عبد الرزاق السويراوي
الحوار المتمدن-العدد: 1490 - 2006 / 3 / 15 - 10:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما مِنْ أمّة من الأمم ,تجد نفسها أمام مجموعة من الخيارات الصعبة ,إلاّ وتشعر بحاجتها الماسة الى منْ يزيل لها أو عنها,الألتباس,وينير لها ما يكتنفها من غموض وضبابية,لتتمكن من وضع اليد على أرجح الأحتمالات الممكنة والتي من شأنها أن تجنّب أو تبعد هذه الأمة عن سوء الأختيار ومجهولية المستقبل وغموضه.والعرب هم أمّة من ضمن هذه الأمم مر ّمجتمعها وما زال بالكثير من مثل هذه الخيارات الصعبة التي هي في الواقع سلسلة من الأزمات التي تكاد أن تكون متلاحقة,وقد تناولها باحثون ومفكرون من العرب,ومن غير العرب أيضا,رغم تنّوع مرجعياتهم الفكرية والثقافية,حيث إنبرى العديد منهم لدراسة الأوضاع في مراحلها المختلفة,في المجتمع العربي,بكل تطوراتها وتفاعلاتها,وقد تعدّدت الرؤى والطروحات في ذلك,كونها كما قلنا تنطلق من مشارب متنوعة وترتكز الى منطلقات فكرية متباينة,الى الحد الذي تصل فيه أحيانا الى التقاطع في ما بينها,فكان أنْ تعددت المدارس الفكرية والثقافية ,ممّا يعني ظهور مفاهيم جديدة /قديمة,وآراء تدعم هذه النظرية أوترفض ذلك الطرح والى غير ذلك..
ولكن الملفت للنظر حقّاً,هو أنّه على الرغم من كل التضارب في الآراء والأفكار لدى هؤلاء المفكرين والباحثين,فأنّ أغلبهم,إنْ لم يكن جميعهم ,يجمعون على وجود أزمة عامة شبه مستديمة,عاشها ويعيشها المجتمع العربي ,ولكنهم على الرغم من الأتفاق على وجود حالة التأزّم, فأنّهم يختلفون في تشخيص العوامل أو الدوافع التي تقف خلف هذه الأزمة أو الأزمات,وهذا الأختلاف في تشخيص الحالة,يسهم بالتأكيد,بشكل أو بآخر في عدم إمكانية الوصول أحيانا,الى ما يكشف الوجوه الحقيقية التي تتشكل منها هذه الأزمة,وبالتالي سوف يكون له التأثيرات السلبية في عملية تجاوزها,أو على الأقل إحتواءها والحد من تأثيرها.وفي قبال ذلك ,فأن هذا الأختلاف في الطرح والتناول أو في النظر الى دراسة أسباب أزمة المجتمع العربي ,لا يمنع من أن يكون تعبيرا عن التعدّدية,التي هي من المظاهر الحضارية المهمة التي أثبتت التجارب صحة إنتهاجه وجدواه.
ومن بين هؤلاء المفكرين والمثقفين العرب,هو الدكتور برهان غليون,الذي ساهم وقدّم الكثيرمن البحوث والدراسات المعمّقة,التي أغْنتْ بحق, الفكر العربي المعاصرطيلة أكثر من ثلاثة عقود,طارحاً ومحلّلا ًللكثير من الرؤى والأفكار الغنية لما هو سائد من القضايا الملحّة,وخاصة ما يتعلق منها بالمجتمع العربي وما تحيق به من أخطار تتهدّده.أنّ الدكتور برهان غليون ,قد أختط لنفسه منهجاً متميّزا ًبه,حيث أعتمد في تحليلاته,المنهج السياسي الأجتماعي,خاصة ما يتعلق منه بأزمات المجتمع العربي,هذه الأزمة التي أخترناها محوراً لهذا المقال.هذا إضافة الى أنّه, وكما قلنا,قد تصدّى في بحوثه ودراساته,للكثير من التحولات والتغيّرات السياسية والفكرية,العربية منها,أو الأقليمية والدولية,راصدا ومشخصا ومحللا في الوقت ذاته,موجات التحدي القديمة /الجديدة للفكر السياسي والأستراتيجي العربي الذي يرى فيه الدكتور غليون,بأنّه لم يظهر قدرة كبيرة على إستيعابها أو تفهّمها بغاية إستشْرافها مستقبلاً.
