|
الفلسفة وظاهرة العدم
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7040 - 2021 / 10 / 7 - 14:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفة هي إنتاج عقلي وأحد إفرازات العقل التي يحقق فيها هويته ومشروعه الوجودي ورسم حدود إمكانياته النسبية والمطلقة. تاريخ الفلسفة هو بطريقة غير مباشرة تاريخ مسيرة هذا العقل في محاولاته اليائسة للخروج من ذاته وإيجاد الأدلة "العقلية" على مشروعيته وكفائته للوصول إلى حقيقة الأشياء ومعنى الكينونة وهدف الوجود. غير أنه منذ البداية كان هناك تصدع في هذا الجهاز العقلي ولم يكن يفكر أو يتكلم بصوت واحد، منذ البداية حدث شرخ قسم هذا العقل إلى عقلين، وربما عدة عقول متصارعة ومتناقضة يتجه بعضها إلى السماء وبعضها الآخر إلى الأرض وبعضها ينكفيئ على ذاته ليسبر أغوار قوانينه الداخلية. ونظرا لأن العقل ليس ظاهرة ميتافيزيقية أو متعالية ولايمكن أن يتواجد خارج الحضور الإنساني الفردي، فمن الطبيعي أن يتشتت العقل ويتبعثر في إتجاهات مختلفة وتتكون المدارس الفلسفية المتناقضة حسب الزمان والمكان والظروف السياسية والإقتصادية والفكرية لكل مجموعة بشرية تمارس هذا النوع من الرياضة. ولا شك أن الفلسفة كنشاط عقلي واكب البشرية في جميع العصور وكل المجتمعات، والقول بأن الفلسفة هي نشاط عقلي يخص الحضارة الغربية وحدها كما يدعي هيدجر، هو تأكيد أيديولوجي محض ويخلو تماما من الموضوعية، إلا إذا افترضنا أن المشروع الفلسفي برمته يتلخص في كلمات مثل sein - esse - être - being وأن المجتمعات التي لغاتها لا تحتوي فعل الكينونة هي مجتمعات تقع بالضرورة خارج الميدان الفلسفي وليس لها الحق في ممارسة هذه الرياضة. وحتى لو كانت الفلسفة تنحصر في البحث عن معنى الكينونة وأن الفلسفة واللغة مرتبطتان انطولوجيا برباط أساسي داخلي، فإن هذا الرابط وهذه العلاقة لا يمكن اختزالها في أربعة حروف أبجديه ذات مصدر يوناني أو لاتيني كما فعل هيدجر. فلكل مجتمع ولكل عصر رؤيته للمشكلة الأساسية والأسئلة الحيوية التي تؤرق وجوده والتي يريد الإجابة عليها بطرق مختلفة، منها الفلسفة والشعر والمسرح والفن عموما، ولكن أيضا الدين والحرب والإقتصاد والهيمنة .. إلخ، وقد ساهم كل ذلك في تشتت العقل الفلسفي وتطوره بطريقة لولبية فيها العديد من الذهاب والإياب والتقدم ثم التراجع بحيث تبدو الفلسفة اليوم وكأنها ما زالت في مراحلها اليونانية الأولى أو حتى قبل ذلك. ولكن في نفس الوقت ساهم هذا التشتت والتنوع في انفتاح العقل وإثرائه وتغذيته بمصادر مختلفة على مر العصور. ولا نشك لحظة واحدة في أن إكتشاف "العدم" في قلب الوجود هو أحد الأسباب الرئيسية لتطور الفكر الإنساني ليصل إلى ما وصل إليه اليوم على جميع المستويات من العلوم التجريبية والعلوم النظرية، وهذا الإكتشاف هو تجربة وجودية أساسية عرفتها كل المجتمعات البدائية منذ أزمان سحيقة وحتى قبل ظهور الحضارات الزراعية. العدم ليس ككلمة néant - nichts - nothingness أو ما يقابلها في لغات أخرى، وإنما كواقع وتجربة وجودية يعيشها الفرد في حياته في ظروف معينة، ولكنها يمكن أن تكون أيضا نتيجة تجربة جماعية، كالتهديد بانقراض مجموعة بشرية نتيجة الظواهر الطبيعية كالمجاعة أو الطاعون أو نتيجة إرادة وطنية عنصرية لجماعة أخرى. فالعدم يمكن أن يتجلى فجأة في تجارب إنسانية عديدة مثل الخوف من المجهول مثلا، حيث يبدو المستقبل القريب نوعا من الفراغ السرمدي المرعب، أو الخوف من الموت في حالات المرض الشديد أو في الحروب أو في أروقة الموت في السجون الأمريكية، أو في ظاهرة النسيان وفقدان الذاكرة الجزئي أو الكلي وكذلك ظاهرة الغياب والعزلة وغيرها من الظواهر النفسية التي ننعتها عادة بالسوداوية والتشاؤم والعداء للحياة إلخ .. العدم يمكن أن يتجلى أيضا في ظاهرة الحرية، حيث إختيار أحد طرفي المعادلة يعني إلغاء الإحتمال الآخر كليا، وكذلك في ظاهرة النفي في اللغة، وفي الوعي الخيالي وبالذات في الفن وفي ظواهر أخرى عديدة سنعالجها في مواضيع