أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - علي فضيل العربي - حديث عن أم ريفيّة














المزيد.....

حديث عن أم ريفيّة


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7384 - 2022 / 9 / 27 - 20:01
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


قال لي صديقي – و هو رجل ولد في الريف و ترعرع في أحضانه ، و عاش شبابه و كهولته ، حتى أناف عن العقد السادس – قال لي : سأحدثك عن والدتي المتوفاة منذ عامين - رحمها الله و طيّب ثراها – ؛ شهرزاد العائلة و العشيرة و العصر الذكوري المرّ .
و لم أمانع ، مادامت حياة والدته و يوميّاتها الريفيّة ، ليست سرّا، لا تخفى على من يعرف حالة ريفنا ، الذي كان محروما من ضرورات الحياة مدّة طويلة ، بالرغم من أنّه كان معقل الثورات الشعبيّة في كل فتراتها و مراحلها .
قال صديقي : كانت أمّي امرأة ريفيّة المولد ، لم تعش طفولتها كأطفال المدن ، فطمت قبل الأوان ، لم ترتو من الحنان ، و لم تنل نصيبها من اللعب كباقي الأحياء الراقية في المدن الكبرى و الصغرى . لم تدخل المدرسة و لا الكتّاب . فتعليم الفتاة الريفيّة في قبل ستين سنة ، كان ضربا من المجازفة ، يرقى إلى درجة الممنوعات ، بل المحرّمات و الطابوهات . وحياة الفتاة في ريفنا تبدأ من المهد ، مرورا بالبيت ، وصولا إلى اللحد . زوّجوها في سنّ الثانيّة من عمرها ، يومها كانت مازالت ترعى غنمات و معزات لأبيها .
و عندما بلغت الثالثة عشر من عمرها ، وجدت نفسها أمّا ، تربي صبيّا ، و هو اخي البكر . و عند بلوغها سنّ الخمسين ، كان عدد أبنائها ، من البنين و البنات ، دزينة كاملة ( اثنتا عشر مولودا ) ، أنا أوسطهم ، أما أصغرهم فصبيّة في شهرها العاشر ، ما تزال ترضع من ثدي أمي .
كنت أصغي لصديقي بقلبي لا بأذنيّ ، و كانت كلماته تتسلّل إلى أعماقي ، فأشعر بها كأنّها ضربات مطرقة على سندان حدّاد .
قلت بدهشة : اثنتا عشر ولدا .
- نعم ، اثنتا عشر مولودا من البنين و البنات . حُملتنا أمّنا و هنا على وهن ، و عانت من وجع الحمل ، و ألم المخاض و الوضع ، و أرضعتنا من ثديها ، و قمّطتنا ، و سهرت من أجل راحتنا . و جاعت لتشبعتنا ، و بردت لتدفئنا .
و أردف صديقي : كنّا نسكن في الريف ، و كان بيتنا عبارة عن كوخ ، جدرانه من الطين و الحجر و الجير ، و سقفه من اعمدة الصنوبر و القصب و الديس و الطين . كانت أمّي تكنس الفناء منحنيّة الظهر ، و تخبز ، و تغسل بيديها ثيابنا ، و تخيطها ، عن كانت ممزّقة ، و تجمع الحطب لإشعال الكوشة ( فرن تقليدي من الطين ) من أجل إعداد الكسرة لنا ، و تجلب الماء من البئر ، و تحضّر لنا قهوة الصباح و الغداء و العشاء ، و تفتل الكسكسي بأنواعه ، و تطعم الدجاجات ، و تجمع حبّات البيض لبيعها في السوق الأسبوعيّة ، و في فصل الخريف تجمع حبات الزيتون ، و تعصر لنا منها زيتا ، و تطحن الزرع في رحى حجريّة ، يدوية ، بعد غسله و تجفيفه و تنقيته من الشوائب . و تحلب البقرة و المعزات ، لتحضّر لنا لبنا طيّبا ، و تستخلص لنا منه زبدة لذيذة .
لقد كانت يوم أمّي يبدأ من الفجر حتى العشاء ، أي من الظلام إلى الظلام . و لم أرها – قط – إلاّ و هي منشغلة ، لا تجد للفراغ سبيلا . كان عملها لا يكاد ينتهي ، حتى يبدأ عمل جديد . لم يتسلّل الملل أو اليأس أو القنوط إلى نفسها الأكبر من جسدها النحيل من أثر العمل الدؤوب ، إلى حدّ الشقاء .
ثم أردف صديقي ، و هو يفصح عن تنهيدة ، قائلا :
- نعم كنّا اثنا عشر فما و معدة ....
و كانت امّي – رحمها الله – التي كنت أناديها – في سرّي و في غيابها – شهرزاد الأسرة و العشيرة و الدوار . تدير شؤون البيت ( الكوخ ) ، فلم أرها ، يوما ، تشتكي من تعب أو عناء أو نقص في المؤونة الغذائيّة الأسبوعية المحدودة ؛ من دقيق و زيت و قهوة و سكر و فلفل و شاي و صابون ...
كانت أحسن مدبّرة ، قانعة ، حكيمة – رغم أميّتها - تضع الأشياء في مواضعها . زينتها ، إثمد و جوز و عطر تقليدي ، يدوي ، كنّا نسميه ( بلوم بلوم ) . لم أر على وجهها بودرة ، و لا أصباغا على أظافرها و حاجبيها . كان – في عيني -أجمل النساء على كوكب الأرض ، و احبّهم إليّ ..
أما والدي ، فقد كان منحصرا في عمله اليومي ، في مزرعة التسيير الذاتي ، ورثتها الدولة المستقلّة عن ( الكولون ) ، المحتل ، الغازي . يخرج فجرا ، و يعود عصرا . أما في أيام المطر و الثلج – حين يتعطّل العمل الفلاحي ، بل يستحيل ممارسته – يلجأ لمقهى القرية القريبة من الدوار ، ليميت ساعات من عمره في لعبة الدومينو ( النرد ) .
- أجل كنّا اثني عشر فما و معدة ...
و لولا فضل الله و رحمته ، و حكمة أمي ، لكانت حياتنا جحيما ..
و أردف صديقي الريفي ، قائلا ، بنبرة غاضبة :
- و يخرج علينا اليوم ذكور( شهرياريّون ) من أشباه الرجال - لا محلّ لهم من الرجولة ، سوى شعيرات نبتت على ذقونهم و لحاهم و أدنى أرنبات أنوفهم – ليقولوا لنا أنّ المرأة ناقصة عقل و دين . ليهضموا حقوقها ، و يهينوها في عقلها و مشاعرها ، و يحطّون من قيمتها و مكانتها ، و ينزلوها منزلة النقصان في كلّ شيء . ألا ، ما أغرب هؤلاء القوم ، و ما أسفه سلوكهم تجاه أمّي ، التي حملت و وضعت و أرضعت و ربّت دزينة من الأبناء (اثنا عشر فما و معدة ) ، و أخرجتهم إلى ميدان الحياة سالمين ..
و يختتم صديقي الريفيّ كلامه ، بصرخة من الأعماق :
لا ، و ألف لا ، لم تكن أمّي ناقصة عقل و دين ، بل كانت كاملة ، حكيمة ، قويّة ، نشيطة كنحلة في خليّتها ، أو نملة في قريتها .
أيّها العقلاء ، إنّ ما قامت به أمي ، يعجز عن القيام به ألف من الذكور .. و كانت أمّي امرأة خير من ألف رجل .