في الواقع أن للدكتور غليون مؤلفات عديدة صبّ فيها عصارة أفكاره,غير أنني أخترت الجانب السياسي الأجتماعي,وهو المنهج الذي يعتمده غليون في تحليله ورصده لأزمة المجتمع العربي وإخفاقاته,رغم أنّني أحبّذ التركيز على بعض الأفكار التي طرحها غليون,خاصة تلك التي جاءت بصيغة حوارات مفتوحة مع بعض المثقفين العرب كتلك التي دارت بينه وبين سمير أمين في كتاب حوار الدولة والدين, أو مع رضوان زيادة, لأن مثل هذه الآراء ـ كما يقول رضوان زيادة نفسه, في كتاب الدكتور غليون ( العرب وتحولات العالم ) ـ تجمع بين التحليل السياسي والتأمل الستراتيجي والتأسيس النظري,كي يحاول تقديم رؤية واضحة وشاملة للرأي العام العربي عن التحولات العالمية وموقع العرب فيها,ليشكّل ـ يقصد الكتاب المذكور ـ مساهمة متواضعة في تنمية الخطاب السياسي العربي المعاصر,والخروج من الفكر الأحادي الى الرؤية الحوارية التعددية ....( 1 ) .
في كتابه المعنون ( إغتيال العقل ) يستعرض غليون,الأبعاد التأريخية لأزمة المجتمع العربي,ويتطرق الى فترة الهيمنة الأوربية,أو الغرب بشكل عام, على مجرى الأحداث في العالم ,ويذهب غليون الى القول,بأن هذه الهيمنة الأوربية ,كانت بمثابة النهاية لمعظم المدنيات الكلاسيكية,وأنّها.....بداية تحلل بنياتها الأساسية ,وأدخلتها"أي اوربا "في أزمة تأريخية طويلة ,مادية وروحية...أمّا المدنية العربية فلم تكن بمعزل عن هذه الهزّة التأريخية,بل كانت في قلبها ...وكان من نتائج هذه الهيمنة ( القرن الثامن عشر), التحلل التدريجي لأكبر إمبراطورية إسلامية (مطلع القرن العشرين )ومن ثمّ إنهيارسلطتها ,أي السلطة العثمانية,ممّا أدّى الى البحث عن وسائل وطرق تؤدي الى نوع من التوازنات العقلية والسياسية والأقتصادية,فكان أن إزدادت الخشية من التحلل الكامل,المتأتي من ضغط المرحلة الأستعمارية التقليدية التي أعقبت إنهيار السلطة العثمانية,لذلك فأن العرب حاولوا أعادة تكوين أنفسهم ضمن إطار من المدنية الفاعلة والمتصلة بالحضارة الغربية الجديدة,بحيث تتمتع بقدر من الأستقلالية,فكانت محاولات محمد علي ,تمثّل أولى هذه المحاولات تقريبا,ولكنها لم تحقّق النجاح الذي كانت تنشده لنفسها,لكونها ـ كما يرى الدكتور غليون ـ قد سقطت تحت ضربات التدخل الأجنبي الغربي,لأنها بقيت حركة عسكرية بيروقراطية وفوقية عاجزة عن تعبئة الطاقات العربية الفاعلة في تلك الحقبة .....( 2 ) .
