|
[5]. حنين إلى ديريك بعقلائها ومجانينها، قصّة قصيرة
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 6096 - 2018 / 12 / 27 - 11:43
المحور:
الادب والفن
5. حنين إلى ديريك بمجانينها وعقلائها
إهداء: إلى روح درو دينو
حقيقةً أحبُّ حتّى مجانين ديريك! وليسَ من بابِ المجاملة لأنَّهم ولأنّي من ديريك، صحيح أنَّ لديريك مكانة خاصّة في كياني لأنَّها أنجبتني للحياة لكنَّ الَّذي يجعلني أنْ أحبَّ مجانين بلادي هو أنَّ المجانين بسببِ مَرَضٍ ما، هم مجانين لا حول لهم ولا قوّة، مساكين! لهذا أتعاطفُ معهم تعاطفاً عميقاً منذُ أنْ كنْتُ طفلاً في ديريك، .. ترعرعْتُ وترعَرَتْ في ذاكرتي هذه المشاعر، فلا أنسى أبداً، مثلاً: "درو دينو" .. كانَ الأولادُ يركضونُ خلفَهُ قائلين: "درو دينو نجا كاسانِه" أي درو دينو لا تذهب إلى كاسان! .. وحتّى هذه اللَّحظة لا أعلمُ ماذا كانَ يقصدُ الأولادُ بهذهِ العبارة؟! كان يؤلمُني عندما كنتُ أرى الأطفالَ يرمونَ عليهِ حجارتهم الصَّغيرة بأيديهم الصَّغيرة فيهربُ منهم تارةً، وتارةً أخرى يدافعُ عن نفسِهِ ويرمي هو حجارته باتجاههم لكنَّه ما كانَ قادراً على تصويبِها، وقد دفعتني هذه المشاهد المؤلمة أكثر من مرّة بالتدخُّلِ وأنا طفل بحدود العاشرة ثمَّ وأنا يافعٌ ثمَّ وأنا في مقتبلِ الشَّباب، وغالباً ما كانَ الأطفالُ يتدخَّلون بشكلٍ فظّ قائلين، أنتَ ليس لكَ علاقة بنا، إنَّنا نلعبُ معهُ! أجل! وللأسفِ الشَّديدِ هكذا يلعبُ أطفالُنا معَ مجانينِنا، يلعبونَ بجنونٍ أكثر من جنونِ المجنونِ نفسَهُ لأنَّنا لا نولي لأطفالنا اهتماماً ولا نقدِّمُ لهم ألعاباً تخفِّفُ من نشاطِهِم وميولِهِم وطاقاتِهِم الطُّفوليّة الجامحة فنتركُهم في العراءِ يلعبونَ معَ مجانينِنا كي يزدادَ المجنونُ جنوناً ويزدادوا هم خشونةً وهم كأغصانِ الدُّوالي قبلَ أنْ يشتدَّ عودُهُم .. دارَتِ الأيام وجاءَتِ الأيام وإذ بي أتلقّى إيميلاً من شاعرة رقيقة كانَتْ إحدى طالباتي في الحلقةِ الإعداديّة والثَّانويّة، تسألُني فيما إذا أنا أستاذُها "صبري شلو" ما غيره؟! لأنَّها كانَتْ قد قرأتْ لي نصّاً سرديَّاً بعنوان: "ديريك يا شهقةَ الرّوح"، في موقعِ تيريز الَّذي يشرفُ عليه الصَّديق الشَّاعر محمَّد عفيف الحسيني، وقد طلبَ منّي عفيف خصيصاً عبر مكاملة هاتفيّة أن أكتبَ نصّاً غير منشور من وحي عوالم ديريك خاصّ لموقع تيريز! فكنْتُ قد كتبْتُ سرداً عن ديريك من خلالِ مشاهدتي لبعضِ الصُّورِ عن ديريك وأزقّتها، منشورة في الشّبكة العنكبوتيّة، وعندما شاهدْتُ الصُّورَ وتراءَتْ لي معالمَ ديريك، طفَرَتْ من