|
الوجودية السارترية 1 / 2
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 6693 - 2020 / 10 / 3 - 22:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن لم يكن مارتن هايدجر، فأن جان بول سارتر قد أعطى الروحية والرؤية الجمالية، والبعد الانساني لفلسفة "الوجودية" على اعتبار أن الوجودية هي فلسفة انسانية بحتة، قبل كل شيء، كما نوهنا في دراسة بعنوان (وجودية دوستويفسكي). فسارتر حلل الوجودية، تحليلا لا لبس فيه، وخصوصًا في كتابه الصغير الحجم والكبير المعنى والتحليل والموضوعية (الوجودية مذهب انساني)، وهو عبارة عن محاضرة القاها سارتر وسط جم غفير من الحضور.. وفيه سلط الضوء على هذا المفهوم "الوجودية" وأراد أن يحل بعض الاشكالات التي تدور حول الوجودية وتتهمها بشتى الاتهامات، ويأتي ذلك، وبحسب سارتر، بسبب عدم فهم الكثير لمفهوم الوجودية، أي أن بعضهم التبس عليه المعنى، أو انهم لم يدركوا البعد الدلالي لهذا المفهوم، وماذا تعني. يقول توماس آر فلين في كتابه (الوجودية: مقدمة قصيرة): "عندما قال سارتر إن الوجودية فلسفة إنسانية، كان يعني أنها تضع الإنسان في مركز اهتمامها وعلى قمة هرم قيمها. ومع أنه يذكر الوجوديين الملحدين في هذه المحاضرة، مستشهدًا بياسبرز ومارسيل كمثالين، فإنه من الصعب إيجاد مكان لهم في نص خطابه. بدلًا من ذلك، فإنه يصر على أن القيمة المطلقة، أو غاية محاولاتنا، يجب أن تكون رعاية حرية الفرد، التي قصد بها تحسين إمكانياته الملموسة في الاختيار. وهو يشير إلى أنه لا يجب التضحية بهذه الحرية الإبداعية من أجل أي قيمة «أسمى»، سواء أكانت «الطبقة» لدى الماركسيين أم «الإله» لدى المؤمنين المتدينين". الحرية: فسارتر يقول مثلا: "جبرنا على أن نكون أحرارًا، ونحن نصنع اختياراتنا بين الالم والهجر واليأس". فالوجودية تؤكد على حرية الانسان أولاً، بمعنى إنّ الحرية هي أهم ما في وجود الانسان، وإلا، لو أن الانسان عاش الذل والخنوع، ما ممكن له أن يسعد وأن ينتج ويبدع، حتى يشعر بقيمة وجوده، وجوده الحقيقي، لذلك نجد العبيد مختلفين عن سواهم من الناحية الخلقية بحسب نيتشة؛ فهدف الوجودية، هو تحرير الانسان من الانسان، إن صح هذا التعبير، إذ أن حتى الافكار قد تُستبعد، والانسان الذي يرزح تحت ادران العبودية، وخصوصًا الفكرية منها، لا يستطيع أن يفكر التفكير السليم، وبالتالي لا يستطيع أن ينتج ابداعًا يخدم به البشرية، على اعتبار الانسان كائن منتج، يسعى دومًا في تطوير نفسه ومن ثم مجتمعه، وإلا كيف وصل الانسان الى هذا التقدم الهائل، وادرك ما يدور من حوله من قضايا معقدة، بل وأسس حضارة انسانية، منذ فجر التاريخ، يوم عرف الكتابة وطفق يفكر وينتج ويبني حتى وصل الى ما وصل اليه اليوم. سارتر قال موضِّحًا فكرته هذه في كتاب «الوجودية نزعة إنسانية»: «إنَّ الإنسان يوجد أوَّلًا ويواجه ذاته ويقذف به في العالم ثم يعرف نفسه فيما بعد، والسبب الذي يجعل الإنسان- في نظر الفيلسوف الوجودي - غير قابل للتعريف هو أنَّه في البدء لا يكون شيئًا، ولن يُصبح شيئًا إلا فيما بعد وعندئذٍ سيكون ما يصنعه بذاته». إذن الفلسفة الوجودية تريد أن تعطينا المعنى الحقيقي للحياة، لأن وجودنا فيها ككائنات بشرية، ندرك ونعي، وجود قائم على اعتبارات، وليس على اعتبار واحد بعينه، وعليه يجب أن نعي وجودنا على هذا المعنى الواسع. وكأن سارتر يقصد هذا المعنى حينما قال: "أنا لا أحاول الحفاظ على حياتي من خلال فلسفتي فهذا شيء حقير، ولا أحاول إخضاع حياتي لفلسفتي فهذا شيء متحذلق، لكن في الحقيقة الحياة والفلسفة شيئًا واحدًا". والحرية في نظر سارتر تشكل اسمى هدف تسعى