|
الكوابيس تأتي في حزيران 21 / / 22
محمد أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 1418 - 2006 / 1 / 2 - 09:15
المحور:
الادب والفن
رواية الفصل الحادي والعشرون
ـ 21 ـ
الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله .. الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا .. نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده … وصلت إلى مسامعه تكبيرات صلاة العيد الكبير .. عيد الأضحى المبارك ، أول عيد يمر به وهو بعيد عن أسرته ، سرت قشعريرة في جسده ، طافت بذهنه صور أفراد أسرته .. أمه .. زوجته .. الأهل والجيران .. هل يزور الأهل أسرته أم أنه يتقون الشبهات ويبتعدون عنهم ، تذكر كيف ترك الباب مفتوحاً حتى لايكسره الجنود عند اقتحامهم للبيت .. التكبيرات ما زالت تتردد ، وما زال صداها يهز أرجاء نفسه . عيد بأية حال عدت يا عيد .. بما مضى أم لأمر فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونـهم .. فليـت دونـك بيد دونها بيد رحمك الله يا أبا الطيب ، وانطلق إلى جدار الزنزانة المتسخ بالهباب ، كان قد تعود أن يستخدم قطعة الصابون في الكتابة على جدران الزنزانة ، وقد وجد أنها وسيلة ناجعة للكتابة على تلك الجدران ، لا تزول الكتابة عنها حتى ولو غسلت بالماء فإنها تزداد وضوحاً ، تحولت جدران الزنزانة إلى رزنامة يسجل عليها التواريخ ، كما تحولت إلى سبورة يكتب عليها الحكم والأمثال ، وقد اكتشف أن الكتابة لا تزول بالغسل بعد أن استفزت هذه السبورة أحد السجانين فطلب من أحمد الفايز أن يغسلها بالماء لإزالتها ، وبدلا من أن تزول الكتابة ازدادت وضوحاً وازداد السجان غيظاً ولكنه عجز عن فعل أي شيء لإزالتها فما كان منه إلا أن تركه يذهب إلى الحمامات في الفسحة وقبل أن يصل الدورات سمع شخصاً ينادي عليه باسمه مصحوباً بكلمة أستاذ لم يلتفت وإنما استمر في طريقه إلى الحمامات ، وبعد أن قضى حاجته عاد فسمع نفس الصوت ، نظر نحو مصدر الصوت بطرف عينه فرآه .. الأرنب بشحمه ولحمه وقد جلس القرفصاء داخل زنزانة منخفضة السقف ، سقفها مائل بحيث لا يسمح للإنسان بالوقوف حتى أثناء عملية عد السجناء ، كان هذا النوع من الزنازين مخصصاً للكلاب زمن الإنجليز وقد أصبح اليوم مخصصاً لاعتقال البشر ، حاول الالتفات ناحيته غير أن السجان نهره طالباً منه أن يسرع الخطى ، وفي أثناء سيره متجهاً نحو زنزانته التي كانت في الأصل اصطبلاً للخيول شاهد رئيس بلدية غزة السابق .. لقد اعتقلوه إذن .. دق قلبه بعنف.. هل يعرفون عنا كل شيء؟ وإذا كانوا لايعرفون شيئاً فلماذ اعتقلوا هذا القومي العربي المخلص لعروبته ؟ كان أحمد الفايز بزوره بين الحين والآخر للمشورة والمساعدة في إخفاء المطلوبين من العسكريين .. ها أنت تقبع في الزنزانة المقابلة لزنزانتي يا أبا ناهض .. لم يتورعوا عن اعتقال رجل في مثل سنك ومركزك . أدرك أحمد الفايز سبب إغلاق كوة زنزانته وتجاهل في الوقت نفسه أنه يعرف رئيس البلدية ، أدار وحهه إلى الناحية الأخرى حتى لايشك السجانون أنهما يعرفان بعضهما ، فربما كان وضعه في الزنزانة المقابلة لزنزانة أحمد الفايز مقصوداً وليس صدفة محضة ، دخل أحمد الفايز الزنزانة وانصفق الباب خلفه بعنف ، دار أحمد الفايز في زنزانته بذهول .. ساورته هواجس كثيرة .. ما المعلومات التي يعرفونها عنا بالضبط ؟ وكيف ستكون طبيعة الأحكام التي ستصدر ضدنا في حالة وجود معلومات لديهم ، لم يستطع الجلوس أو الاستقرار في مكان محدد ، ظل يذرع المكان جيئةً وذهاباً ، لم يشعر بالتعب فقد كان ذهنه مشغولاً بما قد تحمله الأيام القادمة ، ومع ذلك فقد قرر في نفسه أمراً ما .. أن يضرب عن الطعام ليرى ما إذا كان وجوده في الزنزانة سيستمر إلى الأبد ؟ وفي اليوم التالي امتدت قروانات الطعام من تحت الأبواب استجابة لنداء السجان، مد أحمد الفايز أوعية الطعام كالمعتاد ، طافت مجموعة المساجين التي تقوم بتوزيع الطعام بالصحون ، تم وضع ملعقة مربى واحدة وجزءاً من عشرين جزءاً من قالب زبدة انتهى تاريخ صلاحيته وأربع حبات زيتون فقط وربع رغيف من الفينو وكوباً الشاي الأسود الذي لا يشبه الشاي في شيء اللهم إلا في لونه الغامق ، ومع ذلك كان يتناوله على مضض عله يساعده على مواجهة برد الأربعينية القارس ، كما كان يتناول ملعقة المربى والعشرة جرامات من الزبد لنفس الغرض . لم يرفع أوعية الطعام من مكانها تنفيذاً لما قرره فطافت بضع ذبابات فوقها لتحط فوق ملعقة المربى تداعبها بأرجلها وخرطومها وتعود إلى الطيران من جديد ، فتح السجان باب الزنزانة وطلب من أحمد الفايز أن يخرج إلى الحمامات للفسحة ، حمل جردل الماء وجردل البول وقطعة الصابون الرديئة وترك آنية الطعام في مكانها، سأله الشاويش: لماذا لم تأكل ؟ ـ ما ليش نفس . زم السجان شفتيه ونظر إليه باستغراب ولم يعلق ، ظل باب المرحاض مفتوحاً كالعادة والسجان يقف في مواجهته تماماً بينما أخذ أحمد الفايز يقضي حاجته دون اكتراث ، خرج من المرحاض وتوجه إلى الصنبور ، غسل يديه بعد شطف جردل البول بالماء عدة مرات، ملأ جردل الماء بماء الشرب وغسل رأسه ووجهه بالماء والصابون وجففهما بالفوطة التي كانت تتمدد على كتفيه ، عاد إلى الزنزانة وصوت مفاتيح السجان يطقطق من خلفه ، صفق السجان باب الزنزانة بعنف فدفع هواؤه صحن المربى فمال على جانبه ، وعند الظهر نودي على العدد : سفيراه متخيلا ( بدأ العد ). وقف جميع المساجين أمام كوات زنازينهم كالتماثيل وبدأت وجوه أفراد فرقة العد تمر مثل شريط سينمائي أمام عينيه ، أعاد الشاويش المسئول عملية العد مرة ثانية ثم أعادها للمرة الثالثة وقد بدا الاضطراب والارتباك على وجوه مجموعة العدد ، وعند الزنزانة التي أمام زنزانة أحمد الفايز ثارت ثائرة المسئول الذي أرغى وأزبد وتهدد وتوعد وشتم بأقذع الشتائم وصاح : ـ وقف يا قواد .. عرضك .. ربك ، لما أقول سفيراه وقف على طول يا قواد . ظهر من كوة الزنزانة بدوي أحضر لتوه من سيناء ، وضعوه مكان رئيس البلدية الذي أطلق سراحه بعد أقل من أسبوع ، كان البدوي مضطرباً ، لعلها أول مرة يدخل فيها السجن مثله مثل بقية المساجين ، ولعله كان نائما عند إطلاق الشاويش لصيحته المعهودة : اسفيراه متحيلا ، أو أنه سمع النداء ولم يفهم المقصود منه ، بعد ذلك صار البدوي يقف إذا سمع ضراط السجان المسئول في الممر أو في الحمامات . عند الظهر طاف السجناء بوجبة الغداء ، كان