عينيّ دمعتان ساخنتان وإذ بي أردُّ عليها بسردٍ شفيفٍ من أعماقِ الرُّوحِ، وعندما طلبَ منّي عفيف نصَّاً عن ديريك قلْتُ لهُ لديَّ نصّ عن ديريك لكنّهُ يحتاجُ إلى بعضِ التَّعديلات والرُّتوشات، فقالَ عدّلهُ على مزاجِكَ، فعدَّلتُهُ ونقَّحتُهُ ثمَّ أرسلْتُ لهُ النَّصّ بعدَ أن طلبَ صورةً لوالدي ولديريك ولي كي ينشرَها معَ النَّصّ، عندما قرأ عفيف النَّصّ، أضافَ للنصِّ عنواناً فرعيَّاً: "في معراجِ الحنين"، فوقعَ انتباه الشَّاعرة الطالبة على هذا النصّ، لكن صورتي كانت قد تغيَّرتْ عن أيّام زمان، وأحبّتْ أن تعرفَ فيما إذا أنا أستاذُها الشُّلويّ أم لا؟ وعندما عرفَتْ أنَّها وجدَتْ ضالّتها، فرحَتْ كثيراً وتواصلنا بين الحينِ والآخر عبر الشَّبكة العنكبوتيّة! وبعدَ فترة طيّبة تلقَّيْتُ منها هاتفاً وإذ بها تقول لي: أنّني أودُّ اللِّقاء بكَ في سماءِ ستوكهولم بعد ساعات فأنا هنا لإجراء حوار تلفزيوني معي، وأودُّ مقابلتكَ بعدَ الحوار. بكلّ سرور يا عزيزتي، مَن سيجري معكِ الحوار؟ أحمد الحسيني. هل هو موجود. نعم، إنّه بجانبي. اعطَنِي إيّاه! سلّمَ الحسيني عليّ ثمَّ دخلْتُ على الخطِّ بقرويّةٍ ديريكيّة، انتبه يا أحمد، إنْ لم تدلِّلوا هذه الضَّيفة الشَّاعرة الرَّائعة، سأرفعُ عليكم "فردة الرّحان" و"أشرشحكم" في بقاعِ الدُّنيا. ضحكَ أحمد قائلاً: إنَّنا مجرّد أن دعيناها إلى ستوديوهاتنا، هذا يعني أنَّنا سندلِّلُها. دلال عن دلال يختلف. شعرَ أنّني من المهتمِّين بها حقّاً، فقالَ لي أنَّها تريدُ أن تلتقي بكَ بعد اللِّقاءِ. وأنتَ أين ستهربُ بعدَ اللِّقاءِ يا أفندي؟ سألتقيكم بعدَ أن أنتهي من تسجيلِ برامجي! ألغيْتُ كل مواعيدي في ذلكَ اليوم، كانَ لديَّ فعلاً مواعيد في غاية الأهمِّيّة لكنّي اتصلتُ معَ الأطرافِ الموعود معهم واعتذرْتُ منهم لأسبابٍ طارئة، فقالوا لي هل هي أسباب مرضيّة؟ فقلتُ لهم لا، إنّها أقوى من الأسباب المرضيّة، إنَّها أسباب حنينيّة وشوقيّة خالصة! عندما ودّعْتُ ديريك، كنْتُ قد ودّعتُ هذه الطَّالبة، لأنَّني كنْتُ أكنُّ لها اِحتراماً خاصّاً، متوقِّعاً لها مستقبلاً كبيراً في عالمِ الشِّعرِ، حيثُ ركبْتُ دراجة أخي لأنّني ما كنتُ أملكُ دراجةً، متوجِّهاً نحوَ دارهم الكائن في الرّقعة الشِّماليّة الشَّرقيّة من وهجِ الحنينِ، وداعاً مبلسماً بدمعةٍ لا تنسى! وهكذا دارت الأيام بنا والتقينا في سماءِ ستوكهولم بعد غيابٍ طويل، كان اللِّقاءُ طيّباً ومفرحاً وحميميّاً للغاية، ربّما يتساءلُ القارئ العزيز، ولِمَ أدرجْتُ كلّ هذه التَّفاصيل في سياقٍ سردي؟! توغَّلتُ في هذه التَّفاصيل، من