أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - المهدي فكري - التماسيح في عصر ما بعد الحداثة














المزيد.....

التماسيح في عصر ما بعد الحداثة


المهدي فكري
كاتب وباحث

(Elmehdi Fikri)


الحوار المتمدن-العدد: 6720 - 2020 / 11 / 1 - 03:22
المحور: الادب والفن
    


في عز فصل الشتاء القارص، تحت الأمطار وفي قعر الليل يسير هذا الغريب على جنبات الشارع الرئيس للمدينة هائما على وجهه، لا أحد يعلم ولا أحد يسأل عن حاله، هكذا هي وحشية المدنية في زمن ما بعد الحداثة، حيث لا وجود للإنسانية أو القيم الجميلة إلا في الوثائق الداعية إليها والحالمة بها، تماما مثل حلم آدم بالجنة بعد خروجه منها، والحنين وحده لن يعيد آدم إلى جنته، ولن يعيد الإنسانية إلى عالمها.
تتثاقل خطوات ذلك الغريب إلى الأمام ببطيء، ولعل السبب في ذلك هو ماء المطر الذي بلّل كل قطعة ثوب على جسده النحيل، وفجأة تجتاحه رعشة وحشية يستعرض معها شريط أحزانه وبؤسه والهوان الذي صار فيه، فتتساقط من عينيه عبرتان ويتبعهما وارف من الدمع لانقطاع له كان ينتظر فقط الإذن من الذاكرة العاطفية أو إشارة من المخ حتى ينطلق حرا خارج هاتين المقلتين. ويمتزج مع ماء المطر على الأرض ويمضي في مياه المجاري حيث لا فرق بين ماء المطر وماء المقل.
يستمر المسكين في استراض شريط أيامه الخوالي تحت ماء المطر، ويتذكر يوم حصوله على شهادة البكالوريا فرحا بها متفائلا بغدٍ جميل ينعم به وأهله بمستقبل أفضل. تذكر يوم نال شهادة الإجازة في القانون بميزة حسنة، ثم قبوله بعدها مباشرة في مباراة المحررين القضائيين، وهو لا يكاد يصدق نفسه مما وصل إليه، فقد بلغ جزءً من حلمه الذي كان يحلمه، وهو لا يدري أبدا ما تخفيه له الأيام في مستقبلها، فلا يأمن الدنيا على نفسه وغده سوى مأفون أو ساذج مسكين، فمن يأمن الدنيا على مستقبله كأنما وضع سره عند عدو غدار ينتظر منه لحظة هفوته لينقض عليه. استمرت الحياة في ورديتها إلى أن أصيبت أم هذا الغريب بمرض "التهاب المرارة"، وهو ليس بمرض خطير مادامت عمليته من أبرز العمليات التي تكلل بالنجاح.
حجز لأمه مكانا في مصحة خاصة حتى تجري العملية فيها، على الرغم من تشبعه بمبادئه المحاربة لخوصصة قطاع الصحة، وعلى الرغم من مرجعيته القاضية بأحقية تداوي وعلاج كل مواطن حامل لجنسية هذا الوطن بالمجان، إلا أنه قصد مصحة خاصة، لأن الواقع يقول عكس ذلك للأسف، ولأن القطاع العمومي صار مخصصا فقط للأشخاص الذين رخصت عليهم صحتهم وأعمارهم، أما هو فإنه أمه هي أغلى ما يملك ولا يمكن له أن يجعل صحتها بيد القدر والجزارين، لذلك احتجز لها سريرا في مصحة برقم خيالي للعملية وعن كل ليلة يقضيها المريض في ذلك المكان، لم يكن يمتلك ثمن هذه العملية فاضطر إلى أخذ قرض من عند أحد البنوك الربوية بعدما طرق كل أبواب الأهل والاصحاب فلم يجد منهم أحدا بجنبه يمد له يد العون، وكل ذلك كان ليهون لو أنه لم يتعرض لما يجعله يغوص في قوقعة أحزان أعمق، لقد أصيب المسكين بصدمة قاسية جدا إثر وفاة والدته داخل المصحة إثر خطأ طبي في العملية التي لم تتكلل بالنجاح، ولم يستوعب المسكين الأمر، فجعل فبدأ يسب ويشتم داخل أركان المصحة إلى أن أخرجه رجال الأمن من المصحة بالقوة.
لم يتنازل الغريب فرفع دعوة قضائية على المصحة أملا في أخذ حقه منها بقوة القانون الذي من المفرض أنه فوق الجميع، واتهم المصحة بمسؤولية موت والدته وكل الوثائق لديه تؤكد ذلك، إلا أنه صدِم أخرى بخسارته القضية رغم امتلاكه لكل الحجج والدلائل التي تدين الطاقم الطبي الذي أجرى العملية، لم يفهم الأامر فنقب فيه من خلال موقعه كمحرر قضائي وبحث في سجل هؤلاء القضاء الذين حكموا بذلك الحكم، فوجد المسكين نفسه أمام فساد من نوع آخر هذه المرة؛ إنه الفساد القضائي، تتبع المسكين خلفيات القضية باعتباره محررا قضائيا، حتى وصلته أسرار جد مؤكدة عن تقاضي رئيس الجلسة والقضاة رشوة جد مهمة من عند صاحب المصحة التي رفع ضدها دعوى، فلم يتمالك نفسه مرة أخرى واستنجد المسكين بالسلطة الأخيرة المتبقية لديه وهي سلطة القلم والصحافة، وفجرها مدوية بمقال حارق على صحيفة حرة القلم بعنوان ضخم "الرشوة داخل القضاء، إلى متى هذا الظلم؟" وكتب هناك عن قصته الكاملة مع المصحة وكذلك قضية الرشوة التي تقاضاها هؤلاء التماسيح القضاة، وذكرهم بأسمائهم لأنه عرفها أثناء بحثه في القضية.
هكذا دخل هذا المسكين في صراع مع تماسيح أكبر منه سلطة ومقاما، وليس لديه من يحميه منهم سوى هذا القلم الذي يكتب به كل مرة عن تفاصيل جديدة بلغها في سجل فسادهم. ظل كذلك آملا في تحقيق عدالة قضائية إلى أن بلغ صبر التماسيح حده، قرروا بعدما اتفقوا على هذا المسكين بأن يوقفوه عند حده حتى لا يصبح صوته مسموعا أكثر، فدبروا له مكيدة تم عزله من خلالها من مهنته بتهمة خيانة الأمانة، وتلفيق اتهامات لزملاء المهنة لا أساس لها وبلا حجج تؤيدها، قد بذلك كل شيء ... وخسر حربه ضد تماسيح ما بعد الحداثة.
لم يستطع إكمال شريط استرجاع ذكرياته كاملة فسقط على الأرض مغمى عليه والمطر من فوقه يربت على كتفه ويغسل قلبه من الأحزان التي حلت به من كل جانب.



