طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5176 - 2016 / 5 / 28 - 21:32
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
كجزء من مستلزمات الحصول على الدكتوراه في التاريخ من جامعة مشيكٌان, كتب Kevin M. Jones, في عام 2003, اطروحتة الموسومة
The Poetics of Revolution
Cultures, Practices, and Politics of Anti
-Colonialism in Iraq, 1932
1960
"شاعرية الثورة
"الثقافات والممارسات والسياسة المضادة للاستعمار في العراق من عام 1932 ولغاية عام 1960"
-------------
تستخدم الأطروحة الشعر والمذكرات والصحف العراقية، جنبا إلى جنب مع الوثائق الأرشيفية البريطانية والأميركية لتحليل الديناميكيات الثقافية في المعارضة الشعبية للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية الاجنبية في العراق في فترة ما بعد رفع الوصاية عنه واستقلاله في عام 1932. وهي لذلك تكتسب اهمية فائقة على الصعيد الاكاديمي لمؤرخي العراق ولمنظري السياسات المقاومة للكولونيالية, اضافة الى كونها تشكل سلاحا نظريا فعالا في فهم النظم الاستعمارية قديمها وحديثها, ويمكن لها ان تكون ايضا اداة مساعدة وفعالة في انضاج وتطوير المقاومة والنضال ضد سياسات محتلي العراق واعوانه بعد عام 2003 وعلى الاصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية.
تبين الاطروحة ان الحالات المتنوعة من الثورة السياسية والاجتماعية والثقافية خلال تلك الفترة كانت متجذرة في التزام أساسي في مكافحة الاستعمار وفي التحرر الوطني .
وتوضح الاطروحة الخلفيات التاريخية للصراع الإيديولوجي والالتزامات الطائفية في سياق سردية وطنية وقتها, والتي يستخدمها الباحثون لتصنيف الحركات الثورية كتعابير مجزأة من المظالم المحلية, وكذلك لأظهار الأبعاد العالمية للتيارات الثورية. عن طريق تحويل الانتباه من مجال السياسات النخبوية والمناقشات الإيديولوجية الفكرية المعزولة الدوائر نحو الساحة الثقافية للشعر السياسي الوطني والأبعاد الاجتماعية للتفكك القبائلي والهجرة إلى المدن والتفكك الرأسمالي، تدلل الأطروحة ان مناشدة الشعراء الوطنيين (الشعبيين حسب الاطروحة التي قد تعطي معنى آخرا للقارئ العربي) لمختلف فئات السكان من الفلاحين والعمال والطلاب، ساعدت على تعبئة الحركات الشعبية في تجاوز الصراعات الطائفية والطبقية في نضالها ضد السياسات الاستعمارية.
وتظهر الأطروحة رفض الشعب العراقي بأغلبية ساحقة النظر الى الاستعمار كجزء من الماضي التاريخي طالما بقيت السلطة في يد المسؤولين الأجانب والنخبة الاستعمارية القديمة. وتقريبا ان جميع التيارات الثورية في تلك الفترة كانت تهدف إلى القضاء على بقايا الاستعمار.
تحلل الأطروحة الدور الاجتماعي للشعر الوطني في تشكيل الخطاب السياسي العام وتعبئة الجماهير في النضال السياسي الشامل, وتناقش كيف ان التفرعات الثنائية للعراقيين: الايديولوجية القومية العربية-الرجعية والوطنية العراقية-الراديكالية قد حجبتا مضمون التضامن الوطني ضد الاستعمار, كما عبرت عنه موجات الاحتجاجات العارمة المعارضة للسياسات البريطانية والأميركية في العراق والعالم العربي. بواسطة استخدام ازدواجية شهادة النصوص التاريخية بأثر فوري ورجعي، مثل استخدام القصائد والمذكرات، تستكشف الاطروحة امكانية الاستفادة من الروايات الأيديولوجية بأثر رجعي لدعم مبررات أجندات سياسية ثورية لاحقة.
