|
الدستور العراقي وقانون الأحوال الشخصية
معهد الدراسات الإستراتيجية-العراق
الحوار المتمدن-العدد: 1383 - 2005 / 11 / 19 - 15:40
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
معهد الدراسات الاستراتيجية حملة تعديل الدستور (هذا المقال جزء من سلسلة دراسات وافكار من شاركوا معهدنا, معهد الدراسات الاستراتيجية, في الندوات والنقاشات حول مسودة الدستورقبل الاستفتاء، وبعد اقرار الدستور من اجل استكماله بتشريعات ولوائح تعزز التوازن السياسي وتكفل الحريات، والحقوق المدنية وحقوق المرأة .ومما يسرنا ان مبادرتنا هذه تتكاتف مع مبادرات رديفة مثل نداء "عهد العراق"، مما تدعو اليه قطاعات واسعة من الرأي العام. وضع هذا المقال الدكتور رشيد الخيُّون المعروف بسعة خبرته فى الدراسات التاريخية. وهو يتناول المرأة والشريعة و الدستور)
الدستور العراقي وقانون الأحوال الشخصية د. رشيد الخيُّون بعد شهور من العمل المتواصل للجنة صياغة الدستور، والتي لم يوافق عليها إلا بعد جدل حام داخل الجمعية الوطنية وخارجها، عرضت مسودة الدستور على الملأ العراقي للاستفتاء، ومثلما توقع الكثيرون نالت النجاح الساحق بالمحافظات الجنوبية والشمالية والوسطى، ماعدا ديالى، والفشل الساحق أيضاً في المحافظات الغربية والموصل. إلا أن النسبة القادرة على إفشال المسودة لم تتوفر في المحافظات الرافضة الثلاث، حسب ما نص عليه قانون إدارة الدولة العراقية مارس 2004، في المادة الحادية والستين الفقرة (ج): "يكون الاستفتاء العام ناجحاً، ومسودة الدستور مصادقاً عليها، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر". تعرضت مسودة الدستور، قبل الاستفتاء، إلى نقود واسعة داخل العراق وخارجه، عبر اجتماعات وندوات ورسائل موجهة ومقالات، يضاف إلى ذلك التحريضات العنيفة التي استخدمتها القوى المعارضة له، منها التحريض على الاستفتاء بـ(لا)، ومنها الحض على المقاطعة، وأشد من هذا كله ما تعرض له أعضاء لجنة الصياغة من تهديدات ومقاتل. حصل هذا بينما من المفارقة أن ديباجة مسودة الدستور أشارت إلى أسبقية عراقية في صياغة القوانين والشرائع:"على أرضنا سنَّ أول قانون وضعه الإنسان. وفي وطننا خط أعرق عهد عادل لسياسة الأوطان". نعم حصل هذا، إلا أن انقطاع الإنسان العراقي عن حضارته أعاده إلى نقطة الصفر، أو المربع الأول كما يقال. صحيح أنه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها أرض العراق بناءً قانونياً استشراعياً، فلا شريعة حامورابي كانت خافية، ولا القوانين والشرائع التي قبلها: أورنامو، ولبيت عشتار بن أنليل، وإشنوانا (عيد مرعي، قوانين بلاد مابين النهرين)، لكن ما العبرة بهذه الخلفية الحضارية وقد عاش البلد في فترات عديدة بلا قانون. لم يبق من تلك الشرائع ولا التي خلفتها شيئاً مذكورا، حتى طلب هارون الرشيد من قاضي القضاة أبي يوسف (ت 182هـ/798م) كتابة دستور يسير بموجبه الولاة والقضاة، وسماه