أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - حنان قصبي - أهمية مفهوم الكونية في فكر اليسار - فيفيك شِبير ترجمة حنان قصبي















المزيد.....


أهمية مفهوم الكونية في فكر اليسار - فيفيك شِبير ترجمة حنان قصبي


حنان قصبي

الحوار المتمدن-العدد: 5765 - 2018 / 1 / 22 - 16:23
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


بعد سيادة ركود، ظن الكثيرون أنه ركود أبدي، ها نحن نشاهد عودة مقاومة عالمية ضد الرأسمالية، أو على الأقل ضد الليبرالية الجديدة باعتبارها التجسيد الحالي للرأسمالية. لقد مرت أكثر من أربعين سنة على بروز حركة من هذا النوع على صعيد الكرة الأرضية. وعرف العالم بكل تأكيد، إبان العقود الأخيرة، هزات متفرقة وفترات قصيرة من الاحتجاج أدت إلى إرباك وزعزعة انتشار قانون السوق القوي هنا أو هناك. لكن لا مجال للمقارنة مع ما حدث في أوربا والشرق الأدنى والقارة الأمريكية ابتداء من سنة 2010.
لقد أبرز هذا الانبثاق الجديد أيضا الخراب الناتج عن الركود الذي ساد في الثلاثين سنة الأخيرة. فالموارد التي يحصل عليها العمال لم تكن أضعف مما هي عليه الآن، كما أن المنظمات اليسارية -أي النقابات والأحزاب- أفرغت من جوهرها، إن لم تكن قد تحولت إلى منظمات متواطئة مع سيادة التقشف. لا يمكن إرجاع ضعف اليسار إلى طبيعة سياسية أو تنظيمية فقط، لأنه يعاني من ضعف نظري أيضا.
تلازمت الهزائم الجلية والمتراكمة مع تخريب ثقافي مُهول. ولا يعود ذلك لكون الأفكار الداعية للتغيير لم تعد متداولة: فالمثقفون التقدميون أو الراديكاليون لازالوا يُدرّسونَ في العديد من الجامعات، على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الذي تغير هو معنى الراديكالية السياسية. لقد أصبحت المفاهيم الأساسية للفكر الاشتراكي مفاهيم مشبوهة بل وخطيرة بتأثير من النظريات ما بعد البنيوية.
ومما يؤكد ذلك اعتبارُ العديد من التحليلات التي كانت تعتبر بديهية من طرف اليسار على امتداد قرنين من الزمن، تحليلاتٍ جدّ متقادمة من بينها على سبيل المثال: التأكيد على أن للرأسمالية بنية إجبارية وإكراهية فعلية تؤثر على كل فرد، تغلغل مفهوم الطبقة الاجتماعية في علاقات الاستغلال الملموسة، مصلحة عالم الشغل في تبني صيغ تنظيمية جماعية.
صارت عملية التخلص من المادية ومن الاقتصاد السياسي، التي دشنتها مدرسة ما بعد البنيوية، أمرا إلزاميا في آخر "مَعبد" لهذا التيار الذي يُعرفُ على نطاق واسع اليوم في الجامعات تحت اسم: "الدراسات ما بعد الكولونيالية".