" وقد أعقب إجهاض تجربة محمد علي , مرحلة جديدة إنطلقت بالضبط من الفجوات التي تركتها هذه التجربة مفتوحة , وعجزت عن الأستفادة منها ,ونقصد بها ,التغييرات الفكرية ,وقد إنطبعت هذه المرحلة بطابع فكري أساسي وسمّتْ نفسها مرحلة النهضة,أو اليقظة العربية, التي حاولت أن تعيد لحم عناصر الجماعة العربية من خلال الفكرة والأيديولوجية الأصلاحية والدينية,وقدّمتْ مساهمات كبرى في هذا المجال ,سواء ما تعلق منها بتجديد أسس العقائد الدينية,أو تجديد الأداب واللغة العربية,وكان للنهضة العربية تطلّعات سياسية لا شكّ فيها ,تجسّدت في تكوين الجمعيات العربية والنوادي والأحزاب التي برزت منها جمعية العهد الشهيرة "3" .
وبالرغم من أنّ هذا يعتبر في حد ذاته , تطورا إيجابيا يصبّ بالنتيجة في صالح القضايا العربية,إلاّ أنّ المجتمع العربي, لم يستطع الوقوف بوجه التوسعات الأستعمارية العسكرية التي تعرض لها,ممّا ولّد عجزا لدى هذه المنظمات أوالحركات ,عن المقاومة الفاعلة أدّى الى أن يقضي هذا الأحتلال الأوربي على النهضة العربية قبل ظهورها , وكانت نتيجة ذلك, هي فرض نظام التجزأة الأقليمية,والحماية والوصاية الأجنبية على العرب.
وبعد مرور نصف قرن تقريبا , ومع إزدياد المقاومة في تفاعلاتها داخل المجتمع العربي,تمخّض عن ذلك,قيام بعض الأحزاب السياسية التي تحمل في سماتها , نوعا من الحداثة,وكانت في توجهاتها العامة تنزع الى تحقيق الأستقلال,إضافة الى إنشاء دول عربية,ثم تُوّجتْ هذه التغييرات بتأسيس الجامعة العربية في عام 1945 ليعقبها قيام الثورة المصرية في عام 1952 .
ولكن النظام القومي العربي, متمثلاً في الحكومات التي إنبثقت في أكثر من دولة عربية ,إنتهج خطّاً مغايرا لما كانت تطمح الى تحقيقه النهضة العربية حيث " جعل من بناء الحزب الواحد,والحركة العربية السياسية الواحدة,أساسه الوحيد وأداته الوحيدة.وكان لابد له أن يمحور ذلك كلّه , حول بناء شخصية القائد أو الزعيم ورعايتها,فأصبح تقدم الحركة كلّها مرتبطا بنشوء حركات وأحزاب موالية في كل بلد عربي للزعيم الأوّل .وصار الأنقلاب هو الوسيلة الأساسية لهذا التقدم حتى أصبحت السياسة كلها مركزة في حقبة الستينات ,في تنظيم هذه الأنقلابات وقيادتها...هكذا حرمت الحركة القومية نفسها من منبعين للتطور والتغيير ,منبع الفكر وحرية الفكر,ومنبع التنمية الأقتصادية والتصنيع السريع المتكامل والضروري, فلا تمكّنتْ من تعبئة القوى الأجتماعية الفاعلة وتوحيدها ,ولا نجحت في تكوين طبقة صناعية فعّالة ومنتجة .." ( 4 ) .
إذن فقد تحوّل الصراع داخل المجتمع العربي ,الى صراع على الزعامة بين مختلف فئاتها ليصبح النهج السياسي لهذه الأنظمة ( الثقافي والأقتصادي ) مرتبطا بآليّة هذا الصراع ,وخاضعاً في الوقت نفسه,لهذه الزعامات الفردية المتسلطة ,وهو مؤشر واضح على إنهيار النظام القومي وإضمحلاله,وهذا يعني العودة الى عصر " الأزمة المفتوحة " كما يسميّها الدكتور غليون,وقد أسبغ صفة الأزمة المفتوحة كمصطلح,على هذه الفترة بالذات,كونها شهدت : " إنهيار التوازنات الأجتماعية والأقليمية التي خلقها وضمّنها النظام القومي,وإنفتاح الصراع من جديد بين مختلف مكوّنات الجماعة العربية , الفكرية والسياسية والأجتماعية والدينية والطائفية,على مصراعيه ,من أجل إعادة توزيع عناصر الثروة والمواقع السياسية والأجتماعية ,وتكوين الفكرة أو الأيديولوجية التي تكرّس هذا التوزيع ,الذي عجّل بظهور إنحلال الروابط للتضامن الداخلي والأقليمي ,وإنفلات القوى دون ضلبط وتنافرها...فهي إذن أزمة مفتوحة داخل المجتمع العربي ...
