|
المحال في قصيدة -محطات- محمد العصافرة
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 5832 - 2018 / 4 / 1 - 08:30
المحور:
الادب والفن
عندما نستخدم لقاءات متناقضة، أو افعال مستحيلة الحدوث فإننا نريد بها تأكيد ثباتنا، وعدم قبولنا، وتناقضنا معها، وقد جاءت استخدامات لهذه المتناقضات في الكتب السماوية، كما هو الحال في القرآن الكريم في سورة الأعراف: "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ" وفي إنجيل مرقس: " مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ" وقد استخدم هذا الأمر ايضا العديد من الشعراء مثل "توفيق زياد" في قصيدة "المستحيل" والتي يقول فيها: "أهون ألف مرة أن تدخلوا الفيل بثقب ابرة وأن تصيدوا السمك المشوي بالمجرة أهون ألف مرة أن تطفئوا الشمس وأن تحبسوا الرياح وأن تنطقول التمساح أهون ألف مرة من أن تميتوا باضطهادكم وميض فكرة وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه قيد شعرة" من جماليات هذا النوع من الشعر أنه يعطينا مجموعة من الأفكار، منها واقعنا البائس، العدو القوي والمتمكن، إرادتنا الصلبة، كل هذا يتم تقديمه بشكل أقرب إلى السخرية، مما يخفف من وطأة الواقع على المتلقي للنص، ويجعله شبه متحرر من ثقل الحال والواقع عليه. "محمد العصافرة" يقربنا من هذا النوع من الشعر، بطريقته وأسلوبه الخاص، يقدم لنا الشاعر ثلاثة مقاطع عن المستحيل، أولها: " قَدْ يُوْلَدُ منْ أُفْقِ اللَّيْلِ نَهَارْ أَوْ بَيْنَ المَوْجِ هُدوءٌ قَدْ أَضْحَى تَرْقُبُهُ الأَسْحَارْ قَدْ يَعْشَقُ رَوْعَ سنينِ العُمْر مَنْ تاهَ بِظُلمِ الأَقْدَارْ قَدْ يَصْحُو الهاربُ منْ وَطَنٍ أَوْ يَرْقَى الذِّئْبُ بِراعٍ قَدْ قَطَعَتْ فيه الأَسْفارْ لَكِنْ كَيْفَ لشخْصٍ قَدْ أَصْبَحَ عَبْدَاً أَنْ يَدْخُلَ في دُنيَا الأَحْرَارْ ***" الملفت للنظر وجود الفاظ بيضاء "يولد، أفق، نهار، هدوء، أصحى، الأشجار، يعشق، العمر، يصحو، وطن، يرقى" كل هذه الألفاظ جاءت بمعنى البياض، وهي تشير إلى حالة الأمل والتفاؤل الذي يحمله الشاعر، ولو كانت الألفاظ السوداء هي الطاغية في القصيدة لقلنا عكس ذلك، الشاعر يستخدم مشاهد من الطبيعة، "الليل ونهار،" والحياة الريف البكر "الراعي والغم والذئب"، وكأنه يقول أن طبيعة الحياة في الكون وعلى الأرض كلها تؤكد استحالة: "لَكِنْ كَيْفَ لشخْصٍ قَدْ أَصْبَحَ عَبْدَاً أَنْ يَدْخُلَ في دُنيَا الأَحْرَارْ " وهذ الاستحضار للطبيعة يجعلنا نتحرر من حالة التوتر والاضطراب، وأن نكون أكثر موضوعية في حكمنا واتخاذنا للقرار الأخير، والذي جاء بصيغة اليقين والقناعة المطلقة التي لا تشوبها شائبة. وفي المقطع الثاني يقول: "قَدْ يَأْتِيْ اللَّيْلُ يُعَاتِبُ فِيَّ الأفكارْ يَمْحُو ذَاكِرَةً قَدْ مُلِئَتْ غِشَّاً أَوْ حِقْدَاً أَوْ كُتِبَتْ باسْمِ الأَشْرارْ قَدْ يَرْسُمُ ليْ وَحْيَاً مِنْ وَهْمٍ أَوْ يَكْتُبُ ليْ سَطْرَاً قَدْ لَوَّنَ أَحْرُفَهُ بِوِسَامٍ مِنْ عَارْ قَدْ عَاثَ فَسَاداً في دُنْيَا مِنْ عِشْقٍ وَدَمَارْ لَكنْ لَنْ يَمْحُوَ منْ ذَاكِرَتِيْ وَطَنَاً قَدْ لَوَّثَ صُوْرَتَهُ عَالَمُ مِنْ دُنْيَا الأَشْرَارْ ***" الأداة التي يستخدمها الشاعر، الكتابة، وهذه الأداة هي الوسيلة التي تخفف من وقع الحال عليه، لهذا نجدها دائما تستخدم لتحقيق الهدوء والسكون في نفسه، وهذه الأداة الطاهرة والنقية