غيّرَ الهجومُ على الإرث المفاهيمي لليسار، إبان العشرين سنة الأخيرة، رايتَه: لقد ترك الإرثُ الفلسفي الفرنسي مكانته لكوكبة كبيرة من المنظرين غير الغربيين، الذين أتوا من جنوب آسيا( )، ومن الجنوب بصفة عامة. ويمكن أن نذكر من بين المنظرين الأكثر تأثيرا أو الأكثر حضورا الأسماء التالية: غاياتري شاكرافورتي سبيفاك (Gayatri Chakravorty Spivak)، هومي بهابها (Homi Bhabha)، راناجيت كوبا (Ranajit Guha)، والمجموعة الهندية للدراسات، إضافة إلى الأنثروبولوجي الكولومبي أرتيرو إيسكوبار (Arturo Escobar)، وعالم الاجتماع البيروفي أنيبال كيجانو (Aníbal Quijano)، والسيميولوجي الأرجنتيني والتر مكنولو (WMignolo). وكل هؤلاء يشتركون في المسألة التالية: رفضُ تراث الأنوار في شموليته. لأن هذا التراث يعاني من شبهة تتمثل في كونيته وميله إلى القول بصلاحية بعض المقولات في استقلال عن الثقافات والخصوصيات المحلية. لكن المستهدفين الأساسيين لهؤلاء هم: الماركسيون المتهمون بكونهم يعانون من عمى ثقافي مستفحل.
يرى الماركسيون أن العديد من المفاهيم مثل الطبقة والرأسمالية والاستغلال مفاهيم صحيحة وملائمة في كل المجتمعات وفي جميع الثقافات، وهي ملائمة لفهم العلاقات الاجتماعية في أوربا المسيحية وفي الهند الهندوسية أو في مصر المسلمة على حد سواء. لكن هذه المفاهيم أو المقولات تقود، في نظر أنصار النظرية ما بعد الكولونيالية، إلى مأزق نظري وعملي في نفس الآن. وبما أنها مقولات خاطئة، كشبكة للتحليل، فإنها غير منتجة أيضا. وبما أنها تنكر إبداعية واستقلالية الفاعلين السياسيين، فإنها تحرمهم من الموارد الثقافية الضرورية للعمل. وباختصار، فإن الماركسية لا تعمل إلا على تقييد الخصوصيات المحلية بأغلال صنعت في أوربا. لم تكن غاية النظرية ما بعد الكولونيالية هي نقد تراث الأنوار فقط، وإنما استهدفت الحلول محله.
نقرأ في كتاب شهير من كتب "الدراسات ما بعد الكولونيالية" ما يلي: "تشكل مسلمة الكونية أحد ركائز السلطة الكولونيالية، لأن الخصائص الكونية الملازمة للإنسانية تنتمي في الواقع للمسيطرين". فالكونية متهمة بتدعيم السيطرة لأنها تدعي صلاحية خصائص أوربية للإنسانية جمعاء. إن الثقافات التي لا تتطابق مع هذا التصور تُحشرُ في وضع الدونية، وهو ما يفرض عليها الخضوع للوصاية الضمنية، وحرمانها من أن تحكم نفسها بنفسها. وهو ما يشرحه كتاب "الدراسات ما بعد الكولونيالية" بالقول إن: "أسطورة الكونية تصدر عن إستراتيجية إمبريالية (...) ارتكازا على المسلمة القائلة بأن كل ما هو أوربي هو كوني"( ).

