احمد فاضل النوري
الحوار المتمدن-العدد: 5565 - 2017 / 6 / 28 - 17:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن منظومة الفارابي الفلسفية هي المنظومة المتكاملة الأولى ,التي انبنت أساسا على نظرية الفيض والتي طرحت شكلا جديدا مغايرا للطرح الأفلوطيني, أو الطرح الحراني ذلك أننا لا نتمكن من فهم مقولات الفارابي الفلسفية والاجتماعية والإيديولوجية دون اضاءتها بنظرية الفيض, اذ إن فهمه للكون وللمجتمع والإنسان ينهض أساسا من تلك النظرية .
فعندما نتعمق في الانطولوجيا الفارابية نجد أن تصوره للكون في إطار نظرية الفيض يبنى على أربعة أسس هي بمثابة أوليات أو مسلمات فكرية يأخد بها الفارابي وهي :
• المسلمة الأولى : تقسيمه الكائنات الى قسمين واجب الوجود بذاته وهو الله, ولو لم يكن واجب الوجود لكان ناقصا ويحتاج إلى من يوجده . وممكن الوجود ويشمل سائر الكائنات ماعدا الله وهي تحتاج الى علة لتوجد وهي الله.
• المسلمة الثانية: اعتقاده أن الله الواحد لا يمكن أن يصدر عنه إلا موجود واحد وإلا حصل تغيير في ذات الله بصدور الكثرة عنه .
• المسلمة الثالثة: تتجلى في التطابق بين الفيض و التعقل فالعالم يفيض عن الله بتعقل الله لذاته وتعقل العقول وتأملها لذات الله ولذاتها .
• المسلمة الرابعة: تتجلى في رهان الفارابي من هذه النظرية وفي نزعته التوفيقية بين الخلق والقدم في شكل الفيض .
ولمعرفة كيف يحدث الفيض وكيف يفيض العالم عن الله لابد من فهم تصور الفارابي عن الله وحقيقة علمه وعلاقة علم الله بإرادته ثم علاقة علمه بالفيض ولتبسيط ذلك سنقارن بين العلم الإلهي و العلم الإنساني من حيث علاقتهما بالمعلوم وفهم العلاقة بين الله من حيث هو علة لمعلوم هو الكون, وبين ما يفيض عنه أي باقي الموجودات وبصيغة آخرى فهم العلاقة بين واجب الوجود وممكن الوجود .
يصف الفارابي الموجود الأول بأنه " السبب الاول لوجود سائر الموجودات كلها"
فمن هذا الموجود الأول فاض الوجود وبه يستمر, من دون أن تكون به الحاجة إلى ذلك الفيض أو أن يكون معلولا لغيره, لأنه علة كل موجود فهو " ازلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير ان يكون به حاجة في ان يكون ازليا الى شيء آخر يمد بقاءه بل هو بجوهره كاف في بقاءه ودوام وجوده ."
كما أن واجب الوجود (الله) " ليس بمادة ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلا بل وجوده خلو من كل مادة ومن كل موضوع ولا ايضا له صورة ." فإن لم يكن مادة فلن تكون له صورة, لأن الصورة لا تكون إلا في مادة هذا من جهة, ومن جهة آخرى لو كانت له صورة ومادة لكانت ذاته مؤتلفة منهما معا, مما يؤدي الى أن يكون مركبا والشيء المركب يكون له سبب في وجوده وهو التركيب أي تركيب الصورة والمادة وهذا محال في واجب الوجود الذي لا سبب في وجوده وليس له غرض أو غاية من وجوده لأنه " بريء من جميع أنحاء النقص ".
وبما هو أزلي فهو لا يعتريه العدم, لأن العدم من صفات عالم ما تحث القمر, أي عالم الكون والفساد الذي هو عالم المادة , وبما أن السبب الأول واحد من كل جهاته فإن العقل والمعقول والعاقل فيه معنى واحد فالفارابي يقول " أنه عقل بالفعل وهو أيضا معقول بجوهره فان المانع ايضا لشيء من ان يكون بالفعل معقولا هو المادة وهو معقول من جهة ما هو عقل ".
