طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5562 - 2017 / 6 / 25 - 05:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كما نوهت به في الحلقة السابقة, يعترض البعض على المزاوجة بين الماركسية والتحليل النفسي ليس بسبب مزاعم الفلسفة الوضعية او فلسفة بوبر في العلم بان كلاهما علمان زائفان, وبالتالي فان المزاوجة بينهما لا بد وان تنتج مسخا, المزيد من الزيف, كيفا او كما, بل, وعلى النقيض, فقد يقر آخرون ان كلاهما علمان, ولكنهما, وهذا هو اعتراضهم, علمان شموليان, يحدان من حرية الانسان واختياره, وبالتالي فان المزاوجة بينهما هي انتصار لمشروع قمعي تسلطي. وهؤلاء قد يزعمون ان المزاوجة بين العلمين ستٌحل اختزالية مزودجة محل اختزالية واحدة. فبدل اختزال الانسان الى ما هو جنسي, كما في حالة التحليل النفسي الفرويدوي, او الى مقولة طبقية, كما في حالة الماركسية, سيُختزل الانسان الى نظام جنسي-طبقي, يجعله اسيرا لمفاهيم مجردة (منافية لفلسفة الصيرورة لوايتهيد, ولتذكير انفسنا بموضوعة المسلسلة ايضا). وهي مفاهيم مجردة يختلف فحواها الملموس من عصر الى عصر ومن بقعة الى اخرى- واعتراض كهذا سوف لن يفاجنا بجديته, وهو يتعلق اساسا بتعريف الماركسية و التحليل النفسي كعلمين, حالهما حال العلوم الطبيعية وليس كعلمين مشروطين زمانا ومكانا. ومشروطيتهما تنفي صفة العلمية عنهما. وهذا هو الجانب العلمي من الاعتراض.
والجانب الآخر من الاعتراض هو بخصوص الحياة والموت, وهو ما يهم الناس, او اغلبيتهم, اكثر بكثير, حتى وان لم يجدوا كلمات مناسبة للتعبير عنه ومن ثم احالته الى اطروحة ينبغي نقضها لاجل التغلب عليها. وبالتالي, ولصالح المشروع الثوري, علينا ان نساهم في ان نساعد هؤلاء في صياغة افكارهم لتخليصها من بلبلتها الفكرية-تعبيرية ورفعها الى مستوى اطروحة يسعى المشروع الثوري لنقضها. وكما نتذكر, ان ثورية المسرح المسرح الملحمي البربختي تكمن في قدرته على كشف التناقضات وليس تغطيتها او التستر عليها. فهو ممثل شرعي للنهج الديالكتيكي الذي تخلى عنه الماركسيون الاصلاحيون (وهم مصطلح يناقض نفسه بنفسه لان الماركسية نظرية ثورية وليست اصلاحية), ولذلك فان اصلاحية هؤلاء تعني ولا شك تخليهم ليس فقط عن ثوريتهم, وهذا هو حق من حقوق الانسان كما قد يزعمون, ونحن سنتفق معهم بان لهم كل الحق في التمتع بحق الانسان في ان يستبدل ثوريته باصلاحية منكفئة على الواقع, حتى لو تجلببت بجلباب ماركسية تتناقض مع ما يعرّفها مؤسسها, بل ايضا عن علميتهم! واننا لذا سنختلف معهم من ناحية علمية, برغم انهم لا يأبهون للعلم ولا يعيرونه من الاهتمام قيد شعرة. ولكن عدم اكتراثهم بالعلم ليس ملزما لنا بفعل نفس الشئ, ولا ينبغي ان يكون. والتزامنا بالعلم هو ليس من نوع الفتشية التي تقدّسّ العلم على حساب انواع المعرفة الاخرى, وكما تفعل الماركسية المبتذلة التي تساوي بين الماركسية والعلم الطبيعي. ولكن اعتراضنا العلمي سوف نعبر عنه بسؤال قد يتفرع الى اسألة اخرى عاجلا ام آجلا. والسؤال الاوحد الذي سنحاول ان تقنع انفسنا بجديته فقط الآن هو: ما هي اطروحة الطرف الآخر بالنسبة للماركسيين الاصلاحيين؟ فاذا لم يتعرف هؤلاء الماركسيون بالملموس على فحوى الاطروحة الاخرى, فكيف سيخلقون اطروحتهم المضادة؟ وخلق الاطروحة المضادة ليس هو ترفا فكريا, كما قد يزعم البعض, بل ان انعدام وجودها سيعني ولا بد انتفاء الحاجة الى الماركسية كبرنامج بحثي للقوى الماركسية وكذذلك تجريدها من سلاحها النظري الوحيد في مقارعة اعداءها. انه بمثابة اعلان باستسلامها اللامشروط, واي تزويق لفظي او بلاغة لغوية سوف لن تغير من فحوى استنتاجنا قيد شعرة, بل انها سوف تعززه لانها ستعني اصرارا مبطنا على مهادنة الواقع والاستسلام ليس باللفظ, بل بالملموس, والملموس هو فقط ما يهمنا.