#المهدي_فكري (هاشتاغ)       Elmehdi_Fikri#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغة الدمع...فصاحة
- هل ستستثمر إسرائيل صمت العرب في إعلان قيام مشروع دولتها الكب ...
- بكاء الريح
- ميكيافيلة العولمة -الغاية تبرر الوسيلة-
- شمس الظلام


المزيد.....




- سينمائيو ذي قار يردون على هدم دور السينما بإقامة مهرجان للأ ...
- بحضور رسمي إماراتي.. افتتاح معرض -أم الأمة- في متحف -تريتياك ...
- مسلسل مصري شهير يشارك في مهرجان أمريكي عالمي
- -الشرارة-.. فيلم يوثق اللحظات الأولى للثورة السورية في درعا ...
- يحقق في اليوم الأول 5 مليون ريال سعودي .. فيلم إسعاف يتقدم ف ...
- ينطلق 8 مايو المقبل.. 522 دار نشر من 43 دولة تشارك بمعرض الد ...
- العبث واللامعقول في حرب السودان.. المسرح يمرض لكنه لا يموت
- مصر.. توقف قلب فنان مشهور 4 دقائق وتدهور حالته الصحية
- ملابس تحمل بطاقات مكتوبة باللغة العبرية تثير جدلا واسعا في ل ...
- كتاب جديد يستكشف عالم الفنانة سيمون فتال


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - المهدي فكري - التماسيح في عصر ما بعد الحداثة