|
الذهنية الراديكالية : الادراك العربي بمفهوم السياسة
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7223 - 2022 / 4 / 19 - 23:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الذهنية الراديكالية : الإدراك العربي لمفهوم السياسة نادرا"ما نتصفح كتابا"، أو نقلب دراسة ، أو نقرأ مقالة ، دون أن تشير بأصابع الاتهام وتوحي بمشاعر الإدانة ، نحو أنظمة الحكم العربية المعاصرة باعتبارها ؛ مصدر كل المشاكل السياسية ، ومنبع كل الشرور الاجتماعية ، ومنتج كل المعاناة الاقتصادية . وكأنها ليست من نتاج الواقع الذي انسلخت عنه ، وليست من رحم المجتمع الذي ولدت منه ، وليست من صنع الانسان الذي انقلبت عليه . وإنما هي فكرة هبطت على الأرض من السماء ، وانبثقت إلى الوجود من العدم ، وانعكست على الواقع من الخيال . ولذلك يبقى الإدراك العربي لطبيعة السياسة إدراكا"سطحيا"ورؤية قاصرة ومنظور ملتبس ، يعجز عن اكتناه ماهيتها الإشكالية وسبر أغوارها العميقة واستيعاب علاقاتها الجدلية . وهكذا فنحن حين نتحدث عن فساد الأنظمة السياسية القائمة ، غالبا"ما نهمل التطرق إلى تضعضع الأطر الاجتماعية التي تحكم باسمها . وحين نشير إلى استبداد السلطات الحكومية الفعلية ، عادة ما نتجنب الإشارة إلى تخلع الأنماط الثقافية التي تعتمد عليها . وحين نتعامل مع الدول الشمولية السائدة ، قلما نلّمح إلى تصدع البنى النفسية التي تمتح منها . وهو الأمر الذي نعتقد واهمين انه يجيز لنا جلد السياسة ومقاضاة السياسيين ، دون الحاجة إلى نقد المجتمع ومساءلة مكوناته وتجريم ذهنياته . بمعنى آخر إننا نبالغ في أهمية ما هو ملموس في واقع الناس ، على حساب ما هو مجرد في وعيهم . ونغالي في تقدير ما هو ظاهر في سلوكهم ، على حساب ما هو مضمر في قيمهم . ونسبغ قيمة أكبر على ما هو منفعل في علاقاتهم ، على حساب ما هو فاعل في أصولهم . ولعل هذا المنحى في رؤية الأمور ، وذاك التصور في تقييم الوقائع ، طالما أفضى إلى تكريس النظرة الاختزالية للواقع ، وترسيخ الفكرة الواحدية للمجتمع . بحيث يتم تجزأة وحدة المقومات وتفكيك شبكة العلاقات وتعطيل أوالية التفاعلات ، التي لا يكاد أي حدث تاريخي أو أية ظاهرة اجتماعية ، الاستغناء عنها والصيرورة دونها ، باعتبار كونها المدخل الطبيعي لتحليل معطيات الأول وتأويل تجليات الثانية . ومما لا شك في إن هذه الإشكالية المعرفية تحيلنا – وبصورة مباشرة - إلى مضامين النظرية الماركسية الكلاسيكية ، لاسيما في شقها المتعلق بالمادية التاريخية ، الرامي إلى تأطير العلاقة ما بين الوعي والوجود بشكل عام ، والبنية الفوقية والبنية التحتية بشكل خاص ، وفقا"لأسبقيات النظرية الفلسفية والمنهجية الجدلية ، التي تعطي الأولوية للمظاهر المادية مقابل الظواهر الروحية ، وتمنح الأقدمية لعناصر الأنطولوجيا مقابل خواطرالايديولوجيا . ولأن ديالكتيك العملية الاجتماعية يتسم بالتشابك والتعقيد ، أكثر مما هو حاصل في مجال الطبيعة بما لا يقاس ، الأمر الذي فطن إليه مؤسسي الماركسية الأوائل ، حين شرعوا بإعادة قراءة المعطيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية ، لتدارك العيوب المتوقع وجودها على صعيد النظرية ، وتصويب الثغرات المحتمل حصولها على مستوى الممارسة . وذلك عبر نقد التيارات التحريفية البرودونية والفوضوية بالباكونية ، التي كانت قد تكونت وترعرعت ضمن أجواء الفكر الماركسي وتحت جناحه . ولذلك لن يتردد (انجلس) حين يقرّ ((بأننا ، ماركس وأنا ، ملومان حتى درجة ما لأن الشباب يشددون أحيانا"على الجانب الاقتصادي أكثر مما يجب . فلم يكن لنا بدّ من التشديد على المبدأ الرئيسي حيال خصومنا الذين أنكروه ، ولم يتوفر لنا دائما"الوقت أو المكان أو الفرصة كي نعطي العناصر الأخرى المشتركة في التفاعل حقها)) . ولما كان الفكر السياسي العربي لم يبرح يعاني الانشطار على ذاته إلى تيارات