والمعترضون على المزاوجة قد يزعمون ان مشروع الماركسية مناقض للتحليل النفسي لانه, بزعمهم, الماركسية تشئ البروليتاريا وتعتقد بثوريتها بالمطلق. وهي بذلك يمكن النظر البها كمن تحل وثنا بآخر. فهي تستبدل وثن الملكية الخاصة بوثن اخر يشكل النقيض القاضي بثورية البروليتاريا ومشروعها المناقض لوثنية الملكية الخاصة. وهؤلاء سيسارعون الى الزعم ايضا ان ماركسية الاوثان هي صنو لماركسية المقابر. ولا مكان للجنس في ماركسية المقاربر. فماركسية المقابر هي حصيلة انتصار غريزة الموت على غريزة الجنس او الحياة. ان ماركسية المقابر, سيزعمون هم, بحق, هي نتاج لانتصار حتمي للطبيعة, فهل تستطيع الماركسية قهر الطبيعة (كما يزعم رافعو شعار "الشيوعية اقوى من الموت!" وهو اما شعار ذهاني او يدلل على السقوط في مستنقع المثالية لانكاره قوانين الطبيعة, حتى ولو كان الامر مجازيا!). وهي, اذا حاولت قهر الموت, فانها ستقترف خطأ مماثلا لخطأ سيزيف, الذي حاول ان يخدع إله الموت ثاناتوس فعاقبته الآلهة بحياة لا معنى لها وهي صنو للموت, حياة عبثية! اذن ان المزاوجة بين ماركسية القبور والفرويدوية ستكون عبثية كعبثية حياة سيزيف. انها ستساهم في انتصار غريزة الموت, ثاناتوسThanatos كنقيض لغريزة الجنس او الحياة ايروز Eros, والزعم بالقدرة على دحر الموت يعني باللملوس المساومة والانكفاء على الواقع والتصالح معه, كما يتجلى في الشعار البديل: "الديمقراطية التوافقية!", او في محاولات الماركسيين الاصلاحيين بالتقارب مع اطروحات الاسلام السياسي القامعة للجنس واشكال الحياة الاخرى من فنون ومعارف.
ولمعالجة هذا الاشكال, او على الاقل للسعي لمعالجته, سألجا كملاذ الى الرواية المعنونة الدفتر الذهبي The Golden Notebook. الرواية هي من تأليف دوريس ليسينغ Doris Lessing. و دوريس ليسينغ هي كاتبة قصة قصيرة وحائزة على جائزة نوبل للآداب في عام 2007. وهي كاتبة بريطانية, ولدت في كرمنشاه في ايران في عام 1919 وتوفت في لندن في عام 2013. وعند منحها جائزة نوبل, قالت الاكاديمية الفرنسية بحقها: "ان ليسينغ هي ايقونة التجربة النسوية, فهي من خلال التشكيك، العزم, وقوة البصيرة قد اخضعت حضارة مقسمة للتدقيق". وعند القائها كلمتها بمناسبة تسلمها الجائزة, لفتت ليسينغ الانتباه الى عدم المساواة على الصعيد العالمي وكذلك الى استكشاف التغييرات بخصوص الموقف من الادب ورواية القصة.
وكتاب الدفتر الذهبي هو في المقام الأول رواية تاريخية وسياسية, ولكنها ايضا رواية نفسية، مع التركيز على موضوعتي الانهيار/ الاغتراب. والكتاب يدخل في مجال ما بسمى "الفضاء الداخلي" في ليسينغ، فهو عمل يستكشف الانهيار العقلي والاجتماعي. ويتضمن الكتاب أيضا رسالة قوية مناهضة للحرب وللستالينيين، وتحليلا موسعا للشيوعية والحزب الشيوعي في بريطانيا في الثلاثينيات إلى الخمسينيات من القرن الماضي حينما كانت ليسينغ عضوة فيه، وكذلك هو فحص مهم لحركات التحرير الجنسي وحركة تحرر المرأة الحديثة الظهور آنذاك.