التطلع الجماعي للرفاهية:

تجمعُ هذه الحجة ما بين وجهتيْ نظر تقعان في قلب الفكر ما بعد الكولونيالي. تقترح وجهة النظر الأولى، والتي توصف بالشكلية، أن الكونية تتجاهل عدم تجانس المجتمع وتهمش الممارسات أو الاتفاقات غير المتطابقة فيما بينها. والتهميش هو ممارسة السيطرة. وترى وجهة النظر الثانية، التي لها صلة أكبر بالمضمون، أن الكونية هي أساس من أسس الهيمنة الأوربية: أي أن عالم الأفكار ينتظم بشكل مُوسّع حول نظريات صيغت في الغرب. هذه النظريات تحدّ من التفكير الثقافي كما تحدّ من فعالية النظريات التي تغذي العمل السياسي وترسخها في الصيغة التي تفرضها المركزية الأوربية. إن هدف نظرية ما بعد الحداثة هو تقويم هذه الشائبة الموروثة وتوضيح تأثيرها ونتائجها.
ويفسرُ ما سبقَ العداء "للسرديات الكبرى" (النظريات الإنسانية الكبرى لمسيرة التاريخ) المرتبطة بالماركسية وبفكر اليسار. وتم تعويض تلك "السرديات الكبرى" بالجزئيات والهوامش والممارسات والاتفاقات المتغلغلة في خصوصيات جغرافية وثقافية، والتي تنفلت من التحليلات الشمولية. ويجب البحث عن وسائل العمل السياسي، حسب هذا المنظور، في ما يسميه دبيش شاكرابارتي (Dipesh Chakrabarty) بـِ"عدم تجانس المحلي واستحالة قياسه"( ).
يرتكز التقليد السياسي الذي أسسه كارل ماركس وفردريك إنجلز عل مقدمتين. تنصّ المقدمة الأولى على أن الرأسمالية تفرض إكراهاتها على كل من يقع في حبائلها في إطار نشرها وبسطها لسيطرتها في جميع أنحاء الكرة الأرضية. فتغلغلها في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا دفع عمليات الإنتاج إلى إتباع مجموعة قواعد هي نفسها في كل مكان. وإذا كانت أساليب التطور الاقتصادي ووتيرة النمو تتغير، فإنها تخضع مع ذلك لنفس الإمكانيات والاحتمالات المتضمنة في البنيات العميقة للرأسمالية.
وتُسلمُ المقدمة الثانية بأن الرأسمالية تؤدي بسبب فرضها لمنطقها ولسيطرتها، عاجلا أم آجلا، إلى حدوث ردّ فعل العمال. وتُؤيدُ الأمثلة العديدة عن مقاومة الطابع الافتراسي للرأسمالية في جميع أنحاء العالم وجهة نظر ماركس وإنجلز. ومهما كانت أهمية وتنافر وتنوع "المعطيات المحلية التي لا تقبل القياس" فإن الرأسمالية تجهز على الحاجيات الأساسية للكائنات البشرية. ولا تختلف ردود الأفعال التي تتسبب فيها الرأسمالية عن قوانين إعادة إنتاجها إلا اختلافا قليلا. ومهما تغيرت أساليب وطرق هذه المقاومة من مكان لآخر، فإن الدافع الذي يحركها هو دافع كوني مثل كونية تطلع كل فرد للرفاهية.
تم استعمال مسلمتي ماركس وإنجلز كمرتكز لتحليلات وممارسات ثورية طيلة قرن من الزمان. ونتجت عن إدانة هذين المسلمتين جملة وتفصيلا من قبل النظرية ما بعد الكولونيالية، التي لم تستطع قبول محتواهما الكوني، نتائج وخيمة. فما الذي سيبقى من النقد الراديكالي إذا حُرِمَ من مفهوم الرأسمالية؟ وكيف يمكن تأويل الأزمة التي تهيمن على العالم منذ سنة 2007؟ وكيف يمكن أن نفهم معنى سياسيات التقشف إذا لم نأخذ بعين الاعتبار السباق الخطير لتحقيق الأرباح الذي يطبع اشتغال الاقتصاد؟ ما الذي يمكن قوله عن المقاومة في جميع أنحاء الأرض والتي تم التعبير عنها بنفس الشعارات في القاهرة وبيونس أيرس ونيويورك أو مدريد، إذا رفضنا أن نرى في هذه المقاومة التعبير عن مصالح كونية؟ كيف يمكن القيام بأي تحليل للرأسمالية إذا تم التخلص من كل مقولة تعبر عما هو كوني؟