بكتاب الخراج، فهو حسب مقدمة صاحبه: "إن أمير المؤمنين أيده الله سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج، والعشور، والصدقات، والجوالي (أهل الذمة)"( ). والقصد من الإشارة إلى هذا التكليف أن الدولة العباسية، والإسلامية عموماً لم تعن بالحقوق المدنية، ولم تحتج إلى دستور في سياسة البلدان، مثلما اهتمت بعصب وجودها وهو ضمان المورد المالي. وحتى 1906 وهو عام المشروطة والمستبدة لم يتذكر العراقيون من أرثهم الشرائعي القديم شيئاً، لذا استقبلوا دستور (1908) العثماني مختلفين: وجهاء السُنَّة ضده، ووجهاء من الشيعة معه. وكم يبدو التاريخ يعيد نفسه وهم يختلفون اليوم حول مسودة الدستور، شيعة معه وغالبية سُنَّية ضده، وكادت ثلاث محافظات ذات كثافة سُنَّية تسقطه، ويترتب على ذلك حل الجمعية الوطنية، وانتخابات جديدة، وكأن انتخابات كانون الثاني 2005 لم تحصل! أعلن ببغداد الدستور العثماني تموز ( 1908)، وكتبت عبارة بالتركية على واجهة سراي الحكومة تقول: "حريت عدالت مساوات أخوت"( ). وبالوقت الذي استبشر فيه الشيعة من مقلدي أصحاب المشروطة تحقيق حياة دستورية اجتمع وجهاء أهل السُنّة، وألفوا جمعية مناهضة للدستور باسم "المشور" دفاعاً عن الشريعة ومقاومة الأفكار اللادينية( )، وضد جمعية الاتحاد والترقي التي حققت الدستور. وكان في مقدمة المعترضين على الديمقراطية أول رئيس وزراء عراقي، فيما بعد، عبد الرحمن النقيب. تظاهر هؤلاء بالدفاع عن الشريعة المحمدية ضد الدستور مع أن شيخ الإسلام، وهو مقتي السلطنة الرسمي، حث السلطان عبد الحميد، إثناء انعقاد مجلس الدولة، على تحقيق مطلب إعادة الدستور. قال: "أجبهم إلى رغائبهم، وأمنح الدستور فإنه مطابق للشرع الشريف"( ). ومثلما هو الحال اليوم ليس كل أهل السُنَّة كانوا ضد الدستور العثماني. فيومها ألقى الشاعر معروف الرصافي وهو من اللبة السُنَّية، وسط حشد البغداديين أمام سراي الحكومة بالقشلة، قصيدة تأييد للدستور، منها: إذا انقضى مارت فأكسر الكوزا وأحفل بتموز إن أدركت تموزا شهر به الناس قد أضحت محررة من رق مَنْ كان يقفوا أثر جنكيزا سـل أهل باريز عن تموز تلق لهم يوماً به كان مشهـوداً لبـاريزا( ) لكن في تطور آخر، حصل بعد سنوات على سقوط العهد العثماني، أن اتفق وجهاء العراق العام 1925 على قانون هو بمثابة الدستور الدائم للدولة، عرف بالقانون الأساسي العراقي، ليبقى سارياً حتى ألغي بالدستور المؤقت تموز 1958، بعبارة تقول: "فإننا باسم الشعب نعلن سقوط القانون الأساسي العراقي وتعديلاته كافة منذ 14 تموز سنة 1958، ورغبة في تثبيت قواعد الحكم وتنظيم الحقوق والواجبات لجميع المواطنين نعلن الدستور الموقت هذا للعمل بأحكامه في فترة الانتقال إلى أن يتم تشريع الدستور" (الدستور الموقت 1958). وظلت الدساتير الموقته تلغي بعضها بعضاً حتى كتابة مسودة الدستور الحالية، التي قلما شهد العراق خلافاً على قضية مثل الخلاف عليها.