أن الدكتور برهان غليون لا يكتفي بتحليلاته بإطلاق العموميات ,على عوامل هذه الأزمة ,فهو يتوسع في بحوثه وإستنتاجاته ,الى تشخيص أكثر وضوحا,لأبرز مظاهر هذه الأزمة .ومن بين العوامل التي يشير اليها ويرى بأنها ساهمت بهذا القدر أو ذاك , في نمو أزمة المجتمع العربي,ولكنه لا يخرج كثيرا عن إطار منهجه التحليلي المتمثل بالمنهج السياسي الأجتماعي الذي يعتمده كثيرا في طرح أفكاره وآراءه وتحليله للواقع بكل تفاعلاته ومتغيراته ,ويعتبره ذا صلة مباشرة أوغير مباشرة بهذه الأزمة,هو......إزدياد المواقف التي تبتني على ردود الأفعال وعلى التطرف وضيق الأفق والحيرة واليأس من كل تغيير,ويتساوى في هذه المواقف تقريبا, السلطات والنخب الحاكمة,وايضا الحركات السياسية والشعبية المناوئة لهذه السلطات. ومنها ايضا التدهور الحاصل في المناخ الفكري الذي يؤدي بدوره الى تراجع حدود المناظرة العقلية تحت ضغط التيارات الأصولية, الحداثية والتقليدية,وبروز وعودة الظواهرالطائفية والعشائرية,وايضا إنحطاط الممارسة السياسية في شقّيها ,الرسمي والشعبي,الى نوع من الأرهاب المتبادل,وتحلّل علاقات السلطة وزوال الأسس القانونية والدستورية للحكم وللمؤسسات العامة, وسقوط الدولة تحت أقدام مراكز القوى وخضوعها للمنافسة, وتنازع أصحاب المصالح على إقتسامها وحرمان المجتمع بذلك من وسيلة تنظيم وتنسيق,أساسية للمصالح العامة.....(5 ) .
ومن مظاهر هذه الأزمة أيضا ,هو أختفاء تداول مفردات التقدم والتحرر والتمدن والتنمية ليحل بدلاً عنها وصف التخلف وآلياته ,والسقوط والأخفاق وتبعاته ..ويلاحظ الدكتور غليون أن الحديث لدى الأوساط المثقفة والعامة على السواء ,عن الأجهاض الذي تعرض له مشروع النهضة العربية ,مرتبط وبميل عارم , الى المراجعة والنقد الذاتي,أي الى ما يشبه الدعوة الى أعادة النظر بالمفاهيم والنظم والعقائديات التي سادت في الحقبة الماضية ,فأن تقويم الأطار النظري العام ,وأعادة تحليل الواقع وفهمه ,فهما جديدا يراه الدكتور غليون من الشروط الضرورية والمهمة التي اذا ما أُعتمِدتْ ,فأنها ستصحح المسار,أضافة الى الممارسة الأجتماعية التي يجب أن تكون ممكنة بعد التردد عنها,وكذلك المبادرة الأنسانية التي يجب هي الأخرى أن تكون مقبولة بعد التوقف عنها والتوجس منها .(6 ) .