الغداء عادة بضع حبات من الفاصوليا تسبح في سائل يشبه عصير البندورة تعوم فيه قطعة من السمك أو قطعة أشبه باللحم ، وجد المساجين طعام الإفطار كما هو فأبلغوا السجان المناوب بذلك ، أمرهم السجان أن يسكبوا طعام الغداء فوق طعام الإفطار فاستقرت الفاصوليا والسمك المسلوق فوق المربى والزبدة بينما سكبوا الأرز فوق حبات الزيتون وانتقل السجناء إلى زنزانة أخرى ، صاح به السجان أن يأكل وإلا فإنه سيضطر إلى إبلاغ إدارة السجن بالأمر ، وفي المساء لم يجدوا متسعاً لوضع طعام جديد . عند المساء انفجر صوت المسئول : اسفيراه متخيلا فاصطف المساجين كالمعتاد، ومن كوة زنزانته شاهد أحمد الفايز الغضب يطل من العيون ، صاح المسئول : ـ لماذا لم تأكل اليوم ؟ ولوح بعصا من البلوط حمراء اللون فتحركت مجموعة من العصي كانت تتدلى من أيدي السجانين . ـ لا أريد أن آكل . شوووو ؟ بدك تروح البيت يا …؟ ـ أنا ما طلبت أروح البيت ؟ ـ إسا شو اللي بدك إياه ؟ ـ بدي تقدموني للمحكمة بعد ما انتهى التحقيق معي ، صار لي حوالي ثلاثة أشهر في الزنزانة ومش راح آكل إلا إذا صار لي حل . ـ لازم تأكل أحسن لك ، ولوح بعصاه الغليظة من جديد . ـ مش راح آكل . ـ وإذا وعدتك بشرفي إني أحكي مع المسئولين يحلوا مشكلتك ؟ ـ أفكر . ـ رجاء أن تأكل وأنا أعدك بشرفي أن تحل مشكلتك . ابتسم أحمد الفايز غير مصدق ومع ذلك قرر أن يجرب ، وبعد حوالي أقل من أسبوع طلب منه السجان أن يجمع حاجياته وتم نقله إلى القسم جيم من السجن العمومي ، وبعد خروجه من السجن بفترة ليست بالقصيرة اكتشف أحمد الفايز أن المسئول الدرزي كان يعمل لصالح المخابرات السورية، وقد اكتشف الإسرائيليون ذلك بالصدفة بعد سنوات طويلة، كثيرون من السجانين الدروز كانوا يتعاطفون مع السجناء بينما كان بعضهم حاقداً يحاول تدمير المعنويات . ففي إحدى ليالي الشتاء الماطرة جاءه أحد السجانين الدروز ، أطل وجهه من الكوة ، كان يريد أن يتغلب على وحدته ، قال له : ـ المطر الشديد يساعد المخربين ويخفي آثارهم . نظر إليه أحمد الفايز باندهاش : وما شأني بهذا الأمر ؟ أنا لست مخرباً ! ـ إذن .. لماذا أنت هنا ؟ أنا لست يهودياً . ـ ولكنك سجان ! ـ هل آذيت أحداً منكم ؟ ـ شهادة لله .. لا . على فكرة .. أريد أن أسألك سؤالا ! ـ ماذا يحدث لنا لو هاجم المصريون اليهود وهزموهم ؟ هل يمكن أن يقوم اليهود بقتلنا هنا . ابتسم الشاويش وقال : أنا وأنت .. أعني السجان والمسجون أكثر الناس أماناً .. الجندي المهزوم لا يفكر إلا في الفرار والنجاة ، وإذا وصل المصريون وأنا هنا قلتم إنني كنت أعاملكم معاملة طيبة فيشفع لي ذلك عندهم. وفي مساء يوم واحد وعشرين مارس جاءه السجان إياه ، قدم له كوباً من الشاي الساخن قائلا له : ـ لك عندي بشارة ! اتسعت حدقتا أحمد الفايز، اعتقد أنهم سينقلونه من الزنزانة إلى السجن العمومي أو أنهم سيفرجون عنه لعدم تورطه في أي عمل كما يعتقدون أو لعدم كفاية الأدلة أو أن المصريين شنوا هجومهم المضاد لاسترداد الأراضي المحتلة ، فقد ظل جمال عبد الناصر يردد مقولته الخالدة : " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة " استيقظت جميع حواسه وتدفقت اللهفة من عينيه نظرات تساؤل ، قال الشاويش : ـ لقد دخل الجيش الإسرائيلي الأردن .. عبروا النهر .. نادوا على السكان من خلال مكبرات الصوت ومحطة الإذاعة أن يرفعوا الرايات البيضاء . اكفهر وجه أحمد الفايز وباخت نظرات اللهفة في عينيه اللتين طق الشرر منهما : لا بشرك الله بخير .. هل هذه هي بشراك ؟ ـ لم أكمل كلامي . ـ ماذا ؟ وهل وراءك مصائب أخرى ؟! ـ لا ؟ ولكن انتظر حتى أكمل كلامي .. لقد قام المخربون بنسف الجسور التي عبرت عليها الدبابات الإسرائيلية نهر الأردن وانقضوا على هذه الدبابات بالقنابل اليدوية ففجروا عدداً كبيراً منها ، وقد شارك الجيش الأردني في المعارك جنباً إلى جنب معكم .. لأول مرة في التاريخ يقع اليهود في مصيدة يصعب التخلص منها ، ابتسم أحمد الفايز ورشف أشهى وألذ رشفة شاي في حياته ، ود لو يقبل ذلك السجان الدرزي بين عينيه ، لكن باب الزنزانة المقفل وتلك الكوة اللعينة منعاه من تحقيق رغبته فابتسم ابتسامة عريضة ، وفي اليوم التالي جاء سجان درزي آخر إلى الزنازين مطأطئاً رأسه من الخزي ، فقد استغل ساعة تقديم وجبة الغداء ليقول للسجناء في السجن العمومي : ـ كلوا .. كلوا .. لقد بدأ الجيش الإسرائيلي باحتلال الأردن فلم يذق أحد من السجناء طعاما لا في الغداء ولا في العشاء .
الفصل الثاني والعشرون
ـ 22 ـ
في السجن العمومي وفي الطابق الثالث استقبله الأصدقاء والأخوة بالترحاب ، فقد أمضى في الزنازين قرابة ثلاثة أشهر اعتقدوا خلالها أنه قد ينهار نتيجة للضغوط النفسية والجسدية التي تعرض لها ، حاول أن يطمئنهم أن كل شيءٍ على ما يرام دون أن يدخل في التفاصيل ، فقد تعلم من غلطته حين تحدث للعرايشي بأشياء ما كان له أن يخوض فيها مما أوصله إلى السجن الحربي في صرفند وما تعرض له فيه من تعليق وتعذيب ، وقد اكتشف أن المحققين قد نقلوا العرايشي إلى السجن العمومي قبله ليشيع بين المساجين أن أحمد الفايز قد اعترف بكل شيء وأن الطامة الكبرى قادمة ، عرف ذلك من بعض الأصدقاء الذين يثقون فيه ولكنه لم يحاول الدفاع عن نفسه لأنه يعتقد أن الماء سيكذب الغطاس، وإمعاناً من المحققين في تثبيت تلك الإشاعة دأبوا على استدعائه بين الفينة والأخرى للتحقيق معه ، وفي أحد أيام نيسان استدعوه للتحقيق وتعمدوا إطالة فترة غيابه ثم أعادوه إلى غرفته في الطابق الثالث ، وفي الصباح كانت مجموعة جديدة من الأخوة تدخل السجن ، نظر إليه بعض السجناء بدهشة .. هل يعقل أن يكون أحمد الفايز قد اعترف حقاً ، أم أنها الصدفة وحدها هي التي وضعته في هذا المأزق ، همس أحد أولئك الذين ما زالوا يثقون فيه : ربما كان كل ذلك من تدبير رجال المخابرات حتى يشككوننا في أنفسنا ، ومع كل ذلك بدا أحمد الفايز طبيعياً مرحا وكأن الأمر لا يعنيه، تبادل النكات والقفشات مع الأصدقاء ودارت الذكريات على الشفاه ، ذكريات الحرب وما جلبته من هزيمة وويلات وكيفية مواجهة النتائج النفسية لهذه الحرب ، طافت بذهن أحمد الفايز ذكريات أول شهر رمضان بعد الاحتلال وكيف انطفأت فيه البسمات في عيون الأطفال وعلى شفاههم ، لم يخرج الأطفال بعد الإفطار كعادتهم في الرمضانات السابقة ، لزموا بيوتهم وكأنهم أدركوا كبر حجم المصيبة التي حاقت بآبائهم