذيذ، تجلّي، المَلْقى المُنتظر، ح
...
-
فُسحة الخواطر …
-
فضفضات الخلوة …
-
*سرديات أيلولية: عابر السّين ..ناصية.. تبنّي.. عصايَ.. فراشة
...
-
استراحة لغوية:( الأوراس ، آريس، الأرِس، أراريسْ):
-
نصوص و أفكار قصيرة جدا
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|