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتاب الورقيّ في عصر الرقمنة.. ما محلّه من الإعراب ؟
- الحرب النظيفة و الحرب القذرة
- أزمة الذكورة و الأنوثة في المجتمع العربي ؟ أين الخلل ؟
- تثقيف السياسة
- هل سيندلع الشتاء الأوربي ؟
- الفلسفة و الحرب و السلم
- قوارب بلا تأشيرة
- على هامش الصيف
- ماذا بعد الحرب الروسية الأوكرانيّة ؟
- وجهة العالم المعاصر . إلى أين ؟
- لماذا الحرب أيّها العقلاء ؟


المزيد.....




- شهاداتٌ من رحم الألم: مجازر الساحل السوري تهزّ الوجدان الإنس ...
- خطوات منحة المرأة الماكثة في البيت 2025 الجزائر
- أمين عام رابطة العالم الإسلامي: -تعليم المرأة حق مشروع- والك ...
- مصر.. اكتشاف مقبرة جديدة لأمير فرعوني من الأسرة الخامسة (صور ...
- نقابة أطباء السودان: مقتل أكثر من 230 طبيبا واغتصاب 9 طبيبات ...
- قواعد اللباس..لماذا لا تحصل النساء على جيوب في ثيابهن بقدر ا ...
- نضال المرأة تفتتح غدا أعمال مؤتمرها العام الرابع مؤتمر الشهي ...
- شاب يهاجم امرأة بسكين أمام متجر في ألمانيا ويصيب شابا حاول ا ...
- فرصتك للدعم بدأت.. خطوات التقديم في منحة المرأة الماكثة بالب ...
- استقبل حالا.. تردد قناة وناسة 2025 لمتابعة برامج الاطفال علي ...


المزيد.....

- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات / ريتا فرج
- واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء / ابراهيم محمد جبريل
- الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات / بربارة أيرينريش
- المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي / ابراهيم محمد جبريل
- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - علي فضيل العربي - حديث عن أم ريفيّة