وإذا أخذنا بعين الاعتبار خطورة الرهانات فيمكن أن ننتظر من أتباع الدراسات ما بعد الكولونيالية أن يحافظوا –على الأقل- على مفهوم الرأسمالية ومفهوم الطبقات الاجتماعية، وأن يعتبروهما إجرائيين بما فيه الكفاية لكي يجنباهما تهمة المركزية الأوروبية. لكنهم لم يقتصروا على عدم الاعتراف بأي فضل لهذين المفهومين، بل اعتبروهما نموذجين للابتذال الجوهري للنظرية الماركسية. فجيان باركاش (Gyan Prakash)، على سبيل المثال، يقول "إن جعل الرأسمالية أساسا للتحليل التاريخي يعني توحيد التواريخ التي تظل متنوعة ومتنافرة". يُتّهمُ الماركسيون بالعجز عن فهم الممارسات الخارجية لديناميكيات الرأسمالية، ما عدا إذا كانت في صيغة بقايا محكوم عليها بالاختفاء شيئا فشيئا. فالفكرة القائلة إن البنيات الاجتماعية بإمكانها أن تخضع للتحليل بناء على ديناميكيات اقتصادية تعكسها – أي نمط إنتاجها- ليست فكرة خاطئة فقط وإنما هب فكرة ملوثة بالنزعة المركزية الأوربية، أي أنها تستعمل لتحقيق صيغة من صيغ السيطرة الامبريالية. وهذا ما يؤكده براكاش (Prakash ) بقوله: "تشكل السردية التاريخية المتمركزة على أوربا باعتبارها تعاقبا لأنماط الإنتاج، مثلها في ذلك مقل العديد من الأفكار المتمركزة على أوربا، تعبيرا متناسقا عن الامبريالية في القرن التاسع عشر"( ).
ويطور شاكرابارتي نفس الحجة في مؤلفه المهم (ترييف أوربا)( )، فهو يرى أن أطروحة كونية العالم عبر توسع الرأسمالية تُقلصُ الديناميات المحلية الخاصة بالتنوعات البسيطة حول نفس الموضوعة: فكل بلد لا يعرّف إلا بدرجة تطابقه مع تجريد مفاهيمي، بالشكل الذي يجعل تاريخه لا يوجد أبدا إلا كملاحظة هامشية في السردية الكبرى للتجربة الأوربية. ويُتّهمُ الماركسيون أيضا بارتكاب خطأ مأساوي يتمثل في إفراغ تحليلهم لتطور العالم من أي احتمال. فإيمانهم بدينامية كونية للرأسمال تجعلهم لا يرون إمكانيات "الإنقطاعات والقطائع والتغيرات في السيرورة التاريخية". إن التاريخ –كما يتصوره الماركسيون- هو تاريخ تحرر من اليقينيات الملازمة لحرية الاختيار المميزة للإنسانية، مما جعله يشبه خطا مستقيما يقود حتما إلى نهاية محددة. والنتيجة هي أن مفهوم الرأسمالية لن يكون فقط غير مقبول، ولكنه سيعتبر مفهوما خطيرا من الناحية السياسية، لأنه قد يحرم المجتمعات الغربية من القدرة على بناء مستقبلها الخاص.
ولا أحد مع ذلك يرفض أن الرأسمالية، إبان القرن الأخير، انتشرت في جميع أنحاء الأرض، معيقة بذلك جميع مناطق العالم المستعمر سابقا. ولما تغلغلت في المناطق الجديدة ابتداء من آسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها حتما قد أثرت سلبيا بالضرورة على التركيبة الاجتماعية والمؤسساتية لتلك المناطق. إن منطق تراكم الرأسمال أثر على الاقتصاد المحلي والقطاعات غير الاقتصادية التي خضعت للتلاؤم مع هذا الضغط القوي.