اليه الوجودية، وعليه يرى من جانب آخر: إنه "أينما حل الظلم، فنحن الكتَّاب مسئولون عنه، وعلى الكاتب أن يسمي الشيء أولًا؛ لأن اللغة توحي لنا الفكرة، وتسمية الشيء توجد هذا الشيء وتجعله حقيقة، فمثلًا اضطهاد السود في أمريكا، ليس شيئًا ما دام ليس هناك كتَّاب يقولون إنهم مضطهدون، وقبل أن يكتب أحد عن اضطهاد العبيد، ما كان أحد ليفكر في أنهم مضطهدون، بل العبيد أنفسهم لم يكونوا يفكرون في ذلك!. ولما كانت اللغة تستخدم في إيجاد الأشياء، فعلى الكاتب أن يستخدم بلاغته في المطالبة بحرية الإنسان، وليس هناك سوى بلاغة حسنة واحدة؛ هي البلاغة التي تدافع عن الحرية!". ومن هذا المنطلق يوضح سارتر مفهوم الحرية من ناحية الفلسفية الوجودية، بقوله: "أننا نمارس الحرية من أجل الحرية، وسوف نطالبها من خلال ظروف معينة، وبسعينا خلف الحرية نكتشف أنها تتوقف كلية على حرية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقف على حريتنا". على ضوء الاشتراك بالقيمة والمعنى؛ فالكل واحد متساوي من الناحية الانسانية التي تقول بها الوجودية. اليس الوجودية تُفسر على أنها إنسانوية؟، بحسب الوجوديين. سارتر: الانسان تعُد فلسفة سارتر الوجودية جزءًا مهمًا من حياته، حيث عاش صراعًا سياسيًا جسيمًا، بين قوى متكالبة بعضها على بعض، صراعًا للنفوذ والتوجه بكافة افكاره السياسية والفلسفية، وانقسام الاحزاب بعضها ضد بعض، وكل ذلك يجري امام ناظر سارتر، وهو ينظر اليه بصورة شمولية، ومن خلال منظار فيلسوف يقيس القضايا وفق ذهنه الواسع، وعقله الراجح، ويحلله بتحليل عصري واقعي، ينسجم بما يرتئيه العقل. فقد "عاش سارتر حياة حافلة بالصراع السياسي، وجد نفسه في اثنائها قوياً وعاجزاً معاً، ونشر مقالات تعبر عن فكر بارع في الجدل يُرغم القارئ على التحرك حتى لو لم تكتمل قناعته. هاجم سارتر حزب اليمين والأحزاب التي تتصف بالاعتدال وانتقد التيار السياسي الأمريكي الذي كان ينذر بالفاشية، كما انتقد المادية الجدلية وتحدّث عن زيف الحركة الستالينية وانتهازية الحزب الشيوعي الفرنسي، فكان من الطبيعي أن يعلو صوت اليمين والحزب الشيوعي معاً ضده". جان بول سارتر فيلسوفًا وكاتبًا مسرحيًا وناشطًا سياسيًا، فضلا عن إنه ناقد ومحلل نفسي، درس فرويد معمق واستفاد منه كثيرًا، حيث أثر فكر سارتر في بعض المجالات المعرفية مثل علم الاجتماع والدراسات الأدبية، وهو، بعدُ شخصية بارزة في كل من الفلسفة الوجودية والفلسفة الظواهرية، ويعُد واحدًا من أبرز الشخصيات الفرنسة في القرن العشرين، فقد حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1964 إلا أنه رفضها، قالاً: إن الكاتب لا يجب أن يصبح مؤسسة. ولد سارتر في 21 حزيران 1905 في باريس- فرنسا وهو الابن الوحيد لوالده جان- بابتيست سارتر الذي كان يعمل ضابطًا في البحرية. وتوفى عام 1985. أي إنه عاش 75 عامًا. سارتر بعد الحرب العالمية الثانية انخرط في النشاط السياسي، وقد كان يعبّر بصراحة عن معارضته للحكم الفرنسي في الجزائر، اعتنق الماركسية وزار كوبا حيث التقى فيديل كاسترو وتشي غيفارا، على اعتبارهما زعماء عالميين كبار. يقول أحد النقاد: " إن الفلسفة الوجودية تجتاح كيان سارتر في مرحلة يستوعب فيها تسلط الأسرة على قراراته، فيستنتج فعلاً أننا نتاج ما أراد الآخرون أن نصبح عليه، هذا بالضبط ما دفع سارتر للتمرد على سلطة الجد باختيار مهنة الكتابة حتى أصبحت سلاحاً وجزءً منه، كان يرى الكتابة نافعة في كل الأحوال، وكان يرى أن الثقافة ربما لا تنقذ أحداً، وقد لا تجد الحلول العالمية، لكنها إنتاج الكائن البشري، من خلالها يتعرف المرء على نفسه ويجدها".