الأحوال الشخصية جرى الخلاف على أكثر مواد الدستور، ما اختص بالتنظيم الإداري، وعلاقة الدين بالدولة، وتحديد الانتساب القومي للعراق، وإدارة الاقتصاد والثروات، وما اختص بمعاملة النساء. وهنا نصب الاهتمام على المادة (39) من دستور 2005 الخاصة بالأحوال الشخصية، فكل سلبيات عدم التقيد بقانون مدني تجني سلبياته النساء بالدرجة الأولى. جاء في المادة المذكورة: "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم، أو مذاهبهم، أو معتقداتهم، أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون" (مسودة الدستور العراقي الجديد). يفهم من منطوق المادة أنها ألغت قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، الذي هدف إلى توحيد أحكام المذاهب الفقهية الإسلامية الخمسة بالعراق، بما يجاري روح العصر. ورغم أن شرائع العراق الرسمية القديمة من شريعة حامورابي وسواها اهتمت بتنظيم العلاقات الاجتماعية رسمياً، من شروط الحياة الزوجية وفسخها، والحقوق والواجبات المتبادلة بين النساء والرجال، والآباء والأولاد، والعبيد والسادة، إلا أن الأنظمة الإسلامية تركتها لأئمة المذاهب، فرغم أن الدولة العباسية منذ هارون الرشيد تبنت المذهب الحنفي إلا أن للشيعة أو الشافعية مراجعهم في الشأن الاجتماعي من تنظيم علاقات الزواج والطلاق والميراث وغيرها. وكذا الحال مع الدولة العثمانية، التي اعتمدت المذهب الحنفي أيضاً. لكن ليس لها إجبار رعاياها من أتباع المذاهب الأخرى أن ينظموا علاقاتهم وفق هذا المذهب، رغم أن تطبيق نظام المحاكم النظامية بدأ ببغداد العام (1879)، عندما نشأت "دائرة العدلية"، وأخذ قضاة الشرع محلهم في المحاكمم المدنية. ففي العام 1876 صدرت قوانين "مجلة الأحكام الشرعية"، وطبقت في نواح الدولة العثمانية كافة، واقتصر العمل فيها على المذهب الحنفي. لكن "لم تشمل أحكامها الأحوال الشخصية والوقف، بل اختصت بالعقود والمعاملات"( ). وفي 1917 صدر ما عرف بقانون العائلة العثماني( ). وقد تعاملت السلطات البريطانية بالقانون نفسه في الأحوال الشخصية، غير أن فرض المذهب الحنفي في العهد الثماني وبعده أدى "إلى ابتعاد غالبية الناس العظمى عن المحاكم الشرعية"( ). وفي هذا الصدد "نقل عن أحد قضاة مدينة كربلاء أنه مكث في منصبه تسعة أعوام لم ير فيها ولا دعوى واحدة"( ). فالشيعة بكربلاء يرجعون الى قضاة وفقهاء مذهبهم الشرعيين. ساعد على ذلك عدم وجود إلزام في البت بأمور الأحوال الشخصية أمام المحاكم الرسمية. وفي العام 1923 شكلت المحاكم الجعفرية، وأسس مجلس تمييز شرعي جعفري( )، وترأسه الفقيه الشيعي هبة الدين الشهرستاني (ت 1967) آنذاك. وبأثر هذه الخلفية جاءت المادة السابعة والسبعون من القانون الأساسي العراقي 1925: "يجري القضاء في المحاكم الشرعية وفقاً للأحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية، بموجب أحكام قانون خاص، ويكون قاضي من مذهب أكثرية السكان في المحل الذي يعين له، مع بقاء القاضيين السُنَّيين والجعفريين في مدينتي بغداد والبصرة" (القانون الأساسي). وحددت المادة التاسعة والسبعون اختصاص المجالس الروحية لليهود والمسيحيين في البت بأمور الزواج وغيرها من أمور الأحوال الشخصية، الموافق عليها من قبل وزارة العدل، في ما يخص أفراد الطائفة. وإلى جانب ذلك هناك مستشارون في المحاكم المدنية مختصون بالأمور المتعلقة بالصابئة المندائيين والأيزيديين. ومعلوم أن هاتين الطائفتين أو الديانتين لم تعترف بهما الدولة العثمانية حتى خروجها من العراق( ). كان ذلك موقف الإمام أبي حنيفة النعمان الإيجابي من الصابئة المندائيين، وورد اسمهم