ياسين لمقدم
الحوار المتمدن-العدد: 6922 - 2021 / 6 / 8 - 07:50
المحور:
الادب والفن
يلبس بالطو تجاوز عمره نصف القرن، البالطو نظيف ومكوي بدقة لم تترك خلفها ولو تكسرا بسيطا للثوب الرفيع. يتذكر أنه اشتراه في عقده الرابع من جوطية سوق الصالحين. بكل تأكيد، موضة البالطو قديمة جدا ولكنه جميل ولونه أصيل لم تنل منه مواد التصبين ولا حرارة التجفيف على مدى عمق السنين. يمشي في شارع المساء وحيدا متلكئا، يمر كالعادة على نفس الخطوات التي يراها وحده منقوشة بثبات على الأرصفة والأسفلت الذي يعبره.
في أيام الشتاء يتدثر بملابس دافئة وممزقة والبالطو سيداري تلفها، وأما في الأيام الساخنة فيكتفي بقميص واحد تحت البالطو ولا يوثق عروة الأزرار.
يمشي على طريق المساء محني الظهر وشابكا ذراعيه إلى الخلف، ينظر إلى الوجوه باحثا عن شبه فيها لما علق بالذاكرة من سحنات الماضي المتلاشية فصول تقاسيمها. يرصد بعض التشابه بين أُدُم الماضي ووجوه الحاضر، أحيانا يكاد أن يوقف بعض أصحابها ليقرَّ لنفسه الأخرى أنه على صواب في إثبات الأصل العائلي لكل من يلمس في وجهه بعض الماضي المشترك. ولكنه يحجم في الحين عن المحاولة إذ يتبعثر الماضي ولا يترك في نفسه إلا الشك والريبة والإنكسار.
يمشي في شارع المساء مداريا بغبشية غسقه نظام حياة العزلة المكرورة بأدق تفاصيل الرتابة...
يمشي ويمشي ويمشي، وعندما يتعب يتهالك على مقعد من مقاعد الرصيف ثم ينط من فَوْره إذ يستشعر تكسر تلابيب البالطو فيمني النفس بصهد المكواة التي تفعل الأعاجيب في تصفيفه، فيستحيل إلى ثوب متجدد كأنه من حرير مسترسل.
#ياسين_لمقدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