عامر الدلوي
الحوار المتمدن-العدد: 6618 - 2020 / 7 / 14 - 18:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بين صفحات رباعية المرحوم " شمران الياسري – أبو كاطع " ثمة وصف مذهل للواقع المعاش لمحافظات جنوب و وسط العراق في سنين العهد الملكي ( الزاهر ) الذي تتباكى اليوم على ذهابه (غير مأسوف عليه من قبلنا ) إلى غياهب التاريخ شرائح و أجيال متباينة في العمر و الجنس و الثقافة .
الجواب فيها موجود للأسباب و الدوافع التي أجبرت الناس على الهرب من تلك المحافظات ( في ذلك العهد بالذات ) و الإرتضاء بالعيش الذليل على شواطئ " إشطيط " و مساحة " الميزرة " و " الشاكرية " , عيشا ً لا تتمناه حتى لألد أعدائك , تحف بهم الأمراض و الأوبئة , و ( يتنعمون ) بروائح تثقب أبخرتها جدران الرئة و حويصلاتها عندما تدخلها , و يتعاشون مع ما أطلق عليه في حينها " الأمراض المتوطنة " , و منها السل و التيفوئيد و الرمد الصديدي و الملاريا و الجذام , و هذا كله من بركات ( النظام الشهيد ) .
لمن يريد أن يتعامى عن تلك الحقائق , أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر , فالأرض قبل الثورة و قبل قيام ( الدولة العراقية و نظامها الملكي و عصره الذهبي ) كانت ملكا ً لشيوخ العشائر الذين حاول العثمانيون إرضائهم ليقبلوا بحكمهم ,و على شكل إقطاعيات كبيرة تجاوزت أحيانا ً مئات آلاف الدونمات و عشراتها , ولم يكن الفلاحون سوى أدوات إنتاج في قطع صغيرة يتكرم عليهم بها الإقطاعي مقابل نسبة من الإنتاج .
أين تكمن الصدمة لهؤلاء المتعامين , في نهاية الموسم و الحصاد , و يبدأ الحساب من قبل مجموعة من حمير الإقطاعي تسمى " السراكيل و مفردها سركال " . يخرجون قيمة البذور و أجور السقي و الحرائة وووووو و بالطبع حصة مولانا " السيد " الذي يفلسف الأحكام دائما ً لصالح الإقطاعي .. , لايتبقى شيءعندئذ ٍ من محصول الحنطة للفلاح المسكين , و قد يتكرمون عليه و يتركون له شيء من محصول الشعير يقيم به أود عائلته حتى الموسم الثاني , و في كثير من الأحيان يخرجون الفلاح المسكين مدينا ً لسمو " الشيخ – الإقطاعي " , و هو يتوجب عليه التسديد , و لكن من أين و كيف ؟
بأسلوب داعشي متفنن على أيامها .. يطلبون منه أحدى بناته لخدمة الشيخ و رعايته , يرضح البعض منهم ممن لا حول له و لا قوة , بينما ينتفض أصحاب الغيرة و الشهامة بوجههم قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى قتله أو أنه يتدبر أمره معهم بالمراوغة ليغتنم أول سانحة , فيهرب بعائلته تحت جنح الظلام متجها ً صوب العاصمة حيث " شواطئ الأحلام على ضفتي أشطيط " و التي أعدها النظام الملكي و زودها بكل متطلبات الراحة و الإستجمام , أو في بساتين غناء بأشجار الفواكه المختلفة في " الميزرة و الشاكرية " .
أعود لسنيني الأربع في بغداد ( 58 – 61 ) ...
هناك حيث يقع اليوم مجسر عبور سريع محمد القاسم للقادمين من ساحة الأندلس بأتجاه ملعب الشعب حاليا ً كانت هناك فتحة لمرور السيارات في السدة الترابية العالية التي أقيمت لدرء خطر فيضان نهر ديالى عن العاصمة بغداد عام 1954 تؤدي إلى تلك الشواطئ الجميلة , كنا نشاهد في كثير من الليالي أثناء مكوثي في بيت أحد أقاربي في منطقة العلوية و على الشارع العام , سيارة عبد الكريم قاسم تتبعها سيارة مكشوفة يقف على طوله فيها مرافقه الأقدم وصفي طاهر و هي متجهة نحو تلك الشواطئ و بعد فترة من الوقت تعودان من حيث أتتا .
مالذي يمكن أن يفعله كريم قاسم أيامها ؟
هل يؤمن هجرة معاكسة لهم بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي ؟ لا أعتقد و لست بمحل الدفاع عنه أنه كان سيفعل في ظل الرفض المطلق للعودة من قبلهم خوفا ً من النفوذ القوي للإقطاع داخل عشائرهم و هذا ما كان نصب عينه و هو المتذاكي الذي قرأ صفحات إنتفاضة آل إزيرج و نتائجها السلبية و إنتفاضة الحي و نتائجها , و ذهاب دماء سعود و صويحب و علي الشيخ حمود و أصحابهم سدى في مواجهة القمع الوحشي للإقطاعيين و السلطة الملكية الغاشمة متمثلة برؤساء وزاراتها الأنذال .