في القرآن في ثلاث سور: البقرة، والمائدة، والحج مع أهل الكتاب. إلا قضية الإرث ظلت وفق الشريعة الإسلامية. جاء في المادة التاسعة والسبعون والثمانين من القانون الأساسي العراقي 1925 ما نصه: "تنظر المجالس الروحانية: في المواد المتعلقة بالنكاح، والصداق، والتفريق، والنفقة الزوجية، وتصديق الوصايات، مالم تكن مصدقة من كاتب العدل، خلا الأمور الداخلة ضمن اختصاص المحاكم المدنية في ما يخص أفراد الطائفة، عدا الأجانب منهم. المادة الثمانون: تعين أصول المحاكمات في المجالس الروحانية الطائفية، والرسوم التي تؤخذ فيها بقانون خاص، وتعين أيضاً بقانون الوراثة وحرية الوصية، وغير ذلك، من مواد الأحوال الشخصية التي ليست من اختصاص المجالس الروحانية الطائفية". بعدها جرت عدة محاولات لتشريع قانون يوحد البت بالأحوال الشخصية على أساس مدني، كانت البداية 1933 عندما "جرت محاولة لإصدار قانون الأحوال الشخصية، قام بها التدوين القانوني، ووضعت لائحة لهذا المشروع، غير أنها تعثرت"( ). ثم جرت محاولة أخرى العام 1945 عندما "أصدرت وزارة العدل أمراً بتشكيل لجنة من أربعة أعضاء عهدت إليها وضع لائحة قانون الأحوال الشخصية، وأنجزت هذا المشروع"( ). إلا أن اللجنة لم تتمكن من تجاوز المادة (77) من القانون الأساسي العراقي (1925)، والتي "نصت على أن القضاء في المحاكم الشرعية إنما يجري وفقاً للأحكام الشرعية الحاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية". لذا "أخذت الفقه الإسلامي أساساً لمشروعها كوحدتين أساسيتين، هما المذهب السُنَّي والمذهب الجعفري، فدونت ما أمكن الاتفاق عليه، ولم يقدر لهذا المشروع أن يصبح قانوناً يعمل به"( ). ويبدو أن المعارضة الدينية لعبت دورها في حجب هذا القانون، الذي فيه إضعاف لسلطة الفقيه الشرعية بوجود المحاكم المدنية، وأن التقريب بين المسائل الفقهية بين المذهبين سيقلص من خصوصية هذا المذهب أو ذاك، ويؤثر على مجمل التمايز الطائفي، وهذا بالتأكيد ليس من مصلحة المؤسسة الدينية عموماً، التي تستمد قوتها من التفاف الأتباع حولها في أمور الشريعة. أفصح آية الله السيد محسن الحكيم معارضة مشروع 1945 لسن قانون الأحوال الشخصية في رسالته إلى قادة انقلاب 8 شباط 1963 طالباً منهم إلغاء القانون 188 لعام 1959: "وأضيف هنا أن حكومة العهد الملكي سبق أن شرعت قانوناً للأحوال الشخصية خالفت فيه الشرع الإسلامي، وعرضته على مجلس النواب، فأرسلت أحد أولادي للاتصال بالنواب، وإبلاغهم استنكاري لهذا القانون، ووجوب إلغائه. وأصدر رأيي بهذا الشأن. مما حدا بالنواب إلى معارضته، فاضطرت الحكومة إلى إحالته على لجنة مختصة لدراسته وإعادة النظر فيه"( ). وبما أن قانوناً مثل قانون الأحوال الشخصية قد صدر ببلدان إسلامية عديدة: مصر، الأردن، سوريا، المغرب، تونس، فلا يمكن أن يبقى العراق ممزقاً في قوانينه الشرعية، خصوصاً وأن بلداً مثل تونس قد تجاوز إلى مساواة النساء بالرجال في الإرث، ومنع تعدد الزوجات منعاً باتاً، والمغرب قيدها بشروط. وبالعراق جاءت الخطوة العملية بعد 14 تموز 1958، عندما "ألفت وزارة العدل بأمرها (560) والمؤرخ 7-2-1959 لجنة لوضع لائحة الأحوال الشخصية. استمدت مبادءها مما هو متفق عليه من الأحكام الشرعية، وما هو المقبول من قوانين البلاد الإسلامية، وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق"( ). وبعد أن أكملت لجنة وزارة العدل عملها أُعلن القانون في 19-12-1959، وبطبيعة الحال استقبلته المؤسسة الدينية، الشيعية على وجه التحديد، بالامتعاض والهجوم، بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية.