ثلاث ؛ الأول (متقومن) لا يكاد يرى الواقع الاجتماعي إلاّ من خلال وحدته المفترضة ، التي – حسب لازمته التقليدية - جزأها الغرب وفرقها الاستعمار ، بعدما كانت حقيقة تاريخية قائمة ، من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال . ولهذا فقد ركز جلّ اهتمامه على التقيد بالمعايير (العنصرية / الشوفينية) ، خلال تعاطيه مع القضايا السياسية الكبرى ، وما ترتب عليها من حقوق وواجبات ، وما تمخض عنها من مكاسب وامتيازات . بحيث لم يتردد لبلوغ مآربه في (احتواء) بقية الأقوام والأعراق والاثنيات ، باللجوء إلى ممارسة شتى صنوف (قمع) التباينات الكائنة في صلب تلك المكونات السوسويولوجية والانثروبولوجية . وهو الأمر الذي عزز مظاهر التحسس والتوجس لدى تلك المكونات ، حيال نوايا أقطاب هذا التيار ، لاسيما الأحزاب القومية التي اغتصبت السلطة في بعض الأقطار العربية ، بالتعاون أو بالتآمر مع العسكر ، وبالتالي ساهم في زيادة معدلات (التعصب) والتعصب المضاد من جهة ، وعمق ، من جهة أخرى ، مشاعر النفور والكراهية بين الجانبين ، باعتبار إن ((الكراهية تزداد إذا قوبلت بالكراهية)) كما قال الفيلسوف (باروخ سبينوزا) . هذا في حين ركز التيار الثاني (المتمركس) رؤيته على واقعة - وان كانت حقيقة اجتماعية ، إلاّ أنها نسبية في معايير الجدل التاريخي - انقسام المجتمع إلى طبقات متعارضة / متصارعة ، يتمحور اهتمامها بالدرجة الأساس حول مصالحها الاقتصادية ، وان مستوى وعيها لذاتها يقاس بنسبة قربها أو بعدها من قوى الإنتاج . فهي (تقدمية) بالمعيار السوسيولوجي ، حين تكون على تماس من تلك القوى ومحايثة لإرهاصاتها ، إلاّ أنها لا تلبث أن تصبح (رجعية) بالمعيار الحضاري ، عندما تتخلف عن ديناميتها وتتقهقهر عن مجاراتها . ولهذا فقد تمحورت طروحاته حول لازمة (الطبقة / الصراع) ، إثناء انخراطه في المنافسات السياسية والسجلات الإيديولوجية ، التي طالما كان الواقع الاجتماعي مسرحا"لجولاتها وحلبة لصولاتها . الشيء الذي حال دون تبلور قيم الممارسات الديمقراطية داخل الهياكل التنظيمية للأحزاب من جهة ، وأضعف ، من جهة أخرى ، قدرة الكوادر التنظيرية والتعبوية لديها على صياغة أطر معرفية ترتقي إلى مستوى التحولات الاجتماعية العميقة وتستوعب طبيعة التقلبات الاقتصادية الجذرية ، هذا بالإضافة إلى استعصاء نضوجها الفكري وركود تطورها السياسي . أما اهتمام التيار الثالث (المتأسلم) فقد تمحور حول صيغة التقديس / التعالي لتسويق مواقفه وتسويغ تصوراته وتبرير تصرفاته . قاطعا"بذلك الطريق على أي ضرب من ضروب الحوار البيني والتعايش المشترك ، سواء كان على صعيد التنوع الديني / الإيماني أو على مستوى الاختلاف المذهبي / الطائفي ، بحيث استعيض عن وحدة العقيدة في (الدين) وما تنطوي عليه من تماسك في الانتماء ، إلى تعدد الشرائع في (التدين) وما تشتمل عليه من تفكك في الولاء . ذلك لأن كل فعل أو عملية تستهدف توظيف الدين في السياسة ، واستثمار المقدس في المدنس ، وإقحام اللاهوت في الناسوت ، لابد أن تفضي – وقد أفضت بالفعل – إلى تصنيف الناس إلى ملائكة وشياطين ، أبرار وأشرار ، مماليك وصعاليك . الأمر الذي حتم على الأطراف والجماعات المنخرطة في هذه الأنشطة والممارسات البدائية ، ليس فقط تبني ظاهرة (التطرف) في النظر إلى الآخر الجواني ، إنما تجويز السلوك العدواني في التعامل مع المغاير الداخلي ، وهو ما كرّس نزعة الاستئصال الاجتماعي ، ورسّخ شرعة الإقصاء السياسي ، وأباح موقف التهميش الاقتصادي . وهكذا لم يعد مفهوم السياسة في الوعي الجماعي العربي / العراقي يعني (القيام بالأمر بما يصلحه) ، كما كان متداولا"في أدبيات تراثنا الديني والفقهي – يستثنى من ذلك التصور الخلدوني في هذا المجال - أو ما بات يعرف في أدبيات العلوم الحديثة (فن إدارة الأزمات وتسوية الخلافات وعقلنة الصراعات) ، إنما أضحى يشير في عرف