أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر حميو - (طرّة وكتبة)*... قصة قصيرة.














المزيد.....

(طرّة وكتبة)*... قصة قصيرة.


عامر حميو

الحوار المتمدن-العدد: 6351 - 2019 / 9 / 14 - 20:26
المحور: الادب والفن
    


ضاع (سوادي) في لجة المياه الفوّارة، ضاع من بيننا، وضحكاته إذا ما فاز في اللعبة يتردد صداها في أسماعنا نحن الصغار، شدو بدوي يرعى أغنامه، ويزجي وقته بعزف الناي الحزين، وسوادي بارع في اللعبة دوماً، كلّ الكبار يكونون في جهة وسوادي مقابل لهم، يصرعهم واحداً تلو الآخر بضربات كفه على تراب قنطرة النهر الكبير، يصرعهم باحتمالاتهم الخاطئة وفرصة الحظ الجميل له لما يخبؤه تحت كفه، فيقوم الواحد منهم مجللا بسراب الهزيمة بعد أن غطتّه سحابة الغبار من تحت كف سوادي.
عادة ما يطيّر سوادي قطعة النقد المعدنية من فوق ظفر إبهامه المنفلتة بقوة من دائرة سبابته، لتتلوى مثل شريحة لحم رقيقة، يكاد طرفاها الدائران على محورها يتلاشيان على بعضهما مكونان خيطا رفيعا يلمع في وهج شمس الصباح على شدة بحلقتنا وتركيزنا بفضاء لعبها فوق رؤوسنا الصغيرة.
وسوادي لا يملك من الدنيا غير أمّه، وكوخ عماده سقف بانت جذوع النخيل منه، وتميّز عن باقي بيوت القرية التي بدأ الاعمار فيها يتجه عند الميسورين فيها لتشيّد بيوتهم بالطابوق.
هو قصير الهيئة ضامر الجسم أسمر البشرة، ورغم علم الأولاد في القرية بأن سوادي وأمه يعيشان حياة فقر مدقع، لكنه كان معروفاً عنه إباء النفس واعتدادها، لا يقبل العطية حتى وإن أقضّهُ الجوع، وبعضنا تعوّد دون وعي أن لا يتباهى أمام سوادي في بداية كل عام دراسي بما اشتراه له أهله من ملابس جديدة، فكلنا يعرف أن سوادي سيلبس ذات القميص الباهت الألوان والبنطلون الرصاصي نفسه، وفي الشتاء يضيف للقطعتين سترة بمربعات صفراء ذات أكمام تغطي أصابع كفيه، وهو إن بدأ اللعب أمّا أن يشمّر عن كمّيه أو ينزع سترته ويرميها جانبا حتى ينتهي من جولة النصر المعتادة على خصومه واحداً تلو الآخر.
يربح في لعبة (الطرة وكتبة) دوما لكن أموال ما ربحه لا تمثل له هدفا يسعى لنيله، فهو كثيراً ما كان يساعد أحدنا على شراء دفتر مدرسي ليس بمستطاع من يريده أن يشتريه دون أن يستدين على مصروفه، وسوادي لا يعطي دينا ولا يستدين، لكنه يهب بعضا مما ربحه لمن هو بحاجة له، لكن تلك القطع النقدية الصغيرة أضحت له وسط دهشتنا كلنا هدفا يوم غرق.
أوه اللعنة على الذاكرة! فقد نسيت أن أقول لكم إن سوادي كان سبّاحاً ماهراً، يقفز من بيننا ليغط من ضفة النهر الكبير التي نقف عليها، ويضيع لحظات في لجة النهر الفوّارة ليخرج وجهه الأسمر لامعاً بقطرات مياه النهر من جهته الأخرى وسط تصفيقنا اعجاباً به، ويوم غرقه أبى أن يتركنا دون أن يخلف فينا دهشة أكبر مما تركت فينا شخصيته طوال فترة معرفتنا به.
الآن وأنا اقف عند قنطرة النهر التي شهدت مصيبة سوادي وسط كل أهل القرية نبحث عن جثة سوادي، أتذكر جيداً كيف بدأ الأمر:
أنهى سوادي جولة اللعب فائزا على كل من دخل معه السباق، ونهض عاصراً قطع النقود المعدنية بين أصابع كفه اليسرى فيما امتدّت كفه اليمنى لتلتقط سترته وكتبه المدرسية، فاختلط عليه صياحنا نحن الصغار :
- سوادي
- كم ربحت.
وقال ثالث:
- طبعاً كالعادة شطّبت جيوبهم كلها؟.
رد رابع فينا:
- سوادي بطل.
بان الانشراح بالنصر على وجه سوادي وافترت شفتاه عن ابتسامة عريضة، فتح راحة كفه اليسرى وراح يعدّ قطع النقود بصمت، تدانينا متدافعين حوله، وتطاولت رقاب القصار منا لتتمعن ببريق النقود في كفه، لكن الأجسام الصغيرة اتكأت على بعضها وانزلقت بعض الأرجل باتجاه منحدر القنطرة، وحدثت فوضى للحظات طارت بها القطع النقدية متناثرة في لجة المياه الفوّارة، وانشغلت يد سوادي اليسرى بسحب من انزلق فينا وكاد أن يسقط إلى وسط النهر الكبير.
اطمأن سوادي إلى أن كل الصغار فينا قد نجو من الانزلاق، فرمى سترته وراح ينزع قميصه وبنطلونه، وكتفيه يكادان أن يتكورا على بعضهما مع نسمات شتاء قارص تلسع وجوهنا وتيبس أطرافنا.
صاح الكبار فينا واختلطت أصواتهم:
- سوادي لا تفعلها.
- الجو بارد وستتجمد في النهر.
- سوادي جسمك ضعيف ولا يتحمل البرد.
حسم سوادي الأمر شارحاً باختصار أهمية النقود له هذا اليوم:
- لن أترك ربع كيلو اللحم الذي وعدت أمي به يضيع في النهر.
عند الظهر وجد رجال القرية جثة سوادي محصورة من وسطها تحت صخرة كبيرة في قاع النهر، واتفق كل الموجودين على احتمال أن سوادي نبش تحتها باحثاً عن قطع النقود التي ربحها في لعبة( الطرّة والكتبة) وانزاحت منقلبة على جسمه فعلق تحتها حتى مات غرقاً، لكنهم عندما انتشلوه ووضعوه على قنطرة النهر الكبير وجدوا أن أصابع كفه اليمنى مغطاة بالطين، وأصابع كفه اليسرى ملمومة على كومة القطع النقدية كلها، بعد أن حسب الخاسرون ما خسروه وقارنوه بما التمّت عليه أصابع سوادي قبل أن يفارق الحياة غرقا.