ماخالف الشريعة خالف قانون 188 لعام 1959، حسب معارضيه، الشريعة الإسلامية ظاهراً في المادة الثامنة، الخاصة بتوحيد سن الزواج، والمادة الثالثة عشرة، الخاصة بتقييد تعدد الزوجات، والمادة الرابعة والسبعين، الخاصة بمساواة الذكور والإناث بالإرث. لقد قرر القانون سن الزواج بثمانية عشرة سنة للجنسين، وترك مجالاً للقاضي يحدد فيه سن البلوغ بأقل من ثمانية عشرة، أي بين 15 و16 سنة، وأن يكون الزواج بموافقة ولي الأمر. وبطبيعة الحال يخضع لهذا القانون اليهود أيضاً الذين جعلوا، حسب فقهم، سن الزواج 13 سنة للذكر، و12 سنة للأنثى. بينما قرره المذهب الحنفي للذكر 18 سنة وللأنثى و17 سنة. والمذهب الشافعي والحنبلي: 15 سنة لكل منهما. والمذهب المالكي: 17 سنة. لكن الفجوة الكبرى حول سن الزواج الأدنى للفتاة تظهر ما بين التشريع الحكومية والفقه الجعفري، الذي حدده بتسع سنوات. وأكثر من هذا أن العديد من فقهاء الشيعة المعاصرين أجازوا الخطبة والعقد حتى في سن الطفولة، فما عدا الممارسة الزوجية المباشرة تجوز، بما دون التسع سنوات، بقية الاستمتاعات: اللمس، والضم، والتفخيذ، فلا بأس بها، وهذا بطبيعة الحال لا يحدث إلا بعقد وخطبة. أثبتت هذا التشريع رسائل الفقهاء الكبار، بداية من المرجع محمد كاظم اليزدي (ت1919)، وأبي الحسن الموسوي الأصفهاني (ت1945) وانتهاء بآيات الله العظام: السيد محسن الحكيم (ت1970)، والسيد روح الله الخميني (ت1989)، والسيد أبي القاسم الخوئي (ت1992)، والسيد علي السيستاني (لا يذكر مفردة الرضيعة"( ). والغرابة أننا لا نجد مثل هذا الحكم أو الرأي الفقهي عند الأولين، السابقين على زمن اليزدي، من أعلام الفقه الشيعي مثل: أبي جعفر الطوسي (ت460هـ)، ونجم الدين المحقق الحلي(ت676هـ)، والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت1104هـ) وسواهم. وكذلك لا نجده عند معاصرين، هم أقل مقلدين من السابقين، مثل: آية الله محمد باقر الصدر (قتل 1980)، وآية الله محمد حسين فضل الله وآخرين. كما خالفت المادة الثالثة عشرة، حسب معارضي القانون، إباحة الشريعة لتعدد الزوجات، وأن التقييد فيها إلا بالكفاءة، التي تختلف شروطها من مذهب إلى آخر، وفي مقدمتها الكفاءة المالية والجسدية. إلا أن القانون العراقي 188 جاء أقل من المادة 18 من القانون التونسي، التي تمنع الزواج من أكثر من واحدة منعاً باتاً، وأقل من القانون المغربي الذي قيده لسبب عدم العدل "فمنعت المادة الثالثة عشرة الزواج بأكثر من واحدة إلا بأذن القاضي، ويشترط لإعطاء الأذن أن يكون للزوج كفاية مالية"( ). غير أن مَنْ يدقق في النص القرآني الخاص بتقييد تعدد الزوجات يجده مانعاً، بل أقرب إلى التحريم منه إلى الإباحة. ومع ذلك أغفل المشرعون النصوص التي شددت على الزواج بواحدة. جاء في الآية "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً"( ). ثم يأتي التشديد القاطع في الآية: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"( ). ويضاف إلى ذلك، للزواج بأكثر من واحدة شرطه الظرفي في النص القرآني وهو الاقتران بمعاملة الأيتام "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"( ). والسؤال، هل تزوج رجل في العصور التي لحقت نزول الآية المذكورة لأجل اليتامى؟ لا أظن ذلك. وقد عد الشيخ محمد عبدة تعدد الزوجات، حسب الآيتين: الخوف وعدم الاستطاعة، هو أقرب إلى التحريم: "فمن تأمل الآيتين علم إباحة تعدد الزوجات، في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق، كأنه ضرورة من الضرورات، التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور. وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لايمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات"( ). أما المادة الرابعة والسبعون فكانت أكثر المواد تعرضاً للجدل والمعارضة، وسبباً للهجوم، وهي الخاصة بالمساوة بين الإناث والذكور في الإرث. قال القاضي خروفة حول هذه المادة: "راعت اللجنة أيضاً الانسجام بين أحكام القانون المدني في الوصية وبين ما ورد في هذه اللائحة من أحكام. هذا ولما كان الاختلاف في أحكام الميراث- وهو من أسباب كسب الملكية-قد أوجد نتيجة اختلاف المذاهب، والتفاوت في انتقال حقوق الوارثين التي يقضي توحيد قواعدها مما حمل هذا الاختلاف بعض ذوي العلاقة على التحايل على القوانين، وإنشاء مجتمع مستقر في حقوقه وواجباته من أهداف الثورة، فقد اقتضى توحيد أحكام الميراث وجعلها منسجمة مع أحكام الانتقال في الأراضي الأميرية، التي شرعت منذ مدة طويلة، وتقبلها الناس، واستقرت المعاملات عليه. ولهذا ارتؤى أن تؤخذ هذه القواعد المنصوص عليها في القانون أساسا للميراث في العقار والمنقول، ذلك لأنها لا تختلف كثيراً مع الأحكام الشرعية"( ). وحسب عبد اللطيف الشواف أحد المكلفين بصياغة الدستور الدائم، الذي لم يُنجز: "جلب عبد الكريم القانون المدني، واطلع على القسم الخاص بانتقال حقوق التصرف في الأراضي الأميرية المفوضة بالطابو، وبما تنطوي عليه من البساطة ومن المنطقية وسهولة الفهم، واقترح وطلب إضافة المواد- كما وضعها السنهوري في القانون المدني إلى قانون الأحوال الشخصية، لتطبق على المواريث كلها، وبذلك نكون قد أكملنا نقص عدم وجود قسم للميراث في المشروع، علاوة على توحيد أحكام المذهبين السُنَّي والجعفري في هذه المسألة الهامة من مسائل الحياة"( ). وأضاف الشواف أن عبد الكريم رفض التحذيرات من استغلال هذا النص واعتبار الحكومة ضد الشريعة الإسلامية "مستنداً إلى رأي أبداه رئيس مجلس السيادة اللواء نجيب الربيعي، بأن الإرث، وتحديده قد جاء في القرآن بصيغة الوصية"( ). جاء في الآية "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"(النساء 11). التعديل والإلغاء أتى البعثيون وعدلوا قانون 188 لعام 1959 بقانون رقم 11 لسنة 1963، وعلى وجه الخصوص المادة الخاصة بلإرث، ليكون "للذكر مثل حظ الأنثيين". لكن المرجعية الدينية استمرت في مطالبتها بإلغاء القانون كلية، وأن وجود مثل هذا القانون يعطي القاضي سلطة الفقيه، ويسد باب الاجتهاد في الأحكام. وحسب السيد محمد بحر العلوم، أنه جاء مخالفاً: للدستور الموقت للجمهورية العراقية، فقد وقع عليه اثنان من مجلس السيادة، بينما