لكن إذا كان شاكرابارتي لا يرفض أن نيْر الرأسمال اتسع ليشمل جميع أنحاء الأرض، فإنه يرفض أن يرى في ذلك صيغة من صيغ كونية العالم. فلن تقوم الرأسمالية، بالنسبة له، بإضفاء طابع الكونية على العالم إلا إذا خضعت الممارسات الاجتماعية لقانونها. ويقول في هذا الصدد "إن أية صيغة تاريخية من صيغ الرأسمال، حتى وإن كان مداها عالميا، لن تستطيع أبدا أن تكون كونية. فأي نوع من الرأسمال، سواء كان محليا أو عالميا، لن يتمكن من تمثيل المنطق الكوني للرأسمال، لأن كل صيغة محددة تاريخيا تنتج عن توافق مؤقت ما بين طموحه للهيمنة وتصلب العادات والاتفاقات المحلية. ولا يمكن الحديث بالنسبة له عن إضفاء طابع الكونية إلا إذا استولى الرأسمال على مجموع العلاقات الاجتماعية وحرمَها بذلك من أي شكل من أشكال الاستقلالية الذاتية. يمكن للمرء أن يتخيل أن المدراء الرأسماليين يجوبون الأرض وفي أيديهم عداد "غايغر" (Geiger) السياسي لقياس كل ممارسة اجتماعية بناء على مصالحهم الخاصة.
لكن هناك صيغة أخرى محتملة: فالرأسماليون يعملون من أجل توسيع إمبراطوريتهم وضمان أفضل استفادة من استثماراتهم إذا لم يوجد ما يعترض ذلك، وسيهتمون بالاتفاقيات والتقاليد والأعراف المحلية مثل اهتمامهم بالنحس والتعاسة. وحينما يشكل المحيط عائقا أمام تحقيق أهدافهم (بتحفيز عدم انضباط العمال، وبإضعاف أسواقهم إلخ) تظهر ضرورة فرض تعديلات بل والقيام عند الضرورة بزعزعة الأعراف الاجتماعية. لكن ما عدا هذه الحالة، فإن الرأسماليين يتعاملون بلامبالاة مطلقة مع "مختلف طرق الوجود في العالم".
كيف لا تؤدي العولمة إلى إضفاء الكونية على العالم؟ فبمجرد ما يصير ممكنا وصف الممارسات التي تنتشر في كل مكان بأنها ممارسات رأسمالية، فإن ذلك يدل فعلا على أنها كونية. يتقدم الرأسمال ويستعبد جزءا من السكان ليتسع حجم ذلك الاستعباد شيئا فشيئا. وبإقدامه على ذلك، يعيد صياغة سردية تصلح للجميع، أي يعيد صياغة حكاية كونية هي حكاية الرأسمال.
يُقِرّ منظرو النظرية م بعد الكولونيالية شكليا بسيادة الرأسمالية الشاملة، حتى وإن أفرغوها من جوهرها. لكن ما يقلقهم أكثر هو المكون الثاني للتحليل المادي. ذلك المكون المتعلق بظواهر المقاومة. إنهم يقررون طواعية بأن الرأسمالية تزرع التمرد بقدر ما تنتشر وتسود: يشكل الاحتفال بالنضالات العمالية والفلاحية أو الأهلية صورة فرضها الأدب ما بعد الكولونيالي الذي يبدو منسجما -في هذه الحالة- مع التحليل الماركسي. ولكن بينما ينظر التحليل الماركسي إلى مقاومة المسيطر عليهم باعتبارها تعبيرا عن مصالحهم الطبقية، فإن النظرية ما بعد الكولونيالية تختار عن سبق إصرار استبعاد ما يتعلق بموازين القوى الموضوعية والكونية. فكل فعل مقاومة ينتج، بالنسبة لهذه النظرية، عن ظاهرة محلية خاصة بثقافة محددة، وبتاريخ محدد، ومجال ترابي محدد، ولا تنتج أبدا عن حاجة تشترك فيها الإنسانية جمعاء.

