|
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثالث
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4954 - 2015 / 10 / 13 - 11:01
المحور:
الادب والفن
في ذلك الصباح، جاءت مارتين إلى المصنع، و "الحُلم" بيدها. كان أبراهام من يصحبها بدلاً من ألبير. وزعت علينا الجريدة في وسط الضوضاء الدائبة للآلات. عندما اقترب أبراهام مني، قلت له إنني أحلم بزيارة الجزائر، بلد المليون ونصف المليون شهيد، رمز الثورة، الجميلة كحبيبة. وعدني باستقبالي عنده، في قسنطينة، وتمنى بحمية، أن آتي لرؤيته هذا الصيف. قلت له إنني سأرى هذا مع مارتين، وإننا ربما أمكننا المجيء لقضاء شهر عسلنا. قفز من الفرح، وأعلمني أن قسنطينة مدينة الفرح، قائمة على صخرة جبارة، تحمل على كتفها مليونين من الأفئدة! وهي مكان لا أجمل منه في الصيف، ولا أشبه بآخر في العالم. حكى لي أن كل الطائفة اليهودية غادرت المدينة، عشية الاستقلال، لأن العساكر أخافوها من أولئك "البرابرة". ضحك بتهكم. بالمقابل، اختارت أسرته البقاء في البلاد، وهي عازمة على البقاء في مدينتها دائمًا، حيث تنعم بحقوق المواطنة كاملة. عندما رجعت مارتين إلى ورشتنا، أعلمتنا أن بعض عمال الشهوة "المشترين" من طرف الإدارة قد تركوا العمل. كانت حزينة، لكنها في نفس الوقت بثت فينا روح العزم على الاستمرار. ذكّرتنا أنه، عندما ترك رؤساء المعامل، أطفال رب العمل المدللون، مصنع الأحاسيس، لم يكن لهذا أي تأثير علينا. على العكس، ألقينا على عاتقنا مسئولية سد الفراغ، وأدرنا الأعمال على أحسن ما يرام. - شكرًا لتشجيعك، لكن يظل هناك فراغ من اللازم سده، قلت لمارتين. رؤساء المعامل يعدون على الأصابع، لم يكن لهذا أهمية، وفوق هذا، كانوا يقضون وقتهم في إعطاء الأوامر. مع ذهاب عشرة عمال... - عشرون، صححت مارتين. - هذا أسوأ! - نعم، هذا صحيح. - مع ذهاب عشرين عاملاً، لن يمكننا أخذ كل شيء على عاتقنا. - نعم، كما تقول. - هناك فراغ حقيقي للسد، أليس كذلك، يا بيير؟ - ماذا؟ سأل بيير، وهو يقترب منا. - نحن لا يمكننا سد الفراغ الذي تركه ذهاب العشرين عاملاً. - لا. أصبح الوضع حَرِجًا. - هذا صحيح. - ها أنتِ ترين، قلت لمارتين، الوضع أصبح حَرِجًا. - انتظروا، انتظروا، لا تتخوفوا، قال أبراهام. اقترح نفسه لسد الفراغ، كذلك مارتين وفرانسواز ووردة، اقترحن أنفسهن، أولاد شارل، وأناس جاؤوا لا أدري من أين، اقترحوا مساعيهم الحميدة. - كل هذا جيد، قال بيير، حتى جيد جدًا. والتعلم؟ لن يتعلموا بسهولة. - لا تعسّر عليهم الأمور، بييرو، تدخل المارتينيكي، طالما أن لديهم الإرادة طالما أنهم سيتعلمون بسرعة، يا رجل. وذهب مع وردة، والابتسامة تلتمع في عينيه. تبع الكل الكل، فاتسعت حركة الآلات، بالإيقاع نفسه لقوة مُكِدِّي الأهواء. في المساء، وقفتُ مع مارتين. كنا نتكلم بأصابعنا، وأحدنا يمسك يد الآخر. في الناحية الأخرى من مصنع الأحاسيس، كانت لافتة مضيئة لفندق تنطفئ وتشتعل. - منذ سنين، وأنا أعمل هنا، همهمتُ، لكنها المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك فندقًا. - هذا لأن لك بيتًا، همهمت مارتين. - لا، ليس هذا هو السبب. - من لا يبحث عن شيء لا يجده حتى وهو ماثل أمام عينيه... مثلنا... - مثلنا. - ...قبل أن نعرف بعضنا. - مثلنا قبل أن نعرف بعضنا. - أنتَ لست فندقًا، لكن الوضع واحد. - أفضل والحال هذه أن أكون بنكًا. ضحكت مارتين. - ليست هذه تطلعاتك البرجوازية، قالت. - أو لِمَ لا أكون ماخورًا. انزعجت مارتين: - سالم، حبيبي، ما بك؟ - لا شيء، إنه هذا الفندق الذي لم ألاحظه إلا اليوم. تعالي... - إلى أين؟ - سنأخذ غرفة. - أنت جاد؟ - أريد أن أمارس معك. - ماذا؟ - الحب، يلعن دين! - أنت غير جاد. - أنا لا أكثر مني. - ماذا؟ - جدية. - أفهم أن كل هذا، أقصد احتلال المصنع وكل هذا متعب ومؤثر على الأحاسيس. - لا علاقة بكل هذا. - إذن بماذا؟ - قلت لك هذا الفندق الذي تنطفئ لافتته وتشتعل لم أره إلا هذا المساء. - وأنتَ لهذا تريد أن تأخذ غرفة. - وأنا لهذا أريدك. - ليس لأنك متعب وليس لأنك متيم. - لا. - إذن... - ارحميني، يا مارتين، ارأفي بي، يلعن دين! تركتُها، وهي ذاهلة أمام تصرفي. وأنا أغذ السير، شممت رائحة عطر رديء، تعودت على شمها عند حلاقي. بحثت عن صالون حلاقة، فلم أجد أي صالون. وأنا أمضي بمترو بيلفيل، لاحظت لأول مرة أن دهان ستاره الحديدي زنجاري اللون. لم يكن الستار مغلقًا، فالمساء في أوله، وتعجبت من أمري، لأن الستار لم يكن مغلقًا، ولأنني رغم ذلك رأيت، ولأول مرة، أنه زنجاري اللون. أدركت عند ذلك القول المشئوم لعادل، وقلت لنفسي سيسحقون حركتنا. دفعتُ باب مقهى الأرغن، وطلبتُ كأس بيرة، والمقهى شبه فارغ. بسبب الربيع قلتُ، فالجليدُ أبو المخمورين، يجمع الأفئدة المعذبة في الدخان. أنهيت كأسي بجرعتين، وخرجت بمنتهى العجلة. حيرني غياب لاعبي القمار والمهربين، فرحت أبحث عنهم في الأزقة المجاورة، ولا أجد أحدًا منهم. أصابني الهوس، فأخذت أنادي أمي، وإذا ببائع الهيروين يخرج لي، وينذرني بخفض صوتي. مقابل كيس بمائة فرنك، سحبني من يدي إلى عمارة مهدمة تعج ببشر لا ينتمون إلى البشر، كانوا يقومون ولا يقعدون، فكأنه يوم القيامة. اقتربتُ من دائرة تحيط برجل نهشت أسنانه "الشمّة"، وهو ينقل زهر النرد من فنجان إلى آخر، بينما يحاول هذا أو ذاك أن يحزر أينه راميًا ورقة خمسة فرنكات أو عشرة يخسرها أو يربح مثلها. رميتُ ورقة مائة فرنك، لكني خسرتها، وأنا أرى الديدان تُخرج رؤوسها مقهقهة من بين الأسنان النخرة للدجال. على بعد عدة أمتار، أمسكتني مومس، وهي تعرض لي ثديها الأيسر، فالأيمن. ذهبتُ بها إلى الفندق، ولافتته لا تتوقف عن الانطفاء والاشتعال. وهي تخلع ثيابها، نشقتُ معظم كيس الهيروين، ولولا أنها اختطفتْهُ لنفسها مني لنشقتُهُ كله. بعد عدة دقائق، عجنتُ الوجود بيديّ، فناديت أختي، ورحت أضاجعها، وأنا أبكي. صفعتني أمي، وهي تنبر: يا لك من جبان، أيها الجندي! أنا لم أر في حياتي جنديًا يبكي! كان كوخنا القذر مليئًا بالجنود، وهم ينتظرون دورهم، وكانت أمي تأخذ منهم الثمن قبل أن يدخلوا. بكوا كلهم، وهم يضاجعون أختي. كانوا يقذفون، ويبكون، ولم تكن أمي راضية. كانت تشتمهم، وتشتم الساعة التي اضطرتها إلى جعل بيتها ماخورًا لخرعين، شرفها لا يستأهل كل هذا، ولغضبها من الجنود، أخذت تبكي، فبدمعهم أهانوها، وأشعروها بعارها، كانت المرة الأولى التي تشعر فيها أمي بالعار.
يتبع القسم الثاني الفصل الرابع
* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الأول
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس عشر والأ
...
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الحادي عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل العاشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل التاسع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثامن
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الأول
-
الغِربان2: واقع المهاجرة
-
الغِربان1: واقع الهجرة
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|