لا تتحقق شخصية رئيس الجمهورية إلا بالأعضاء الثلاثة، (كان محمد مهدي كبة قد قدم استقالته) وأن هذا القانون فيه تحديد لطبيعة القضاء، بينما القضاء لا يحدد بقانون، وإنما بالشرع، وباب الاجتهاد مفتوح فيه. ووجده معارضاً في مواده للكثير من آراء المذاهب الإسلامية، مثل اعتبار الزواج والطلاق بشهود، بينما الحنفية لا تشترط الشهادة في الطلاق والشيعة لا تشترط الشهادة في الزواج وما إلى ذلك( ). وحتى نهاية عقد الثمانينيات، من القرن المنصرم، تعرض القانون إلى أكثر من عشرة تعديلات حكومية، خصت التفريق بين الأزواج، وجعلته على أساس الموقف السياسي والامني. جاء في القرار (1708) لمجلس قيادة الثورة في 17-12-1981: إعطاء الحق للزوجة، التي صدر حكم قضائي بإدانة زوجها بجريمة خيانة الوطن أن تطلب التفريق". وأتاح قرار (1529) في 31-12-1985للزوجة التفريق من زوجها إذا تخلف أو هرب من الخدمة العسكرية. و"جواز لوالد الغائب خارج العراق طلب التفريق بين ولده الغائب وزوجته بسبب الزنا" وغيرها من قرارات لمجلس قيادة الثـورة( ). وأن الدستور الموقت 1968 وضع مادة صريحة لطمأنة المؤسسة الدينية ضد القانون (188)، ومادته الرابعة والسبعين، جاء فيها "الإرث حق تحكمه الشريعة الإسلامية" (المادة السابعة عشرة فقرة ب). ظل قانون الأحوال الشخصية منذ صدوره (1959)، وحتى وفاة آية الله السيد محسن الحكيم (1970)، رغم تعديلاته التي اخفت إيجابياته بالنسبة لحقوق للنساء، محل جدل مع الدولة، فالمرجعية الدينية لا تكتفي بأقل من الإلغاء. جاء في رسالة الحكيم إلى قيادة انقلاب شباط 1963: "إرجاع الأمور إلى العهد الذي كانت عليه سيرة المسلمين منذ أيام الخلافة الإسلامية، وان موقفنا هذا هو نفس الموقف الذي وقفناه منذ صدور القانون حتى يومنا هذا، وإلى أن يتم رفعه"( ). والأمر كما يتضح من رسالة الحكيم، وقد سبق للمرجع محمد حسين كاشف الغطاء أن أعطى رأيه في المادة (1801) من المجلة العثمانية التي قيدت القضاء بشخص وزمان ومكان محددين. قال: "إن القضاء والحاكمية عند الإمامية منصب إلهي لا دخل له بالسلطان، ولا بغيره، ينصبه العدل وجامعية الشرائط، ويعزله زوال بعض الصفات الركنية من العقل والعدالة والاجتهاد، فلا يتقيد بزمان ولا مكان، بل له الحكم في كل مكان وكل زمان"( ). كان جوهر الخلاف هو حول مكانة الفقيه أو المرجع، فالكائن بالنجف يحكم لأهل الناصرية مثلاً، وحيث يمتد المذهب، أما القانون فحدد المرجعية بسلطة القانون ورأي القاضي، رغم أن القانون أخذ مواده من مختلف المذاهب، ومن لوائح الأحوال الشخصية في البلدان الإسلامية الأخرى، وأن الدستور الموقت 1958 أقر الإسلام ديناً للدولة. وعلى خلفية الخلاف بين الدولة والمرجعية الدينية، بشخص آية الله محسن الحكيم، سعى نجله السيد عبد العزيز الحكيم، إثناء رئاسته لمجلس الحكم لشهر كانون الأول (ديسمبر) 2003، إلى إلغاء القانون، بالقرار المرقم (137)، إلا أنه واجه معارضة نسوية وليبرالية عربية وكردية داخل المجلس وخارجه، حتى ألغي قرار الإلغاء بعد تصويت الأكثرية في مجلس الحكم ضده. بعدها أتت المناسبة