وجيرانهم ؛ فالكل عاطل عن العمل ، الموظفون وحدهم هم الذين بدأوا في العودة التدريجية إلى ممارسة أعمالهم ، كثيرون من رجال الشرطة عادوا إلى العمل إلا أن عدداً غير قليل منهم رفض العمل في ظل الاحتلال اعتقاداً منهم أن عمر الاحتلال لن يطول في هذه المرة أيضاً ، كاد المعلمون أن يقعوا في نفس الخطأ ، فقد وزعت الحركة بياناً على الجماهير المهزومة رفعت فيه شعار " لا تعليم تحت ظل الاحتلال " وقد قبل أحمد الفايز هذه المقولة دون تمحيص ورفض أن يعبئ نموذج العودة إلى العمل ، ولما خلا إلى نفسه قلب الأمر على وجوهه المختلفة .. ماذا يضير الاحتلال إذا لم نتعلم وماذا نكسب نحن ؟ ومن يضمن أن مدة الاحتلال لن تطول ؟ وهل ظروف العالم اليوم تشبه ظروف عام ستة وخمسين ، لقد تغيرت الظروف كليا ، فالاتحاد السوفييتي لن يغامر بخوض حرب مع الولايات المتحدة ، في عام ستة وخمسين أصدر الاتحاد السوفييتي إنذاره الشهير بضرب لندن وباريس بالصواريخ إن لم تتوقف دول العدوان الثلاثي عن مهاجمة شعب مصر الأعزل ، أما اليوم فالأمر مختلف.. إسرائيل تهاجم ثلاث دول عربية وتنتصر عليها ، رعت أمريكا العدوان الإسرائيلي وبررته على خلاف موقفها في العدوان الثلاثي ، قد يطول الاحتلال إذن !! فهل يعقل أن يحرم أبناؤنا من التعليم ، كان أحمد الفايز يلتزم بتطبيق المبادئ الحركية التنظيمية بصرامة شديدة ، و يحترم المبدأ القائل بضرورة خضوع الأقلية للأغلبية، لكنه قرر أن يناقش بعد أن التزم بتنفيذ قرار الحركة بعدم العودة إلى العمل تحت ظل الاحتلال حتى لا تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي ، سعى إلى تطبيق المبدأ التنظيمي القائل " نفذ ثم ناقش " فتوجه إلى جباليا لمناقشة المسئولين في مدى صحة رفع شعار " لا تعليم تحت ظل الاحتلال " وبعد أخذ ورد اقتنعت الحركة بوجهة نظر أحمد الفايز وتم إقرار حق طلابنا في الدراسة ومقاومة الاحتلال بكل الطرق والوسائل الممكنة . تم فرز أحمد الفايز للعمل في الجهاز العسكري للحركة وتكليفه بتكوين أول مجموعات عسكرية في الجنوب وشراء أكبر كمية ممكنة من الأسلحة المتنوعة والذخيرة، صحيح أن جو المخيم بات كئيباً حزيناً ، وأن أبواب البيوت القرميدية خلت من صخب الأطفال في أمسيات رمضان في الأعوام السابقة ، كان الأطفال كل رمضان يرسمون ابتسامة مشرقة على شفاه سكان المخيم الفقراء حين يتذكرون أيام العز والرخاء فيقدمون بعضاً من القليل الذي قد يتوفر لهم في رمضان حين يردد هؤلاء الأطفال أهازيجهم الرمضانية : لولا أهل الدار ما جينا يا حلية ولا تعبنا ولا شقينـا يا حلية حلوا الكيس واعطونا اعطونا حلواننا صحنين بقلاوة جاية علينا جاية في ايدنا العصاية ورغيفين حلبية ورغيفين شلبية حيــا الله يا أولاد الشــام فيــها الخوخ والرمـان هاتـوا هاتـوا واليهود ماتوا والجمل برطع كسر المدفع وطلعنا ع البوبعي والجمل توابعي لولا فلان ما جينا يا حلية ولا تعبنا ولا شقينا يا حلية الله يخلي هالمحروس هذا العزيز الغالي ملوخية عَ ملوخية أهل الدارأفندية قطايف قطايف ناكلشي والسمن سايح في كرشي ورغيــفيـن حلبيـة ورغيــفيـن شلبيـة حيـا الله يا أولاد الشـام فيها الخوخ والرمـان هاتوا هاتوا