وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4848 - 2015 / 6 / 25 - 15:15
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كانت مكة في عصر ما قبل الاسلام مدينة تجارية ومركزا دينيا مرموقا ,لوجود الكعبة فيها .هذه المكانة جلبت لمكة الكثير من الخلعاء والصعاليك واللصوص.
من اهم صفات ( الخليع )البطش والجراة . كان اصحاب الاموال في قريش يرون في هؤلاء حلفاء يمكن ان يستاجرونهم للمحافظة على قوافلهم .
لقد استاجر ( ابيمالك ) بسبعين من الفضة (رجالا بطالين اشقياء ) ( سفر القضاة 9 : 4 ) . واستاجر امرؤ القيس ( اخلاطا من شذاذ العرب ) في طلبه بثار ابيه ( الاغاني 8 : 68 – 0 7 ). ومن القبائل التي ظهر فيها الصعاليك واللصوص بنوغفار وبني اسلم .
يمثل بنو اسلم في قبيلة خزاعة مايمثله بنو غفار في قبيلة كنانة . لقد تقرب الخزاعيين من النبي محمد نكاية بالقرشيين منافسيهم وحلفائهم في مكة .حيث كانت قريش تختار ضباط او قادة من هاتين القبيلتين لعسكرها المعروف باسم ( الاحابيش ).
وكان الغفاريون مشهورون بالتلصص ونهب المسافرين حتى الحجاج منهم . فسموا ب ( سراق الحجيج ) (الطبري وابن هشام ).فلم يكونوا يحترمون ارض الحرم ولا اشهره, وكانوا ينزلون منطقة بدر وارض فرع , فيعرقلون سير القوافل . ولقد ظل البراد مثالا اعلى لاولئك الخلعاء الغفاريين .
يؤكد المستشرق البلجيكي الاب لامانس في كتابه المشترك مع المستشرق البريطاني البروفيسور ( كستر ) : ( مكة في الدراسات الاستشراقية) – المركز الاكاديمي للابحاث – توزيع : شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – ط1 – 1014 – بيروت – لبنان ,
انه من الصعب علينا ,اذا مادققنا البحث في حياة كبار الشخصيات المشهورة كحاتم طي وعروة بن الورد وغيرهما ان نميز في شخصياتهم اخلاق الفارس الكريم من صفات اللص الصعلوك .ان شريعة القفر ماكانت لتصم هذه الاعمال بالوصمة الشائنة , بل جل مايناله الصعلوك تعرضه للخطر , وتعريض قبيلته للثار بعض الاحيان .
اما ماعدا ذلك من عار او احتقار فلا وجود له . وكثيرا ماكان الشعراء من اولئك الصعاليك يفتخرون بانهم يموتون كما عاشوا على سنة الاباء والشرف . هذا يبين بحسب كاتب المقال من ناحية علم النفس وعلم الاجتماع ووعي جمعي , وراثة هذه التقاليد في مجتمعاتنا العربية المعاصرة . حيث تكون اللصوصية والسرقة نوع من الافتخار والذكاء والشطارة لمن يقوم بها . ويتم الجمع بين الحماية والسطو كعملين متعارضين , لكنهما متلازمين باطنيا في اعمال الميليشيات والمافيات .
وكثيرا ماكان الصعاليك يتحدون فيؤلفون جمعية من اللصوص , كما نرى في بني غفار . ولقد ساعدهم على ذلك ان اراضيهم كانت على طريق القبائل والتجارة من مكة الى بلاد الشام .ولم يفكر سادة قبيلة بني غفار بخلع هؤلاء الصعاليك . وربما كانوا هم المقصودون في القران الكريم ( وممن حولكم من الاعراب منافقون ) .
وهذا يعني ان هذه الايات تعود الى عصر كانت عليه غفار لاتزال على حلف قريش تخدمها في صفوف الاحابيش . ومن هنا كان الغفاريون يستحون من ذكر نسبهم امام اهل مكة .
كما حصل لابي ذر الغفاري نفسه عندما التحق بالنبي محمد , فقال (كره اني انتميت الى غفار ) . وكان ابو ذر اول امره من اولئك الصعاليك . ثم قدسه الاسلام واصبح من كبار رموز الاسلام والشيعة .الا ان الغفاريين قدموا خدمات جليلة للاسلام .
وقد اكتفى النبي في عقابهم بان اظهر اسفه , طالبا من الله ان يعفو عن هذه السيئات . وكان يعهد النبي للغفاريين بحراسة المدينة , عاصمته الجديدة, مع انه لم يكن يهمل مراقبتهم والحذر منهم احيانا ( اسد الغابة 4 :137 ) .