التواضع السارتري: التواضع هو من صفة العظماء، ولا ترى عظيمًا إلا وتجده متواضعًا لا يحيد عن تواضعه، بعكس المتكبر الاجوف، الفارغ من كل محتوى كالطواغيت والمستبدين وسواهم. يقول الكاتب الكبير سلامة موسى في كتاب (هؤلاء علموني): "حضرتُ دراما لبول سارتر في باريس، ولم أستطع الحصول على تذكرتي إلا قبل ميعادها بخمسة أيام لفرط التزاحم على رؤيتها، وكان ثمنها جنيهًا كاملًا، وهذه الدراما هي: «إبليس والله الطيب»، وهي تحوي من الزندقة أو الهرطقة ما لا يطيقه مؤمن، ولكن المتفرجين أنصتوا وكأنهم كانوا في قاعة جامعية يتعلمون. إنهم شعب قد تعلَّم معاني التسامح، وهو أن تتقبل في يسر وصمت ما تتألم منه؛ لأنك تعرف أن لغيرك الحق في أن يعتقد غير ما تعتقد، ولقد رأيت أحد الممثلين ينظر إلى أقدس شخصية عند المسيحيين فيقول: أنت أصم أنت أبكم!. ثم يقف ممثل آخر فيقول: «الناس متساوون، الناس إخوة، وهم جميعهم في الله، والله فيهم، والروح القدس ينطق من جميع الأفواه، وجميع الناس إنما هم كهنة وأنبياء، وكلهم قادر كفء لأن يقوم بالتعميد، وأن يشهد بالزواج، ويعلن بالبشارة الطيبة، ويغفر الخطايا، وكلهم يحيا الحياة العامة على الأرض في مواجهة الناس كما يحيا الحياة الخاصة مع نفسه في مواجهة الله». ويعلق موسى: وهذه كلمات يستطيع القارئ المسلم أن يتحمل الكثير منها دون معارضة، ولكن المسيحي يجد فيها المناقضة للمبادئ الكنسية إن لم نقل للمبادئ المسيحية المعروفة، ومن هنا الصدمة التي أحدثتها هذه الدراما في باريس للكثيرين من المؤمنين، ولكن حتى هنا نجد سارتر رقيقًا مهذب الكلمة لطيف الإيماءة، أما في كتبه فإنه يصارح بالإلحاد، بل يجعل الإلحاد أساسًا لفلسفته ومذهبه، وهذا على الرغم من أن هناك وجوديين، مثل ياسبر، وجبريل مارسيل، يأخذون بمذهب الوجودية مع الإيمان بالله". وهنا، موسى يريد القول: إن المسيحية هي الاكثر تسامحا من غيرها من الاديان، بما فيه الديانة الاسلامية، أو هي بالأحرى الثقافية الغربية بصورة عامة هي التي تشيع فيها هذه الثقافة، على اعتبار انهم مروا بتجربة مريرة، ومريرة جدًا، افضت الى حروب طاحنة راح ضحيتها آلاف الابرياء، ومنها حرب الثلاثين المعروفة بنتائجها المرّة.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوجودية السارترية 2 / 2
-
وجودية دوستويفسكي 1 /2
-
وجودية دوستويفسكي 2 /2
-
معتوه!
-
خمس نصوص قصيرة
-
العودة الى طه حسين!
-
حين تركلنا أرجل الليل
-
ابو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الاسلام(1)
-
ابو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الاسلام(2)
-
جوف الوداع
-
سوق شعبي
-
القصيمي و دايروش شايغان.. نكسة الامة
-
مصطفى محمود.. ومأزق الكتابة
-
هموم القصيدة ورسالة الشعر عند الشاعر فاضل حاتم
-
من أمسك بتلابيب ذهولي؟
-
ظاهرة (الشعر الشعبي) آفة تستفحل
-
القصيمي و دايروش شايغان.. مقدمة اولية(1)
-
أرُيدُ أن اطعن ثغركِ بالقُبلات
-
القصيمي و دايروش شايغان.. مقدمة اولية
-
تسلية في فراغ جامح
المزيد.....
-
متحدثة البيت الأبيض: أوقفنا مساعدات بـ50 مليون دولار لغزة اس
...
-
مصدر لـCNN: مبعوث ترامب للشرق الأوسط يلتقي نتنياهو الأربعاء
...
-
عناصر شركات خاصة قطرية ومصرية وأمريكية يفتشون مركبات العائدي
...
-
بعد إبلاغها بقرار سيد البيت الأبيض.. إسرائيل تعلق على عزم تر
...
-
أكسيوس: أمريكا ترسل دفعة من صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا
-
ميزات جديدة لآيفون مع تحديث iOS 18.4
-
موقع عبري يكشف شروط إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي السورية ب
...
-
مصر.. -زاحف- غريب يثير فزعا بالبلاد ووزيرة البيئة تتدخل
-
تسعى أوروبا الغربية منذ سنوات عديدة إلى العثور على رجال ونسا
...
-
رئيس الوزراء الإسرائيلي: ترامب وجه لي دعوة لزيارة البيت الأب
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|