حبيب الزموري
الحوار المتمدن-العدد: 7052 - 2021 / 10 / 19 - 16:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خطاب عاطفي يخترق مباشرة أفئدة الجماهير المثقلة بالإنتظارات و الإحباط و الخوف من المستقبل , إعلان الحرب على الكل بإسم الشعب دون خوض معركة حقيقية واحدة , طمس كل الأبعاد الفكرية و الإيديولوجية و الطبقية للصراع السياسي و تحويله إلى صراع بين معسكر "الأخيار" بقيادة الزعيم " المرسل " المكلف بمهمة تاريخية الحامل لرسالة مجهولة المصدر و معسكر " الخونة " و " الأشرار " أعداء الشعب , إختلاق المخاطر و التهديدات المحدقة بالشعب و الوطن و تضخيمها و تأليب الرأي العام لمواجهتها و تصفيتها دون الإفصاح عن ماهية تلك المخاطر و التهديدات و عناوينها و كيفية التصدي لها و الإكتفاء بإبقائها جاثمة على وعي الجماهير مسلطة عليه لتتشبث أكثر بتلابيب الزعيم الملهم ...
هذه بعض ملامح الأمر الواقع الذي ما إنفكت تكرسه الشعبوية ببلادنا مثلكا كرسته عبر التاريخ في أكثر من بلد مستغلة كأفضل ما يكون الإستغلال حالة اليأس و الإحباط التي ضربت الجماهير التي تعرضت لشتى أصناف الهرسلة الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية طيلة عقود و أصيبت بخيبة أمل عظمى بعد الثورة جراء السياسات التي خانت تطلعاتها و إنتظاراتها التي أعلنت عنها في فاتحة المسار الثوري سنة 2010 – 2011 . لقد قال حكماء العرب قديما " تكلم حتى أراك " و قد تكلم قيس سعيد بما يكفي كي نراه .
1 - الشعبوية " الإبن الضال " للمنظومة .
لا يختلف تعامل الشعبوية مع المنظومة المتحكمة في أجهزة الحكم في بلادنا , على مستوى الشكل , عن تعامل القوى السياسية التي صعدت للحكم بعد 2011 , حيث حرصت القوى السياسية التي وضعت يدها على أجهزة الحكم منذ سنة 2011 و في مقدمتها حركة النهضة على تسييج النظام السياسي الجديدة بالقوانين و المؤسسات و الهياكل الكفيلة بتحقيق إستمراريته و إستمراريتها في الحكم و مارست في هذا السياق كافة أصناف الإنحراف و التحيل و الإلتفاف حتى على القوانين و التعهدات التي إلتزمت بها إنطلاقا من الإلتفاف على مدة المجلس التأسيسي و صولا إلى التحالفات الإنتخابية و السياسية مرورا بلإنحراف الأكبر على أهداف و مهام الثورة , أما الشعبوية المفتقرة لتلك الآليات و الهياكل و المؤسسات فإن غير قادرة على إعتماد ذلك "الأسلوب الناعم" في السيطرة على أجهزة الحكم و هو ما يفسر حرصها على تعفين الأجواء و تعميق الأزمة و إذكاء نار النقمة و الغضب ضد شركائها في المنظومة بل ضد من كان سببا رئيسيا في صعود رأس حربة التيار الشعبوي في تونس إلى سدة الحكم خلال الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية , لقد صعد قيس سعيد إلى الرئاسة بقوانينهم الإنتخابية و بدستورهم و بأصواتهم و دعمهم السياسي و اللوجستي و هو نفس السلوك الذي إنتهجه منذ سقوط النظام النوفمبري حيث قفز من قطار النظام القديم متأخرا جدا و بحث عن مكان في العربة الأخيرة من قطار الثورة دون تذكرة و إنطلق في إطلاق قذائفه على الجميع دون إستثناء منذ سنة 2013 و يرسم ملامح سيرة رجل ضد " السيستام " و هو القادم من فلك " السيستام النوفمبري " .