ان الاطروحة مليئة بمختلف الوقائع والاقاصيص والمعلومات بخصوص استخدام الشعر في احداث تغيير في مزاج الجماهير وتعبأتها في النضال الثوري ضد السياسات الاستعمارية.
احدى هذه الوقائع تخص الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ورئيس وزراء العراق وقتها نوري السعيد (ص. 1 فلاحقا).
في صباح يوم 4 يوليو 1949، زار الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1899-1997) محل صديقه ورفيقه الخياط الأرمني البارز في بغداد، إلياس، وطلب منه خياطة بدلة جديدة له - بعد وفاة الشاعر محمد معروف الرصافي, تربع الجواهري عرش الشعر العراقي بلا منافس-. وسبب الحاجة الى بدلة جديدة يعود الى ان الجواهري قد وجهت له الدعوة لتأليف والقاء قصيدة للاحتفاء بالدكتور هاشم الوتري، عميد كلية الطب، في حفل رسمي في بغداد, على شرف منح العميد الدكتوراه الفخرية من King s College School of Medicine في لندن. وقد وجهت الدعوة لحضور الحفل في بغداد الى نخبة سياسية واجتماعية، بما في ذلك ولي العهد الأميرعبد الإله ورئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد. والجواهري اراد للبدلة ان تظهره وكأنه واحد من النخبة.
بعد ان انهى الياس خياطة البدلة الجديدة, اخذها الجواهري وعاد الى منزله وقام بتوديع زوجته وأولاده وداعا دامعا وحارا وسلم زوجته مجمل ماليته التي ادخرها، وكانت مبلغا كبيرا بما فيه الكفاية للحفاظ على الأسرة لأكثر من ثلاث سنوات. ثم غادر لحضور الحفل في السيارة المرسلة من قبل العميد التي اقلته الى مكان الحفل. كان للجواهري، الذي سبق اعتقاله بسبب مناهضته للسلطة, اسبابه الوجيهة لاتخاذ الترتيبات اللازمة مع أسرته.
في البداية, رفض الجواهري بأدب طلب العميد لالقاء أبيات من الشعر، متعللا بعدم قدرته على التعافي عاطفيا من وفاة شقيقه جعفر, الذي قتل من قَبل من قبل الشرطة العراقية جنبا إلى جنب مع العديد من الطلبة العراقيين والشباب الآخرين على جسر المأمون, احتجاجا على معاهدة بورتسموث بين الحكومة البريطانية والحكومة العراقية الموقعة في يناير 1948. ثم عدل الجواهري عن رفضه الحضور ووافق بشرط حضور الحفل كضيف فقط وبدون القاء قصيدة، ولكنه كان في الواقع قد كتب قصيدة, ولكنه لم يبح بسره هذا الى د. الوتري وحلفائه السياسيين.
كان مخطط الجواهري هو الصعود المفاجئ الى منصة الحفل والقاء قصيدته غير المعلن عنها لاحداث حالة من الاضطراب والفوضى في الحفل مع هجوم غير مسبق من قبله على المؤسسة السياسية. على الرغم من قوة العلاقات الشخصية والعائلية للجواهري بعدد من أعضاء النخبة السياسية، بما في ذلك العائلة المالكة، كان الجواهري متوقعا ان قصيدته ستسبب فتنة سياسية وتؤدي الى اعتقاله وسجنه لأجل غير مسمى.
حينما كان ضيوف الحفل يتجاذبون اطراف الحديث مكتوفي الأيدي مع بعضهم البعض، وثب الجواهري خلسة وبكل سرعة الى منصة الحفل وامسك بالميكروفون وبدأ بالقاء شعره وسط ذهول عارم وصمت مطبق على الجميع.
سببت قصيدة الجواهري عدم ارتياح وتململ واضح لدى الحشد الحاضر بسبب هجومها اللاذع على السلطة وفضح وحشيتها في قمع الوثبة.