والكتاب هو في واقع الحال رواية حول رواية. و Anna Wulf هي التي تروي الرواية. وهنالك العديد من الشخصيات الاخرى, مثل Mother Sugar: Mrs Marks التي هي محللة نفسية ل Anna. ولكن ما يهمنا هنا هو قصة الجندي الجزائري وعضو منظمة التحرير الجزائرية FLN الذي انيطت به مهمة تعذيب سجين فرنسي. والاثنان يشرعان في التحدث مع بعضهما البعض. كان الجزائري، وهو مزارع، يدرك باستمرار أن ما شعر به عن الحياة ليس كما كان يتوقع أن يشعر به من قبل(هم). من "هم "؟ هم هم أيا كان قد يكون. وقال الفرنسي، وهو مفكر شاب، إلى مرتكب التعذيب أنه كان يشعر وكأنه في بيت- سجن فكري. واعترف انه لم يشعر الآن او لسنوات من قبل أن لديه فكر أو مشاعر خاصة به وعفوية والتي لا يتم تصنيفها بكونها ماركسية او فرويدوية. واعتقد الجزائري ان عليه ان يشعر بالحسد تجاه الفرنسي. ولكن, في واقع الحال, فان الفرنسي هو الذي شعر بالحسد تجاه الجزائري. كان الفرنسي يرغب مرة واحدة فقط في حياته ان يمتلك شعورا وفكرا خاصا به وبعفوية غير موجهة ولم تفرض عليه من قبل عرابيه فرويد وماركس! وقد سمع الضابط القائد حديثهما فأمر بإعدامهما. وتم اطلاق النار على كلاهما مع شروق الشمس التي انعكست في وجهيهما وهما راقدان جنبا الى جنب.
ما هو المغزى من القصة؟ هناك موقف المثقف الفرنسي الذي يعتبر كلا الماركسية والتحليل النفسي نظامين قمعيين. انه يعتقد ويشعر من خلالهما. فإنهما يشكلان الأرثوذوكسية التي تحرمه من العفوية. و إنه لا يريد سوى أن يتخلص من سطوة العرابين. إنه متضايق نفسيا ومصاب بمرض الماركسية-التحليل النفسي. وربما, يمكن ان نضيف هنا، انه فرد ما بعد الحداثة قبل وقته (باعتبار ان من يمنحه الخيار المطلق في ان يختار ما يشاء يقول له في نفس الوفت ان الجميع سيكونون راضين عنه اذا اختار الماركسية والتحليل النفسي: انه خيار اللاخيار!). وهو إذا لم يكن على وشك الموت في الجزائر، فانه سيعيش ليكون تفكيكيا deconstructionist في باريس. من وجهة نظر مشروع هذا الكتاب فموقف الفرنسي ليس مشجعا. كما أن موقف الجزائري ليس أكثر تشجيعا. فهو لا يحسد السجين على تطوره الأوروبي. ويبدو أنه يعيش خارج جميع السجون الفكرية. لكنه ليس مفكرا حرا. فهو لا يعرْف نفسه إلا بكونه مغايرا لهم ومختلفا عنهم ("لهم" و"عنهم" يبقيان غير معرْفين وغير معروفين!). انه يفتقر إلى ما يمنحه ادراكه الخاص بنفسه, وماركس وفرويد يفشلان في توفير ما يفتقده. قد يبدو، بعبارة أخرى، أن التحليل النفسي والماركسية هما ارثوذوكسية خانقة بالنسبة للفرنسي ولا قيمة لهما بالنسبة الى الجزائري. وخلافا لرجل نيتشة الذي يعلن وفاة الله في وقت مبكر جدا، فإن الماركسية- التحليل النفسي تبدوان وكأنهما يبشران بتحرر الإنسان في وقت متأخر جدا. وهذه هي المعضلة التي يتحتم علي معالجتها من جديد في الحلقة القادمة.
يتبع
------------
مصدران
1. Doris Lessing s Golden Notebook, 50 years on
https://www.theguardian.com/books/2012/apr/06/the-golden-notebook-50-years-on
2. The Golden Notebook
by Doris Lessing
https://www.goodreads.com/book/show/24100.The_Golden_Notebook
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