وبغض النظر عن مقبولية التبريرات أو عدمها في ما يختص بقضية أجهاض النهضة العربية والأزمة التي كانت بمثابة أرهاصات لفشلها وما رافقها وما تلاها وما تولّد عن ذلك من تفاعلات وعن أسباب كل ذلك وأبعاده ,فأن الدكتور غليون يقف عند هذه الأخفاقات,أو بالأحرى الأزمات,ويتناولها في بحوثه من مختلف زوايا النظر وبما ينسجم مع المحور الذي يتناوله والذي ينسجم بدوره عادة مع الأطر العامة التي تتشكل منها هذه الأزمة ولكن كما قلنا من قبل فأن الدكتور غليون يكاد لا يحيد عن خطّه في أتباعه المنهج السياسي /الأجتماعي..فأضافة الى ما ذكرناه من مظاهر هذه الأزمة,فأن الدكتور غليون وفي ذات السياق,يحصرفي نقطتين مهمتين ,جميع المواقف والرؤى التي تتناول هذه الأزمة : النقطة الأولى,أو النظرة الأولى كما يسميها ,يقول غليون عنها أنّها تجر " الىمواقف عنصرية تحاول ان تبحث عن تفسير هذا الواقع بالكشف عن أسبابه في العقل العربي ,أو في الذات العربية أو في الثقافة أو في التراث باعتباره تجسيدا لهذه الذات فتدير ظهرها للتاريخ وللحركة الاجتماعية وللصراعات الدولية ,أي باختصار للواقع الفعلي,وتجعل من التاريخ ...ثمرة للفكرة التي تصنعها هذه الأمة عن نفسها,أو يصنعها عنها الآخرون ,ونتيجتها هو الأستسلام للأمر الواقع والحكم على الذات بالقصور واليأس من كل عمل . (7 )
أمّا النظرة الثانية فيرى الدكتور غليون أنّها أيضا تبريرية وقائمة على التغطية على الأبعاد الحقيقية لهذه الأزمة,نظرا لما يشوبها من تفاءل كاذب كما يسميه,وأيضا ..."الأستمرار في التأكيد على صلاحية النظم الفكرية والاجتماعية القائمة ,وتبرير التعامل معها والعمل من خلالها,وتصبح المشكلة في نظر اصحاب هذه النظرة مراجعة التكتيكات,للحفاظ على المواقف ذاتها.ومضمون هذه النظرة ,هو بالنتيجة الحفاظ على الوضع القائم وإستغلاله لتأمين المصالح الخاصة والذاتية,والنفي العملي لكل قيمة أو مصلحة عمومية وقومية"(8).
وبذلك يختزل الدكتور غليون في هاتين النظرتين,أهم الرؤى ووجهات النظر ـ إن لم تكن جميعها ـ والتي تحاول ,كل ّوفق متبنياته الفكرية ومرجعياته,أن تجد تبريرات مقبولة,لتفسير حالة الأخفاق الحاصل في المجتمع العربي طيلة العقود المنصرمة,وهي كما هو واضح, قد يبدوالبعض منها,أنّه لا يتجاوز في قوة ودرجة أقناعه,أكثر من إقناع أصحاب الطرح أنفسهم ,أنْ لم يكونوا هم أنفسهم غير مقتنعين بما فيه الكفاية بما يطرحون من تبريرا ت, وتلك هي لعمري مفارقة قد لا تقل شدّة عن الأزمة ذاتها.
على كل حال ,أن غليون إذ أورد مضمون هاتين النظرتين,فأنّه يرى أن أزمة المجتمع العربي ,هي أعمق ممّا جاء في تلك النظرتين من آراء...فغليون يرى في هذه الأزمة أنها ليست مرتبطة .."بزعيم ما,أو سياسة جزئية,ثقافية أو إقتصادية,ولا حتى بنظام معين أو بالأنظمة عامة ,باعتبارها تشكل تعبيرا عن مصالح إجتماعية جزئية "..." وأن السبب الرئيسي لأستمرار هذا الأنحباس,أو المأزق التأريخي....... هو غياب الوعي الموضوعي بأبعاد المشكلة الاجتماعية والتأريخية وغياب الرؤية الواضحة والتصور السليم والتفسير المقنع الذي يخلق إرادة الفعل,ويفتح أفق العمل ويبعث في الأنسان الأمل ,وبمعنى آخر,أن إستمرار الأزمة هو أكبر دليل على إنعدام البديل أو وضعفه,ولا نقصد هنا بالبديل,السياسي منه,وانما المشروع الأجتماعي الثقافي والسياسي الذي أعطت النهضة,وأعطت الحركة العربية القومية الحديثة,نماذج سابقة منه,وهو ليس بهذا المعنى إلاّ الرد الجديد الشامل,الفكري والعملي على الأزمة التاريخية التي يعيشها المجتمع العربي منذ اكثر من قرن,وليس الرد على أزمة جزئية هذا النظام أو ذاك..".( 9 ).