لم يجد من حل يومها سوى محاولة إسكانهم في بيوت قد تؤمن أبسط مقومات العيش للإنسان , فكان قرار تخصيص أرض مدينة " الثورة " لتكون كذلك بعد تقسيمها إلى قطع بمساحة 144 مترمربع و مساعدتهم في تكاليف البناء عبر قروض ميسرة من المصارف .
في إعتراف خطير لأحد عملاء وكالة المخابرات المركزية ( جيم بيركنز ) فضح فيه محاولتهم لإغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد / رأس القرية عبر عصابات البعث و صدام , حيث يقول في أحدى اللقطات ( من منكم لا يتذكر الجنرال قاسم الذي قال أن نفط العراق يجب أن تصب فوائده للشعب العراقي .... ياله من هدف نبيل ) ورابط الفيديو لمن يريد الإستزادة موجود في نهاية هذا الجزء من المقال .
يتحدث اليوم الكثير من القوميون العرب و بقايا البعث عن أن كل ما أنجزته ثورة 14 تموز هو من تركة النظام الملكي و مجلس إعماره المتشكل عام 1950 و المفعل عام 1953 و مشاريعه التي ظلت في معظمها حبرا ً على ورق و التي يعزون تأخره في تنفيذها إلى قيام الثورة . إن قيام المجلس و تأسيسه بميزانية قدرها 50 مليون دينارعراقي يوم كان هذا الدينار مرتبطا ً بالجنيه الإسترليني تعني بلغة يومها قرابة 129,5 مليون دولار ( الدينار العراقي كان يساوي 2,59 دولار عام 59 عندما فك أرتباطه بالأسترليني و أصبح في العام 79 يساوي 3,3 دولار أمريكي ) في أيام كانت الأسعار السائدة لتنفيذ المشاريع ( رغم عدم خبرتي الإقتصادية و المالية ) مضحكة قياسا ً بأسعار اليوم , فالشركة التي كانت تفوز بعقد بقيمة مليون دولار في أي بقعة من العالم كان يعتبر إنجازا ً يزيد من قيمة أسهمها في البورصات العالمية . و حتى لا أبخس المجلس حقه فلقد بحثت عند عمنا " كوكل " عن أقيام المشاريع المنجزة و المفتتحة في العامين 56 / 57 فلم أجد جوابا ً كافيا ً , بقدر ما أن الصفحات تفيض بكيل المديح لتلك الإنجازات .
كمثال أسوقه , في سبعينات القرن الماضي أستعانات جمهورية اليمن الديمقراطية بخبرات إثنين من أساتذة الإقتصاد العراقيين لوضع أسس خطة التنمية الثلاثية للبلد , بعد عودتهما من هناك , كانت هناك لي جلسة خاصة مع أحدهما ( رحمهما الله ) حدثني فيها عن الحلم المجنون لهؤلاء اليمنيون , عشرات المشاريع في الخطة التي أشرفنا عليها مرصود لها مبلغ 30 مليون دينار يمني . أي 10 مليون لكل سنة , كيف سينفذونها , هذا إذا ما تمكنوا من إنجاز النصف منها , فسيكون إنتصار لهم في رأيه , ألتقيته مرة أخرى بعد عودته من سفرته الثانية بعد ثلاث سنوات أخرى , لأجده مذهولا ً لكون الخطة قد نفذت بالكامل , ما أريد قوله هنا , أنه ليس مفخرة أن تخطط لعشرين عاما ً قادمة و أنت في الواقع لم تمتلك الإمكانات لتنفيذ مشاريع الخمس الأولى منها . في ظل أوضاع فاسدة تحيط بك و بحكمك و أنت غير معتمد على إنسانك إبن بلدك في التنفيذ و إنما على الأسماء الرنانة للمصممين الأجانب و الشركات الأجنبية العاملة التي يسوقها المدافعين عن النظام الملكي و مجلس إعماره .
الطامة الكبرى عندما سيجادلك أحدهم ليقول السبب بسيط , كوننا لا نمتلك الإمكانات المادية و المؤسساتية للقيام بتنفيذها من قبلنا , إذا كان الأمر كما تصفون فكيف تريدني أن أصدق أن نظاما ً عجز عن بناء تلك المؤسسات طيلة 37 عاما ً أنه كان عهدا ً زاهرا ً .
https://www.youtube.com/watch?v=PcoZDjYwsXc
للموضوع صلة
#عامر_الدلوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