أجلِ الوصولِ إلى السّؤالِ التَّالي، حيثُ أنَّني فيما كنتُ أدردشُ مع الشَّاعرة حولَ ديريك وآخر أخبارها وأوضاعها قفزَ إلى ذهني سؤالٌ لا يخطرُ على بالِ الجنِّ! ما هي أخبار "درو دينو"، صحَّتُه وضعُهُ؟! شهقَتْ بحزنٍ ثمَّ قالَتْ يا أستاذ، والله درو دينو أعطاكَ العمر، مات! شعرْتُ بوخزةٍ مؤلمة تجتاحُ بحيراتِ ستوكهولم الغافية فوقَ جليدِ غربتي، ثمَّ تماوجَتْ في ذهني تساؤلات عديدة، هلْ ماتَ درو دينو من الحزنِ، من الألمِ، من حجرِ طفلٍ، من مطاردةِ الأطفالِ لهُ، وهم يردِّدونَ: "درو دينو نجا كاسانه؟!" وهلَ ذهب إلى كاسان؟! ماتَ درو دينو، وأخذَ معَهُ أحزانَهُ وأسرارَهُ، ماتَ وتركنا نشعرُ أنَّنا الآن وفي كلِّ حين أحوجُ ما نكونُ إلى كلمةٍ طيّبة نزرعُها في قلوبِ أطفالنا ومراهقينا كي لا يرموا الحجارةَ على مجانينِنا ولا على مجانينِ العالم، لأنَّ المجنون الكبير هو ذلكَ العاقل الَّذي يرمي حجارتَهُ على المجانين! وكم من العقلاء في بلادي وفي بلادِ الأرضِ قاطبةً هم مجانين وكم من المجانين هم عقلاء لكن دارَ بهم الزّمن وأصبحوا بطريقةٍ أو بأخرى من فصيلةِ المجانين! باقةُ وردٍ أنثرُها على قبر درو دينو، وباقةُ حبٍّ أنثرُها على وجنةِ ديريك وقراها بعقلائِها ومجانينِها!
ستوكهولم: 6 ـ 5 ـ 2006
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
[4]. أنا والرَّاعي ومهارتي بِبَيعِ العدس، قصّة قصيرة
-
[3]. الكرافيتة والقنّب، قصّة قصيرة
-
[2]. الّذكرى السَّنويّة، قصّة قصيرة
-
[1]. فراخ العصافير، قصّة قصيرة
-
[10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة
-
[9]. وللزهور طقوسها أيضاً! ، قصّة قصيرة
-
[8]. مشاهد من الطُّفولة، قصّة قصيرة
-
[7]. احمرار السَواقي، قصّة قصيرة
-
[6]. اللّص والقطّة، قصّة قصيرة
-
[5]. قتل النَّاطور الحمامة، قصّة قصيرة
-
[4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة
-
3 رنين جرس المدرسة، قصّة قصيرة
-
2 . امطري علينا شيئاً يا سماء! قصّة قصيرة
-
المجموعة القصصية الأولى، احتراق حافات الروح، استهلال، [1] اح
...
-
خمس مجموعات قصصية المجلّد الأول، مدخل للقصص
-
تصفّح العدد السّادس من مجلة السَّلام الدولية الصادرة في ستوك
...
-
حملة تضامن مع الشاعرة المبدعة فاطمة ناعوت
-
صباح الخير يا مالفا أيّها المرفرف فوق تاج الإرتقاء في سماء ا
...
-
إصدار جديد للأديب التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف بعنوان: ديري
...
-
طفولةٌ مزدانةٌ بأريجِ النّعناعِ البرّي
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|