ولا يكتفي الدكتور غليون بهذا الطرح,وإنما يحيل الى مراجعة لابد منها إذا ما توفرت شروطها ومستلزماتها وأصبحت قيد الأمكان ...مراجعة فكرية أكثر ممّا تكون أيّ شيء آخر ,ويجب أن تتصف هذه المراجعة بنوع من الشمولية الدقيقة والحذرة ايضا,بحيث تتمكن من أن تتناول كل الميادين,وهي شرط لابد منه لأعادة بناء الرد العربي,نظريا وسياسيا واجتماعيا,أي لأعادة القوى الاجتماعية الفاعلة وتعبئة الجماعة وبلورة تحالفاتها الداخلية من أجل التغيير المنشود,وينبغي لهذه المراجعة كما يرى غليون,أن لا يكون هدفها التجريح ولا التدمير,وانما الكشف عن عوامل الحركة والتطور والوحدة والتلاحم الفكري والمادي وإبرازها وتعميقها وتوسيعها.
خاتمة :
قد يكون من غير المناسب,أن يتمحور الحديث عن أوضاع سياسية وأجتماعية متأزمة كالتي يعيشها المجتمع العربي والمنطقة عموما وبكل إشكالياتها وتفاعلاتها,دون أن نتطرق ولو إجمالاً الى علاقة هذه الأوضاع بما يحيط بها من متغيرات وأحداث دولية.فأوضاع المنطقة سواء في الماضي أو الحاضر وحتى مستقبلا,تتاثر لا شك,وأنّها بالتأكيد ليست منفصلة عن كل ما يدور من حولها من إشكاليات ومن أزمات,فأزمة المجتمع العربي ترتبط...." بأزمة أكبر,هي الأزمة العامة التي خلقتها الرأسمالية العولمية,أي بالفوضى التي خلقها التوسع الأستقطابي الهائل للرأسمالية بما يعنيه من توزيع العالم بين مناطق نمو حضارية متقدمة وأطراف متراجعة نحو البربرية.." .(10 ).من هنا فأن الدكتور غليون يثير تساؤلا مهمّا يقول عنه :أنّه السؤال الذي لا ينفك ,نطرحه على أنفسنا منذ أكثر من قرن : لماذا تقدم الغرب ,وتأخّر المسلمون ؟ ,ثم يقول,فمن دون إدراك هذه الأشكالية لن نستطيع فهم أزمة المجتمع العربي ...(11 ).