قادمة. ملحمة جلمامش، باعتبارها من أقدم ما وصل إلينا من الفكر الإنساني البعيد يمكن إعتبارها مصدرا لبداية التفكير في قضية العدم وعلاقتها بالوجود البشري المتعين، وذلك من خلال طرحها لقضية الموت كمصدر للوعي الإنساني المعذب والمهدد بالفناء. التطور الروحي والتغير المفاجئ الذي حدث في حياة جلجامش بعد موت إنكيدو يعتبر روح الملحمة والمركز الحيوي الذي تدور حوله الأحداث اللاحقة. بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد وينتابه نوع من الإحباط النفسي ويرفض أن يصدق حقيقة موت صديقه ويرفض بالتالي أن يقوم أحد بدفن الجثة إلى أن بدأت تتعفن وتبث رائحة تفسخ الجسد وتخمره وبدأت الديدان تخرج منها، فيضطر جلجامش بدفن جثة أنكيدو بنفسه، وينطلق شاردا في البرية خارج أسوار أوروك وقد تخلى عن ثيابه الملكية الفاخرة المعطرة وارتدى جلود الحيوانات بدلا منها. بالإضافة إلى حزنه على موت صديقه الحميم أنكيدو وفقدانه له إلى الأبد وشعوره بالوحشة والوحدة، كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة الفناء وأنه لابد من أن يموت يوما مثله مثل بقية البشر ويأكل الدود والتراب جسده مثل أي حيوان ميت، لأنه بشر وهو يعرف بأن الآلهة وحدها تحتكر الخلود والدوام والحياة الأزلية. ولكن جلجامش ليس إنسانا عاديا يخضع للظواهر الطبيعية أو الإلهية، إنه بطل ملحمي نيتشوي يريد حياة مكثفة مليئة بالقوة والحيوية والإتجاه الدائم نحو الأعلى. وبدأ جلجامش رحلة طويلة مليئة بالأخطار للبحث عن الإنسان الوحيد الذي أعطته الآلهة حق الحياة الأبدية بعد الطوفان وذلك ليأخذ منه سرالخلود والحياة الأبدية، ولكنه في نهاية الأمر يفشل في رحلته ويعود خائبا، ولا يجد أمامه سوى أن يسطر رحلته وكل ما شاهده وينقشه على الحجر. لا شك في أن ججامش قد تقبل فكرة الموت وبأن حياته فانية وأن العدم ينتظره في يوم ما، ولا شك أن الكتابة أو ترك أثر ما بعد الموت هو بديل موضوعي على ما يبدو لبحثه عن الخلود. ولا نبالغ إذا قارنا بين جلجامش وأنطوان روكنتان، بطل رواية سارتر "الغثيان" الذي ينقذ نفسه من العبث والفراغ الوجودي والخواء الذي يعانيه والذي يجعله يكاد يتقيأ لمجرد رؤيته لجذع شجرة، أو لملمس حجر أملس بواسطة مشروع الكتابة وقراره بأن يكون كاتبا، رغم أن رعب روكانتان كان من إكتشافه للكينونة وليس للعدم. الوعي بالعدم كمكون أساسي للوجود، هو شرط إنبثاق الخيال في الحياة الفردية والجماعية وشرط لظهور "الفن" لجعل الحياة محتملة. فالفن هو العمل الإنساني الوحيد الذي يبني حياة كاملة من العدم.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفيلسوف الكلب
-
عن الله وتنظيم الأسرة
-
التوراة ككتاب بابلي
-
عن الكتابة المتعسرة
-
ضد عقوبة الإعدام
-
نقاط وحروف
-
الصهيونية
-
الله وتاريخ الديانة اليهودية
-
الموت للفقر والفقراء
-
رنين الأشياء الرخوة
-
العودة إلى بابل
-
لا تعذبوا القطط
-
الموت ومعرفة الله عند الغزالي
-
وغرق البحر في الرمال
-
الموت عند الغزالي
-
الموت في الفلسفة الإسلامية
-
عودة إلى فكرة الموت
-
دوستوييفسكي والعبث
-
القطيعة بين الفن والفلسفة
-
عن العبث والحرية
المزيد.....
-
كوبا تندد بإعادة واشنطن تفعيل -سجل القيود- وتصفه بـ-الاستفزا
...
-
من القاهرة.. بيان عربي يرفض تهجير الفلسطينيين ويؤكد ضرورة إع
...
-
إستونيا تحذر واشنطن و-الناتو- من خسارة أوكرانيا مكامن المعاد
...
-
السودان.. عشرات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صاب
...
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر: أول رئيس ألماني دون
...
-
تسليم الرهينتين بيباس وكالديرون للجيش الإسرائيلي
-
الرهينة ياردين بيباس يعانق عائلته بعد 484 يوما في الأسر
-
الجفاف يدق ناقوس الخطر في لبنان. بحيرة القرعون في مشهد مخيف
...
-
الملف الفلسطيني والتهجير على طاولة -السداسية العربية- في الق
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونتسك
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|