عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 23:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في أسطورة أخرى من الصنف الذي يبتعد كثيرا عن النموذج القريب من الفهم الديني نجده عند بعض القبائل الإفريقية التي تسكن النيجر وهي قبائل اليوروبا ,الأسطورة هنا تتداخل فيها الروح الإفريقية والأثر البيئي له ملامح واضحة ال تكاد تخفى في رسم الصورة وترتيب السياق التمثيلي في سردها, حيث أننا نلاحظ مثال مفردات الرمل والسلسلة الذهبية والقواقع والنخل والدجاجة وهي مكونات تمثيلية فاعلة لم نجدها في أي من الأساطير الأخرى في السرد أو في الأصل, وحتى الرمل لا علاقة له بالتكوين الخلقي للإنسان بل كان مادة لصنع الجبال والوديان عكس التراب الذي هو المادة الرئيسية في ذلك كما في الأساطير الأخرى.
تبدأ الأسطورة عند شعب اليوروبا هناك في الأعلى حيث مجمع الآلهة الذي يمثل في الحقيقة عندهم مجلس شيوخ القبيلة صورة إنعكاسية للواقع المتخيل للسماء, كانت هناك دوما في حياة الأفارقة العجوز الحكيمة الطبيبة صاحبة الرأي الأخير, هذه الصورة انعكست أيضا على بناء الأسطورة حيث أن مجلس الآلهة قرر استشارة هذه الحكيمة بما قرروا ((قالت أورنوميله كي نخلق اليابسة نحتاج الى بعض الأشياء" ثم أردفت تشرح التفاصيل: "سلسلة ذهبية طويلة, صدفة حلزونية مليئة بالرمل, دجاجة بيضاء قطة سوداء وشجرة نخيل)المقصود هنا شجرة نخيل خاصة ,تنمو في افريقيا, ويستخرج من ثمارها النبيذ (جمع الإله أوبتال جميع الأشياء المطلوبة ثم وضعها في حقيبة أخذ السلسلة الذهبية الطويلة أولا, وعلقها في ركن من السماء, واستعان بها للنزول الى الأسفل نزل ببطء الى أن اكتشف أنه وصل حتى طرف السلسلة, وشعر أنه يطأ على الأرضية من تحته بعد ذلك أخرج اوبتال صدفة الحلزون من حقيبته ثم رش الرمل من جوفها نحو الضباب من تحته, ثم أطلق سراح الدجاجة حطت الدجاجة على الرمل وبدأت تنبشه وتنقره, فانتشر الرمل الى كل ناحية. وسرعان ما تحول الرمل الى جبال عالية وإلى سهول ووديان((.
لقد كان الخلق الأول هنا على الأرض اذا حسب ما ورد في األسطورة الإفريقية, ولكننا نشاهد البدائية والبساطة والسذاجة في تكويناتها وخاصة في تكوين الجبال والسهول من حبات الرمل على الأرض التي لم تشرح الأسطورة كيفيتها الأولى كيف كانت مسطحة مستويه بأي شكل, كما لم تشرح الأسطورة من أين جي بالرمل والمخلوقات الأخرى القطة والدجاجة وصدفة الحلزون من نفس الأرض أم من مكان أخر.
لكن الرواية الأسطورية هنا منفرده وغريبة بعض الشيء إلا أنها تعود لتبني أس التكوين على نفس العلة التي سطرتها غيرها في إيجاد الخلق وهو الملل والفراغ ((ولكن لم يمض زمن طويل حتى شعر اوبتال بالملل والوحدة, وكي ي شغل نفسه راح ينتج أشكالا من الطين, وخلال انشغاله بذلك أخذ يشرب من خمر التمور ))، لقد كانت الأشكال المنتجة والتي بعثت بها الحياة من السماء بناء على طلب أوبتال قبيحة وغير متكاملة, فسأل أوبتال ملك السماء أولورون عن السبب فقال أنه الخمر.
لقد قرر أوبتال أن ينتج دمى بشريه من طين وهو بكامل وعيه مبتعدا عن الخمر فكان له ما أراد ((انتابه الذعر وأقسم أن لا يشرب الخمرة أبدا أثناء انتاج الأشكال جلس أوبتال ثانية وأخذ ينتج الأشكال من الطين مجددا, لكن الأشخاص التي شكلها من الطين كانت متكاملة تماما في هذه المرة نفخ أولورون الروح في هذه الأشخاص فكانت متقنة, وانتشرت في الحال لبناء البيوت والمدن )). نجد هنا أشاره دينية أخرى وردت في النصوص الرسالية وهي قضية النفخ في الطين.