لهذا قام الاغنياء من اهل مكة , نظرا لصفات الغفاريين وغيرهم من الصعاليك واللصوص , باستخدامهم , اي بدو تهامة , سواء اكانوا ينتمون الى كنانة ام خزاعة , فجعل القرشيون يختارون عددا من العسكر الماجور لتشكيل النواة الاولى من الضباط كما نسميهم اليوم ,او اركان حرب ذلك الجيش من الاحابيش المتصفين بالشهرة في المغازي .
وكان من عادة العرب ان يستخدموا عند الحاجة بمن كان يرتزق في بلادهم من الافارقة. وذلك لما عرف من شجاعتهم . حتى ان سادة القبائل العربية كانوا يستخدمون اولئك الاحابيش كحرس خاص بهم .
يقول ابن سعد عن احد سادة هذيل ( يمشي وراءه الاحابيش ) .ومهما يكن من خطر في اتخاذ هؤلاء العساكر , فان خبراء العرب بشؤون القتال كانوا يفضلونهم , اي الاحابيش او السودان لحسن طاعتهم على رجال البدو الرافضين الحرب الا اذا كانت في منفعة قبيلتهم الخاصة .
لم يخرج النبي محمد عن هذا التقليد العربي . فقد كان عنده من الاحابيش بلال واخوه ابو رويحة . كما اشار المحدثون الى وجود غيرهما من الحبش في حاشية النبي .وقد ذكروا من هؤلاء اخا النجاشي ( اسد الغابة , ابن حنبل ), اذا صحت الرواية ,. وقد اهتمت كتب السيرة ببلال اهتماما خاصا لانها رات فيه ( سابق الحبشة ) كما تسميه تراجم الصحابيين , اي السابق من رجال الحبشة الى الاسلام .
ان هذه النزعة عند اصحاب الحديث لاظهار بلال على هذه الصورة قد اهملت بحسب راي لامانس , دون شك كثيرا من المعلومات عن بلال الحبشي ,فافسدت ماكان من الممكن ان نستخلصه عن دور بلال في الاسلام . ولربما توصلنا الى وجود نظام للاحابيش في المدينة , كما وجدنا لهم في مكة .
كان اهل مكة ينتخبون رجال شرطتهم من بدو تهامة وعبيد افريقيا , فيؤلفون القوة العسكرية المدافعة عن تجارتهم . وكان الغفاريون كثيرا مايتولون قيادة تلك القوة . فيكون قادة الجيش منهم . اما عموم افراد ومقاتلة الجيش فمن عبيد افريقيا من الاجانب ذلك ان قريش كانت قليلة العدد وتنزل وادي الكعبة الضيق .
ان البدو كانوا ينظرون الى قريش غير نظرة جماع الاحاديث . كانوا يرون في قريش تجارا لاهم لهم الا جمع المال . وهم جبناء لايجراون على تسيير قوافلهم الا اذا دفعوا لبعض سادة القفر مبلغا من المال في سبيل حراسة تلك القوافل , فتسير آمنة في طريقها .
وكان البدو ينفرون من الاقامة بمكة لانها تمثل لهم مكانا لاراحة فيه . وهم يفتخرون بانهم يفلقون جماجم اولئك التجار ويشقون زقاق خمورهم ( زقاق : جمع زق , وهي اكياس جلدية يوضع فيها الخمر ) .
وكان البدو ينتظرون تجار قريش خارج مكة , فيهاجمونهم على رغم ماكان يعلقه القرشيون على انفسهم من لحاء الشجر , ليخدعوا الناس انهم من الحجاج فلا يتعرضوا لهم .وكان البدو اذا اكتشفوا هذه الحيلة تزداد نقمتهم على آكلة ( السخينة ).
والسخينة نوع من الطعام مصنوع من الدقيق ويؤكل عند المجاعة وشحة الطعام وغلاء الاسعار .
وكانت قريش تاكله , فعيبت به وهجيت , حتى لقبت قريش ب ( السخينة ).
قال خداش بن زهير
ياشدة ماشددنا , غير كاذبة – على سخينة , لولا الليل والحرم
وقال عبد الله بن همام :
اذا لضربتهم حتى يعودوا – لمكة يلعقون بها السخينا
مسك الختام :
اللهم احفظ شعوبنا من شبح المجاعة وغلاء الاسعار والحروب ..
ومن اكلة السخينة !
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)