داخل شبكات الاستغلال

يقود ربط النضالات الاجتماعية بالمصالح المادية، في نظر شاكرابارتي، إلى "فرض عقلانية برجوازية على العمال، بما أن المنفعة الاقتصادية تُفرض فقط في إطار منظومة عقلانية"( ). ولقد قال إسكوبار هو أيضا في هذا الصدد بأن "النظرية ما بعد البنيوية تدعونا إلى التخلي عن فكرة الذات باعتبارها الفرد المستقل والعاقل. فالذات هي نتاج خطابات وممارسات محددة تاريخيا داخل عدد كبير من المجالات"( ). لما تواجهُ اعتراضات معينة الرأسمالية فيجب أن تفهم هذه الاعتراضات على أنها التعبير عن حاجيات خاصة بسياق محدد.
ليس هناك شك في أن مصالح ورغبات كل فرد هي مصالح ورغبات محددة ثقافيا: ولا وجود، على هذا المستوى، لموضوع خلاف ما بين منظري النظرية ما بعد الكولونيالية والتقدميين التقليديين. ويمكن توضيح ذلك بالمثال التالي: لا توجد أية ثقافة تجعل المنتمين لها يهملون رفاهيتهم الصحية. فإشباع بعض الحاجيات الأساسية –مثل الأكل والسكن والأمن إلخ- يفرض نفسه في كل مكان وفي جميع العصور لأنه أمر ضروري لإنتاج كل ثقافة.
يمكننا أن نؤكد أن بعض جوانب العمل الإنساني تنفلت من آليات تشكيل الثقافات، إذا كنا نقصد بذلك أن تلك الجوانب ليست خاصة بهذه الجماعة البشرية أو تلك. إنها تعكس سيكولوجية إنسانية تعتبر مكونا للطبيعة البشرية. لكن هذا لا يعني أن طعامنا وأذواقنا وتفضيلنا لهذا السكن دون ذاك لا تخضع لمجموعة من المميزات الثقافية والاحتمالات التاريخية. إن أتباع النزعة الثقافية لا يترددون في الرفع من قيمة تنوع طرقنا في الاستهلاك كحجة على أن حاجياتنا تتشكل ثقافيا. ولكن مثل هذه البديهيات لا تقول أي شيء عن طموح الناس المشترك في ألا يموتوا جوعا أو يأسا.
إن هذا الاهتمام البشري بالرفاهية هو بالتحديد ما تغذيه الرأسمالية في كل مكان استقرت فيه. وكما لاحظ ذلك ماركي، فإن "الضغط اللامبالي للعلاقات الاقتصادية"( ) كافٍ لإلقاء العمال داخل شبكات الاستغلال. وهذا الأمر صحيح بغض النظر عن الثقافات والإيديولوجيات: فبمجرد ما يملكون قوة عمل (ولا شيء غيرها) يبيعونها، لأن ذلك هو الخيار الوحيد الذي يملكونه لتحقيق الحد الأدنى من الرفاهية. وإذا أقنعهم محيطهم الثقافي بإغناء مشغلهم، فإنهم أحرار في رفض ذلك بكل تأكيد، لأن ذلك يعني –كما بيّن ذلك إنجلز- أنهم أحرار في اختيار الموت جوعا( ).
وإذا استعمل هذا الجانب من الطبيعة البشرية كأساس للاستغلال، فإنه يغذي المقاومة أيضا. إنها نفس الضرورة المادية القاهرة التي تلقي بالعمال في أحضان الرأسماليين، وتدفعهم إلى التمرد ضد شروط إخضاعهم لهم، لأن العنف المستعمل في الحصول على الربح يحث المشغلين على التقليص المستمر من تكاليف الإنتاج، وبالتالي تقليص اليد العاملة. إن العمل على تحقيق أقصى الأرباح لا يتجاوز حدا معينا في المناطق المنظمة نقابيا أو تلك التي تنتج فائض قيمة كبيرا، وهو الأمر الذي يمكّن العمال من العناية بمستوى معيشتهم عوض الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة يوميا. لكن الأمر مختلف في مناطق "الجنوب" وفي عدة قطاعات في المجتمعات الصناعية.
إن التدني الفظيع للأجور يتلازم في أغلب الأحيان مع عدة صيغ للرفع من مستوى الأرباح: آلات لم تعد صالحة وينبغي استغلالها إلى أقصى مدى ممكن، إطالة ساعات العمل، عدم التعويض عن المرض، عدم تحمل تكاليف حوادث الشغل، عدم الاستفادة من التقاعد ومن حقوق البطالة إلخ. ولما تنفجر حركات احتجاجية، فإن السبب في ذلك يكون في غالب الأحيان هو المطالبة بالحد الأدنى الحيوي، وليس أكثر من ذلك، كما لو أن شروط الحياة الكريمة صارت من الكماليات الخارقة للعادة.