في أسطورة قريبة من شعب اليوروبا جغرافيا نجد أن الأساس الصوري والفكري يختلف تماما عن مجمل الأساطير في تصورها لقضية الخلق أنها أسطورة شعب دوغون ذوي الأقنعة الخشبية في وسط الصحراء الإفريقية الكبرى ((اسطورة الخلق عند شعب دوغون طويلة للغاية ومعقدة وتفاصيلها يعرفها فقط الكهنة, ولكن جـوهـرهـا قـائـم على توضيح صعـوبة خلـق انسان كامل وبدون اخطاء وحتى عندما اضطر الإله ان يخلقه بنفسه لم يستطع ان يخـلقـه كاملا, لقد اضطر الإله ان يذعـن للواقع ويطلب من الإنسان ان يقص النقص الذي لم يستطع الإله معالجته من هنا جاءت عادة التطهير (الختان) عند الشعوب الإفريقية القديمة((*.
ننتقل إلى مكان جغرافي أخر وبعيد لنرى أسطورة شعب هنود المايا في أمريكا الشمالية والتي تتخلص أسطورتهم بأن الخلق أيضا مر بعدة مراحل تجريبية بدأت من الطين الذي فشل في أن يكون صلدا وقويا ثم من الخشب الذي انتج إنسان غبي بالرغم من قوته وبالتجربة الثالثة صنع من نبات الفاصولياء والقصب إلا أن البشر كانوا لا يتكلمون وأغبياء وأخيرا قررت الآلهة أن يصنعوا من الذرة وكانوا شبيها للآلهة وكانوا أذكياء وكان عددهم أربعة وهم أصل القبائل الأربعة التي خلق الإله لهم وهم نيام زوجات بعددهم ليكونوا الشعوب فيما بعد.
في هذه األسطورة هناك تقارب من أسطورة الخلق اليونانية التي مرت كالهما بمراحل تجريبية تتعلق بالتوافق بين رغبة الآلهة والنموذج المخلوق, هذا التقارب لا يستدعي مطلقا أن يكون هناك من أتصال مباشر بين الحضارتين ,ولكن من المؤكد أن العقلية الإنسانية التي صاغت الصورتين لا بد أن بينهما عامل تكويني مشترك ما هو ’الا إنعكاس لطرائق التفكير الإنسانية وإسقاط هذه الطرائق على مقومات األسطورة وخطوطها الفكرية.
مثال بالأساطير التي وردت عن شعوب أستراليا القديمة لم يكن الخلق أصال إلا نتيجة عملية نشأت وتكاملت وخضعت للتبدلات والتحولات في الأرض لم يرد ذكر للأعلى ولا للسماء أن الحياة الأولى والخلق الأول كان في الأرض ((في البدء لم يكن هناك احد على الاطلاق على الآرض. هكذا تقول الأسطورة عند شعب قبيلة كاراديري Karadjeri الأسترالية بالضبط في لحظة اقتراب الظلام من اليوم الأول خرج كلبين اخويين من باطن الآرض لتبدأ رحلتهم في الفيافي والبراري خلال هذه الرحلة كانوا يغيرون باستمرار احجامهم ونوعهم كحيوان لقد اصبحوا ايضا بشرا بأحجام هائلة الى درجة ان رأسهم عانق السماء خلال الرحلة كان الكلبين يغنون عن النباتات والحيوانات التي يصادفوها ,ويطلقوا عليهم الأسماء, لتصبح واقعا حقيقيا بأغانيهم خلقوا الحية والكنغر واشجار الصبار وكافة الحيوانات بعد ذلك اتجه الأخوة الى الشمال ليلتقوا ببشر ليس لهم اعضاء تناسلية الأخوة الكالب صنعوا اعضاء تناسلية من الفطر والصقوها بالبشر لقد اعطوا البشر سلاحا بدائيا واعطوهم اداة يصدر عنها الأصوات كأصوات آبائنا الأوائل بعد ذلك تحولوا الى حية ليختفوا في ثقب بالأرض((..
بعد أن أستعرضنا صور مختلفة من أساطير شتى من بقاع مختلفة من الأرض لا بد أن نشير إلى العوامل المشتركة بينها والقيم اتي تتوافق على مرادها مما يمكننا أن نؤسس لفهم كامل عن الأسطورة كيف صورت لنا قضية الخلق وما الرابط الذي يربط بين الجميع بالرغم من الاختلاف الثقافي والديني والجنسي وحتى في الزمان والمكان.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