عامر حميو/ روائي وقاص عراقي.
---------هوامش....................
* طرّة وكتبة:لعبة عراقية تعتمد على الحظ في تخمين وجه قطعة النقد التي يغطيها اللاعب تحت كفه، ولكسبها على الآخر أن يعرف وجهها الظاهر إلى الأعلى ما إذا كان: (طرّة: الوجه المرسوم عليه رمز العملة) أو (كتبة: وجه الكتابة)؟.
وقد نشرت هذه القصة القصيرة ضمن المجموعة القصصية ( أصيغوا الانتباه: ماحولنا يهمس!) الصادرة في اكتوبر عام 2018 عن دار إنسان للطباعة والنشر والتوزيع في مصر.



#عامر_حميو (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موظف خارج ملاك الوزارة ... قصة قصيرة.
- حلم... قصة قصيرة.
- الغبي... قصة قصيرة.
- (ليلة الدخول) ميثولوجيا الشعوب المضطَهَدة.
- الاستعارة والتشبيه والمجاز الروائي...نهاية المومس نموذجا على ...
- ليلة المعاطف الرئاسية رواية جيل المستقبل التي لا تلتفت للجيل ...
- الرواية الواقعية ونقود أهل الكهف
- خرابة وجذع شجرة ووليد غزالة وحيد
- رائحة المعطف
- عندما تصبح الرواية مُدوَّنة لحلم طال انتظاره
- ( حكايات البلبل الفتّان بين جرأة الطرح وخجل التجنيس الأدبي)
- منعطف الرشيد رواية عالم صاخب بالحياة لقاع مدينة اسمها بغداد.
- رواية عصير أحمر لشذى سلمان...رومانسية موجعة.
- استنطاق الشخصية الروائية ومحاكمتها لقارئها عند إسماعيل فهد إ ...
- (ذاتية العنوان وفلسفة المتن القصصي في أريج أفكاري لفلاح العي ...
- الحكواتي والروائي
- السيدة التي جعلت في بهار إشكالية إقحام وفبركة


المزيد.....




- اليمن يسترد قطعة أثرية عمرها أكثر من ألفي عام
- -قره غوز.. الخروج من الظل-.. افتتاح معرض دمى المسرح التركي ف ...
- لقطات -مؤلمة- من داخل منزل جين هاكمان وزوجته وتفاصيل مثيرة ح ...
- من السعودية إلى غزة.. قصة ’فنانة غزية’ تروي معاناة شعبها بري ...
- سفير روسيا في واشنطن: الثقافة يجب أن تصبح جسرا بين الدول
- شطب سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين -لإنكارها الجرائ ...
- -لإنكار الجرائم الأسدية-.. نقابة الفنانين تشطب سلاف فواخرجي ...
- شطب قيد سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين في سوريا لـ-إصرارها ع ...
- بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيلها.. بدء التحضيرات لمسرحية موس ...
- “بيان إلى سكان هذه الصحراء”جديد الكاتب الموريتاني المختار ال ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر حميو - (طرّة وكتبة)*... قصة قصيرة.