تخيلات غريبة

إن الخضوع لعَقْد العمل، والذي يميز المرحلة الأولى للاستغلال الرأسمالي، يُمكِن الرأسمالية من التغلغل والازدهار في أي مكان في العالم. أما المرحلة الثانية، والتي هي مقاومة الاستغلال، فإنها تولّدُ صراعا طبقيا في جميع المناطق التي هيمن عليها الاستغلال الرأسمالي، أو بتعبير أدق: تولّدُ الحافز على النضال. ويظل هذا النضال مقيدا بعدد كبير من العوامل المحتملة هي التي تحدد ما إذا كان سيؤدي إلى أشكال من العمل الجماعي أو سيفشل في تحقيق ذلك. وكيفما كان الأمر، فإن إضفاء الطابع الكوني على الرأسمال يؤدي إلى النضال الكوني الذي يخوضه العمال من أجل ضمان طعامهم.
لا يمكن استنتاج هذين الصيغتين من الكونية من نفس المكون للطبيعة البشرية. ففي نظر أغلب التقدميين، هناك تأثير لمكونات ولحاجيات أخرى تتجاوز الحواجز الثقافية: التطلع للحرية، على سبيل المثال، أو للإبداع أو للكرامة. لا يمكن اختزال الإنسانية، بكل تأكيد، للحاجيات البيولوجية، لكن يجب الاعتراف، قبل كل شيء، بوجود هذه الحاجيات. وإن كانت تبدو أقل نبلا من حاجيات أخرى فيجب إحلالها المكان اللائق بها في مشروع التغيير الاجتماعي. إن إغفال بديهية كهذه باعتماد حساب الخسارة والربح ليس مؤشرا مطمئنا بالنسبة لسلامة ثقافة اليسار الفكرية.
لقد قامت الدراسات ما بعد الكولونيالية بدور مُثمِر على عدة مستويات، حيث ساهمت في انطلاق الإنتاج الفكري بلدان الجنوب، وأنعشت شعلة النزعة المعادية للكولونيالية إبان حقبة التراجع الثقافي الذي ميّز الثمانينيات والتسعينيات، وأعادت الثقة والمصداقية لنقد الامبريالية. كما لم يؤدي هجومها على استعلاء نزعة التمركز على أوربا إلى نتائج سلبية، بل على العكس من ذلك، كانت لها نتائج إيجابية.
كان الثمن الذي تم دفعه باهضا: في اللحظة التي كانت فيها الرأسمالية الحيوية والقوية تنشر قوتها المدمرة أكثر فأكثر، أدت النظرية التي ذاع صيتها إلى تفكيك بعض الأجهزة المفاهيمية التي تسمح بفهم الأزمة وإيجاد بدائل إستراتيجية. لقد أضاعت الشخصيات المشهورة المتبنية للنظرية ما بعد الكولونيالية بحرا من المداد لمحاربة طواحين هوائية من صنعهم. وأثناء قيامهم بذلك، قاموا بتغذية انبعاث مذهب الفطرة والاستشراق، وذلك لأن موقفهم لا يقف عند حدود منح امتياز لما هو محلي على حساب ما هو كوني: فتثمينهم المبالغ فيه للخصوصيات الثقافية –والتي تم تقديمها باعتبارها المحرك الوحيد للعمل السياسي- أعاد للواجهة التخيلات الغريبة والمليئة بالاحتقار والتي كانت ملازمة لغزوات القوى الكولونيالية.
اتفقت الحركات المعادية للقوى الكولونيالية، طيلة القرن العشرين، على إدانة القمع في كل مكان يمارس فيه، لكونه يمس بطموحات مشتركة بين الكائنات البشرية. وتعيد الدراسات ما بعد الكولونيالية اليوم بعث نزعة ثقافية ماهوية من جديد، والتي يعتبرها اليسار -عن حق- كمرتكز إيديولوجي للهيمنة الشاملة. ما هي أفضل هدية يمكن تقديمها للمستبدين الذين يدوسون على حقوق شعوبهم غير الحديث عن الثقافات المحلية للحط من فكرة الحقوق الكونية وتسفيهها؟
إن تجديد يسار كوني وديمقراطي يظل أمنية وَرِعة ما دمنا لم نعمل على إزالة هذه التمثلات وتأكيد وإثبات هذين النوعين من الكونية المتعارضين وهما: إنسانيتنا المشتركة والتهديد الرأسمالي.

--------------------------------------------------------
فيفيك شِبير(Vivek Chibber): أستاذ علم الاجتماع في جامعة نيويورك، من مؤلفاته:
Postcolonial Theory and the Specter of Capital, Verso, Londres, 2013.

المرجع:
Le Monde Diplomatique, Mai, 2014.




#حنان_قصبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأساس السياسي-الاقتصادي للمناهج التربوية ودورها في الفشل ال ...
- مبدأ المناصفة أو صراع الخصوصية والكونية؟
- مَاركس كما يَتَخيلُه فوكو حول السلطة والمجتمع - مارتن كيكوري ...
- علاقة منهج الغزالي بمنهج ديكارت هل هي علاقة توافق أم علاقة س ...
- الإسلام والعلمانية - بْرِسِيللا فورنييه ترجمة حنان قصبي
- كارل بوبر ومعايير العلمية - جوينيي باتريك ترجمة حنان قصبي


المزيد.....




- بوتين يكشف عن معلومات جديدة بخصوص الصاروخ -أوريشنيك-
- هجوم روسي على سومي يسفر عن مقتل شخصين وإصابة 12 آخرين
- طالب نرويجي خلف القضبان بتهمة التجسس على أمريكا لصالح روسيا ...
- -حزب الله-: اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية مع ال ...
- لبنان.. مقتل مدير مستشفى -دار الأمل- الجامعي وعدد من الأشخاص ...
- بعد 4 أشهر من الفضيحة.. وزيرة الخارجية الألمانية تعلن طلاقها ...
- مدفيديف حول استخدام الأسلحة النووية: لا يوجد أشخاص مجانين في ...
- -نيويورك تايمز- عن مسؤولين: شروط وقف إطلاق النار المقترح بين ...
- بايدن وماكرون يبحثان جهود وقف إطلاق النار في لبنان
- الكويت.. الداخلية تنفي شائعات بشأن الجنسية


المزيد.....

- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - حنان قصبي - أهمية مفهوم الكونية في فكر اليسار - فيفيك شِبير ترجمة حنان قصبي