لقد سبق للدكتور الوتري ان قدم استقالته الشهيرة من منصبه كعميد كلية الطب احتجاجا على وحشية قمع المتظاهرين من الطلبة المشاركين فى الوثبة, حيث شملت مجزرة السلطة طلاب الكلية الطبية الذين كانوا متواجدين في حرم الكلية والمستشفى التابعة لها.
ولكن سرعان ما بدد د. الوتري شعبيته الجديدة مع المعارضة السياسية بعودته إلى منصبه بعد ان مرت الازمة ونجاح النظام العراقي في اعادة السيطرة السياسية من خلال تنفيذ الأحكام العرفية.
بالنسبة للجواهري واطراف اليسار العراقي، كان منح د. الوتري الدكتوراه دليلا اضحا على إعادة تأهيله من قبل نوري السعيد واعوانه, واعتبر الجواهري رجوع د. الوتري الى منصبه تنازلا لا اخلاقيا مشينا قام الجواهري بإدانتة علنا في احدى قصائده.
بعد القاءه قصيدته في حفل تكريم د. الوتري, قام الجواهري بتمزيق قصاصات الاوراق التي كتب عليها قصيدته وتركها تتناثر على منصة الحفل. ثم قفل فورا بالعودة الى منزله, تاركا الحشد في صمت وحيرة, مما سمح بخروجه دون عوائق من قبل قوات الأمن. انتظر الجواهري في المنزل ثلاثة ايام قبل ظهور الشرطة في منزله لمطالبته بنسخة من القصيدة. أوضح الجواهري بهدوء انه لم يملك غير نسخة واحدة قام بتمزيقها علنا -;--;-في الحفل. واضاف انه لا يتذكر الكثير من القصيدة. على الرغم من طبيعة الرقابة الخانقة والقمع في البلاد، بقي العراق على الأقل اسميا نظام ملكي دستوري متمتعا بقضاء مستقل. وكانت الدولة مترددة في رفع دعوى قضائية ضد الشاعر دون أدلة مقنعة.
لسوء حظ الجواهري، تمكن العديد من طلاب الطب في الحفل من جمع قصاصات الورق من الأرض ووضعها جنبا إلى جنب واعادة تركيب القصيدة كما هي في الاصل ونشرها في صحيفة في بيروت، مما سبب في انتشارها في العراق كالنار في الهشيم واثارتها فضيحة سياسية جديدة تسببت في اعتقال الجواهري على الفور لعدة أسابيع وسجنه في مبنى وزارة الدفاع.
كما يذكر الجواهري في مذكراته، فشلت جهود الدولة بارهابه واسكاته, وذلك, ضمن امور اخرى, بسبب المديح الذي انهال عليه من قبل المحققين. فقد قام احد المحققين بتخصيص غرفة له لاستخدامها كزنزانته الشخصية واعتذر له بحرج بالغ لايداعه السجن في المقام الأول. حتى بهجت العطية، الرئيس السيئ السمعة للشرطة السرية العراقية، اعتذر للجواهري لتوقيفه واعتقاله، موضحا ان امر اعتقاله صدر مباشرة من نوري السعيد وأنه عاجزعن نقضه. بسبب الصخب العام الذي اعقب اعتقال الجواهري رضخ نوري السعيد فاطلق سراح الجواهري بعد أقل من شهر من اعتقاله.
-----------------
ان قراءة هذه الاطروحة هي متعة لا تعادلها متعة. ولكن فضلا عن ذلك, وهو الاهم, تشكل الاطروحة ذخيرة ثقافية لا تقدر بثمن للثوريين العراقيين, على مختلف مشاربهم واختصاصاتهم, في تعزيز نضالهم ضد سياسات اعوان المحتل في المنطقة الخضراء في بغداد ودك عروش الظلم والفساد والطغيان . لذا تقتضي الحاجة ترجمتها باسرع وقت الى اللغة العربية.
-----------
يمكن قراءة الاطروحة بالكامل بالانكليزية في
https://deepblue.lib.umich.edu/bitstream/handle/2027.42/100047/kevjones_1.pdf?sequence=1
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