واليهود ماتوا والجمل برطع كسر المدفع وإذا لم يقدم لهم أهل الدار شيئاً أو دلقوا الماء على الأطفال صاحوا : بطاطا عَ بطاطا أهل الدار ضرّاطة ملوخية عَ ملوخية أهل الدار حرامية *** كان المعتقلون يحاولون تزجية أوقاتهم بشتى الطرق ، يداعبون هذا ويمازحون ذاك وقد تكون مداعباتهم مزعجة أحياناً وخصوصاً مع السجناء الجدد ، فقد اقتيد شرطي سرق بنزين سيارة الشرطة وباعه إلى شخص قام بالتبليغ عنه ، كان الشرطي مرتبكاً ، كبله الخجل من تهمة السرقة ومن وجوده بين معتقلين أمنيين ، حاولوا التخفيف عنه بتبرير فعلته واعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة ، بدا الارتياح على وجه الرجل ولكنه تساءل عن الحكم الذي سيصدر ضده ، كانوا يدركون أنه قد يفرج عنه بالكفالة لكنهم أرادوا تسلية أنفسهم ، سألوه : هل عملت فيش وتشبيه ؟ أجاب بالنفي فقال له أحدهم : والله يا صاحبي الحكم مرتبط بلون حبر الفيش والتشبيه.. إذا كان لون الحبر أزرق معناه حكمك خفيف ، أما إذا كان لون الحبر أسود فيا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف يا الله ، بهت الرجل وتساءل : يعني ؟ قال أحدهم : يعني لا تجيني ولا أجيك ، بيكون الحكم مؤبد . ـ معقول ؟ صاح الرجل. ـ ولو يا أبو محمد ، أنت فاكرنا بنمزح معك يا رجل ؟ قال أبو محمد : إذا كانت سرقة البنزين حكمها مؤبد ، اللي زي حالاتكم قديش حكمه ؟ ـ هو هووو .. تسألش وما تعدش مؤبدات ، ويمكن إعدام ! اصفر وجه الرجل وتمتم : يا لطيف يا لطيف اجعل بلانا خفيف يا الله . وحين استدعوه لأخذ بصماته خرج وكأن قدميه شدتا إلى الأرض، وعندما عاد بدا شبه منهار وقد اصفر وجهه وجف حلقه ، طلب ماءً ليشرب فأعطوه الماء ولم ينتظر أن يسألوه عن لون الحبر فقال لهم بعد أن فتح راحتي يديه أمام عيونهم : طلع الحبر أسود .. يعني مؤبد وضرب وجهه براحتيه وارتمى على الأرض فحاولوا طمأنته وأخبروه بأنهم كانوا يمزحون معه ولكنه لم يصدقهم واعتقد أنهم يسخرون منه ، وبعد بضعة أيام جاءه السجان وطلب منه أن يجمع حاجياته فقد تقرر الإفراج عنه بكفالة شخصية .
#محمد_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20
-
الكوابيس تأتي في حزيران 17 / 18
-
الكوابيس تأتي في حزيران 15 / 16
-
الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14
-
الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12
-
التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية
-
حول الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي
-
الكوابيس تاتي في حزيران الفصل التاسع والعاشر
-
ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السابع
-
من المسئول عن إطلاق الرصاص على العمال في محافظة خان يونس
-
حين يعطش البحر ويظمأ الغيم
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السادس
-
العريس
-
أشتاق إليك - خاطرة ،
-
5-الكوابيس تاتي في حزيران
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الرابع
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثالث
-
الانسحاب والمستوطنات بين الواقع والطموح
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|