الذهنية الراديكالية العربية / العراقية المعاصرة ، إلى (القيام بالأمر بما يفسده) وفقا"لصيغته القديمة من جهة ، والى (فن استفحال الأزمات وتسعير الخلافات وتأجيج الصراعات) وفقا"لصيغته الجديدة من جهة أخرى . وفي مثل هذه الأجواء الملبدة بالشكوك البينية والمكفهرّة بالمخاوف المتبادلة ، على خلفية فقدان المعايير الموجهة ، وضياع المؤسسات الضابطة ، واندثار القوانين الملزمة ، لا يغدو فقط العنف (سيد الأحكام) فحسب – كما قال أستاذ الانثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أسحق الخوري - وإنما يتحول إلى عنصر مصيري من عناصر الوجود الاجتماعي ، ومقوم أساس من مقومات السلطان السياسي ، ومكوّن ضروري من مكونات الاستحواذ الاقتصادي ، ومعطى جوهري من معطيات التفوق الثقافي . وفي ضوء هذا الفهم الراديكالي / الأصولي لمفهوم السياسة ، فقد أباحت الذهنية العربية / العراقية المعبئة بالهذيانات والمسكونة بالخرافات ، حملات التطهير العرقي باسم (قومولوجيا) مؤسطرة ، وأجازت قبائح الاستئصال الحزبي باسم (إيديولوجيا) مؤمثلة ، وبررت جرائم الاجتثاث الطائفي باسم (يوتوبيا) متخيلة . وحيث إن هواجس الاستحواذ والهيمنة أضحت ((أسلوبا"للتعامل بين البشر – يضيف الأكاديمي والباحث المذكور – فالعنف أو التهديد به يصبح سيد الموقف . اللجوء إلى العنف أو التهديد به لفض المشاكل البسيطة والمعقدة أمر محتوم يبرز في كثير من تفاعلاتنا اليومية . التهديد بالضرب والقتل والاغتيال والاحتلال والتهجير والتدمير وقطع الأعناق وسفك الدماء يصدر عنا بشكل تلقائي عفوي لا شعوري . فالعنف من صلب تراثنا . العنف كأسلوب للتعامل جزء من شخصيتنا الاجتماعية والنفسية . حتى إننا نفهم الحب ، الحب المقدس ، وممارسة العشق والوصال نفهمه (فتحا") ، و(خزقا") ، و(قرطا") ، و(حرثا") . اللجوء إلى الهيمنة والعنف ، أو التهديد بهما ، أسلوب شامل عام . يهيمن الله القادر الفاتح والناصر على الكائنات ، ويهيمن الإنسان على الطبيعة ، والأمير أو الإمام على أخيه الإنسان)) .
[email protected]
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعي الوطن في وعي المواطن
-
تأملات (تزفيتان تودوروف) : النقد العقلاني لهوس القوة
-
تشريح الذاكرة : أحداث التاريخ وأضغاث المؤرخين
-
دولة القانون وقانون الدولة : الدستور والديمقراطية (العراق ان
...
-
أماكن الذاكرة في سوسيولوجيا المعاش
-
الشعوب المقهورة وسيكولوجية التمرد
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
-
اغتراب الوعي : من الثقافة الى الخرافة
-
اقصاء العقل في ايديولوجيا الصورة
-
اشكالية الحرية بين نزوع الارادة واكراه الواقع
-
الأصول التاريخية لظاهرة (العسكرة) في المدينة العراقية
-
الأستاذ الجامعي وإشكالية الولاء الوطني !
-
أزمات المجتمع العراقي بين غياب (النقد) وانعدام (الوعي) التار
...
-
المثقف العصامي والثقافة العصامية
-
الدين والتضامن الاجتماعي : هل نحن بحاجة إلى ثورة عشرين أخرى
...
-
غربلة الذاكرة التاريخية : قيود الماضي .. وحدود المستقبل
المزيد.....
-
-سنجدكم ونقتلكم-.. ترامب يأمر بشن غارات جوية ضد مقاتلي داعش
...
-
قتلى وإصابات في قصف مدفعي استهدف مدنيين في أم درمان، وقوات ا
...
-
إتمام رابع عملية تبادل بين حماس وإسرائيل
-
سوريا.. إعلان من إدارة الهجرة والجوازات بشأن خطوات ورسوم الح
...
-
ترامب سيفرض رسوما جمركية كبيرة على الواردات من الصين وكندا و
...
-
أزمة نقص مياه خانقة في أفغانستان وبعض مناطق كابل بلا مياه
-
تقرير: إيران تطور سرا صواريخ نووية قادرة على ضرب أوروبا
-
نتنياهو يعين الجنرال زامير رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي
-
نتنياهو: بدء محادثات المرحلة الثانية من الهدنة يوم الاثنين
-
عناكب المريخ.. ناسا ترصد ظاهرة غريبة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|