ـ احيانا ـ يمكن أن تنحرف/تخرج عن مسارها النقي قليلا، لكن هناك أفعال لا يمكن أن نغفرها أو ننساها: "لَكنْ لَنْ يَمْحُوَ منْ ذَاكِرَتِيْ وَطَنَاً قَدْ لَوَّثَ صُوْرَتَهُ عَالَمُ مِنْ دُنْيَا الأَشْرَارْ " ونلاحظ أن استخدام الألفاظ السواد جاء أكثر من المقطع الأول، واعتقد أن السبب وراء ذاك فاتحة المقطع، ففي المقطع الأول نجده يبدأ: " قَدْ يُوْلَدُ منْ أُفْقِ اللَّيْلِ نَهَارْ " فعل "يولد" اعطا الشاعر مساحة ليبتعد عن القسوة قليلا، من هنا نجده ـ في العقل الباطن ـ انساق وراء "يولد" وتجاهل القسوة والألم، فجاء المقطع ببياض غالب على السواد، لكنه في بداية المقطع الثاني والذي بدأه: "قَدْ يَأْتِيْ اللَّيْلُ يُعَاتِبُ فِيَّ الأفكار " والذي يشير إلى قدوم الليل مما جعل الظلام يأخذ مكانته في الألفاظ ويعمل سواده في تظليم الألفاظ والأفكار. وتأكيد على أن فاتحة المقاطع تؤثر على القصيدة نأخذ المقطع الثالث والذي جاء فيه: " "قَدْ يَغْفُو الوَجْدُ بِوَجْهٍ قَدْ ضَاقَ به التِّرحَالْ قَدْ أَعْلَنِ مُنْذُ وِلادَتِهِ قَدْ خَطَّ بِدفْتَرِ أَسْفارِه قَدْ دَوَّنَ أَنْ يعشقَ ذاكَ الإبحارْ يَرْميْ هذا السِّحْرُ عَلى وَهْجٍ مِنْ نَارْ قَدْ يَعْشَقُ أَنْ يَبْقَى رَهْنَ أَيادٍ آثِمَةٍ قَدْ حَالَتْ ضُوءَ العُمْرِ دَمَارْ قَدْ حَارَ وَحَارْ لَكِنْ لَنْ تَنْزَعَ منْ شَيْخٍ قَدْ أَمضَى طُوْلَ العُمْرِ يَنْظُرُ عَوْدَةَ غُيَّابٍ قَدْ تَرَكُوا آثارَاً مِنْ دارْ" فعل "يغفو" لا يشير إلى قسوة، وإنهما إلى حالة طبيعية للإنسان، ونجد لفظ "الوجد" الذي أيضا يمثل حالة إنسانية، لهذا سنجد أن الحديث يدور حول الإنسان فقط، ولا يوجد للطبيعة ـ بشكلها المجرد المعروف ـ أي أثر، كما هو الحال في "ضوء العمر" وإنما تم استحضارها بشكل معنوي، وليس حقيقي، كما جاء في المقاطع السابق، فهنا يتحدث الشاعر عن حالات متعلقة بالإنسان فقط، لهذا جاءت الخاتمة متعلقة بالشيخ: " لَكِنْ لَنْ تَنْزَعَ منْ شَيْخٍ قَدْ أَمضَى طُوْلَ العُمْرِ يَنْظُرُ عَوْدَةَ غُيَّابٍ قَدْ تَرَكُوا آثارَاً مِنْ دارْ" القصيدة منشورة على
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عوالم الشاعر في ديوان -كما أنت ..أنا- خليل حسونة
-
واقع المعتقلات العربية في رواية -الآن ...هنا- عبد الرحمن مني
...
-
تمرد الشاعر في -أغنيات لسمو نهدك- ل -فراس حج محمد-
-
المكان والمقدس في ديوان -لا أريد أن يعرفني أحد- خليل إبراهيم
...
-
المرأة القصيدة في -يداك- ياسر محمد ناصر
-
مناقشة مجموعة -عشاق المدينة
-
المرأة في مجموعة -صباح مساء- حسن حميد
-
اللغة الروائية في ديوان -لا أريد أن يعرفني أحد- خليل إبراهيم
...
-
الصورة عند عبود الجابري
-
عشتار في ديوان -على ذمة عشتار- جواد العقاد
-
الانسجام بين اللفاظ والمعنى في قصيدة -دائي- للشاعر بنان البر
...
-
المرأة/عشتار في قصيدة -عودة- جميل طرايرة
-
الفرح في قصيدة -تعلية- بنان البرغوثي
-
السواد والبياض عند أيمن شريدة
-
التأنيث هو الأصل عند -أيمن شريدة-
-
الشعر المحكي في ديوان -العسل المر- عباس دويكات
-
السلاسة في مجموعة -يوم مختلف- عائشة عودة
-
الفرح المسروق في قصة -شموع ليلية الميلاد فاضل الفتلاوي
-
القصيدة البيضاء -غنج الحمام- منصور الريكان
-
مناقشة رواية -كلام على شفا شفتين- في دار الفاروق
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|