فمن حيث الشكل لم يكن صراع قيس سعيد و تياره الشعبوي ضد شركائه في المنظومة سوى صراعا على المواقع في أجهزة الحكم من أجل السيطرة عليها و لم يكن صراعا سياسيا يرتكز على تناقضات إقتصادية و إجتماعية و ثقافية , فها هو رئيس الجمهورية الذي لطاما برر عجزه عن التدخل للحد من الأزمة التي تعصف بالبلاد بمحدودية صلاحياته , قد جمع في يده جميع الصلاحيات منذ قرابة ثلاثة أشهر دون أن يقوم بخطوة عملية واحدة في إنجاه تفكيكمنظومة الفساد و الإرهاب الذي ينخر البلاد , بل واصل إطلاق صواريخه الوهمية التي لم تستهدف أي وكر من أوكار الإفساد بل إستهدفت مباشرة مراكز السلطة لللإستحواذ عليها في إطار مواصلة حرب المواقع .
2 - الجوهر الطبقي للمشروع الشعبوي في تونس
ينام رئيس الجمهورية و هو يدق طبول الحرب على الفساد و يصحو و هو يهدد بإطلاق منصات الصواريخ القانونية على أوكار الفساد و ننام نحن و نصحوا على مزيد إلتهاب الأسعار و تواصل تدهور الخدمات الأساسية الصحية و التعليمية ... فإما أن يكون دق الطبول للرقص و الإلهاء فحسب أو إن الرئيس لا يملك لا الرؤية و لا الخطط لمحاربة الفساد , كي نتجنب الحديث عن النوايا , و هو ما تعكسه خطاباته المتواترة التي يتجنب فيها الغوص عميقا في تفكيك منظومة الفساد و تعريفها و الإقتصار على الشعارات الفضفاضة و الجمل الدعائية البراقة و حتى بعض الخطوات الإجرائية و العملية النادرة التي وردت على لسانه من قبيل تسوية ملفات الفساد المتعلقة بعدد من رجال الأعمال بتكليفهم بالإستثمار في المعتمديات الأشد فقرا في البلاد قد كشف بعض أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إفلاسها قبل ولادتها نظرا لنجاح أغلب رجال الأعمال المعنيين من تسوية ملفاتهم سواء عبر صفقات مشبوهة مع الأحزاب الحاكمة و تحديدا النهضة و النداء أو عبر الهيئة , و لكن ما يعنينا فعلا هو المنطق الذي يقود رئيس الجمهورية في حربه المزعومة ضد الفساد و الذي لا يختلف بتاتا عن المنطق الذي قاد النهضة و النداء عند تمرير ما يسمى " بقانون المصالحة " و الذي يهدف إلى تبييض و إعادة تأهيل علاقات الإنتاج القائمة على الريع و الإستغلال و الإحتكار التي أضرت حتى بقوانين و مبادئ بنمط الإنتاج الذي تدعي الدفاع عنه , لقد تجنب قيس سعيد سواء قبل صعوده إلى سدة الرئاسة أو بعدها التطرق إلى نمط الإنتاج الرأسمالي التابع في بلادنا الذي أصبح قسم كبير منه تحت سيطرة المافيات و العائلات المتنفذة و حتى عند إستقباله لرؤساء الهياكل الممثلة للكومبرادور حرص على بعث رسائل الطمأنة لأصحاب رأس المال مع بعض الشقشقات اللغوية حول ضرورة التخفيض في الأسعار الموجهة للتسويق الدعائي أكثر منها إلى الممارسة الفعلية و هو ما يجسده لهيب الأسعار على أرض الواقع بفعل تواصل نشاط العصابات و المافيات المسيطرة على مسالك التوزيع و إحتكار العائلات لبعض فروع الإنتاج , لقد جعل قيس سعيد من معاناة التونسيات و التونسيين اليومية حطبا لحملته الدعائية و التفسيرية في حين تواصل طبقة الكمبرادور غرس أنيابها في لحم الشعب التونسي و مقدرات البلاد بل لعلها تتابع في سخرية تصريحات " السيد الرئيس " و زياراته إلى مخازن البطاطا و الحديد و صواريخه الوهمية الموجهة للاشيئ .
