|
الماركسية والفلسفة (1)
طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 01:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نُشرت المقالة Marxism and philosophy بقلم Alan Woods في العدد الأول من المجلة النظرية الماركسية الجديدة، لال سلام، التي تصدر في الباكستان. ادنه ترجمتي للمقالة. ------ يتميز موقف العلماء والعديد من الأشخاص الآخرين في هذه الأيام باللامبالاة أو حتى الاحتقار تجاه الفلسفة. وهذا امر مُبرر بقدر ما يتعلق الأمر بالفلسفة الحديثة . فعلى مدى القرن ونصف القرن الماضيين, يشبه عالم الفلسفة الصحراء القاحلة بالرغم من بعض الوجود العرضي للحياة. كنوز الماضي وأمجاده وومضاته اختفت تماما. واصبح احدنا يبحث عبثا في هذه القفار عن أي مصدر للإضاءة.
ولكن عند التمعن عن كثب يتبين لنا ان ازدراء الفلسفة هو في غير محله. لأنه إذا نظرنا بجدية في حالة العلم الحديث - أو بشكل أدق الأسس والافتراضات النظرية، فإننا نرى أن العلم في الواقع لم يتخلص أبدا من الفلسفة. طُردت الفلسفة بشكل غير رسمي من الباب الأمامي، ولكنها عادت, بدون اي اعلان مصاحب, من خلال النافذة الخلفية.
والعلماء, الذين يؤكدون بفخر لامبالاتهم الكاملة بالفلسفة, يفترضون في الواقع جميع أنواع الافتراضات ذات الطبيعة الفلسفية. في واقع الأمر، ان هذا النوع من الفلسفة اللاوا عية والمفتقرة الى التمحيص ليس متفوقا على اي نوع من الطراز القديم من الفلسفة, بل انه أدنى منها بما لا يقاس. وعلاوة على ذلك، فإنه مصدر العديد من الأخطاء في الممارسة العملية.
للأسف، لعقود عديدة استند هذا النوع من الفلسفة التي تُدرّس في الجامعات على نظريات كاذبة ومضللة مثل الوضعية المنطقية، التي هي الاتجاه الفلسفي السائد, لا سيما في البلدان الأنجلوسكسونية لمعظم القرن 20th ولحد الآن.
ان المحتوى الضئيل لهذه المدرسة الفكرية لم يمنع أتباعها من وضع الافتراضات الأكثر تعاليا وتعجرفا. ومنحوا لانفسهم لقبا فخما, "فلاسفة العلم". ومع ذلك، ان حالة الحب الوضعي للعلم لم تلاقي بأي حال من الأحوال حماس الناشطين في هذا المجال.
ان هاجس الوضعية بخصوص "هيكل العلم" هو هاجس وهمي وتافه ويثير نقاشات عقيمة حول معاني الكلمات ودلالاتها الذي يشبه بشكل لافت للنظر جو المناقشات لمدرسيي القرون الوسطى. أدت الادعاءات التي لا تطاق من قبل كهنة الوضعية المنطقية في نهاية المطاف إلى الرفض والتمرد من جانب العلماء أنفسهم.
وشكل تقدما كبيرا في تطبيق المنهج الديالكتيكي لتاريخ العلم ظهور كتاب توماس كوهن The Structure of Scientific Revolutions (بنية الثورات العلمية) في عام 1962, الذي يبرهن على حتمية الثورات العلمية وأيضاح الألية التقريبية لكيفية حدوثها. "كل ما هو موجود يستحق أن يموت" يحمل بصمات جيدة ليس فقط بالنسبة للكائنات الحية ولكن أيضا بالنسبة إلى النظريات العلمية، بما في ذلك تلك التي نحتفظ بها حاليا باعتبارها ذات صلاحية مطلقة.
أصول الفلسفة ولمن يكلف نفسه عناء دراسة تاريخ الفلسفة يمكنه العثور على منجم ذهب من الأفكار الأكثر عمقا. الفلسفة هي طريقة التفكير التي تختلف عن التفكير اليومي. انها تتعامل مع الأسئلة الكبيرة، التي فكّر الجميع بها في وقت أو آخر: ما هو مغزى الحياة؟ ما هو الجيد وما هو السيء؟ ما هي طبيعة الكون؟ هذه الأسئلة، وكثير منها غيرها, قد تم الرد عليها من قبل العلم نفسه، وقد احتلت عقول المفكرين لأكثر من 2000 سنة.
ولذلك فإن الصلة بين العلم والفلسفة تعود شوطا بعيدا الى الماضي. مثل الكثير من ثقافتنا الحديثة والحضارة والفلسفة والعلوم, فانها بدأت عند اليونانيين. على الرغم من أنه صحيح أن الاكتشافات الهامة في هذه المجالات كان مصدرها الحضارات السابقة ((وادي السند وبابل ومصر)، ولكن الفكر الإنساني في تلك المرحلة كانا مشّربا بالخرافات الدينية.