ممّا لا شك فيه أن الشعوب العربية كغيرها من شعوب العالم,وجدت نفسها محشورة قسرا داخل دوّامة من التحديات الكبرى...ولكن في قبال هذه التحديات,فأن الشعوب العربية لديها ايضا, مجموعة من الطموحات الكبيرة,ومن بينها وربما من ابرزها,اللحاق بركب الحضارة,وخصوصا ما سُمّي بالثورة الصناعية (مرحلة الأستقلال),وكذلك ما أعقبها من الثورة التقنية والعلمية,ولكن على ما يبدو,أنّ النخب العربية لم تنجح تماما وبما يؤهلها أن تكتشف علائق التوازن,الظاهرة منها والخفية,بين المصاعب التي واجهتها وتواجهها بصيغة تحديات فرضتها ظروف دولية قاهرة,على الساحة,كنتيجة لبعض التغيرات التاريخية من جهة,وبين طموحاتها التي قد تتعارض مع بعض هذه التحديات,أو تنسجم مع بعضها الآخر من جهة أخرى. من هنا فأن الدكتور غليون يرى....أن النخب العربية التي عاشت مرحلة الأستقلال وما قبلها وما بعدها,قد أخفقتْ في إقامة نظام إقليمي جيوسياسي واقتصادي ناجح وفعّال,وكانت نتيجة هذا الأخفاق الذي لاقته النخب العربية ,هي ضياع فرص النجاح الذي يمكن أن يحقق ثورة صناعية..."وعندما خسرنا التحكم بمعطيات الثورة الصناعية والسيطرة على كيانها ,حكمنا على أنفسنا بأن نبقى بلدانا صغيرة تابعة وخاضعة لتقلبات النظام العالمي وتدخلاته وحاجاته....فقد أصبحنا عرضة لتحرشات هذه الدول....وبعد أن فشلنا في التكوّن,كقوّة قادرة على تحقيق أمنها ذاتيا ,وإستقرارها ونموها....وسقطت دولنا واحدة بعد الأخرى في أحاييل الأستراتيجيات الدولية ....وتحول معظمها في نظري من دول شكلية أو أسمية تطمح الى أن تكون دولاً حقيقية,الى وكالات سياسية للأستراتيجيات العالمية وأدوات مادية تستخدمها للقهر والكبت والضغط وضبط حركات المجتمعات وإحتواءها ....وأصبحت بلداننا بعد أن تفاقم الفقر والبؤس والتبعية والعجز والفوضى والأضطراب,مزبلة ترمى فيها البلدان القوية ,حثالة منتجاتها وصناعتها النووية وغير النووية في الوقت الذي يفرض علينا فيه دفع فاتورة جميع الأخطاء والحروب والنزاعات الخاصة بالمنافسة والصراع على الهيمنة الدولية ". (12 ).
عبد الرزاق السويراوي
المصادر
1 ـ غليون,د. برهان. العرب وتحولات العالم, ص 9.
2 ـ غليون ,د. برهان . إغتيال العقل ,ص 6 .
3 ـ غليون, د. برهان . إغتيال العقل ص 5 ـ 6 ـ 7 .
4 ـ غليون, د. برهان. إغتيال العقل ص 8 ـ 9 .
5 ـ غليون, د. برهان .إغتيال العقل ص 10 .
6 ـ غليون, د. برهان . إغتيال العقل ص 11 .
7 ـ غليون, د. برهان .إغتيال العقل ص13 .
8 ـ غليون, د. برهان .إغتيال العقل ص 13 .
9 ـ غليون. د. برهان .إغتيال العقل ص 14 .
10 ـ غليون, د. برهان . المحنة العربية : الدولة ضد الأمة ص 216 .
11 ـ غليون, د. برهان . العرب وتحولات العالم ص 119 .
12 ـ غليون, د. برهان . العرب وتحولات العالم ص 107 .
برهان غليون :
مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ الأجتماع السياسي في جامعة السوربون الفرنسية . صدر له :
ـ بيان من أجل الديمقراطية, بيروت 1977 (5 ).
ـ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات, بيروت 1978 .
ـ مجتمع النخبة , بيروت 1981 (طبعة 2).
ـ إغتيال العقل,محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية , بيروت 1985 ,( ط 10 ).
ـ الوعي الذاتي, بيروت 1990
ـ المحنة العربية : الدولة ضد الأمة, 1990
ـ نقد السياسة : الدولة والدين,1993 .
ـ نظام الطائفية , من الدولة الى القبيلة, 1990
ـ العرب ومعركة السلام ,1999 .
ـ حوارات من عصر الحرب الأهلية .
ـ حوار الدولة والدين (مع سمير أمين). 1995 .
ـ ثقافة العولمة,(مع سمير أمين)1998 .
ـ ما بعد الخليج أو عصر الصراعات الكبرى 1992 .
ـ العرب وتحديات القرن الواحد والعشرين 1996 .
ـ النظام السياسي في الأسلام (مع محمد سليم العوا) 2003 .
ـ الأختيار الديمقراطي في سوريا, 2002 .
#عبد_الرزاق_السويراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