ليزال القانون 188 لسنة 1959 بالمادة (39) من مسودة الدستور الدائم، وهي عودة إلى ما قبل تأسيس الدولة العراقية، وتعدد الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية. كان من موجبات إصدار القانون الملغى ضمنياً في المادة المذكورة، قبل إقرار حقوق النساء ومجاراة العصر والمدنية، هو محاولة تأسيس هوية عراقية، بجمع الأحكام المشتتة بين المذاهب الفقهية، فوجود أكثر من حكم في الأحوال الشخصية إشارة بائنة إلى عزلة العراقيين عن بعضهم البعض. إضافة إلى المواد المتعلقة في ربط الدولة بالشريعة والدين يأتي التحرر من قانون الأحوال الشخصية موجهاً ضد جمهور النساء، و ضد استقرار الأسرة العراقية، و ضد المساواة بين العراقيين في الأحكام الشرعية، وعدم تركهم لاجتهادات الفقهاء، ولتكريس الأحكام التي لم تعد مسايرة للتطور الزمني، وآفاق العلم، وممارسة الحرية والديمقراطية السياسية. بمعنى أن إلغاء قانون الأحوال الشخصية ممارسة جاءت مفارقة لمواد الدستور الأخرى التي أكدت وحدة العراق وتوجهه الليبرالي. فالزواج بسن التاسعة للفتاة، واستحالة تحمل أعباء وهموم العائلة والأمومة والصلات الزوجية، لم يعد مقبولاً حتى في المناطق الريفية، كذلك فان مشاركة المرأة في العمل، وبروزها في العديد من الأحيان مصدراً وحيداً لإعالة أسرتها قبل الزواج أو بعده، تتنافى مع قسمتها من الميراث، حسب الشرع الديني. ختاماً، إذا كانت العلة في الإصرار على إلغاء قانون (188) لعام 1959 هو تناقضه مع الشريعة الإسلامية، فالأسئلة تطرح نفسها: هل كان قانون العقوبات البغدادي، والذي لم تحتج المرجعيات الدينية ضده، مجارياً لأحكام الشريعة في حكم السرقة مثلاً؟ وهل كان تعدد الزوجات مجارياً للقطع القرآني في الآية:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"( )"؟ تبدو المادة (39) من مسودة الدستور مخالفة لمرونة التشريع الديني، وما يلتزم وما لا يلتزم به من نصوص. خلا ذلك أنها وضعت المشرعين أمام تناقض صريح بين شكل الحكم الديمقراطي والليبرالي والتعددي، والمواد التي أقرت وحدة العراق والعراقيين وبين تشتتهم إلى مذاهب في أحوالهم الشخصية.
#معهد_الدراسات_الإستراتيجية-العراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لائحة لتعديل الدستور الجديد
المزيد.....
-
المرأة السعودية في سوق العمل.. تطور كبير ولكن
-
#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء
...
-
المؤتمر الختامي لمكاتب مساندة المرأة الجديدة “فرص وتحديات تف
...
-
جز رؤوس واغتصاب وتعذيب.. خبير أممي يتهم سلطات ميانمار باقترا
...
-
في ظل حادثة مروعة.. مئات الجمعيات بفرنسا تدعو للتظاهر ضد تعن
...
-
الوكالة الوطنية بالجزائر توضح شروط منحة المرأة الماكثة في ال
...
-
فرحة عارمة.. هل سيتم زيادة منحة المرأة الماكثة في البيت الى
...
-
مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %
...
-
نيويورك تلغي تجريم الخيانة الزوجية
-
روسيا.. غرامات بالملايين على الدعاية لأيديولوجيات من شأنها ت
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|