عند اليونانيين نجد لأول مرة محاولات لتفسير الكون دون اللجوء إلى قوى خارقة، وبدون تدخل من الآلهة - محاولات لشرح الطبيعة من حيث الطبيعة نفسها. كلمة "فلسفة" يبدو أنها قد استخدمت لأول مرة من قبل فيثاغورس في القرن السادس قبل الميلاد: "الحياة"، قال فيثاغورس: "تشبه المهرجان. كما يأتي البعض ... للتنافس، والبعض للتجارة ولكن البقية تأتي كمتفرجين. وكذلك هي الحياة، البشر العبيد يبحثون عن الشهرة أو الربح، والفلاسفة يبحثون عن الحقيقة "- (حسب مؤرخ الفلسفة الاغريقية Diogenes Laërtius).
سعى الفلاسفة من جزر البحر الأيوني في وقت مبكر الى العثور على تفسير منطقي للطبيعة بدون تدخل الآلهة, والعلوم والفلسفة كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا. وكان الفلاسفة اليونانيون ماديين منذ وقت مبكر, وقاموا بدراسة أسباب الظواهر الطبيعية كالبرق والرعد والزلازل والمذنبات والنجوم. لتفسير كل هذه الظواهر سعوا للعثور على تفسيرات عقلانية، وخالية من تدخل الآلهة وغيرها من القوى الخارقة للطبيعة.
كتب شيشرون في كتابه Tusculan Disputation أن الفلاسفة اليونانيين في وقت مبكر درسوا "العدد والحركة، والمصدر الذي تنشأ منه كل الأشياء وعودتها إليه. وهؤلاء المفكرين في وقت مبكر تسائلوا ايضا وبحماس عن حجم ومسارات النجوم، والفواصل بينها, وجميع المسائل السماوية ". وهذا يعني ان فلاسفة ما قبل سقراط درسوا الطبيعة. وكانوا هم الرواد الشجعان الذين مهدوا الطريق لجميع التطورات العلمية اللاحقة.
وتوصلوا إلى اكتشافات مهمة للغاية. كانوا يعرفون أن الأرض مستديرة، وان ضوء القمر هو نتاج لانعكاس اشعة الشمس. وكانوا يعرفون أن البشر كانوا ينحدرون من الأسماك واكتشفوا ذلك من خلال فحص الأجنة البشرية والحفريات. ومع ذلك، فإن معظم هذه الاكتشافات كانت نتيجة وحي التخمين. وهي كانت ستصطدم حتما في مرحلة معينة بالقيود المتعلقة بمستوى معين من التكنولوجيا.
في مرحلة معينة تم توجيه انتباه المفكرين بعيدا عن الظواهر الطبيعية وباتجاه المجتمع، والأخلاق، وجميع المسائل المتعلقة بحياة الإنسان. في القرن الخامس قبل الميلاد لاحظ أرسطو: "تم التخلي عن دراسة الطبيعة وحوّل الفلاسفة انتباههم إلى الخير العملي والعلوم السياسية". في Tusculan Disputations, يقول شيشرون أن "سقراط هو أول من دعا الفلسفة الى النزول من السماء، وادخلها الى المدن وحتى إلى المنازل، وأُجبرت الفلسفة على النظر في الحياة والأخلاق والخير والشر."
كانت المدرسة السفسطائية للفلسفة التي نشأت في هذا الوقت ترتبط ارتباطا وثيقا بتطور الديمقراطية الأثينية، حيث كانت مهارات فن الخطابة والجدل شروطا لازمة لتحقيق النجاح في التجمعات العامة. تحدى سقراط وأفلاطون اللذان طورا الديالكتيك، السفسطائية على الرغم من أنهما فعلا ذلك على أساس المثالية الفلسفية. مصطلح "الديالكتيك" مشتق من "dialektike" اليونانية المشتقة من "dialegomai،", اي التحدث أو المناقشة. في الأصل، كان المصطلح يدلل على فن المناقشة، والتي يمكن أن ينظر إليه في أعلى شكله المتجسد في "حوارات سقراط" لافلاطون.
دخلت الفلسفة اليونانية في فترة من التراجع جنبا إلى جنب مع الديمقراطية الأثينية نفسها. شعلة الحضارة تم تمريرها إلى الرومان، غير أنهم لم يضيفوا شيئا كثيرا للأفكار التي أقتبسوها من اليونان. واستندتا اليونان وروما على النظام الاقتصادي العبودي. وتم تحقيق التقدم الثقافي والعلمي الكبير لتلك المجتمعات في نهاية المطاف من خلال استغلال العبيد.
بلغ المجتمع العبودي في نهاية المطاف حدوده، مثلما بلغت الرأسمالية حدودها في الوقت الحاضر. وعندما يشرع المجتمع في التدهور، فإن النتائج يمكن تحسسها في كل المستويات، بما في ذلك الثقافة نفسها. في ظل غياب بديل ثوري، انتج انهيار المجتمع العبودي انهيارا مريعا للثقافة، وآثار ذلك استمرت لمدة 1000 عام.