لايستهدف قيس سعيد علاقات الإنتاج السائدة المتعلقة بتنظيم الإنتاج و لا نية له لتغيير المنوال التنموي و السياسات الإجتماعية و الإقتصادية في تونس بقدر ما يستهدف شكل السلطة فقط لا غير مع المحافظة على جوهرها الطبقي و قاعدتها الإقتصادية و الإجتماعية و لن تتردد طبقة الكمبرادور لحظة واحدة في تغيير ولائها لقيس سعيد و هي التي ما إنفكت منذ 2011 عن تعبيرتها السياسية النهائية القادرة على تحقيق الإستقرار و غلق قوس الثورة نهائيا و إعادة الجماهير الكادحة المحتجة إلى بيت الطاعة .
3 - الشعبوية موجة عابرة في المسار الثوري
مهما كانت قدرة قيس سعيد على الإستيلاء على أجهزة الحكم و وضعها تحت نفوذه المباشر فإن سقوط مشروعه الشعبوي مسألة و قت فحسب بالنظر إلى خوائه الإجتماعي و الإقتصادي و الثقافي , لكن طول أو قصر هذا الطور الجديد الذي دخلت فيه بلادنا رهين مدى جاهزية القوى السياسية و المدنية و النقابية و الثقافية ... في بلادنا للتصدي لهذا المشروع الشعبوي و مقاومته و طرح البديل الوطني و الديموقراطي و الشعبي الحقيقي الكفيل بوضع حد لحالة العطالة التاريخية التي أصابت المسار الثوري في تونس و جعلت من إنتفاضات الشعب التونسي و ثوراته وليمة للقوى الرجعية . إن المحرار الحقيقي لأي مشروع سياسي هو ما يفرزه و ما يحققه على أرض الواقع لصالح أغلبية الشعب و ليس كل الشعب كما يحرص قيس سعيد على تسويقه لطمس التناقضات التي تشق المجتمع التونسي بتصوير الشعب ككتلة موحدة هلامية نصب نفسه ناطقا أوحد بإسمها و لسان حاله يقول " أنا الشعب و الشعب أنا " و ما الدولة سوى تعبير عن إرادة الشعب التي يعبر عنها بدورها قيس سعيد لينتفي وجود الدولة خارج شخص رئيس الجمهورية و ينتفي وجود الشعب خارج أنصاره , و يقوم قيس سعيد و ميليشياته الدعائية بإستغلال الفظائع المقترفة في حق الشعب و البلاد على يد النهضة و حلفائها المتعاقبين طيلة عشر سنوات لحشر كل المعارضين لمشروعه الشعبوي في زاوية واحدة , زاوية "الخونة ّ" و " الحشرات " و " الميكروبات " بمن فيهم من واجه قوى الظلام و الإرهاب بصدر عاري حين كان " سيادته " منشغلا بتقديم المحاضرات و الإنتقال من وسيلة إعلام إلى أخرى لمهاجمة الجميع و ترذيل الجميع خدمة لمشروعه القادم .
لا خيار أمام القوى الثورية و التقدمية و الديموقراطية اليوم مهما كانت أشكال تنظمها سوى المقاومة مهما كانت موازين القوى مختلة لفائدة الشعبوية و التصدي لعمليات قصف ما راكمه الشعب التونسي من تقاليد نضالية خلال العشرية المنقضية بمعزل عن السياسات المعادية له التي مارستها حكومات الإلتفاف على الثورة المتعاقبة , سنوات عصيبة تنتظرنا و تستوجب منا إرادة فولاذية للصمود , لقد تكلم قيس سعيد بما يكفي لنراه و نعي خطورة مشروعه فلتعلو أصواتنا بما يكفي لفضح هذا المشروع .
حبيــــــــــــب الزموري
#حبيب_الزموري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