فواجب الوجود يتصف اذن بأنه الأول, والتام, والكامل, والأزلي من كل الوجوه,, لكن كيف تفيض منه سائر الموجودات ؟
يقول أبو نصر :" والأول هو الذي عنه وجد وأن وجد للأول الوجود الذي هو له لزم ضرورة أن يوجد سائر الموجودات التي وجودها لابإرادة الإنسان واختياره, على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس وبعضه معلوم بالبرهان, ووجود ما يوجد عنه انما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو. فعلى هذه الجهة لايكون وجود ما يوجد عنه سببا له بوجه من الوجوه ولا على أنه غاية لوجود الأول .كما يكون وجود الإبن من جهة ما هو ابن غاية لوجود الابوين من جهة ما هما ابوين, يعني ان الوجود الذي يوجد عنه (لا) يفيد كمالا ما كما يكون لنا دلك عن جل الاشياء التي تكون منا مثل ان بإعطائنا المال لغيرنا نستفيد من غيرنا كرامة أو لذة أو غير ذلك من الخيرات حتى تكون تلك فيه فاعلة فيه كمالا ما فالأول ليس وجوده لغيره لأجل غيره, ولا يوجد بغيره حتى يكون الغرض من وجوده أن يوجد سائر الاشياء فيكون لوجوده سبب خارج عنه فلا يكون أولا ولا ايضا بإعطائه ماسواه الوجود ينال كمالا لم يكن له قبل ذلك خارجا عما هو عليه من الكمال كما ينال من يجود بماله او شيء آخر فيستفيد بما يبدل من دلك لذة او كرامة او رئاسة او شيء غير دلك من الخيرات, فهذه الاشياء كلها محال أن تكون في الأول لأنه يسقط أوليته وتقدمه ويجعل غيره أقدم منه وسببا لوجوده بل وجوده لأجل ذاته ويلحق جوهره ووجوده ويتبعه ان يوجد عن غيره فلذلك وجوده الذي به فاض الوجود الى غيره هو في جوهره ووجوده الذي به تجوهره في ذاته هو بعينه, ووجوده الذي به يحصل وجود غيره عنه . وليس ينقسم الى شيئين يكون بإحداهما تجوهر ذاته وبالآخر حصول شيء آخر عنه كما ان لنا شيئين نتجوهر بإحداهما وهو النطق ونكتب بالآخر وهو صناعة الكتابة بل هو ذات واحدة وجوهر واحد به يكون تجوهره وبه بعينه يحصل عنه شيء آخر, ولا ايضا يحتاج في ان يفيض عن وجوده شيء اخر الى شيء اخر غير ذاته يكون فيه ولا غرض يكون فيه ولا حركة يستفيد بها حالا لم يكن له ولا الة خارجة عن ذاته مثل ما تحتاج النار في ان يكون عنها وعن الماء بخار الى حرارة يتبخر بها الماء, وكما تحتاج الشمس في ان تسخن ما لدينا الى ان تتحرك هي ليحصل لها بالحركة حرارة فيما لدينا او كما يحتاج النجار الى الفأس والى المنشار حتى يحصل عنه في الخشب انفصال وانقطاع وانشقاق وليس وجوده بجوهره أكمل من الذي يفيض عنه وجود غيره, بل هما جميعا ذات واحدة ولا يمكن ايضا ان يكون له عائق من ان يفيض عنه وجود غيره لا من نفسه ولا من خارج أصلا."
يرى أبو نصر الفارابي أنه متى وجد للأول الوجود الذي هو له, لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات, أي أن فيضان الموجودات من وجوده نتيجة طبيعية وضرورية من نتائج الكمال الإلهي مع العلم أن واجب الوجود ليس مشروطا بذلك الفيض أو بتلك الموجودات .
فالله يكفي أن يعلم, أو يفكر في شيء ما. فيفيض عنه ويخرج الى دائرة الوجود فعلمه علة لوجود الشيء الذي يعلمه, ومعلوم أن الربط بين علم الله وخروج علمه الى حيز الوجود, يفترض التسليم بمسلمة أساسية وهي إقامة تطابق بين العلم الإلهى وقدرته وإرادته في إيجاد الموضوعات التي يعلمها ويفكر فيها, أي أن العلم هو القوة التي تخلق كل شيء ومثال دلك العلاقة بين توهم أو تخيل شيء ما, ووقوع دلك الشيء فإذا ما توهم شخص ما يمر على سور مرتفع بأنه سيسقط فإن دلك الوهم هو علة سقوطه, بينما مروره على نفس السور وهو غير مرتفع, لا يثير فيه وهم السقوط فلا يقع على الأرض, وكما أن الساقط من أعلى السور قد سقط مجرد أنه توهم دلك . وكذلك بالنسبة لله فمجرد تفكيره في شيء ما ينتج عنه وجود دلك الشيء .
إن واجب الوجود يفيض فينجم عنه ممكن الوجود الذي هو سائر الموجودات الآخرى, سواء أكانت الموجودات المفارقة للمادة أم كانت الموجودات المادية " والموجودات كثيرة وهي مع كثرتها متفاضلة وجوهره جوهر يفيض منه كل وجود (كيف كان دلك الوجود ) كان كاملا أوناقصا".
فما أن وجد الله وما أن تعقل وتأمل في ذاته, حتى فاضت عنه كل الموجودات, وهذا الفيض لم يتأخر عن وجود الله بل لم يحصل في زمان فالفيض أزلي وقديم قدم الله, لأنه اذا لم نقل بأزلية الفيض لترتب عن ذلك نقص في ذات الله لنقص في القدرة, وقصور في الإرادة أو العلم, وهذا محال في حق الله لأنه كامل ولا يحتاج إلى شيء يتأخر بفعله الفيض ومن ثمة ما أن يوجد الله يوجد معه الكون بالضرورة فمثل علاقة الله بالكون, كمثل علاقة الشمس بالنور, أو الحرارة بالنار, فلولا وجود الشمس لما كان هناك نور, ولكن النور قديم في وجوده قدم مصدره وهو الشمس, لأنها منذ وجدت والنور يفيض عنها بكيفية تلقائية وطبيعية .
المراجع :
1. أبو نصر الفارابي ,أراء أهل المدينة الفاضلة , تعليق الدكتور البير نصري نادر ,دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية) ,بيروت لبنان ,الطبعة الثانية ., الصفحة 11
2. ابو نصر الفارابي ,اراء اهل المدينة الفاضلة ,مرجع سابق الصفحة 12
3. المصدر نفسه الصفحة 12
4. المصدر نفسه الصفحة 11
5. المصدر نفسه الصفحة 16
6. ابو نصر الفارابي , اراء اهل المدينة الفاضلة ,مرجع سابق الصفحة 55و56
7. ابو نصر الفارابي , اراء اهل المدينة الفاضلة مرجع سابق الصفحة 23
#احمد_فاضل_النوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