في الفترة المعروفة باسم العصور المظلمة، فُقدت إلى حد كبير في أوروبا الإنجازات العلمية والفنية من العصور القديمة. ولكن تم الإبقاء على شعلة الحضارة في بيزنطة، أيرلندا، وقبل كل شيء، في جزء من إسبانيا على يد العرب المحتلين. بقية أوروبا ظلت غارقة في مستنقع الهمجية لعدة قرون.
كان الفيلسوف المعروف الأخير من العصور القديمة امرأة رائعة تسمى هيباتيا، وكانت مُدّرسة للفلسفة والعلوم والرياضيات في جامعة الإسكندرية، والتي قتلت بوحشية من قبل حشد من المسيحيين وحرق جسدها. اغلق المسيحيون المعابد الوثنية والأكاديميات ودمروا مكتباتها. في عام 391 م، اصدر الإمبراطور ثيودوسيوس مرسوما يحظر زيارة المعابد الوثنية وحتى النظر الى الأطلال. حرق المسيحيون المكتبة الشهيرة في الاسكندرية واستباحوا صورها.
ومع ذلك، على مر العصور المظلمة في أوروبا, استمرت شعلة الحضارة الزاهية في إسبانيا الإسلامية التي كانت تٌبجّل ثقافة العصور القديمة والحفاظ عليها. لعدة قرون كانت أعمال أرسطو معروفة في أوروبا فقط من خلال الترجمات العربية. حتى يومنا هذا ونحن نقف بخشوع امام عجائب الهندسة المعمارية في مسجد قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة, في جمالهما الفريد وعظمتهما العديمتا المثال في أي بلد آخر في العالم.
وكان هذا طورا عاليا من الثقافة والحضارة الإسلامية. في حين ضعفت أوروبا وغرقت في الظلام والجهل, بنى العرب في إسبانيا الجامعات الشهيرة, حيث ازدهر التعليم وسادت روح التسامح الذي سمح لليهود والمسيحيين والمسلمين لتبادل ومناقشة الأفكار. وهذا يدلل على ما يمكن ان يحققه البشر عندما يخلعون أغلال الخرافة والتعصب.
يتبع
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد رحيل كاسترو, الطريق الامثل (او الوحيد) لحماية الثورة الك
...
-
فشل اليسار النيوليبرالي وتسبيبه بانتخاب ترامب
-
جامعة واسط (العراق) واحالة الناس الى قطيع!
-
ان تزوير الانتخابات هو تقليد أميريكي
-
تضليل فكري يمارسه الحزب الشيوعي العراقي وتشويهه الفظ للماركس
...
-
رفع العراقيين دعوى ضد الحكومة الامريكية
-
شمعون بيريز -صانع السلام!-: دماء وجثث محترقة!
-
-بياتريس لمبكين- شيوعية واكاديمية فريدة الطراز
-
معضلة المشروع الثوري: -أيديولوجية الرقيق-!
-
الماركسية, نقادها, التحليل النفسي, وامثلة من العراق
-
الامبريالية الجديدة وخصائصها
-
حزب نيوليبرالي يتَجَلبَبَ بجِلْبَابَ الشيوعية!
-
باراك اوباما الوجه -الاسود- للامبراطورية!
-
غزو العراق ومنطق ديكارت السقيم
-
تقرير تشيلكوت يُثبِت صحة ما قلناه مرارا وتكرارا
-
هجمات إرهابية تهز نظام بغداد العميل
-
النقد الذاتي/الجلد الذاتي في الحزب الشيوعي العراقي
-
فلسفة الطب ومجزرة اورلاندو
-
العداء للمثلية الجنسية لا يقتصر على الاسلام
-
جريمة بشعة لها جذورها في مجتمع مشبع بالعنف والكراهية!
المزيد.....
-
الشرع: الرياض ستدعم سوريا لبناء مستقبلها
-
الاتحاد الأوروبي والرد على واشنطن
-
واشنطن تجمد ملياري دولار من أموال روسيا المخصصة لمحطة -أكويو
...
-
- الجدعان الرجالة-.. مشهد بطولي لشباب ينقذون أطفالا بشجاعة م
...
-
مفاجأة غير سارة تنتظر أوكرانيا من أحد حلفائها
-
زيلينسكي لا يعرف أين ذهبت الـ200 مليار دولار التي خصصتها أمر
...
-
إعلان حالة التأهب الجوي في ثماني مقاطعات أوكرانية
-
قطر: مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق غزة يفترض أن تبدأ غدا
...
-
مصر والكويت توقعان اتفاقية عسكرية
-
نائبة رئيس الوزراء الكندية السابقة تتهم الولايات المتحدة بال
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|